هذه المدونة امتداد لمدونة قانون الحق الإلهي حتي لا يُرهق القارئ بالبحث في كثبر الروابط
▼
الخميس، 3 ديسمبر 2020
رأ تعارض العقل والنقل لابن تيمية ج 2.
http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
[ درء التعارض - ابن تيمية ]
الكتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
الناشر : دار الكنوز الأدبية - الرياض ، 1391
تحقيق : محمد رشاد سالم
عدد الأجزاء : 10
الناس في مسألة أفعال الله تعالى ثلاثة أقسام
الجهمية المحضة من المعتزلة ومن وافقهم يجعلون هذا كله مخلوقا منفصلا عن الله تعالى
والكلابية ومن وافقهم يثبتون ما يثبتون من ذلك : إما قديما بعينه لازما لذات الله وإما مخلوقا منفصلا عنه
وجمهور أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام يقولون : بل هنا قسم ثالث قائم بذات الله متعلق بمشيئته وقدرته كما دلت عليه النصوص الكثيرة
ثم بعض هؤلاء قد يجعلون نوع ذلك حادثا كما تقوله الكرامية وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا يجعلون النوع حادثا بل قديما ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه فإن نعيم أهل الجنة يدوم نوعه ولا يدوم كل واحد واحد من الأعيان الفانية ومن الأعيان الحادثة ما لا يفنى بعد حدوثه كأرواح الآدميين فإنها مبدعة كانت بعد أن لم تكن ومع هذا فهي باقية دائمة
والفلاسفة تجوز مثل ذلك في دوام النوع دون أشخاصه لكن الدهرية منهم ظنوا أن حركات الأفلاك من هذا الباب وأنها قديمة النوع فاعتقدوا قدمها وليس لهم على ذلك دليل أصلا وعامة ما يحتجون به إبطال قول من لا يفرق بين حدوث النوع وحدوث الشخص ويقولون : إنه يلزم من حدوث الأعيان حدوث نوعها ويقولون : إن ذلك كله حدث من غير تجدد أمر حادث
وهذا القول إذا بطل كان بطلانه أقوى في الحجة على الدهرية في إفساد قولهم وفي صحة ما جاء به الكتاب والسنة كما تقدم بيانه وإن لم يبطل بطل قولهم
فالمعقول الصريح موافق للشرع متابع له كيف ما أدير الأمر وليس في صريح المعقول ما يناقض صحيح المنقول وهو المطلوب
ومن المعلوم : أن أصل الإيمان تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أنه لا يجوز أن يكون ثم دليل لا عقلي ولا غير عقلي يناقض ذلك وهذا هو المطلوب هنا
ولكن أقواما ادعوا معارضة طائفة من أخباره للمعقول
أصل خطأ المبتدعة في هذه المسألة
وأصل وقوع ذلك في المنتسبين للإسلام والإيمان : أن أقواما من أهل النظر والكلام أرادوا نصرة ما اعتقدوا أنه قوله بما اعتقدوه أنه حجة ورأوا أن تلك الحجة لها لوازم يجب التزامها وتلك اللوازم تنافض كثيرا من أخباره
وهؤلاء غلطوا في المنقول والمعقول جميعا كما اعتقدت المعتزلة وغيرهم من الجهمية نفاة الصفات والأفعال أنه أخبر أن كل ما سوى الذات القديمة المجردة عن الصفات محدث الشخص والنوع جميعا وظنوا أن هذا من التوحيد الذي جاء به واحتجوا على ذلك بما يستلزم حدوث كل ما قامت به صفة وفعل وجعلوا هذا هو الطريق إلا إثبات وجوده ووحدانيته وتصديق رسله فقالوا : إن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يقم به كلام وإنه لا يرى في الآخرة ولا يكون مباينا للخلق ولا بقوم به علم ولا قدرة ولا غيرهما من الصفات ولا فعل من الأفعال لا خلق للعالم ولا استواء ولا غير ذلك فإنه لو قام به فعل أو صفة لكان موصوفا محلا للأعراض ولو قام به فعل يتعلق بمشيئته للزم تعاقب الأفعال ودوام الحوادث وإذا جوزوا دوام النوع الحادث أو قدمه بطل ما احتجوا على ما ظنوا أن الرسول صلى الله عليه و سلم أخبر به
وهم مخطئون في المنقول والمعقول
أما المنقول : فإن الرسول لم يخبر قط بقدم ذات مجردة عن الصفات والأفعال بل النصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات والأفعال وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة وهم يسلمون أن هذا هو الذي يظهر من النصوص ولكن أخبر عن الله بأسمائه الحسنى وآياته المثبتة لصفاته وأفعال وأنه : { خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } ( الفرقان : 59 )
فمن قال : إن الأفلاك قديمة أزلية فقوله مناقض لقول الرسول صلى الله عليه و سلم بلا ريب كما أن من قال ( إن الرب تعالى لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا فعل ) فقوله مناقض لقول الرسول وليس مع واحد منهما عقل صريح يدل على قوله بل العقل الصريح مناقض لقوله كما قد بين في موضعه من وجوه كثيرة مثل ما يقال : إن العقل الصريح يعلم أن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة ممتنع كإثبات علم بلا عالم وقدرة بلا قادر وأعظم امتناعا من ذلك أن يكون العلم هو العالم والعلم هو القدرة فهذا قول نفاة الصفات
وأما القائلون بقدم العالم فقولهم يستلزم امتناع حدوث حادث فإن القديم إما واجب بنفسه أو لازم للواجب بنفسه ولوازم الواجب لا تكون محدثة ولا مستلزمة لمحدث فالحوادث ليست من لوازمه وما لا يكون من لوازمه يتوقف وجوده على حدوث سبب حادث فإذا كان القديم الواجب نفسه أو اللازم للواجب لا يصدر عنه حادث - امتنع حدوث الحوادث وهذا حقيقة قولهم فإنهم يزعمون أن العالم له علة قديمة موجبة له وهو لازم لعلته وعلته عندهم مستلزمة لمعلولها ومعلول معلولها فيمتنع أن يحدث شيء في الوجود إذ الحادث المعين يكون لازما للقديم بالضرورة واتفاق العقلاء
وإذا قالوا : ( يجوز أن يحدث عن الواجب بنفسه حادث بواسطة ) قيل : الكلام في تلك الواسطة كالكلام في الأول فإنها إن كانت قديمة لازمة له لزم قدم المعلولات كلها وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث
وإذا قالوا : ( كل حادث مشروط بحادث قبله لا إلى أول )
قيل لهم : فليست أعيان الحوادث من لوازم الواجب بنفسه وإذا كان النوع من لوازم الواجب امتنع وجود الواجب بنفسه بدون النوع ونوع الحوادث ممكن بنفسه ليس فيه واجب بنفسه فيكون نوع الحوادث صادرا عن الواجب بنفسه فلا يجب قدم شيء معين من أجزاء العالم لا الفلك ولا غيره وهو نقيض قولهم
وإذا قالوا : ( نوع الحوادث لازم لجرم الفلك والنفس وهذان لازمان للعقل وهو لازم للواجب بنفسه )
قيل لهم : فذاته مستلزمة لنوع الحوادث سواء كان بوسط أو بغير وسط والذات القديمة المستلزمة لمعلولها لا يحدث عنها شيء لا بوسط ولا بغير وسط سواء كان الحادث نوعا أو شخصا لأن النوع الحادث يمتنع مقارنته لها كما تمتنع مقارنة الشخص الحادث لها لأن النوع الحادث إنما يوجد شيئا فشيئا والمقارن لها قديم معها لا يوجد شيئا فشيئا فبطل أن تكون الحوادث صادرة عن علة تامة مستلزمة لنوعها المقترن بعضه ببعض أو شخص منها فبطل أن يكون العالم صادرا عن علة موجبة له كما بطل وجوبه بنفسه وهو المطلوب
ومما يبين ذلك : أن القديم يستلزم قدم موجبه أو وجوبه بنفسه فإن القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره إذ الممكن الذي لا موجب له لا يكون موجودا فضلا عن أن يكون قديما بالضرورة واتفاق العقلاء وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما بالضرورة واتفاق العقلاء وإذا كان واجبا بغيره فلا بد أن يكون الموجب له قديما ولا يكون موجبا له حتى تكون شروط الإيجاب قديمة أيضا فيمتنع أن يكوم موجب القديم أو شرط من شروط الإيجاب حادثا لأن الموجب المقتضي للفاعل المؤثر يمتنع أن يتأخر عن موجبه الذي هو مقتضاه وأثره وهذا معلوم بالضرورة ومتفق عليه بين العقلاء
وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون جميع العالم واجبا بنفسه إذ لو كان كذلك لم يكن في الموجودات ما هو حادث لأن الحادث كان معدوما وهو مفتقر إلى محدث يحدث فضلا عن أن يكون واجبا بنفسه
فثبت أن في العالم ما ليس بواجب والواجب بغيره لا بد له من موجب تام مستلزم لموجبه والموجب التام لا يتأخر عنه شيء من موجبه ومقتضاه فيمتنع صدور الحوادث عن موجب تام كما يمتنع أن تكون هي واجبة بنفسها وإذا لم تكن واجبة ولا صادرة عن علة موجبة فلا بد لها من فاعل ليس موجبا بذاته وإذا كان غاية ما يقولون : إن العالم صادر عن علة موجبة بنفسها بغير واسطة أو بوسائط لازمة لتلك العلة فعلى هذا التقدير : يمتنع حدوث الحوادث عنه فإن لم يكن للحوادث فاعل غيره وإلا لزم حدوثها بلا محدث وهذا معلوم الفساد بالضرورة
فتبين أن للحوادث محدثا ليس هو مستلزما لموجبه ومقتضاه فامتنع أن يكون محدث الحوادث علة مستلزمة لمعلولها أو أن يكون شيئا من معلولاتها وهم يقولون : إن العالم صادر عن علة مستلزمة لمعلولها وكل ما سواها معلول لها وهذا مما تبين بطلانه بالضرورة
ومن قال : ( إن مجموع أجزاء العالم واجبة أو قديمة ) فقوله معلوم الفساد بالضرورة
ومن قال : ( إن الحوادث صادرة عن جزء منه واجب ) فقوله أيضا معلوم الفساد سواء جعل ذلك الجزء الأفلاك أو بعضها لوجهين :
أحدهما : أن ذلك الجزء الذي هو واجب بغيره إذا كان علة تامة لغيره لزم أيضا قدم معلوله معه فيلزم أن لا يحدث شيء وإن كان ذلك الجزء الواجب ليس هو علة تامة امتنع صدور شيء عن غير علة تامة ولو قدر إمكان الحدوث عن غير علة تامة أمكن حدوث كل ماسوى الله فعلى كل تقدير قولهم باطل
الوجه الثاني : أنه من المعلول أنه ليس شيء من أجزاء العالم مستقلا بالأبداع لغيره من أجزائه وإن قيل : ( إن بعض أجزائه سبب لبعض ) فتأثيره متوقف على سبب آخر وعلى إنتفاء موانع فلا يمكن أن يجعل شيء من أجزاء العالم ربا واجبا بنفسه قديما مبدعا لغيره والحوادث لا بد لها من رب واجب بنفسه قديم مبدع لغيره وليس شيء من أجزاء العالم مما يمكن ذلك فيه فعلم أن الرب تعالى خارج عن العالم وأجزائه وصفاته وهذا كله مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا بيان أنه ليس في المعقول ما يناقض ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم
وقد علم أن المدعين لمعقول يناقضه صنفان :
صنف يجوزون عليه وعلى غيره من الرسل فيما أخبروا به عن الله تعالى وبلغوه إلى الأمم عن الله تعالى الكذب عمدا أو خطأ أو أن يظهر نقيض ما يبطن كما يقول ذلك من يقوله من الكفار بالرسل ومن المظهرين لتصديقهم كالمنافقين من المتفلسفة والقرامطة والباطنية ونحوهم ممن يقول بشيء من ذلك
وصنف لا يجوزون عليهم ذلك وهذا هو الذي يقوله المتكلمون المنتسبون إلى الإسلام على اختلاف أصنافهم
والمبتدعة من هؤلاء مخطئون في السمع وفي العقل ففي السمع حيث يقولون على الرسول صلى الله عليه و سلم ما لم يقل عمدا أو خطأ وفي العقل حيث يقررون ذلك بما يظنونه براهين وإذا كانت الدعوى خطأ لم تكن حجتها إلا باطلة فإن الدليل لازم لمدلوله ولازم الحق لا يكون إلا حقا وأما الباطل فقد يلزمه الحق فلهذا يحتج على الحق بالحق تارة وبالباطل تارة وأما الباطل فلا يحتج عليه إلا بباطل فإن حجته لو كانت حقا لكان الباطل لازما للحق وهذا لا يجوز لأنه يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم فلو كان الباطل مسلتزلما للحق لكان الباطل حقا فإن الحجة الصحيحة لا تستلزم إلا حقا وأما الدعوى الصحيحة : فقد تكون حجتها صحيحية وقد تكون باطلة ومن أعظم ما بنى عليه المتكلمة النافية للأفعال وبعض الصفات أو جميعها أصولهم التي عارضوا بها الكتاب والسنة : هي هذه المسألة وهي نفي قيام ما يشاؤه ويقدر عليه بذاته من أفعاله وغيرها
كلام الرازي و الآمدي عن أدلة النفاة
وقد ذكر أبو عبد الله الرازي - هو و أبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما - أدلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثها نقصا وإن كان نقصا اتصافه بالنقص والله تعالى منزه عن ذلك
وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه ونحن نذكر ما ذكره أبو عبد الله ابن الخطيب في ذلك في أجل كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول وذكر أنه أورد فيه من الحقائق والدقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين والمخالفين ووصفه بصفات تطول
قال : ( وهذا كله لا يعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوفه على مجامع بحث العقلاء من المحقين والمبطلين والموافقين والمخالفين ) قال : ( فإنني قلما تكلمت فيه في المبادىء والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفا إلى تلخيص النهايات والغايات )
وقال في هذا الكتاب : ( الأصل الثاني عشر وهو ما يستحيل على الله ) قال : ( المسألة الرابعة في أنه يستحيل عليه أن يكوم محلا للحوادث واتفقت الكرامية على تجويز ذلك وأما تجدد الأحوال : فالمعتزلة اختلفوا في تجويزه مثل المدركية والسامعية والمبصرية والمريدية والكارهية وأما أبو الحسين البصري فإنه أثبت تجدد العالميات في ذاته )
قال : ( وأما الفلاسفة فمع أنهم في المشهور أبعد الناس عن هذا المذهب ولكنهم يقولون بذلك من حيث لا يعرفونه فإنه يجوزون تجدد الإضافات على ذاته مع أن الإضافة عندهم عرض وجودي وذلك يقتضي كون ذاته موصوفة بالحوادث وأما أبو البركات البغدادي فقد صرح باتصاف ذاته بالصفات المحدثة )
قلت : أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة : ما يجده في كتب أبي الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وشيخه عبد الجبار الهمداني ونحوهم وفي كلام الفلاسفة : ما يجده في كتب ابن سينا و أبي البركات ونحوهما وفي مذهب الأشعري : يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه كتب القاضي أبي بكر وأمثاله وهو ينقل أيضا من كلام الشهرستاني وأمثاله وأما كتب القدماء ك أبي الحسن الأشعري و أبي محمد بن كلاب وأمثالهما وكتب قدماء المعتزلة والنجارية والضرارية ونحوهم فكتبه تدل على أنه لم يكن يعرف ما فيها وكذلك مذهب طوائف الفلاسفة المتقدمين وإلا فهذا القول الذي حكاه عن أبي البركات هو قول أكثر قدماء الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو وقول كثير منهم كما نقل ذلك أرباب المقالات عنهم فنقل أرباب المقالات الناقلون لاختلاف الفلاسفة في الباري ما هو ؟ قالوا : قال سقراط و أفلاطون وأرسطو : إن الباري لا يعبر عنه إلا بهو فقط وهو الهوية المحضة غير المتكثرة وهي الحكمة المحضة والحق المحض وليست لله صورة مثل الصورة التي تكترث في العنصر وهو الأيس الذي لا يحيط به الذهن ولا العقل ولا يجوز عليه التغير ولا الصفة ولا العدد ولا الإضافة ولا الوقت ولا المكان ولا الحدود ولا يدرك بالحواس ولا بالعقول من جهة غاية الكنه ولكن بأنه واحد أزلي ليس باثنين لأنا إن أوقعنا عليه العدد لزمته التثنية وإن أوقعنا عليه الإضافة لزمه الزمان والمكان والقبل والبعد وإن أوقعنا عليه المكان لزمه الحدود وجعلناه متنايها إلى غيره وقال تاليس و بلاطرخس و لوقيوس وكسيفايس و أنبذقليس جميعا : إن الباري واحد ساكن غير أن أنبذقليس قال : إنه متحرك بنوع سكون كالعقل المتحرك بنوع سكون فذلك جائز لأن العقل إذا كان مبدعا فهو متحرك بنوع سكون فلا محالة أن المبدع متحرك بسكون لأنه علة قالوا : وشايعه على هذا القول فيثاغورس ومن بعده إلى زمن أفلاطون
وقال زينون و ديمقراط وساغوريون : إن الباري متحرك في الحقيقة وإن حركته فوق الذهن فليس زوالا
قالوا : وقال تاليس - وهو أحد أساطين الحكمة - : إن صفة الباري لا تدركها العقول إلا من جهة آثاره فأما من جهة هويته : فغير مدرك له صفة من نحو ذاته بل من نحو ذواتنا وكان يقول : أبدع الله العالم لا لحاجة إليه بل لفضله ولولا ظهور أفاعيل الفضيلة لم يكن ههنا وجود وكان يقول : إن فوق السماء عوالم مبدعة أبدعها من لا تدرك العقول كنهه
وقال فيثاغورس نحو قال تاليس : لا يدرك من جهة النفس هو فوق الصفات العلوية الروحانية غير مدرك بجوهريته بل من قبل آثاره في كل عالم فيوصف وينعت بقدر ظهور تلك الآثار في ذلك العالم وهو الواحد الذي رامت العقول إدراك معرفته عرفت أن ذواته مبدعة مسبوقة مخلوقة
قالوا : وقال انكسيمانس نحو مقالة هذين غير أنه يجوز لقائل أن يقول : إن الباري يتحرك بحركة فوق هذه الحركات
كلام ابن ملكا
قلت : وكذلك أبو البركات في المعتبر حكى المقالتين عن غيره بل عن القائلين بقدم العالم فقال : ( قال القائلون بالحدوث للقدميين : فإذا كان الله لم يزل جوادا خالقا قديما في الأزل فالحوادث في العالم كيف وجدت ؟ أعن القديم أم عن غيره ؟ فإن قلتم : هو خالقها وعنه صدر وجودها فقد قلتم بأن القديم خلق المحدث وأراد خلقه بعد أن لم يرد وإن قلتم : إن غيره فعل الحوادث فقد أشركتم بعد ما بالغتم في التوحيد لواجب الوجود بذاته )
قال : ( فقال القدميون : بل الخالق الأول الواحد القديم هو خالق المخلوقات بأسرها من قديم وحديث وحده لا شريك له في وجوده وخلقه وملكه وأمره وتشعب رأيهم في ذلك إلى مذهبين : فمنهم من قال : إنه خلق الأشياء القديمة دائمة الوجود بدوام وجوده والحوادث شيئا بعد شيء أراد فخلق وخلق فأراد أوجب خلقه إرادته وأوجب إرادته خلقه مثال ذلك : أنه أراد خلق آدم الذي هو الأب فخلقه وأوجده وأراد بوجود الأب وجود الابن أراد فجاد وجاد فأراد إرادة بعد إرادة لموجود بعد موجود فإذا قلتم : لم أوجد ؟ قيل : لأنه أراد فجاد ولم أراد ؟ قيل : لأنه أوجد فوجود الحوادث يقتضي بعضها بعضا من وجوده السابق واللاحق
فإن قالوا : كيف تحدث له الإرادة ؟ وكيف يكون له حال منتظرة تكون بعد أن لم تكن ؟ وكيف يكون محل الحوادث ؟ قيل : وكيف يكوم محلا لغير الحوادث ؟ أعني الإرادة القديمة
فإن قيل : لإنها له منه قيل : والإرادات له منه
فإن قيل : الإرادة القديمة له في قدمه قيل : والحديثة له في قدمه لأن السابق من وجوده بالإرادة السابقة أوجب عنده إرادة لاحقة فأحدث خلقا بعد خلق بإرادة بعد إرادة وجبت في حكمته من خلقه بعد خلقه فاللاحق من إرادته وجب عن سابق إرادته بتوسط مراداته وهكذا هلم جرا )
قال : ( والتنزيه عن الإرادة الحادثة كالتنزيه عن الأرادة القديمة في كونه محلا لها لكنه لا وجه لهذا التنزيه كما سنتكلم عليه في فصل العلم إذا قلنا في علمه : لم يعلم ؟ وكيف يعلم ؟
قال : ( فهذا أحد المذهبين ) قال : ( وأما المذهب الآخر : فإن أهله يقولون إن كل حادث يتجدد بعد عدمه فله سبب يوجب حدوثه وذلك السبب حادث أيضا حتى ترتقي أسباب الحوادث إلى الحركة الدائمة في المتحركات الدائمة ) وساق تمام قول هؤلاء وهو قول أرسطو وأتباعه
وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة الفلك وإن كان لهم في المادة أقوال أخر وقد بسط الكلام على هذا الأصل في مسألة العلم وغيره لما رد على من زعم أنه لا يعلم الجزئيات حذرا من التغير والتكثر في ذاته وذكر حجة أرسطو وابن سينا ونقضها
وقال : ( فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الإغيار والكثرة بكثرة المدركات فجوابه المحقق : أنه لا يتكثر بذلك تكثرا في ذاته بل في إضافاته ومناسباته وتلك مما لا يعيد الكثرة على هويته وذاته ولا الوحدة التي أوجبت وجوب وجوده بذاته ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا وسلبنا عنه ما سلبنا هي وحدة مدركاته ونسبه وإضافاته بل إنما هي وحدة حقيقته وذاته وهويته )
قال : ( ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته لا مدركاته وإضافاته فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي ( لا معنى في نفس الذات وذلك مما لم تطبله الحجة ولم يمنعه البرهان ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى )
وتكلم على قول أرسطو إذ قال : من المحال أن يكون كماله بعقل غيره إذ كان جوهرا في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل فلا يتغير والتغير فيه انتقال إلى الأنقص وهذا هو حركة ما فيكون هذا العقل ليس عقلا بالفعل لكن بالقوة فقال أبو البركات : ( ما قيل في منع التغير مطلقا حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم : فهو غير لازم في التغير مطلقا بل هو غير لازم البتة وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام مثل الحرارة والبرودة وفي بعض الأوقات لا في كل حال ووقت ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام فإنه يقول : إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك التغير حركة مكانية )
قال : ( وهذا محال فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك على المكان على رأيه فإنه لا يعتقد فيها أنها مما يكون في مكان البتة فكيف أن تتحرك فيه ؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض التغيرات والأحوال كالتسخن والتبرد ولا يلزم فيهما أبدا وإنما ذلك فيما يصعد بالبخار من الماء ويتدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما يتبخر منه بعض الأجزاء ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها : كما قال : إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركات المكانية وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبيض هو في مكانه لم يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها فما لزم هذا في كل جسم بل في بعض الأجسام ولا في كل حال ووقت بل في بعض الأحوال والأوقات ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال بل على طريق التبع ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية ولو لزم التغيرات النفسانية ايضا لما لزم انتقال الحكم فيه إلى التغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات فالحكم الجزئي لا يلزم كليا ولا يتعدى من البعض إلى البعض وإلا لكانت الأشياء على حالة واحدة )
وبسط الكلام في مسألة العلم وقال - لما ذكر القولين المتقدمين - : ( والقائلون بالحدوث قالوا : إنه لا يحتاج إلى هذا التمحل وسموه على طريق المجادلة باسم التمحل للتشنيع والتسفيه بل نقول : بأن المبدىء المعيد خلق العالم وأحدثها بإرادة قديمة أزلية أراد بها في القدم إحداث العالم حتى أحدثه )
وقال : ( وقيل في جوابهم : إن ذلك المبدأ لا يتغير ويتخصص في القدم إلا معقول يجعله مقصودا في العلم القديم عند الإرادة القديمة حيث أراده في مدة العدم السابق لحدوث العالم التي هي مدة غير متناهية البداية وما لا يعقل ولا يتصور لا يعلم وما لا يمكن أن يعلم لا يعلمه عالم لا لأن الله لا يقدر على علمه لكن لأنه في نفسه غير مقدرور عليه ثم ما الذي يقولونه في حدوث العالم : من مشيئة الله وإرادته التي بها يقبل الدعاء من الداعي ويحسن إلى المحسن ويسيء إلى المسيء ويقبل توبة التائب ويغفر للمستغفر هل يكون ذلك عنه أو لا يكون ؟ فإن قالوا بأنه لا يكون أبطلوا بذلك الشرع الذي قصدهم نصرته وأبطلوا حكم أوامره ونواهيه وكل ما جاء لأجله من الحث على الطاعة والنهي عن المعصية وإن قالوا : يكون ذلك بأسره عنه فهل هو بإرادة أم بغير إرادة ؟ وكونه بغير إرادة أشنع وإن كان بإرادة فهل هي إرادة قديمة أم محدثة ؟ فإن كانت قديمة فالإرادات القديمة غير واحدة وما أظنهم يقولون : إن المرادات الكثيرة صدرت عن إرادة واحدة
قال : ( وإن قالوا : إن ذلك يصدر عنه بإرادات حادثة فقد قالوا بما هربوا منه أولا )
تعليق ابن تيمية
قلت : فأبو البركات لاستبعاد عقله أن تصدر المرادات الكثيرة عن إرادة واحدة ظن أن هؤلاء لا يقولون به وهم يقولون به فإن هذا قول ابن كلاب و الأشعري ومن وافقهما من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف يقولون : إنه يعلم المعلومات كلها بعلم واحد بالعين ويريد المرادات كلها بإرادة واحدة بالعين وإن كلامه الذي تكلم به من الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر عنه هو أيضا واحد بالعين ثم تنازع القائلون بهذا الأصل : هل كلامه معنى فقط والقرآن العربي ليس هو كلامه أو كلامه الحروف أو الحروف والأصوات التي نزل بها القرآن وغيره وهي قديمة العين ؟ على قولين
ومن القائلين بقدم أعيان الحروف والأصوات من لا يقول هي واحدة بل يقول : هي متعددة وإن كانت لا نهاية لها ويقول بثبوت حروف أو حروف ومعان لا نهاية لها في آن واحد وأنها لم تزل ولا تزال وهذا مما أوجب قول القائلين بأن كلام الله مخلوق وأنه ليس له كلام قائم بذاته لما رأوا أن ما ليس بمخلوق فهو قديم العين والثاني ممتنع عندهم فتعين الأول
وأولئك الصنفان قالوا : والأول ممتنع فتعين الثاني وهؤلاء إنما قالوا هذه الأقوال لظنهم أنه يمتنع أن تقوم به الأمور الاختيارية : لا كلام باختياره ولا غير كلام كما قد بين في موضعه
وهذا الأصل هو القول بقيام الحوادث به هو قول هشام بن الحكم و هشام الجواليقي و ابن مالك الحضرمي و علي بن الهيثم وأتباعهم وطوائف من متقدمي أهل الكلام والفقه كأبي معاذ التومني و زهير الأثري و داود الأصبهاني وغيرهم كما ذكره الأشعري عنهم في المقالات وقال ( وكل القائلين بأن القرآن ليس بمخلوق - كنحو عبد الله بن سعيد بن كلاب ومن قال : إنه محدث كنحو زهير الأثري - يعني و داود الأصبهاني - ومن قال : إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني - يقولون : إن القرآن ليس بجسم ولا عرض )
وأما أقوال أئمة الفقه والحديث والتصوف والتفسير وغيرهم من علماء المسلمين وكذلك كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان فكلام الرازي يدل على أنه لم يكن مطلعا على ذلك
كلام آخر للرازي
والمقصود هنا أن نبين غاية حجة النفاة فإنه بعد أن ذكر الخلاف قال : ( والمعتمد أن نقول : كل ما صح قيامه بالباري تعالى : فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثا وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية عن صفة الكمال والخالي عن الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص والنقص على الله محال بإجماع الأمة وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف الباري بها لأن إجماع الأمة على أن صفات الله بأسرها صفات كمال فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وإنه غير جائز )
قال : ( وهذا ما نعول عليه وإنه مركب من السمع والعقل )
قال : ( والذي عول عليه أصحابنا أنه لو صح اتصافه بالحوادث لوجب اتصافه بالحوادث أو بأضادها في الأزل وذلك يوجب اتصافه بالحوادث في الأزل وإنه محال )
وقال : ( وهذا الدلالة مبنية على أن القابل للضدين يستحيل خلوه عنهما وقد عرفت فساده )
قال : ( ومن أصحابنا من أورد هذه الدلالة على وجه لا يحتاج في تقريرها إلى البناء على ذلك الأصل وهو أنه لو كان قابلا للحوادث لكان قابلا لها في الأزل وكون الشيء قابلا للشيء فرع عن إمكان وجود المقبول فيلزم صحة حدوث الحوادث في الأزل وهو محال )
قال : ( إلا أن ذلك معارض بأن الله قادر في الأزل ولا يلزم من أزلية قادريته صحة أزلية المقدور فكذلك ههنا )
قال : ( ومنهم من قال : لو كانت الحوادث قائمة به لتغير وهو محال )
قال : ( وهذا ضعيف لأنه إن فسر التغير بقيام الحوادث به اتحد اللازم والملزوم وإن فسر بغيره امتنع إثبات الشرطية )
قال : ( وأما المعتزلة فجلهم تمسكوا بأن المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعا لحصول ذلك الموصوف فيه والباري تعالى ليس في الجهة فامتنع قيام الصفة به )
قال : ( وقد عرفت ضعف هذه الطريقة )
قال : ( ومشايخهم استدلوا بأن الجوهر إنما يصح قيام المعاني الحادثة به لكونه متحيزا بدليل أن العرض لما لم يكن متحيزا لم يصح قيام هذه المعاني به )
قال : ( وإنه باطل لاحتمال أن يقال : إن الجوهر إنما صح قيام الحوادث به لا لكونه متحيزا بل لأمر آخر مشترك بينه وبين الباري تعالى وغير مشترك بينه وبين العرض سلمنا ذلك إلا أنه من المحتمل أن يكون الجوهر يقبل الحوادث لكونه متحيزا والله تعالى يقبلها لوصف آخر لصحة تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة )
قال : ( واستدلوا أيضا بأنه لو صح قيام حادث به لصح قيام كل حادث به )
قال : ( وهذه دعوى لا يمكن إقامة البرهان عليها )
قال : ( فهذه عيون ما تمسكت به الناس في هذه المسألة )
تعليق ابن تيمية
قلت : أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس منازعة للكرامية حتى يذكر بينه وبينهم أنواع من ذلك وميله إلى المعتزلة والمتفلسفة أكثر من ميله إليهم واختلف كلامه في تكفيرهم وإن كان هو قد استقر أمره على أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة لا لهم ولا للمعتزلة ولا لأمثالهم وهذه المسألة من أشهر المسائل التي ينازعهم فيها ومع هذا قد ذكر أن قولهم يلزم أكثر الطوائف وذكر أنه ليس لمخالفيهم عليهم حجة صحيحة إلا الحجة التي احتج هو بها وهي من أضعف الحجج كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وأما الحجج التي يحتج بها الكلابية والمعتزلة فقد بين هو فسادها مع أنه قد استوعب حجج النفاة والذي ذكره هو مجموع ما يوجد في كتب الناس مفرقا ونحن نوضح ذلك :
فأما الحجة الأولى - وهي : ( أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فلو جاز اتصافه بها لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث ) فهذه الحجة مبنية على مقدمتين وفي كل من المقدمتين نزاع معروف بين طوائف من المسلمين :
أما الأولى - وهي أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده - فأكثر العقلاء على خلافها والنزاع فيها بين طوائف الفقهاء والنظار ومن الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة كأصحاب احمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم ومن قال ذلك التزم أن يكون لكل جسم طعم ولون وريح وغير ذلك من أنواع الأعراض ولا دليل لأصحابها عليها
و أبو المعالي في كتابه المشهور الذي سماه الأرشاد إلى قواطع الأدلة لم يذكر على ذلك حجة بل هذه المقدمة احتاج إليها في مسألة حدوث العالم لما أرد أن يبين أن الجسم لا يخل من كل جنس من أجناس الأعراض عن عرض منه فأحال على كلامه مع الكرامية ولما تكلم مع الكرامية في هذه المسألة أحال على كلامه في مسألة حدوث العالم مع الفلاسفة ولم يذكر دليلا عقليا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وإنما احتج على الكرامية بتناقضهم
ومضمون ما اعتمد عليه من قال : ( إن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده ) أن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة : الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فتقاس بقية الأعراض عليها واحتجوا بأن القابل لها لا يخلو عنها وعن ضدها بعد الاتصاف كما سلمته الكرامية فكذلك قبل الاتصاف
فأجابهم من خالفهم - كالرازي وغيره - بأن الأولى قياس محض بغير جامع فإذا قدر أن الجسم يستلزم نوعا من أنواع الأعراض فمن أين يجب أن يستلزم بقية الأنواع ؟ وأيضا فإن الذي يسلمونه لهم الحركة والسكون والسكون : هل وجود أو عدم ؟ فيه قولان معروفان وأما الاجتماع والافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد ومن قال : ( إن الأجسام ليست مركبة من الجواهر الفردة ) - وهم أكثر الطوائف - لم يقل بأن الجسم لا يخل من الاجتماع والافتراق بل الجسم البسيط عنده واحد سواء قبل الافتراق أو لم يقبله وكذلك إذا قدر أن فيه حقائق مختلفة متلازمة لم يلزم من ذلك أن يقبل الاجتماع والافتراق
وأما كونه لا يخلو عنهما بعد الاتصاف فأجابوا عنه بمنع ذلك في الأعراض التي لا تقبل البقاء كالحركات والأصوات وأما ما يقبل البقاء فهو مبني على أن الباقي هل يفتقر زواله إلى ضد أم لا ؟ فمن قال : ( إن الباقي لا يفتقر زواله إلى ضد ) أمكنه أن يقول بجواز الخلو عن الاتصاف بالحادث بعد قيامه بدون ضد يزيله ومن قال : ( لا يزول إلا بضد ) قال : إن الحادث لا يزول إلا بضد حادث فإن الحادث بعد الحدوث لا يخلو المحل منه ومن ضده بناء على هذا الأصل فإن كان هذا الأصل صحيحيا ثبت الفرق وإن كان باطلا منع الفرق وتناقضهم يدل على فساد أحد قوليهم
ثم القائلون بموجب هذا الأصل طوائف كثيرون بل أكثر الناس على هذا فلا يلزم من تناقض الكرامية تناقض غيرهم
وأما المقدمة الثانية - ( وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ) - فهذه قد نازع فيها طوائف من أهل الكلام والفلسفة والفقه والحديث والتصوف وغيرهم وقالوا : التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل فأما التسلسل في الآثار المتعاقبة والشروط المتعاقبة فلا دليل على بطلان بل لا يمكن حدوث شيء من الحوادث لا العالم ولا شيء من أجزاء العالم إلا بناء على هذا الأصل فمن لم يجوز ذلك لزمه حدوث الحوادث بلا سبب حادث وذلك يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح كما قد بسط هذا في مسألة حدوث العالم وبين أنه لا بد من تسلسل الحوادث أو الترجيح بلا مرجح وأن القائلين بالحدوث بلا سبب حادث يلزمهم الترجيح بلا مرجح وأن القائلين بقدم العالم يلزمهم الترجيح بلا مرجح ويلزمهم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا وهذا أفسد من حدوثها بلا سبب حادث
والطوائف أيضا متنازعة في هذا الأصل وجمهور الفلاسفة وجمهور أهل الحديث لا يمنعون ذلك وأما أهل الكلام : فللمعتزلة فيه قولان وللأشعرية فيه قولان
وأما الحجة الثانية - وهي أنه ( لو كان قابلا لها لكان قابلا لها في الأزل وذلك فرع إمكان وجودها ووجودها في الأزل محال - فقد أجاب عنها بالمعارضة بأنه قادر على الحوادث ولا يلزم من كون القدرية أزلية أن يكون إمكان المقدور أزليا
قلت : ويمكن أن يجاب عنها بوجوه أخرى :
أحدها : أنه لا يسلم أنه إذا كان قابلا لحدوث الحادث أن يكون قابلا له في الأزل إلا إذا أمكن وجود ذلك في الأزل فإنه إذا قيل : ( هو قابل لما يمتنع أن يكون أزليا ) كان بمنزلة أن يقال : هو قادر على ما يمتنع أن يكون أزليا فمن اعتقد امتناع حدوث حادث في الأزل وقال مع ذلك بأنه قادر على الحوادث وقابل لها لم يلزمه القول بإمكان وجود المقدور المقبول في الأزل لكن هذا المقام هو مقام الذين يقولون ( يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث ) والكلام في هذا مشترك بين كونه قادرا وقابلا فمن جوز حدوث الحوادث بلا سبب حادث - كالكلابية وأمثالهم من المعتزلة والكرامية - كان كلامه في هذا بمنزلة كلامه في هذا ومن قال : ( إن حدوث الحوادث لا بد له من سبب حادث ) - كما يقوله من يقوله من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث وغيرهم الذين يقولون : إ : نه تقوم به الأمور المتعلقة بقدرته ومشيئته ولم يزل كذلك أو يقولون بتعاقب ذلك في غيره كما يشترك في هذه الأصل من يقوله من الهشامية والمعتزلة والمرجئة وأهل الحديث والسلفية والفلاسفة ومن وافق هؤلاء من أتباع الأشعري وغيرهم - فقولهم في هذا كقولهم في هذا
الوجه الثاني : أن يلتزم قائل ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل كما يلتزم من يلتزم إمكان وجود المقدور في الأزل وقد عرف أن لطوائف المسلمين في هذا الأصل قولين معروفين فإن ما لا يتناهى من الحوادث : هل يمكن وجوده في الماضي والمستقبل أو في الماضي فقط أو فيهما جميعا ؟ على ثلاثة أقوال معروفة قال بكل قول طوائف من نظار المسلمين وغيرهم
الوجه الثالث : أن يجاب بجواب مركب فيقال : هو قابل لما هو قادر عليه فإن كان ثبوت جنسها في الأزل ممكنا كان قابلا لذلك في الأزل وقادرا عليه في الأزل وإن لم يكن ثبوت هذا الجنس ممكنا في الأزل كان قابلا للممكن من ذلك كما هو قادر على الممكن من ذلك
الوجه الرابع : أن يقال : كونه قابلا أو ليس بقابل : هو نظر في محل هذه الأمور وليس نظرا في إمكان تسلسلها أو امتناع ذلك كما أن النظر في كونه يقبل الاتصاف بالصفات - كالعلم والقدرة - هو نظر في إمكان اتصافه بذلك فأما وجوب تناهي ما مضى من الحوادث أن ما بقي وإمكان وجود جنس الحوادث في الأزل : فذلك لا اختصاص له بمحل دون محل فإن قدر امتناع قيام ذلك به فلا فرق بين المتسلسل والمتناهي وإن قدر إمكان ذلك كان بمنزلة إمكان حدوث الحوادث المنفصلة والكلام في إمكان تسلسلها وعدم إمكان ذلك مسألة أخرى
الجواب الخامس : أن يقال : هذه الأمور المقبولة هي من الحوادث المقدورة بخلاف الصفات اللازمة له فإنها ليست مقدورة فالمقبولات تنقسم إلى مقدور وغير مقدور كما أن المقدورات تنقسم إلى مقبول وغير مقبول وما يقوم بالذات من الحوادث هو مقبول مقدور وحينئذ فإذا كان وجود المقدور في الأزل محالا كان وجود هذا المقبول في الأزل محالا لأن هذا المقبول مقدور من المقدورات وإذا كان وجود هذه الحوادث المقدورة المقبولة محالا في الأزل لم يلزم من ذلك امتناع وجودها فيما لا يزال كسائر الحوادث ولم يزل من كون الذات قابلة لها إمكان وجودها في الأزل
الجواب السادس : أن يقال : أنتم تقولون : ( إنه قادر في الأزل ) مع امتناع وجود المقدور في الأزل وتقولون : ( إنه قادر في الأزل على ما لا يزال ) فإن كان هذا الكلام صحيحا أمكن أن يقال في المقبول كذلك ويقال : هو قابل في الأزل مع امتناع وجود المقبول في الأزل وهو قابل في الأزل لما لا يزال وإن كان هذا الكلام باطلا لزم إمكان وجود المقدور في الأزل وإما امتناع كونه قادرا في الأزل وعلى التقديرين : يبطل ما ذكرتموه من الفرق بين القادر وبين القابل بقولكم : ( تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول )
الجواب السابع : أن يقال : أنتم اعتمدتم في هذا على أن تلك القابلية يجب أن تكون من لوازم الذات ويلزم من ذلك إمكان وجود المقبول في الأزل لأن قابلية الشيء لغيره نسبة بين القابل والمقبول والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما فيقال لكم : إن كانت النسبة بين الشيئين موقوفة عليهما - أي على تحققهما معا في زمن واحد كما أقتضاه كلامكم - بطل فرقكم وهو قولكم ( بأن تقدم القدرة على المقدور واجب ) فإن القدرة نسبة بين القادر والمقدور مع وجوب تقدم القدرة على المقدور وهكذا تقولون ( الإرادة قديمة مع امتناع وجود المراد في الأزل ) وتقولون : ( الخطاب قديم مع امتناع وجود المخاطب في الأزل ) فإذا كنتم تقولون بأن هذه الأمور التي تتضمن النسبة بين شيئنين تتحقق في الأزل مع وجود أحد المنتسبين دون الآخر أمكن أن يقال : إن القابلية متحققة في الأزل مع امتناع تحقق المقبول في الأزل كما قال كثير من الناس : إن التكوين ثابت في الأزل مع امتناع وجود المكون في الأزل
وأما الحجة الثالثة - وهو أن قيام الحوادث به تغير والله منزه عن التغير - فهذه هي التي اعتمد عليها الشهرستاني في نهاية الإقدام ولم يحتج بغيرها
وقد أجاب الرازي وغيره عن ذلك بأن لفظ ( التغير ) مجمل فإن الشمس والقمر والكواكب إذا تحركت أو تحركت الرياح أو تحركت الأشجار والدواب من الأناسي وغيرهم فهل يسمى هذا تغيرا أولا يسمى تغيرا ؟ فإن سمي تغيرا كان المعنى أنه إذا تحرك المتحرك فقد تحرك وإذا تغير بهذا التفسير فقد تغير وإذا قامت به الحوادث - كالحركة ونحوها - فقد قامت به الحوادث فهذا معنى قوله : ( إن فسر بذلك فقد اتحد اللازم والملزوم )
فيقال : وما الدليل على امتناع هذا المعنى ؟ وإن سماه المسمى تغيرا وإن كان هذا لا يسمى تغيرا بل المراد بالتغير غير مجرد قيام الحوادث مثل أن يعني بالتغير الاستحالة في الصفات كما يقال : تغير المريض وتغيرت البلاد وتغير الناس ونحو ذلك فلا دليل على أنه يلزم من الحركة ونحوها من الحوادث مثل هذا التغير ولا ريب أن التغير المعروف في اللغة هو المعنى الثاني فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب - إذا كانت جارية في السماء - : إن هذا تغير وإنها تغيرت ولا يقولون للإنسان إذا كانت عادته أن يقرأن القرآن ويصلي الخمس : إنه كلما قرأ وصلى قد تغير وإنما يقولون ذلك لمن لم تكن عادته هذه الأفعال فإذا تغيرت صفته وعاداته قيل : إنه قد تغير
وحينئذ فمن قال : ( إنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء ) لم يسم أفعاله تغيرا ومن قال : ( إنه تكلم بعد أن لم يكن متكلما وفعل بعد أن لم يكن فاعلا ) فإنه يلزم من قال : ( إن الكلام والفعل يقوم به ) ما يلزم من قال : ( إن الكلام والفعل يقوم بغيره ) والقول في أحد النوعين كالقول في الآخر وإذا قدر أن النزاع لفظي فلا بد من دليل سمعي أو عقلي يجوز أحدهما ويمنع الآخر وإلا فلا يجوز التفريق بين المتماثلين بمجرد الدعوى أو بمجرد إطلاق لفظي من غير أن يكون ذلك اللفظ مما يدل على ذلك المعنى في كلام المعصوم فأما إذا كان اللفظ في كلام المعصوم - وهو كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل الإجماع - وعلم مراده بذلك اللفظ فإنه يجب مراعاة مدلول ذلك اللفظ ولا يجوز مخالفة قول المعصوم وإطلاق التغير على الأفعال كإطلاق لفظ ( الغير ) على الصفات وإطلاق لفظ ( الجسم ) على الذات وكل هذه الألفاظ فيها إجمال واشتباه وإبهام ومذهب السلف والأئمة : أنهم لا يطلقون لفظ ( الغير ) على الصفات لا نفيا ولا إثباتا فلا يطلقون القول بأنها غيره ولا بأنها ليست غيره إذ اللفظ مجمل فإن أراد المطلق بالغير المباين فليست غيرا وإن أراد بالغير ما قد يعلم أحدهما دون الآخر فهي غير وهكذا ما كان من هذا الباب
و إذا كان هذا كلامهم في لفظ ( الغير ) فلفظ ( التغير ) مشتق منه ومن تأمل كلام فحول النظر في هذه المسألة علم أن الرازي قد استوعب ما ذكروه وأن النفاة ليست معهم حجة عقلية تثبت على السبر وإنما غايتهم إلزام التناقض لمن يخالفهم من المعتزلة والكرامية والفلاسفة
ومن المعلوم أن تناقض المنازع يستلزم فساد أحد قوليه لا يستلزم فساد قوله بعينه الذي هو مورد النزاع ولهذا كان من ذم أهل الكلام المحدث من أهل العلم لأنهم يصفونهم بهذا ويقولون : يقابلون فاسدا بفاسد وأكثر كلامهم في إبداء مناقضات الخصوم
وأيضا فغير ذلك الخصم لا يلتزم مقالته التي ناقض به المورد النزاع كما في هذه المسألة فإنه وإن كانت الكرامية قد تناقضوا فيها فلم يتناقض فيها غيرهم من الأئمة والسلف وأهل الحديث وغيرهم من طوائف أهل النظر والكلام
وقد قال أبو القاسم الأنصاري - شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي - في شرح الإرشاد : ( أجود ما يتمسك به في هذه المسألة تناقض الخصوم )
أقوال الجويني في مسألة أفعال الله ورد ابن تيمية عليه
وهو كما قال : فإنه لم يجد لمن تقدمه في ذلك مسلكا سديدا لا عقليا ولا سمعيا واعتبر ذلك بما ذكره أبو المعالي في كتابه الذي سماه : الإرشاد إلى قواطع الأدلة وقد ضمنه عيون الأدلة الكلامية التي يسلكها موافقوه وقد تكلم على هذا الأصل في موضعين من كتابه :
أحدهما : في مسألة حدوث العالم فإنه استدل بدليل الأعراض المشهور وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض وما لا يخلو عنها فهو حادث وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله وهو الذي ذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم والدليل هو مبني على إثبات أربع مقدمات : الأعراض وإثبات حدوثها وأن الجسم لا يخلو منها وإبطال حوادث لا أول لها فلما صار إلى المقدمة الثالثة قال : ( وأما الأصل الثالث - وهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض - فالذي صار إليه أهل الحق : أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده لا كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه )
قال : ( وجوزت الملحدة خلو الجوهر عن جميع الاعراض والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى والمادة والأعراض تسمى الصورة )
قال : ( وجوز الصالحي العرو عن جملة الأعراض ابتداء ومنع البصريون من المعتزلة من العرو عن جميع الأكوان وجوزوا الخلو عما عداها وقال الكعبي ومتبعوه : يجوز الخلو عن الأكوان ويمتنع العرو عن الألوان )
قال : ( وكل مخالف لنا يوافقنا على امتناع العرو عن الأعراض بعد قبول الجواهر لها فيفرض الكلام على الملحدة في الأكوان فإن القول فيها يستند إلى الضرورة فإننا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة
ومما يوضح ذلك : أنها إذا اجتمعت فيما لا يزال فلا يتقرر اجتماعها إلا عن افتراق سابق إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها اضطررنا إلا العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع وغرضنا في ورم إثبات حدث العالم يتضح بالأكوان )
قلت : أثبات الأكوان بقبول الحركة والسكون هو الذي لا يمكن دفعه فإن الجسم الباقي لا بد له من الحركة أو السكون وأما الأجتماع والافتراق فهو مبني على إثبات الجوهر الفرد والنزاع فيه كثير مشهور فإن من ينفيه لا يقول : إن الجسم مركب منه ولا إن الجوهر كانت متفرقة فاجتمعت والذين يثبتونه أيضا لا يمكنهم إثبات أن الجواهر كانت متفرقة فاجتمعت فإنه لا دليل على أن السماوات كانت جواهر متفرقة فجمع بينها ولهذا قال في الدليل : ( فإنا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة ) وهذا كلام صحيح لكن الشأن في أثبات الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق فما ذكره من الدليل مبني على تقدير أنها كانت متفرقة فاجتمعت وهذا التقدير غير معلوم بل هو تقدير منتف في نفس الأمر عند جمهور العقلاء من المسملين وغيرهم
ثم قال أبو المعالي : ( وإن حاولنا ردا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين : إحداهما : الاستشهاد بالإجماع على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها فنقول : كل عرض باق فإنه ينتفي عن محله بطريان ضده ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفى به على زعمهم فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون إن كان يجوز الخلو من الألوان وتطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض )
قلت : مضمون هذا أنه قاس ما بعد الاتصاف على ما قبله وقد أجابه المنازعون عن هذا بأن الفرق بيهما : أن الضد لا يزول إلا بطريان ضده فلهذا لم يخل منهما : فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل القياس وإلا منع الحكم في الأصل وقيل : بل يجوز خلوه بعد الإتصاف إذا أمكن زوال الضد بدون طريان آخر وما ذكره في السواد والبياض قضية جزيئية فلا تثبت بها دعوى كلية ومن أين يعلم أن كل طعم في الأجسام إذا زال فلا بد أن يخلفه طعم آخر ؟ وكل ريح إذا زالت فلا بد أن يخلفها ريح آخر ؟ وكذلك في الإرادة والكراهة ونحو ذلك فمن أين يعلم أن المريد للشيء المحب له إذا زالت إرادته ومحبته فلا بد أن يخلفه كراهية وبغضه ؟ ولم لا يجوز خلو الحي عن حب المعين وبغضه وإردته وكراهته ؟
قال : ( ونقول أيضا : الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى : أنها لو قامت به لم يخل عنها وذلك يقضي بحدثه فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث مع قبوله لها صحة وجوزا فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول البارىء للحوادث )
قلت : فلقائل أن يقول : هذا غايته إلزام لهؤلاء المعتزلة : إنكم إذا جوزتم ذلك يكن لكم حجة على استحالة قبول الباري للحوادث
فيقال : إما أن يكون هذا لازما وإما أن لا يكون لازما : فإذا كان لازما دل ذلك على أنه لا دليل للمعتزلة على ذلك ولا دليل له أيضا فإن مجرد موافقة المعتزلة له لا يكون دليلا لواحد منهما في شيء من المسائل التي لم نعلم فيها نزاعا فكيف مع ظهور النزاع ؟ وإن لم يكن لازما لهم لم يكن حجة عليهم
فقد تبين أنه لم يذكر حجة على أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده
الموضع الثاني - قال في أثناء الكتاب :
( فصل ) مما يخالف فيه الجوهر حكم الإله : قبول الأعراض وصحة الاتصاف بالحوادث والرب يتقدس عن قبول الحوادث )
قال : ( وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تقوم بذات الرب ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث وصاروا إلى جهالة لم يسبقوا إليها فقالوا : القول الحادث يقوم بذات الرب وهو غير قائل به وإنما يقول بالقائلية والقائلية عندهم القدرة على التكلم وحقيقة أصلهم : أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد ولذلك وصفوه بكونه خالقا في الأزل ولم يتحاشوا من قيام الحوادث به وتنكبوا إثبات وصف جديد له ذكرا وقولا )
قال : ( والدليل على بطلان ما قالوه : أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض ولو لم تخل عن الحوادث لم تسبقها وينساق ذلك إلى الحكم بحدث الصانع )
قال : ( ولا يستقيم هذا الدليل على أصل المعتزلة مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجوهر عن الأعراض على تفصيل لهم أشرنا إليه وإثباته أحكاما متجددة لذات الرب تعالى من الإرادة المحدثة القائمة لا بمحل على زعمهم ويصدهم أيضا عن طرد دليل في هذه المسألة : إنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن تدل على الحدث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار نفس الأعراض على الذات )
هذا كلامه ولقائل أن يقول : قوله : ( الدليل على بطلان ما قالوه : أنه لو قبلها لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر ) هو لم يذكر دليلا هناك إلا قياس ما قبل الاتصاف على ما بعده وهو ليس حجة علمية عقلية بل غايته : احتجاج بموافقة منازعة في مسألة عظيمة عقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والنسة وينبني عليها من مسائل الصفات والأفعال أمور عظيمة اضطرب فيها الناس فمن الذي يجعل أصول الدين مجرد قول قالته طائفة من أهل الكلام وافق بعضهم بعضا عليه من غير حجة عقلية ولا سمعية ؟
وقد أجابه المنازعون بجواب مركب وهو إما الفرق - إن صح - وألا منع حكم الاصل
وأيضا فأنه قد قرر هناك وهنا أن المعتزلة أئمة الكلام الذين أظهروا في الإسلام نفي الصفات والأفعال وسموا ذلك تقديسا له عن الاعراض والحوادث وقد ذكر أبوالمعالي أنه لا حجة لهم على استحالة اتصافه بالحوادث وانه يلزمهم نقيض ذلك أما الأول : فإن القابل للشيء عندهم يجوز أن يخلو عنه وعن ضده وأما لزوم هذا القول لهم : فلإ ثباتهم أحكاما متجددة للرب وأنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن يدل على الحدوث : لم يبعد مثل ذلك في اعتوار أنفس الأعراض وكان ما ذكره الأستاذ أبو المعالي يقتضي أن القول بحلول الحوادث يلزم المعتزلة وأنه لادليل لهم على نفي ذلك وهو أيضا لم يذكر دليلا لموافقيه على نفي ذلك
فأفاد ما ذكره أن أئمة النفاة لحلول الحوادث به القائلين بأنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا دليل لهم على ذلك بل قولهم يستلزم قول أهل الإثبات لذلك
قال : ( ونقول للكرامية : مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الباري به تناقض إذ لو جاز قيام معنى بمحل من غير أن يتصف المحل بحكمه لجاز شاهدا قيام أقوال وعلوم وإرادات بمحال من غير أن تتصف المحال بأحكام موجبة عن المعاني وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى جهالات )
قال : ( ثم نقول لهم : إذا جوزتم قيام ضروب من الحوادث بذاته فما المانع من تجويز قيام أكوان حادثة بذاته على التعاقب ؟
وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به من الحوادث ومما يلزمهم : تجويز قيام قدرة حادثة وعلم حادث بذاته على حسب أصلهم في القول والإرادة الحادثين ولا يجدون بين ما جوزوه وامتنعوا عنه فصلا )
قال : ( ونقول لهم : قد وصفتم الرب تعالى بكونه متحيزا وكل متحيز جسم وجرم ولا يتقرر في المعقول خلو الأجرام من الأكوان فما المانع من تجويز قيام الأكوان بذات الرب ؟ ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه )
قلت : ولقائل أن يقول : هذه الوجوه الأربعة التي ذكرها ليس فيها حجة تصلح لإثبات الظن في الفروع فضلا عن إثبات يقيني في أصول الدين يعارض به نصوص الكتاب والسنة فإن غاية هذا الكلام - إن صح - أن الكرامية تناقضوا وقالوا قولا ولم يلتزموا بلوازمه
فيقال : إن كان ما ذكره لازما لزمهم الخطأ : إما في إثبات الملزوم وإما في نفي اللزم ولم يتعين الخطأ في أحدهما فلم لا يجوز أن يكون خطؤهم في نفي اللوازم ؟ فإن أقام على ذلك دليلا عقليا كان هو حجة كافية في المسألة وإلا استفدنا خطأ الكرامية في أحد قوليهم وإن لم يكن ما ذكره لازما لهم لم يفد لا إثبات تناقضهم ولا دليلا في مورد النزاع
ثم يقال : أما الوجه الأول فحاصله نزاع لفظي : هل يتصف بالحوادث أو لا يتصف ؟ كالنزاع في أمثال ذلك وإذا كان من أصلهم الفرق بين اللازم وغير اللازم بحيث يسمون اللازم صفة دون العارض كاصطلاح من يفرق بين الصفات والأفعال فلا يسمى الأفعال صفات وإن قامت بمحل كاصطلاح من يفرق بين الأقوال والأفعال فلا يسمى ما يتكلم به الإنسان عملا وإن كان له فيه حركة ونحو ذلك - كانت هذه أمورا اصطلاحية لفظية لغوية لا معاني عقلية والمرجح في إطلاق الألفاظ - نفيا وإثباتا - إلى ما جاءت به الشريعة فقد يكون في إطلاق اللفظ مفسدة وإن كان المعنى صحيحا
وما ألزمهم إياه في الشاهد : فأكثر الناس يلتزمونه في الأفعال فإن الناس تفرق في الإطلاقات بين صفات الإنسان وبين أفعاله كالقيام والقعود والذهاب والمجيء فلا يسمون ذلك صفات وإن قامت بالمحل وكذلك العلم الذي يعرض للعالم ويزول والإرادة التي تعرض له وتزول قد لا يسمون ذلك صفة له وإنما يصفونه بما كان ثابتا له كالخلق الثابت
وبالجملة فهذه بحوث لفظية سمعية لا عقلية وليس هذا موضعها
وأما قيام الأكوان به على التعاقب وقيام ما أحالوا قيامه به فهم يفرقون بين ما جوزوه ومنعوه بما يفرق به مثبتة الصفات بين ما توصفوه به وبين ما منعوه فكما أنهم يصفونه بصفات الكمال فلا يلزمهم أن يصفوه بغيرها فكذلك هؤلاء يقولون فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين
ومن المعلوم أن الله تعالى لما وصف بالسمع والبصر - كما دلت عليه النصوص - ألزمت النفاة لأهل الإثبات إدراك الشم والذوق واللمس فمن الناس من طرد القياس ومنهم من فرق بين الثلاثة والاثنين ومنهم من فرق بين إدراك اللمس وإدراك الشم والذوق لكون النصوص أثبتت الثلاثة دون الاثنين
فإذا قال المعتزلة البصريون و القاضي أبو بكر و أبو المعالي وغيرهما ممن يصفه بالإدراكات الخمسة لمن لم يصفه إلا باثنين أو ثلاثة : يلزمكم طرد القياس لزمهم إما الفرق وإلا كانوا متناقضين ولم يكن هذا دليلا على إبطال اتصافه بالسمع والبصر كذلك إذا قال من جعل الإدراكات الخمسة تتعلق به كما فعله هؤلاء ومن وافقهم ك القاضي أبي يعلى ونحوه لمن أثبت الرؤية : يلزمكم أن تصفوه بتعلق السمع والشم والذوق واللمس به كما قلتم في الرؤية كانوا أيضا على طريقين : منهم من يذكر الفرق ومنهم من يفرق بين اللمس وغيره لمجيء النصوص بذلك دون غيره
قال أبو المعالي في إرشاده : ( فإن قيل : قد وصفتم الرب تعالى بكونه سميعا بصيرا والسمع والبصر إدراكان ثم ثبت شاهدا إدراكات سواهما : إدراك يتعلق بقبيل الطعوم وإدراك يتعلق بقبيل الروائح وإدراك يتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة فهل تصفون الرب تعالى بأحكام هذه الإدراكات أم تقتصرون على وصفة بكونه سميعا بصيرا
قلنا : الصحيح المقطوع به عندنا : وجوب وصفه بأحكام الإدراك إذ كل إدراك ينفيه ضد فهو آفة فما دل على وجوب وصفه بحكم السمع والبصر فهو دال على وجوب وصفه بأحكام الإدراك ثم يتقدس الرب تعالى عن كونه شاما ذائقا لامسا : فإن هذه الصفات منبئة عن ضروب من الاتصالات والرب يتعالى عنها وهي لا تنبىء عن حقائق الإدراكات فإن الإنسان يقول : شممت تفاحة فلم أدرك ريحها ولو كان الشم دالا على الإدراك لكان ذلك بمثابة قول القائل : أدركت ريحها ولم أدركه وكذلك القول في الذوق واللمس )
قلت : ولا يلزم من تناقض هؤلاء - إن كانوا متناقضين - نفي الرؤية التي تواترت بها النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم
وقلت : وأما تعاقب الحوادث : فهم نفوه بناء على امتناع حوادث لا أول لها فإن صح هذا الفرق وإلا لزمهم طرد الجواز كما طرده غيرهم ممن لا يمنع ذلك
وأما حدوث القدرة والعلم فنفوهما لأن عدم ذلك يستلزم النقص لعموم تعلق العلم والقدرة بخلاف الإرادة والكلام فإنه لا عموم لهما فإنه سبحانه لا يتكلم إلا بالصدق لا يتكلم بكل شيء ولا يريد إلا مايسبق علمه به لا يريد كل شيء بخلاف العلم والقدرة فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير
وهذا كما فرقت المعتزلة بين هذا وهذا فقالوا : إن له إرادة حادثة وكلاما حادثا ولم يقولوا : له عالمية حادثة وقادرية حادثة فالسؤال على الفريقين جميعا فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين وقد أثبت غيرهم قيام علم بالموجود بعد وجوده ولم يجعل ذلك عين العلم المتعلق به قبل وجوده كما دل على ذلك ظاهر النصوص وقد أثبت ذلك من أهل الكلام والفلسفة طوائف ك أبي الحسين البصري و أبي البركات وغيرهم وغير المتقدمين مثل هشام بن الحكم وأمثاله ومثل جهم والمفرق - إن صح فرقه - وإلا لزم تناقضه
وقيام الأكوان به نفوه لأنها هي دليلهم على حدوث العالم كما استدلت بذلك المعتزلة وهم يقولون : المتصف بالأكوان لا يخلو منها وهذا معلوم بالبديهة كما بينه الأستاذ أبو المعالي في أول كلامه وقال : ( نفرض الكلام في الأكوان فإن القول فيها يستند إلى الضرورة فإذا كان من المعلوم بالضرورة : أن القابل للأكوان لا يخلو عنها فلو وصفوه بالأكوان للزم أن لا يخلو عنها وهم يقولون بامتناع تسلسل الحوادث ويقولون : ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث كما يوافقهم على ذلك أبو المعالي وأمثاله فإن كان هذا الفرق صحيحا بطل الإلزام وصح فرقهم وإن لم يكن هذا الفرق صحيحا لم يكن في ذلك حجة للمنازع لهم بل يقول القائل : كلاكما مخطىء حيث قلتم بامتناع دوام الحوادث وتسلسلها
ومعلوم أن هذا كلام متين لا جواب عنه فإن فرقهم بين الأكوان وغيرها هو العلم الضروري من الجميع بأن القابل للأكوان لا يخلو منها فما قبل الحركة والسكون لم يخل من أحدهما فهذا هو محيصهم عما ألزمهم به فإن كانت الأكوان كغيرها في أن القابل للشيء لا يخلو عنه ضده فقد ثبت تناقضهم إذا كان قابلا لها وإن لم تكن مثل غيرها - كما تقوله المعتزلة - صح فرقهم وهم يدعون أنه ليس قابلا لها كما قد وافقهم على ذلك المعتزلة والأشعرية
فإذا قال المعترض عليهم : يجب على أصلهم أن يكون قابلا لها لأنهم يصفونه بكونه متحيزا وكل متحيز جسم وجرم قيل : هذا كما تقوله المعتزلة للأشعرية : يلزمكم إذا قلتم إن له حياة وعلما وقدرة : أن يكون متحيزا لأنه لا يعقل قيام هذه الصفات إلا بمتحيز ويقولون : إنه لا يعقل موصوف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة إلا ما هو جسم فإذا وصفتموه بهذه الصفات لزمكم أن يكون جسما
فإذا قال هؤلاء للمعتزلة : قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه حي عليم قدير وليس بمحيز ولا جسم فإذا عقلنا موجودا حيا عليما قديرا ليس بجسم عقلنا حياة وعلما وقدرة لا تقوم بجسم قالوا : وأنتم وافقتمونا على أنه حي عليم قدير وإثبات حي عليم قدير بلا حياة ولا علم ولا قدرة مكابرة للعقل واللغة والشرع
قالت الكرامية لهؤلاء : قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات مع اتفاقنا نحن وأنتم على أنه لا يتصف بالأكوان فهكذا إذا جوزنا عليه أن يسمع أصوات عباده حين يدعونه ويراهم بعد أن يخلقهم ويغضب عليهم إذا عصوه ويحب العبد إذا تقرب إليه بالنوافل ويكلم موسى حين أتى الوادي ويحاسب خلقه يوم القيامة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص لم يلزمنا مع ذلك أن تجوز عليه حدوث الأكوان
ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف - بعضهم مع بعض - تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض وآخر منتهاهم : حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام لاأكوان به أو الأعراض ونحو ذلك من الحجج التي هي أصل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة وقالوا : إنه جهل وإن حكم أهله ( أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ) ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات : هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك ويتوهم أن يمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله وأن الطع في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لظنه أنه بهذا الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي وإذا أنعم النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول ولهذا قال من قال من الأئمة : ( قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق وكان في قلبه غل على أهل الإسلام ) بل قالوا : ( علماء الكلام زنادقة )
ولهذا قيل : إن حقيقة ما صنفه هؤلاء في كتبهم من الكلام الباطل المحدث المخالف للشرع والعقل هو : ترتيب الأصول في تكذيب الرسول ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ولولا أن هؤلاء القوم جعلوا هذا علما مقولا ودينا مقبولا يردون به نصوص الكتاب والسنة ويقولون : إن هذا هو الحق الذي يجب قبوله دون ما عارضه من النصوص الإلهية والأخبار النبوية ويتبعهم على ذلك من طوائف أهل العلم والدين ما لا يحصيه إلا الله : لاعتقادهم أن هؤلاء أحذق منهم وأعظم تحقيقا لميكمن بنا حاجة إلى كشف هذه المقالات مع أن الكلام هنا لا يحتمل إلا الاختصار
قول الرازي في الأربعين
ومقصودنا بحكاية هذا الكلام : أن يعلم أن ما ذكره الرازي في هذه المسألة قد استوعب فيه جميع حجج النفاة وبين فسادها وأما الحجة التي احتج بها فهي أضعف من غيرها كما سيأتي بيانه وقد ذكر أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف
وذكر في كتاب الأربعين أنها تلزم أصحابه أيضا فقال في الأربعين : ( المشهور أن الكرامية يجوزون ذلك وينكرون سائر الطوائف وقيل : أكثر العقلاء يقولون به وإن أنكروه باللسان فإن أبا علي و أبا هاشم من المعتزلة وأتباعهما قالوا : إنه يريد بإرادة حادثة لا في محل ويكره بكراهة حادثة لا في محل إلا أن صفة المريدية والكارهية محدثة في ذاته تعالى وإذا حضر المرئي والمسموع حدث في ذاته تعالى صفة السامعية والمبصرية لكنهم إنما يطلقون لفظ التجدد دون الحدوث و أبو الحسين البصري يثبت في ذاته علوما متجددة بحسب تجدد المعلومات والأشعرية يثبتون نسخ الحكم مفسرين ذلك برفعه أو انتهائه والارتفاع والانتهاء عدم بعد الوجود ويقولون : إنه عالم بعلم واحد يتعلق قبل وقوع المعلوم بأنه يسقع وبعده يزول ذلك التعلق ويتعلق بأنه وقع ويقولون : بأن قدرته تتعلق بإجاد المعين وإذا وجد انقطع ذلك التعلق لامتناع إيجاد الموجود وكذا تعلق الإرادة بترجيح المعين وأيضا المعدوم لا يكوم مرئيا ولا مسموعا وعند الوجود يكون مرئيا ومسموعا فهذه التعلقات حادثة
فإن التزام جاهل كون المعدوم مرئيا ومسموعا قلنا : الله تعالى يرى المعدوم معدوما لا موجودا وعند وجوده يراه موجودا لا معدوما لأن رؤية الموجود معدوما أو بالعكس غلط وأنه يوجب ما ذكرنا والفلاسفة - مع بعدهم عن هذا - يقولون بأن الإضافات - وهي القبلية والبعدية والمعية - موجودة في الأعين فيكون الله مع كل حادث وذلك الوصف الإضافي حدث في ذاته و أبو البركات من المتأخرين منهم صرح في المعتبر بإرادات محدثة وعلوم محدثة في ذاته تعالى زاعما بأنه لا يمكن الاعتراف بكونه إلها لهذا العالم إلا مع هذا القول ثم قال : ( الإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه واجب )
قال الرازي : ( واعلم أن الصفة إما حقيقية عارية عن الإضافة كالسواد والبياض أو حقيقة تلزمها إضافة كالعلم والقدرة فإنه يلزمها تعلق بالمعلوم والمقدور وهو إضافة مخصوصة بينهما وإما إضافة محضة ككون الشيء قبل غيره وبعده ويمينه ويساره فإن تغير هذه الأشياء لا يوجب تغيرا في الذات ولا في صفة حقيقية منها فنقول : تغير الإضافات لا محيص عنه وأما تغير الصفات الحقيقية : فالكرامية يثبتونه وغيرهم ينكرونه فظهر الفرق بين مذهب الكرامية وغيرهم لا نسمي ذلك صفة ولا نقول : إن ذلك تغير في الصفات الحقيقية كما تقدم )
ثم استدل الرازي بثلاثة أوجه :
( أحدها : أن صفاته صفات كمال فحدوثها يوجب نقصانه يعني قبل حدوثها والإضافات لا وجود لها في الأعيان دفعا للتسلسل فلا يرد نقصا )
ولقائل أن يقل : هذا الدليل قد تقدم الكلام عليه والمنازع لا يسمي ذلك صفة وإن وصف الموصوف بنوع ذلك فليس لك فرد من الأفراد صفة كمال مستحقة القدم يحيث يكون عدمها في الأزل نقصا وما اقتضت الحكمة حدوثه في وقت لم يكن عدمه قبل ذلك نقصا بل الكمال عدمه حيث لا تقتضي الحكمة وجود حدوثه ووجوده حيث اقتضت الحكمة وجوده كالحوداث المنفصلة فليس عدم كل شيء نقصا عما عدم منه
وأيضا فالحوادث لا يمكن وجودها إلا متعاقبة وقدمها ممتنع وكان ممتنع الوجود لم يكن عدمه نقصا والتسلسل المذكور هو التسلسل في الآثار والشروط ونحوها وهذا فيه قولان مشهوران فالمنازع قد يختار جوازه لا سيما من يقول : إن الرب لم يزل فاعلا متكلما إذا شاء
( الثاني : لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت تلك القابلية من لوازمها وأزلية القابلية توجب صحة وجود المقبول أزلا لأن قابلية الشيء للغير نسبة بينهما والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما لكن وجود الحوادث في الأزل محال ولا يلزم علينا القدرة الأزلية لأن تقدم القدرة على المقدور واجب دون تقدم القابل على المقبول )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : ما ذكرتم بتقدير التسليم يقتضي أزلية صحة وجود الحوادث لا صحة أزلية وجود الحوادث وقد عرفت الفرق بينهما في مسألة الحدوث والفرق المذكور - إن صح - أغنى عن الدليل السابق وإلا نفى النقص وأيضا إذا صح الفرق مع أن الدليل المذكور ينفيه لزم بطلان الدليل )
قلت : فقد ذكر الأرموي في بطلان هذا الدليل ثلاثة أوجه :
أحدها : الفرق بين صحة أزلية الحدوث وأزلية صحة الحدوث وسيأتي إن شاء الله الكلام فيه وبيان أنه فرق فاسد لكن يقال : إن صح هذا الفرق بطل الدليل وإن لم يصح لزم إمكان الحوادث في الأزل ولزم إمكان وجود المقدور والمقبول في الأزل وكلاهما يبطل الدليل أو يقال : ما كان جوابا لكم عن المقدور كان جوابا لنا عن المقبول أو يقال : إن صح هذا الفرق بطل الدليل وإن لم يصح هذا الفرق فاللازم أحد أمرين : إما إمكان دوام الحوادث وإما امتناع دوامها فإن كان اللازم هو الأول لزم إمكان وجود جنس الحوادث المقبولة في الأزل وبطل الدليل وإن كان اللازم هو الثاني كان وجودها في الأزل ممتنعا وحينئذ فإذا جاز أن يقال : هو قادر عليها مع امتناع وجود المقدور أمكن أن يقال : هو قابل لها مع امتناع وجود المقبول
وقول الأرموي : والفرق المذكور إن صح أغنى عن الدليل السابق وإلا بقي النقص قد يقال : أراد به الفرق بين أزلية الصحة وصحة الأزلية وقد يقال : عنى به الفرق بين القادر والقابل فإن أراد الأول كان معنى كلامه : إن صح الفرق أمكن أن يكون قابلا لها في الأزل وتكون صحتها أزلية أي لم تزل ممكنة صحيحة مع امتناع صحة أزلية الحوادث كما يقولون إذ لم تزل الحوادث ممكنة صحيحة جائزة مع امتناع كون الحادث أزليا ويقولون : صحة الجواز وإمكانها أزلي لا متناع انقلابها من الامتناع إلى الإمكان من غير سبب حادث مع امتناع وجودها في الأزل وامتناع أزليتها
وهذا الفرق ذكره الغزالي في تهافت الفلاسفة و الرازي وغيرهما في جواب من قال بأن إمكان وجود المقدورات لا أصل له فقالوا : نحن نقول : إمكان الحوادث لا بداية لها ونقول الشيء المعين بشرط كونه حادثا لا بداية لأزليته ولا يلزم من ذلك إمكان وجود شيء من الحوادث في الأزل لأن كونه حادثا مع كونه أزليا ممتنع
وهذا الفرق عند التحقيق باطل فإنه مسلتلزم للجمع بين النقيضين فإن الحادث يجب أن يكون مسبوقا بالعدم
فإذا قيل بأن الحادث لم يزل ممكنا وأن صحته وإمكانه أزليته كان معناه أن ما كان مسبوقا بالعدم يمكن أن يكون أزليا والأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم فكان معناه أن ما يجب أن يكون حادثا يمكن أن يكون قديما وما يجب كونه مسبوقا بالعدم يجوز أن يكون أزليا غير مسبوق بالعدم وهذا جمع بين النقيضين
فإذا قيل : الحادث المعين إمكانه هل هو أزلي أو حادث ؟
قيل : بل هو حادث فإن كون الحادث المعين في الأزل ممتنع لذاته وهذا الممتنع لا يكون قط ولكن حدثت أسباب أوجبت إمكان حدوثه فكان إمكان حدوثه ممكنا كوجود الولد المشروط بوجود والده فإن كونه ابن فلان يستلزم وجود فلان ويمتنع أن يكون وجود ابن فلان موجودا قبل وجود فلان والممتنع لذاته لا يكون مقدورا وتجدد القادرية بتجدد إمكان المقدور ليس ممتنعا فإن الجميع حاصل بمسيئة الرب وقدرته وهو سبحانه بما يحدث بمشيئته وقدرته يجعل المعدوم موجودا فيجعل ما لم يكن ممكنا مقدورا يصير ممكنا مقدورا وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود شرح مراد الأرموي فإذا أراد بالفرق الفرق بين صحة الأزلية وأزلية الصحة كان معنى كلامه : إن صح هذا الفرق بطل الدليل فإنه يقول في الحوادث المقبولة ما يقال في الحوادث المنفصلة من الفرق بين صحة أزليتها وأزلية صحتها لكن لو أراد بالفرق هذا لم يستقم قوله : ( إن هذا الفرق إن صح إنى عن الدليل السابق ) بل هذا الفرق إن صح بطل الدليل المذكور فهذا يرجح أنه أراد بالفرق بين القادر والقابل فيكون قد ذكر ثلاثة أجوبة نقول إن صح الفرق بينهما بأن القابل يستلزم وجود المقبول في الأزل دون القادر فهذا الفرق يغني عن الدليل وإن لم يصح هذا الفرق انتقض الدليل بالقادر
الوجه الثاني : أنه إن صح الفرق بين المقدور والمقبول بأن المقدور يجب تأخره عن القدرة والمقبول لا يجب ذلك فيه كان هذا وحده دليلا على وجوب حصول الحادث في الأزل إذا كان قابلا له وحينئذ فلا حاجة إلى أن يستدل على ذلك بما ذكره من النسبة إن كان الفرق صحيحا وإن لم يكن صحيحا صح النقض به
الثالث : أن الدليل المذكور يوجب وجود المقدور في الأزل لأن القادرية على الشيئين نسبة بينهما والنسبة بين الشيئين متوقفة عليهما فإن صح الفرق بين المقدور والمقبول - مع أن الدليل يتناولهما جميعا وينفي الفرق - لزم بطلان الدليل فيلزم بطلان مقدمة الدليل أو انتفاضه وكلاهما مبطل له وهذا بين
قال الرازي : ( الثالث قول الخليل : { لا أحب الأفلين } ( الأنعام : 67 ) يدل على أن المتغير لا يكون إلها )
ولقائل أن يقول : إن كان الخليل صلى الله عليه و سلم احتج بالأفول على نفي كونه رب العالمين لزم أنه لم يكن ينفي عنه حلول الحوادث لأن الأفول هو المغيب والاحتجاب باتفاق أهل التفسير واللغة وهو مما يعلم من اللغة اضطرارا وهو حين بزغ قال : ( هذا ربي ) فإذا كان من حين يزوغه إلى حال أفوله لم ينف عنه الربوبية دل على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك وإنما جعل المنافي الأفول وإن كان الخليل صلى الله عليه و سلم إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ ربا يشرك به ويدعى من دون الله فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى فقصة الخليل إما أن تكون حجة عليهم أو لا لهم ولا عليهم
قال الرازي : ( واحتجوا بأن الدليل على أن الكلام والسمع والبصر صفات حادثة ولا بد لها من محل وهو ذاته تعالى ولأنه يصح قيام الصفات القديمة بذاته تعالى باتفاق منا ومن الأشعرية والقدم لا يعتبر في المقتضى فإنه عبارة عن نفس الأزلية وهو عدمي فالمقتضى هو كونها صفات والحوادث كذلك فليلزم قيامها به )
قال : ( والجواب عن الأول بالجواب عن أدلة حدوث تلك الصفات وعن الثاني بأن تلك الصفات قد تكون مخالفة لهذه بالنوع سلمنا أنه لا فارق سوى القدم فلم قلتم : إنه عدمي فإنه عبارة عن نفي العدم السابق ونفي النفي ثبوت ؟ )
قلت : ليس المقصود هنا ذكر أدلة المثبتة فإن النصوص تدل على ذلك في مواضع لا تكاد تحصى إلا بكلفة وإنما الغرض بيان : هل في العقل ما يعارض النصوص ؟ ومن أراد تقرير ما احتجوا به من الدليل العقلي على الإثبات قدح فما يذكره النفاة من امتناع حدوث تلك الأمور
وعمدة المانعين هو امتناع حلول الحوادث وامتناع تسلسلها فإذا كانوا لا ينفون حدوثها في ذاته إلا لامتناع حلول الحوادث : لم يجز أن يجيبوا عن أدلة الحدوث بمجرد دليل امتناع حلول الحوادث إن لم يجيبوا عن المعارض لأن ذلك دور فإذا قال القائل : الدليل على بطلان دليل المثبتة هو تدليل النفاة قيل له : دليل النفاة لا يتم إلا ببطلان دليل المثبتة فإذا لم تمكن المطالبة إلا بدليل المثبتة كان صحة دليل النفاة متوقفا على صحته وذلك دور فإنه لا يتم نفي ذلك إلا بالجواب عن حجة المثبتين فيكون قولهم بانتفاء حلول الحوادث مبينا على انتفاء حلول الحوادث فلا يكون لهم حجة على ذلك
فالمثبتون معهم السمعيات الكثيرة المتواترة بخلاف النفاة فإنه ليس معهم شيء من السمع وإنما يدعون قيام الدليل العقلي على امتناع قيام الحوادث به فإذا أراد بعض المثبتين أن يقيم دليلا عقليا على قيامها به أو إمكان قيامها به احتاج إلى أن يجيب عن أدلة النفاة والنفاة لا يتم دليلهم على النفي حتى يجيبوا على أدلة المثبتين وإلا فلو قدر تعارض الأدلة العقلية من الجانبين فتكافأتا وبقيت الأدلة السمعية خالية عن معارض يجب تقدمه عليها فإذا احتج المثبتون بالآيات والأحاديث لم يمكن للنفاة أن يقولوا هذا يثبت قيام الحوادث به وذلك ممتنع إلا إذا أقاموا الدليل العقلي على الامتناع أجابوا عما يحتج به المثبتة من الدليل العقلي فلا بد للنفاة من هذا وهذا بخلاف المثبتة فإنه يمكنهم أن يقولا السمع دل على ذلك ولم يقيموا دليلا عقليا خاليا عن المعارض المقاوم ينفي ذلك فلا يحتاج المثبتون إلى دليل عقلي يوافق السمع يل يكفيهم إبطال ما يعارضه وإذا أقاموا دليلا عقليا فعورضوا بأدلة النفاة لم يحتاجوا إلى إبطالها بل تكفيهم المعارضة فإذا أبطلوا كانوا قد سدوا على النفاة الأبواب
فلهذا كان ما يحتاج إليه النفاة من إقامة دليل عقلي وإبطال ما يعارضه مما احتاج إليه المثبتة بل يكفيهم منع مقدمات المعارض فإن أبطلوها فقد زادوا وتكفيهم الممعارضة بالعقليات فإن بينوا رجحان عقلياتهم فقد زادوا وإذا بينوا صحة عقلياتهم وبطلان عقليات النفاة ومعهم السمعيات كانوا قد أثبتوا أن معهم السمع والعقل وأن المنازغ ليس معه لا سمع ولا عقل
وأما أدلة المثبتين فهو ما يذكرونه من الشرعيات والعقليات وهم قد قدحوا في أدلة النفاة فيتم كلامهم
وأما التسلسل فالكرامية ومن وافقهم لا يجيزونه كما لا يجيزه كثير من المعتزلة ومن وافقهم وأما من يجوز التسلسل في الآثار من أهل الحديث والكلام والفلسلفة وغيرهم فهؤلاء قد عرف طعنهم في أدلة النفاة وطعن النفاة في أدلة بعض حتى متكلمة أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم متنازوعون في ذلك قد عرف
وأيضا فإن المثبتين يقلون : كونه قادرا على الفعل بنفسه صفه كمال كما أن قدرته على المفعول المنفصل صفة كمال فإنا إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الفعل القائم به والمنفصل عنه ومن لا يقدر على أحدهما علم أنا لأول أكمل كما إذا عرضنا عليه من يعلم نفسه وغيره ومن لا يعلم إلا أحدهما وأمثال ذلك ويقول من يجوز دوام الحوادث وتسلسلها : إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة ويفعلها دائمة متعاقبة ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة كان الأول أكمل
وكذلك إذا عرضنا على العقل من فعل الأفعال المتعاقبة مع حدوثها ومن لا يفعل حادثا أصلا لئلا يكون عدمه قبل وجوده عدم كمال شهد صريح العقل بأن الأول أكمل فإن الثاني ينفي قدرتهوفعله للجميع لئلا يعدم البعض في الأزل والأول يثبت قدرته وفعله للجميع مع عدم البعض في الأزل فذاك ينفي الجميع حذرا من فوت البعض والثاني يثبت ما يثبته من الكمال مع فوت البعض ففوت البعض لازم على التقديرين وامتاز الأول بإثبات كمال في قدرته وفعله لم يثبته الثاني
وأيضا فهم يقولون : كون الكلام لا يقوم بذاته يمنع أن يكون كلامه فإن ما قام به شيء من الصفات والأفعال عاد حكمه إليه لا إلى غيره فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو كلاما كان ذلك صفة للمحل الذي خلق فيه فذلك المحل هو العالم القادر المتكلم به فإذا خلق كلاما في محل كان ذلك الكلام المخلوق كلام ذلك المحل لا كلامه فإذا خلق في الشجرة : { إني أنا الله رب العالمين } ( القصص : 30 ) ولم يقم هو به كلام كان ذلك كلاما للشجرة فتكون هي القائلة : ( إني أنا الله رب العالمين ) وهذا باطل فيتعين أن يقوم به الكلام وكونه لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بما شاء بل يلزمه الكلام كما تلزمه الحياة مع كون تكليمه هو خلق مجرد الإدراك يقتضي أن يكون القادر على الكلام الذي يتكلم باختياره أكمل منه فإنا إذا عرضنا على العقل من يتكلم باختياره وقدرته ومن كلامه بغير اختياره وقدرته كان الأول أكمل فتعين أن يكون متكلما بقدرته ومشيئته كلاما يقوم بذاته وكذلك في مجيئة وإتيانه واستوائه وأمثال ذلك إن قدرنا هذه أمورا منفصلة عنه : لزم أن لا يوصف بها وإن قدرناها لازمة لذاته لا تكون بمشيئته وقدرته : لزم عجزه وتفضيل غيره عليه فيجب أن يوصف بالقدرة على هذه الأفعال القائمة به التي يفعلها بمشيئته وقدرته وهذا هو الذي تعنيه النفاة بقولهم : لا تحله الحوادث كما يعنون نفي العلم والقدرة ونحوهما بقولهم : لا تحله الأعراض
وأيضا فإن ما به تثبت الصفات القائمة به تثبت الأفعال القائمة به التي تحصل بقدرته واختياره ونحو ذلك وذلك أنه يقال : العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ونحو ذلك صفات كمال فلو لم يتصف الرب بها اتصف بنقائضها كالجهل والعجز والصمم والبكم والخرس وهذه صفات نقص والله منزه عن ذلك فيجب اتصافه بصفات الكمال ويقال : كل كمال يثبت لمخلوق من غير أن يكون فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق تعالى أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أولى بتنزيهه عنه بل كل كمال يكون للموجود لا يستلزم نقصا فالواجب الوجود أولى به من كل موجود وأمثال هذه الأدلة المبسوطة في غير هذا الموضع
فإذا قال النفاة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية : هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة فلا يلزم من رفع أحدهما ثبوت الثاني إلا أن يكون المحل قابلا لهما فأما ما لا يقبلهما كالجماد فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا أعمى ولا بصير
أجيبوا عن ذلك بعدة أجوبة :
مثل أن يقال : هذا اصطلاح لكم وإلا فاللغة العربية لا فرق فيها والمعاني العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات
ومثل أن يقال : فما لا يقبل هذه الصفات كالجماد أنقص مما يقبلها ويتصف بالناقص منها فالحي الأعمى أكمل من الجماد الذي لا يوصف ببصر ولا عمى وهذا بعينه يقال فيما يقوم به من الأفعال ونحوها التي يقدر عليها ويشاؤها فإنه لو لم يتصف بالقدرة على هذه الأفعال لزم اتصافه بالعجز عنها وذلك نقص ممتنع كما تقدم والقادر على الفعل والكلام أكمل من العاجز عن ذلك
فإذا قال النافي : ( إنما يلزم اتصفاه بنقيض ذلك لو كان قيام الأفعال به ممكنا فأما ما لا يقبل لك كالجدار فلا يقال : هو قادر على الحركة ولا عاجز عنها )
فيقال : هذا نزاع لفظي كما تقدم ويقال أيضا : فما لا يقبل قيام الأفعال الاختيارية به والقدرة عليها كالجماد أنقص مما يقبل ذلك كالحيوان فالحيوان الذي يقبل أن يتحرك بقدرته وإرادته إذا قدر عجزه هو أكمل مما لا يقبل الاتصاف بذلك كالجماد فإذا وصفتموه بعدم قبول ذلك كان ذلك أنقص من أن تصفوه بالعجز عن ذلك وإذا كان وصفه بالعجز عن ذلك صفة نقص مع إمكان اتصافه بالقدرة على ذلك فوصفه بعدم قبول الأفعال والقدرة عليها أعظم نقصا
فإن قال النافي : لو جاز ان يفعل أفعالا تقوم به بإرادته وقدرته للزم أن يكون محلا للحوادث وما قبل الشيء لا يخل عنه وعن ضده فيلزم تعاقبها وما تعاقبت عليه الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها
قيل لهم : هذا مبني على مقدمتين : على أن ما يقبل الشيء لا يخلو عنه وعن ضده وعلى امتناع دوام الحوادث وكل من المقدمتين قد بين فسادها كما تقدم
ثم قبل العلم بفساده يعلم بصريح العقل أن ما ذكر في إثبات هذه الأفعال من الأدلة العقلية الموافقة للأدلة الشرعية أبين وأظهر وأصرح في العقل من امتناع دوام الحوادث وتعاقبها فإن هذه المقدمة في غاية الخفاء والاشتباه وأكثر العقلاء من جميع الأمم ينازعون فيها ويدفعونها وهي أصل علم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وبهذه المقدمة استطالت الدهرية على من احتج بها من متكلمة أهل الملل وعجزوهم عن إثبات كون الله تعالى يحدث شيئا لا العالم ولا غيره والذين اعتقدوا صحة هذه المقدمة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم ظنوا أن حدوث العالم وإثبات الصانع لا يتم إلا بها وفي حقيقة الأمر هي تنافي حدوث العالم وإثبات الصانع بل لا يمكن القول بإحداث الله تعالى لشيء من الحوادث إلا بنقيضها ولا يمكن إثبات خلق الله لما خلقه تصديق رسله فيما أخبروا به عنه إلا بنقيضها فما جعلوه أصلا ودليلا على صحة المعقول والمنقول هو مناف مناقض للمنقول والمعقول كما قد بسط في غير هذا الموضع
وأيضا فإن هؤلاء النفاة يقولون : لم يكن الرب تعالى قادرا على الفعل فصار قادرا وكان الفعل ممتنعا فصار ممكنا من غير تجدد شيء أصلا يوجب القدرة والإمكان وهذا معنى قول القائل : إنه يلزم أن ينقلب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وهذا مما تجزم العقول ببطلانه مع ما فيه من وصف الله بالعجز وتجدد القدرة له من غير سبب
ومن اعتذر منهم عن ذلك - مثل كثير منهم - قالوا : إن الممتنع هو القدرة على الفعل في الأزل فنفس انتفاء الأزل يوجب إمكان الفعل والقدرة عليه
قيل لهم : الأزل ليس هو شيئا كان موجودا فعدم ولا معدوما فوجد حتى يقال : إنه تجدد أمر أوجب ذلك بل الأزل كالأبد فكما أن الأبد هو الدوام في المستقبل فالأزل هو الدوام في الماضي فكما أن الأبد لا يختص بوقت دون وقت فالأزل لا يختص بوقت دون وقت فالأزلي هو : الذي لم يزل كائنا والأبدي هو : الذي لا يزال كائنا وكونه لم يزل ولا يزال معناه دوامه وبقاؤه الذي ليس له مبتدأ ولا منتهى فقول القائل : ( شرط قدرته انتفاء الأزل ) كقول نظيره : ( شرط قدرته انتفاء الأبد )
فإذا كان سلف الأمة وأئمتها وجماهير الطوائف أنكروا قول الجهم في كونه تعالى لا يقدر في الأبد على الأفعال فكذلك قول من قال : لا يقدر في الأزل على الأفعال وقول أبي الهذيل : ( إنه تعالى لا يقدر على أفعال حادثة في الأبد ) يشبه قول من قال : ( لا يقدر على أفعاله حادثة في الأزل ) وقد بسط الكلام على هذا وقول من يفرق بين النوعين في غير هذا الموضع
الاستدلال على النفي والرد عليه
وقد استدل بعضهم عل النفي بدليل آخر فقال : إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن حقيقته كافية في حصولها أولا حصولها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل وهذا يقتضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا هذا خلف وحينئذ يلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة
والمثبتون يجيبون عن هذا بوجوه :
أحدها : أن هذا إنما يقال فيما كان لازما لذاته في النفي أو الإثبات أما ما كان موقوفا على مشيئته وقدرته كأفعاله فإنه يكون إذا شاءه الله تعالى ولا يكون إذا لم يشأه فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإن بين المستدل أنه لا يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته كان هذا وحده كافيا في المسألة وإن لم يبين ذلك لم يكن فيما ذكره حجة
الثاني : أن يقال : إن هذا منقوض بأفعاله فإن حقيقته كافية في حصولها ولا لزام افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا فما كان جوابا عن الأفعال كان جوابا للمثبتين القائلين : إنه يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ومن جوز أنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلا بمحض القدرة والمشيئة القديمة قال هنا كذلك كما يقول الكرامية ومن قال : ( إنه لم يزل يفعل ويتكلم إذا شاء ) قال هنا كذلك كما يقولوه من يقوله من أئمة السنة والحديث
الثالث : أن يقال : أتعني بقولك ( ذاته كافية ) أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل ؟ أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده ؟ فإن عنيت الأول انتقض عليك بالمفعولات الحادثة فإنه يلزمك إما عدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل إذ كان مالا تكفي فيه الذات يفتقر إلى سبب منفصل وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذ كان مما تكفي الذات يمكن تأخره
الرابع : ان يقال : قولك ( يفتقر إلى سبب منفصل ) تعني به شيئا يكون من فعل الله تعالى أو شيئا لا يكون من فعله ؟ أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب فهو فاعلها وفاعل ما يحدث بها فلا يكون مفتقرا إلى غيره وأما إن عنيت بالسبب ما لا يكون من فعله لزمك أن كل مالا يكفي فيه الذات فلا يستلزم وجوده في الأزل ألا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مخلوقاته ومعلوم أن هذا خلاف إجماع أهل الإيمان بل خلاف إجماعه جماهير العقلاء وهو خلاف المعقول الصريح أيضا فإن ذلك الشريك المقدر إن كان واجب الوجود بنفسه إلها آخر لزم إثبات خالق قديم مع الله مشارك له في فعله لا يفعل إلا به وهذا مع أنه لم يقل به أحد من بني آدم فهو باطل في نفسه لأنه يستلزم افتقار كل من الفاعلين إلى الآخر فإن التقدير في هذا المشترك هو أن أحدهما لا يستقل به بل يحتاج إلى معاونة الآخر وما احتاج إلى معاونة الآخر كان فقيرا إلى غيره ليس بغني وكان عاجزا ليس بقادر فإن كان هذا دليلا على انتفاء الوجوب بطل دليلك وإن لم يكن دليلا بطل دليلك أيضا فإنه مبني عليه وإن كان ذلك الشريك المقدر ليس واجب الوجود بنفسه فهو ممكن لا يوجد إلا بالواجب نفسه فلزم أن يكو من مفعولاته
الجواب الخامس : أن يقال قول المحتج : ( كل ما يفرض له فإما أن تكون ذاته كافية في ثبوت حصوله أو لا تكفي في حصوله وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل ) كلام باطل وذلك أنه يقال : لا نسلم أن مالا يكون مجرد الذات كافية في ثبوته أو انتفائه يفتقر فيه إلى سبب منفصل وإنما يلزم ذلك أن لو لم تكن الذات قادرة على ما يتصل بها من الأفعال فإذا كانت قادرة على ذلك أمكن أن يكون ما يتجدد له من الثبوت موقوفا على ما يقوم بها من مقدوراتها فليس مجرد الذات مقتضية لذلك ولا افتقرات إلى سبب منفصل وذلك أن لفظ ( الذات ) فيه إجمال واشتباه وبسبب الإجمال في ذلك وقعت شبهة في مسائل الصفات والأفعال ؟ فإنه يقال له : ما تريد بذاته ؟ أتريد به الذات المجردة عما يقوم بها من مقدوراتها ومرادتها ؟ أم تعني به الذات القادرة على ما تريده مما يقوم لها ومما لا يقوم بها ؟
فإن أرادت به الأول كان التلازم صحيحا فإنه إذا قدر ذات لا يقوم بها شيء من ذلك كان ما يثبت لها وما ينفي عنها إن لم تكن هي كافية فيه وإلا افتقرت إلى سبب منفصل لأنه لا يقوم بها ما تقدر عليه وتريده لكن يقال : ثبوت التلازم ليس بحجة إن لم تكن الذات في نفس الأمر كذلك وكون الذات في نفس الأمر كذلك هو رأس المسألة ومحل النزاع فلا يكون الدليل صحيحا حتى يثبت المطلوب ولو ثبت المطلوب لم يحتج إلى الدليل فتكون قد صادرت على المطلوب حيث جعلته مقدمة إثبات نفسه وهذا باطل بصريح العقل واتفاق أهل العارفين بذلك
وإن أردت بذات النوع الثاني لم يصح التلازم فإنه إذا قدر ذات تقدر على أن تفعل الأفعال التي تختارها وتقوم بها لم يلزم أن يكون ما يتجدد من تلك الأفعال موقوفا على سبب منفصل ولا يكون مجرد الذات بدون ما يتجدد من مقدورها ومرادها كافيا في كل فرد من ذلك بل قد يكون الفعل الثاني لا يوجد إلا بالأول والأول بما قبله وهلم جرا فليس مجرد الذات بدون ما تجدده كافيا في حصول المتأخرات ولا هي مفتقرة في ذلك إلى أمور منفصلة عنها فلفظ ( الذات ) قد يراد به الذات بما يقوم بها وقد يراد به الذات المجردة عما يقوم بها
فإذا قيل ( هل الذات كافية ) إن أريد به الذات المجردة فتلك لا حقيقة لها في الخارج عند أهل الإثبات وإذا قدرت تقديرا فهي لا تكفي في إثبات ما يثبت لها وإن أريد به الذات المنعوتة فإنه يقوم بها الأفعال الاختيارية فمعلوم أن هذه الذات لا يجب أن يتوقف ما يتجدد لها من فعل ومفعول على سبب منفصل عنها ونظير هذا قول نفاة الصفات : إن الصفات هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة ؟ فإنا قد بينا في غير هذا الموضع أن الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها بل الصفات زائدة على ما يثبته النفاة من الذات وأما الذات الموصوفة بصفاته القادرة على أفعالها فتلك مستلزمة لما يلزمها من الصفات قادرة على ما تشاؤه من الأفعال فهي لا تكون إلا موصوفة لا يمكن أن تتجرد عن الصفات اللازمة لها حتى يقال : هل هي زائدة عليها أو ليست زائدة عليها ؟ بل هي داخلة في مسمى اسمها والأفعال القائمة بها بقدرتها وإرادتها كذلك
فكما أنه مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى قبل خلق السماوات والأرض وبعد إقامة القيامة وفيما بين ذلك لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الإكرام والجلال فكذلك هو مسمى بأسمائه الحسنى منعوت بصفاته العلى قبل هذه الأفعال وبعدها
وكان أن ذلك ثابت قبل حدوث المفعولات وبعدها فهو ايضا ثابت قبل حدوث الأفعال وبعدها ومن آياته الشمس والقمر والكواكب وما تستحقه هذه الأعيان من الأسماء والصفات هو ثابت لها قبل الحركات المعينة وبعدها ولا يحتاج أن يقدر لها ذات مجردة عن النور وعن دوام الحركة ثم زيد عليها النور ودوام الحركة فالخالق سبحانه أولى بثبوت الكمال له وانتفاء النقص عنه والمخلوقات إنما احتاجت فيما يحدث عنها إلى سبب منفصل لأنها هي في نفسها محتاجة إلى الفاعل المنفصل فلا يوجد شيء من ذاته وصفاتها وأفعالها إلا بأمر منفصل عنها وأما الخالق سبحانه وتعالى فهو الغني عما سواه فلا يفتقر في شيء من ذاته وصفاته وأفعاله إلى أمر منفصل الذي هو مفتقر إليه فلا يحتاج فيما يجدده من أفعاله القائمة بنفسه التي يريدها ويقدر عليها إلى أمر مستغن عنه كما لا يحتاج في مفعولاته المنفصلة عنه إلى ذلك وأولى وإذا كان قد خلق من الأمور المنفصلة عنه ما جعله سببا لأفعال تقوم بنفسه كما يخلق الطاعات التي ترضيه والتوبة التي يفرح بها والدعاء الذي يجيب سائله وأمثال ذلك من الأمور فليس هو في شيء من ذلك مفتقرا إلى ما سواه بل هو سبحانه الخالق للجميع وكل ما سواه مفتقر إليه وهو الغني عن كل ما سواه وهذا كما أن ما يفعله من المخلوقات بعضها ببعض كإنزال المطر بالسحاب وإنبات النبات بالماء لا يوجب افتقاره إلى الأسباب المنفصلة إذ هو خالق هذا وهذا وجاعل هذا سببا لهذا وقد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع بما لا يليق بهذا المكان
الجواب السادس : أن يقال : قولهم إن لم يكن ذاته كافية في حصولها لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقضي إمكانه فيكون الواجب ممكنا تمنع فيه المقدمة الأولى التلازمية التي هي شرطية متصلة وذلك أن الذات إن لم تكن كافية في حصولها إنما يلزم افتقار ذلك الحادث إلى سبب منفصل لا يلزم افتقار نفس الذات إلى سبب منفصل فإن المحتج يقول : كل صفة تفرض فذاته كافيه في حصولها أو لا حصولها لأنه لو لم يكن كذلك لزم افتقاره إلى سبب منفصل
فيقال له : بتقدير أن لا تكون الذات كافية في نفي تلك الصفة أو ثبوتها يلزم أن يكون نفيها أن إثباته موقوفا عل أمر غير الذات وأما كون الذات تكون موقوفة على ذلك الغير فهذا ليس بلازم من هذا التقدير إلا أن يتبين أنه إذا كان شيء من الأمور التي توصف بها من السلب والإيجاب موقوفا على الغير وجب أن يكون هو نفسه موقوفا على الغير وهو لم يبين ذلك
ومن المعلوم أن القائلين بهذا يقولون : إن ما يتجدد من الأمور القائمة به فهو موقوف على مشيئته وقدرته وذاته ليست موقوفة على مشيئته وقدرته ويقولون : إنه يجوز أن يقف ذلك على ما يحدثه هو من الحوادث بمشيئته وقدرته وهو في نفسه ليس موقوفا على ما يحدثه من الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته وليس في الوجود موجود سواه وسوى مخلوقاته حتى يقال إن تلك الأمور موقوفة عليه بل غاية ما يمكن أن يقال إنها موقوفة على مشيئته وقدرته أو توابع مشيئته وقدرته وأصحاب هذا القول يقولون ذلك وتكون تلك الأمور موقوفة على ذلك لا يقتضي أن يكون هو نفسه موقوفا على ذلك ولكن هذا المحتج إن لم يقرر مقدمات حجته لم تكم حجته صحيحة وحجته مبنية على أنه لو لم تكف ذاته في حصول ما ينفي ويثبت للزم افتقاره إلى غيره وإنما يلزم افتقار تلك المنفيات والمثبتات إلى ذلك الغير فإن هذا بين فإن لم يبن أن افتقار تلك الأمور إلى الغير مستلزم لافتقاره وإلا لم تكن حجة صحيحة لا سيما وتلك الأمور على هذا التقدير ليست من لوازم ذاته فإنها لو كانت من لوازم ذاته كانت ذاته كافية فيها ولوازم الذات متى افتقرت إلى الغير لزم افتقار الذات إلى الغير فإن الملزوم لا يوجد إلا باللازم واللازم لا يوجد إلا بذلك الغير فالملزوم لا يوجد إلا بذلك الغير ولكن ذلك الغير لا يجب أن يكون فاعلا أو علة فاعلة بل يجوز أن يكو شرطا ملازما
وقد بين في غير هذا الموضع أن نفس ذات الواجب إذا قيل : هي ملازمة لصفاته الواجبة له أو صفاته الواجبة له ملازمة لذاته أو كل من الصفات الواجبة ملازم للأخرى كان هذا حقا وهو متضمن أن تحقيق كل من ذلك مشروط بتحقق الآخر
وأما كون الرب تعالى مفتقر إلى شيء مباين له غنى عنه فهذا ممتنع فإنه سبحانه الغني عن كل شيء فإذا قدر أن بعض لوازمه توقف على ما هو مباين له لم يكن وجوده ثابتا إلا بوجود ذلك المباين وكان الله مفتقرا إليه والله غني عن كل شيء وأما إذا لم يكن الأمر من لوازم ذاته بل كان من الأمور العارضة فلا ريب أن أهل الإيمان والسنة يقولون إن الله لا يفتقر في شيء من الأشياء إلى غيره لا في ذاته ولا في صفاته ولا أفعاله سواء قام بذاته أو لم يقم بذاته ولكن هو بنفسه غني عن كل ماسواه ولا يقال إنه نفسه غني عن نفسه وليس في كونه مستلزما لصفاته وفاعلا لأفعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه فإنه إذا كان وحده مستلزما لصفاته وفاعلا لأفعاله ما يقتضي افتقاره إلى غير نفسه فإنه إذا كان وحده مستلزما لصفاته فاعلا لجميع أفعاله لم يكن شيء مما وجد بغيره بل جميع ما وجد فلا يخرج من ذاته وصفاته وأفعاله فلا يتصور أن يكون مفتقرا إلى غير نفسه المقدسة سبحانه وتعالى
ولكن المقصود أن هذا المحتج إذا قال له المعترض : ما المانع أن تكون هذه الأمور العارضة موقوفة على غير مع كون الحق واجب بذاته ؟ لم يكن فيما ذكر حجة بل ذكر أن تلك الأمور إذا لم تكن من لوازم ذاته بحيث تكون مجرد الذات كافيه فيها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل واللازم إنما هو افتقار تلك الأمور إلى سبب منفصل فإن بين أن ما يقوم بالواجب يمتنع أن يكون موقوفا على سبب منفصل تمت حجته وإلا فلا ولا يمكن أن يقيم حجه إلا على أنه لا يقف على ما هو مستغن عن الواجب بنفسه وهذا حق وأما كونه لا يقف على ما هو مفتقر إلى الواجب فهذا لا يمكن إقامة الدلالة عليه
الوجه السابع : أن يقال : قولك بأن عواض ذاته لا يتوقف على الغير يستلزم أن عواض ذاته يتوقف على الغير وإذا كان تقدير ثبوته مستلزما لانتفائه دل على أن تقدير ثبوته مستلزم لجمع بين النقيضين فلا يكون ثابتا وإن شئت قلت : قولك لا تقوم به الحوادث مستلزم لقيام الحوادث به فيلزم الجمع بين النقيضين وإن شئت قلت : قولك لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته يستلزم نقيض ذلك فيكون باطلا وهذا يصلح أن يكون دليلا مستقلا في أول المسألة وذلك لأن هذا العالم المشهود إما أن يكون واجبا بذاته أو ممكنا فإن كان واجبا بذاته فمن المعلوم قيام الحوادث به فيلزم قيامها بالواجب بذاته
وأيضا فمن المعلوم أن ما يقوم ببعض الأفلاك من الحوادث ليست ذاته كافيه له بل هو موقوف على غيره فيكون ما يقوم بالواجب بنفسه موقوفا على غيره وإن كان هذا العالم ممكنا وهو الحق فلا بد له من واجب فذلك الواجب إما أن يكون علة تامة مستلزمة في الأزل لجميع معلولاته أو لا والأول باطل لأنه لو كان كذلك لم يتأخر شيء من معلولاته والثاني يقتضي أنه فعل بعد أن لم يكن فعل وذلك يقتضي تجدد فاعلية فأما أن يكون تجدد ذلك مستلزما لكون متجدداته توجب افتقار ذاته إلى غيره أو لا فإن لم تكن بطلت الحجة وإن استلزم ذلك ثبت افتقار ما يتجدد بذاته إلى غيره فلو قيل : إن الواجب لا تقوم بذاته هذه الأمور للزم أن تقوم بذاته هذه الأمور فيلزم الجمع بين النقيضين وإن قيل : تجدد الفاعلية لا يستلزم قيام شيء به بل تجددت من غير حدوث شيء أصلا قيل : فكذلك ما يتجدد من الأمور القائمة بذاته ممكن حينئذ تجدده من غير حدوث شيء اصلا بطريق الأولى وإن شئت أن تكون هذه معارضة ودليلا في رأس المسألة ونقول : ما يتجدد من مفعولاته هل يتقضي أفتقار ذاته إلى غيره أما لا ؟ فإن قيل لا يقتضي فكذلك ما يتجدد من أفعاله القائمة به وإلا فلا وهذا لأن نفاة الأمور القائمة به منهم من يقول حدثت الحوادث المباينة له من غير تجدد شيء أصلا كما يقول ذلك من يقول من المعتزلة والكلابية وغيرهم ومنهم من يقول : بل ما زالت الحوادث تحدث مع كونه مستلزما لجميع مفعولاته كما تقول ذلك الدهرية الفلاسفة والدهرية منهم من يقول : : إن العالم واجب الوجود بنفسه ومنهم من يقول : إن الأول علة غائية له وكل من هذه الأقوال يلزمه من التناقض ما يبين به أنه لا يمكنه إبطال القول بقيام مراداته ومحبوابته بذاته
معارضة بعض المتكلمين للرازي
وقد عارض بعضهم الرازي فيما ذكره من أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف فقال : المراد بالحادث : الموجود الذي وجد بعد العدم ذاتا كان أو صفة أما ما لا يوصف بالوجود - كالأعدام المتجددة والأحوال عند من يقول بها والإضافات عند من لا يقول : إنها وجودية - فلا يصدق عليها اسم الحادث وإن صدق عليها اسم المتجدد فلا يلزم من تجدد الإضافات والأحوال في ذات الباري أن تكون محلا للحوادث
قال : وما قاله الإمام - يعني الرازي - في هذا المقام إن أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان وبينه بصور فليس كذلك لأن أكثر ما ذكر من تلك الأمور فإنما هي متجددة لا محدثة والمتجدد أعم من الحادث فلا يلزم من وجود العام وجود الخاص
قلت : ولقائل أن يقول : هذا ضعيف من وجوه :
الرد عليهم من وجوه الوجه الأول
أن الدليل الذي استدلوا به على نفي الحوادث ينفي المتجددات أيضا كقولهم : إما أن يكون كمالا أو نقصا وقولهم : لو حصل ذلك لزم التغير وقولهم : إما أن تكون ذاته كافية فيه أو لا تكون وقولهم : كونه قابلا له في الأزل يستلزم إمكان ثبوته في الأزل فإنه لا يمكن أن يحصل في الأزل لا متجدد ولا حادث ولا يوصف الله بصفة نقص سواء كان متجددا أو حادثا وكذلك التغير لا فرق بين أن يكون بحادث أو متجدد فإن قالوا : تجدد المتجددات ليس تغيرا قال أولئك : وحدوث الحركات الحادثة ليس تغيرا فإن قالوا : ( بل هذا يسمى تغيرا ) منعوهم الفرق وإن سلموه كان النزاع لفظيا وإذا كان استدلالهم ينفي القسمين لزم إما فساده وإما النقض
الوجه الثاني
أن يقال : تسمية هذا متجددا وهذا حادثا فرق لفظي لا معنوي ولا ريب أن أهل السنة والحديث لا يطلقون عليه سبحانه وتعالى أنه محل للحوادث ولا محل للأعراض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة التي يفهم منها معنى باطل فإن الناس يفهمون من هذا أن يحدث في ذاته ما سمونه هم حادثا كالعيوب والآفات والله منزه عن ذلك سبحانه وتعالى وإذا قيل : فلان ولي على الأحداث أو تنازع أهل القبلة في أهل الأحداث فالمراد بذلك : الأفعال المحرمة كالزنا والسرقة وشرب الخمر وقطع الطريق والله أجل وأعظم من أن يخطر بقلوب المؤمنين قيام القبائح به والمقصود أن تفرقة المفرق بين المتجدد والحادث أمر لفظي لا معنى عقلي ولو عكسه عاكس فسمى هذا متجددا وهذا حادثا لكان كلامه من جنس كلامه
الوجه الثالث
أن دعوى المدعي أن الجمهور إنما يلزمهم تجدد الإضافات والأحوال والأعدام لا تجدد الحادث الذي وجد بعد العدم ذاتا كان أو صفة دعوى ممنوعة لم يقم عليها دليلا بل الدليل يدل على أن أولئك الطوائف يلزمهم قيام أمور وجودية حادث بذاته مثال ذلك سبحانه وتعالى يسمع ويرى ما يخلقه من الأصوات والمرئيات
وقد أخبر القرآن بحدوث ذلك في مثل قوله : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة : 105 ) وقوله تعالى : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ( يونس : 14 ) وقد أخبر بسمعه ورؤيته في مواضع كثيرة كقوله لموسى وهارون : { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه : 46 ) وقوله : { الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين } ( الشعراء : 218 - 219 ) وقوله : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ( آل عمران : 181 ) { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } ( المجادلة : 1 )
وفي الصحيح [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في جانب البيت وإنه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } ] ومثل هذا كثير
فيقال لهؤلاء : أنتم معترفون وسائر العقلاء بما هو معلوم بصريح العقل أن المعدوم لا يرى موجودا قبل وجوده فإذا وجد فرآه موجودا وسمع كلامه فهل حصل أمر وجودي لم يكن قبل أو لم يحصل شيء ؟
فإن قيل : لم يحصل أمر وجودي وكان قبل أن يخلق لا يراه فيكون بعد خلقه لا يراه أيضا وإن قيل : حصل أمر وجودي فذلك الوجودي إما أن يقوم بذات الرب وإما أن يقوم بغيره فإن قام بغيره لزم أن يكون غير الله هو الذي رآه وإن قام بذاته علم أنه قام به رؤية ذلك الموجود الذي وجد كما قال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة : 105 ) وما سموه إضافات وأحوالا وتعلقات وغير ذلك
يقال لهم : هذه أمور موجوده أو ليست موجودة ؟ فإن لم تكن موجودة فلا فرق بين حاله قبل أن يرى ويسمع وبعد أن يرى ويسمع فإن العدم المستمر لا يوجب كونه صار رائيا سامعا وإن قلتم : بل هي أمور وجودية فقد أقررتم بأن رؤية الشيء المعين لم تكن حاصلة ثم صارت حاصلة بذاته وهي أمر وجودي
والمتفلسفة لا يقتصر في إلزامهم على تجدد الإضافات بل يلزمون بكونه محدثا للحوادث المتجددة شيئا فشيئا والإحداث هو من مقولة أن يفعل وأن يفعل : أحد المقولات العشر وهي أمور وجودية
فيقال : كونه فاعلا لهذه الحوادث المعينة بعد أن لم يكن فاعلا لها إما أن يكون أمرا حادثا وإما أن لا يكون حدث كونه فاعلا فإن لم يحدث كونه فاعلا فحاله قبل أن يحدثها وبعد أن يحدثها واحد وقد كان قبل أن يحدثها غير فاعل لها فيلزم أن لا يحدث شيء أو يحدث بلا محدث وأنتم أنكرتم على المتكلمة الجهمية والمعتزلة أن قالوا : الذات تفعل بعد أن لم تكن فاعلة بلا أمر تجدد فكيف تقولون : هي دائما تفعل الحوادث شيئا بعد شيء من غير أن يحدث لها أمر ؟
وأيضا فالفاعلية التامة لكل واحد من الحوادث إن كانت موجودة في الأزل قبل حدوثه لزم تأخر الفعل عن الفاعلية التامة وهذا باطل وذلك يبطل قولهم وإن قالوا : بل الفاعلية التامة لكل حادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة فقد صارت الذات فاعلة لذلك الحادث بعد أن لم تكن فاعلة وكونها فاعلة هي من مقولة أن يفعل هي إحدى المقولات العشر التي هي الأجناس العالية المسماة عندهم بقاطيغورياس وهي كلها وجودية فيلزم اتصاف الرب بقيام الأمور الوجودية به شيئا بعد شيء كما أختاره كثير من سلفهم وخلفهم
وهكذا يمكن تقرير كل ما ذكر الرازي من إلزام الطوائف شيئا بعد شيء لمن تصور ذلك تصورا تاما وكل من قال : ( لم يحدث شيء موجود ) فإنه يلزمه التناقض البين الذي لا ينازع فيه المنصف الذي يتصور ما يقول تصورا تاما
وقد اعتذر من اعتذر من الفلاسفة عما ألزمهم إياه من الإضافات بأن قالوا : الإضافات لا توجد إلا كذلك فلا يتصور فيه الكمال قبلها ولأنها تابعة لغيرها فلا يثبت فيها الكمال بل في متبوعها
قلت : ولقائل أن يقول : هذا بعينه يقوله المثبتون فإن الكلام إنما هو في الحوادث المتعلقة بمشئيته وقدرته ومن المعلوم امتناع ثبوت الحوادث جميعها في الأزل : فإذا قال القائل : ( الإضافات لا توجد إلا حادثة ) قيل له : والحوادث المعلقة بمشيئته وقدرته لا توجد لا حادثة
وأما قوله : ( الإضافة تابعة لغيرها فلا يثبت فيها الكمال ) فعنه جوابان : أحدهما : أن الدليل لا يفرق بين التابع والمتبوع فإن صح الفرق ظل الدليل وإن لم يصح انتقض الدليل فيبطل على التقديرين
الثاني : أن يقال : وهكذا ما يتعلق بمشيئته وتقدرته هو تابع أيضا فلا يثبت فيه الكمال
يوضح ذلك : أنه سبحانه مستحق في أزله لصفات الكمال لا وزر أن يكون شيء من الكمال الأزلي إلا وهو متصف به في أزله كالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك وإنما الشأن فيما لا يمكن وجوده في الأزل
طريقة الأئمة في مسألة القرآن
ومما يبين لك أن الرازي وأمثاله كانوا يعتقدون ضعف هذه المسألة - مع فرط رغبتهم في إبطال قول الكرمية إذا أمكنهم - أنه لم يعتمد على ذلك في مسألة كلام الله تعالى في أجل كتبه نهاية العقول ومسأل الكلام هي من أجل ما يبنى على هذا الأصل
وذلك أن الطريقة المعروفة التي سلكها الأشعري وأصحابه في مسألة القرآن هم ومن وافقهم على هذا الأصل من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الحسن التميمي و القاضي أبي يعلى و ابن عقيل و أبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد و كأبي المعالي الجويني وأمثاله و أبي القاسم الرواسي و أبي سعيد المتولي وغيرهم من أصحاب الشافعي و القاضي أبي الوليد الباجي و أبي بكر الطرطوشي و القاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم من أصحاب مالك و كأبي منصور الماتريدي و ميمون النسفي وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا : لو كان القرآن مخلوقا للزم أن يخلقه : إما في ذاته أو في محل غيره أو أن يكون قائما بنفسه لا في ذاته ولا في محل آخر والأول : يستلزم أن يكون الله محلا لحوادث والثاني : يقتضي أن يكون الكلام كلام المحل الذي خلق فيه فلا يكون ذلك الكلام كلام الله كسائر الصفات إذا خلقها في محل كالعلم والحياة والحركة واللون وغير ذلك والثالث : يقتضي أن تقوم الصفة بنفسها وهذا ممتنع
فهذه الطريقة هي عمدة هؤلاء في مسألة القرآن وقد سبقهم عبد العزيز المكي صاحب الحيدة المشهورة إلى هذا التقسيم
قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه
وقد يظن الظان أن كلامهم هو كلامه بعينه وأنه كان يقول بقولهم وأن الله لا يقوم بذاته ما يتعلق بقدرته ومشيئته وأن قوله من جنس قول ابن كلاب وليس الأمر كذلك فإن عبدالعزيز ـ هذا ـ له في الرد على الجهمية وغيرهم من الكلام ما لا يعرف فيه خروج عن مذهب السلف وأهل الحديث
وذلك أنه قال بعد أن ذكر جوابه لبشر فيما احتج به بشر من النصوص مثل قوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الزمر : 62 ] وقوله تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا } [ الزخرف : 3 ] قال : ( فقال بشر : يا أمير المؤمنين عندي أشياء كثيرة إلا أنه يقول بنص التنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس فليدع ما مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره ؟ فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال )
وذكر عبد العزيز أنه طلب من بشر أن يناظره على وجه النظر والقياس ويدع مطالبته بنص التنزيل - إلى أن قال : ( فقال عبد العزيز : يا بشر تسألني أم أسألك ؟ فقال بشر : سل أنت وطمع في وجميع أصحابه ! وتوهموا أني إذا خرجت عن نص التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره )
قال عبدالعزيز : ( فقلت : يا بشر تقول : إن كلام الله مخلوق ؟ قال : أقول : إن كلام الله مخلوق ) قال : ( فقلت له : يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها : أن تقول : إن الله خلق القرآن - وهو عندي أناكلامه - في نفسه أو خلقه قائما بذاته ونفسه أو خلقه في غيره فقل ما عندك قال بشر : أقول : إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها قال عبد العزيز : فقلت : يا أمير المؤمنين تركنا القرآن ونص التنزيل والسنن والأخبار عند هربه منها وذكر أنه يقيم الحجة وأنا أقول معه بخلق القرأن فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب وانقطع عن الكلام فإن كان يريد أن يناظرني على أنه يجيبني عما أسأله عنه وإلا فأمير المؤمنين أعلى عينا في صرفي فإنما يريد بشر أن يقع معه من لا يفهم فيخدعه عن دينه ويحتج عليه بما لا يعقله فتظهر حجته عليه فيبيح دمه
قال : فأقبل عليه المأمون فقال : أجب عبد العزيز عما سألك عنه فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه فقال بشر : قد أجبته ولكنه يتعنت فقال المأمون : يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث فقال : هذا أشد طلبا من مطالبته بنص التنزيل ما عندي غير ما أجبته به
قال : فأقبل على المأمون فقال : يا عبد العزيز تكلم أنت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشرا فقد انقطع عن الجواب من كل جهة
فقلت : نعم سألته عن كلام الله تعالى : أمخلوق هو ؟ قال : نعم فقلت له ما يلزمه في هذا القول وهو واحدة من ثلاث لا بد منها : أن يقول إن الله خلق كلامه في نفسه أو خلقه في غيره أو خلقه قائما بذاته ونفسه فإن قال ( إن الله خلق كلامه في نفسه ) فهذا محال لا يجد سبيلا إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول لأن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك عز و جل وتعظم !
وإن قال : ( خلقه الله في غيره ) فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه في غيره هو كلام الله عز و جل لا يقدر أن يفرق بينهما فيجعل كلامه كلاما لله ويجعل قول الكفر والفحش وكل قول ذمه الله وذمه قائله : كلاما لله عز و جل وهذا محال لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به لظهور الشناعة والفضيحة والكفر على قائله تعالى الله عن ذلك !
وإن قال :
( خلقه قائما بنفسه وذاته ) فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلا في قياس ولا نظر ولا معقول لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا العلم إلا من عالم ولا القدرة إلا من قدير ولا يرى ولا رئي كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته وهذا مما لا يعقل ولا يعرف ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا علم أنه صفة لله وصفات الله كلها غير مخلوقة فبطل قول بشر
فقال المأمون : أحسنت يا عبد العزيز فقال بشر : سل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج من بيننا شيء
فقلت : أنا أدع هذه المسألة وأسأل عن غيرها قال : سل قال عبد العزيز : فقلت لبشر : ألست تقول : إن الله كان ولا شيء وكان ولما يفعل شيئا ولما يخلق شيئا ؟ قال : بلى فقلت : فبأي شيء حدثت الأشياء بعد أن لم تكن شيئا ؟ أهي أحدثت نفسها أم الله أحدثها ؟ فقال : الله أحدثها فقلت له : فبأي شيء حدثت الأشياء إذ أحدثها الله ؟ قال : أحدثها بقدرته التي لم تزل قلت له : إنه أحدثها بقدرته كما ذكرت أفليس تقول : إنه لم يزل قادرا ؟ قال : بلى قلت له : فتقول : إنه لم يزل يفعل ؟ قال : لا أقول هذا قلت له : فلا بد أن يلزمك أن تقول : أنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة لله ولا يقال لصفة الله هي الله ولا هي غير الله فقال بشر : ويلزمك أنت أيضا أن تقول : إن الله لم يزل يفعل ويخلق وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله قال عبد العزيز : فقلت لبشر : ليس لك أن تحكم علي وتلزمني مالا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل إني لم أقل : ( إنه لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل ) ليلزمني ما قلت وفي نسخة أخرى : ( وإنما قلت إنه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة الله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) قال بشر : أنا أقول إنه أحدث أشياء بقدرته فقل ما شئت فقال عبد العزيز : فقلت : يا أمير المؤمنين قد أقر بشر أن الله كان ولا شيء وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن شيئا بقدرته وقلت أنا : إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته فلم يخل يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله خلق بقول قاله أو بإرادة أرادها أو بقدرة قدرها فبأي ذلك كان فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريدا ومرادا وقولا وقائلا ومقولا له وقدرة وقادرا ومقدورا عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق وما كان قبل اللخق متقدما فليس هو من الخلق في شيء فقد كسرت قول بشر بالكتاب والسنة واللغة العربية والنظر والمعقول ) ثم ذكر حجة أخرى
والمقصود هنا : أن عبد العزيز احتج بتقسيم حاصر معقول فإن الله تعالى إذا خلق شيئا فإما أن يخلقه في نفسه أو في غيره أو يخلقه قائما بنفسه وقد أبطل الأقسام الثلاثة
ولا ريب أن المعتزلة يقولون : إنه خلقه في غيره فأبطل ذلك عبد العزيز بالحجة العقلية التي يتداولها أهل السنة وهو أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله فإن كان مخلوقا في محل آخر غيره لزم أن يكون كل كلام مخلوق في محل كلام الله لتماثلهما بالنسبة إلى الله ويلزم أن يكون ما يخلقه تعالى من كلام الجلود والأيدي والأرجل كلام الله فإذا قالوا : { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم } ( فصلت : 21 ) كان الناطق هو المنطق وبشر لم يكن من القدرية بل كان ممن يقر بأن الله تعالى خالق أفعال العباد فألزمه عبد العزيز أن يكون كلام كل مخلوق كلام الله حتى قول الكفر والفحش وهذا الإلزام صرح به حلولية الجهمية من الاتحادية ونحوهم كصاحب الفصوص و الفتوحات المكية ونحوه وقالوا :
( وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه )
ولهذا قال من قال من السلف : من قال : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } ( طه : 14 ) مخلوق فقد جعل كلام الله بمنزلة قول فرعون الذي قال : { أنا ربكم الأعلى } ( النازعات : 24 ) لأن عنده هذا الكلام خلقه الله في الشجرة وذلك خلقه في فرعون فإذا كان هذا كلام الله كان هذا كلام الله
كما قال سليمان بن داود الهاشمي - أحد أئمة الإسلام نظير الشافعي و أحمد و إسحاق و أبي عبيد و أبي بكر بن أبي شيبة وأمثالهم - قال : ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال : { أنا ربكم الأعلى } من هذا ؟ وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
وكذلك ذكر نظير هذا عبد الله بن المبارك و عبد الله بن إدريس و يحيى بن سعيد القطان وهذا مبني على أن الله خالق أفعال العباد فإذا كان قد خلق في محل : ( إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني ) وخلق في محل : ( أنا ربكم الأعلى ) كان ذلك المحل الذي خلق فيه ذلك الكلام أولى بالعقاب من فرعون وإذا كان ذلك كلام الله كان كلام فرعون كلام الله
وأما كونه خلقه قائما بنفسه فهو ظاهر البطلان أيضا لأن الصفات لا تقوم بنفسها ولكن الجهمية تقول : خلق علما لا في محل والبصريون من المعتزلة يقولون : خلق إرادة وقدرة لا في محل وطائفة منهم يقولون : خلق بخلق بعد خلق لا في محل وهذه المقالات ونحوها مما يعلم فساده بصريح العقل
وأما القسم الأول - وهو كونه سبحانه خلقه في نفسه - فأبطله عبد العزيز أيضا لكن ما في نفس الله تعالى يحتمل نوعين :
أحدهما : أن يقال : أحدث في نفسه بقدرته كلاما بعد أن لم يكن متكلما وهذا قول الكرامية وغيرهم ممن يقولون : كلام الله حادث ومحدث في ذات الله تعالى وأن الله تكلم بعد أن لم يكن يتكلم أصلا وأن الله يمتنع ان يقال في حقه : ما زال متكلما وهذا مما أنكره الإمام أحمد وغيره
والثاني : أن يقال : لم يزل الله متكلما إذا شاء كما قاله الأئمة وكل من هاتين الطائفتين لا تقول : ( إن ما في نفس الله مخلوق ) بل المخلوق عندهم لا يكون إلا منفصلا عن نفس الله تعالى وما قام به من أفعاله وصفاته فليس بمخلوق
ولا ريب أن بشرا وغيره من القائلين بخلق القرآن كانوا يقولون : إنه خلق منفصلا عنه كما خلق غيره من المخلوقات فأما نفس خلق الرب عند من يقول الخلق غير المخلوق - وهم الأكثرون - فلا يقولون : إن الخلق مخلوق ومن قال بتجدد ما يقوم به من الأفعال أو الإرادات أو الإدراكات لم يقل : إن ذلك مخلوق فإنه إذا كان ثم خلق وخالق ومخلوق لم يكن الخلق داخلا في المخلوق
ولهذا كان من يقول : ( إن كلام الله قائم بذاته ) متفقين على أن كلام الله غير مخلوق ثم هم بعد هذا متنازعون على عدة أقوال : هل يقال : إنه معنى واحد أو خمسة معان لم تزل قديمة كما يقوله ابن كلاب و الأشعري ؟
أو أنه حروف وأصوات قديمة أزلية لم تزل قديمة كما يذكره عن ابن سالم وطائفة
أو يقال : بل هو حروف وأصوات حادثة في ذاته بعد أن لم يكن متكلما كما يقوله ابن كرام وطائفة
أو يقال : إنه لم يزل متكلما إذا شاء وإنه إذا شاء تكلم بصوت يسمع وتكلم بالحروف كما يذكر ذلك عن أهل الحديث والأئمة ؟
والمقصود هنا أن ما قام بذاته لا يسميه أحد منهم مخلوقا سواء كان حادثا أو قديما
وبهذا يظهر احتجاج عبد العزيز على بشر فإن بشرا من أئمة الجهمية نفاة الصفات وعنده لم يقم بذات الله تعالى صفة لا فعل ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة بل ما ثم عنده إلا الذات المجردة عن الصفات والمخلوقات المنفصلة عنها كما تقول ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم فاحتج عليه عبد العزيز بحجتين عقليتين :
إحداهما : أنه إذا كان كلام الله مخلوقا ولم يخلقه في غيره ولا خلقه قائما بنفسه : لزم أن يكون مخلوقا في نفس الله وهذا باطل
الثانية : إن المخلوقات المنفصلة عن الله خلقها الله بما ليس من المخلوقات : إما القدرة - كما أقر به بشر - وإما فعله وأمره وإرادته - كما قاله عبد العزيز - وعلى التقديرين : ثبت أنه كان قبل المخلوقات من الصفات ما ليس بمخلوق فبطل أصل قول بشر والجهمية : إنه ليس لله صفة وإن كل ماسوى الذات المجردة فهو مخلوق وتبين أن الذات يقوم بها معان ليست مخلوقة وهذا حجة مثبتة الصفات القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق على من نفى الصفات وقال بخلق القرآن فإن كل من نفى الصفات لزمه القول بخلق القرآن
يبقى كلام أهل الإثبات فيما يقوم بذاته : هل يجوز أن يتعلق شيء منه بمشيئته وقدرته أم لا ؟ وهل عبد العزيز ممن يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشئيته وقدرته أو ممن يقول : لا يكون المراد المقدور إلا منفصلا عنه مخلوقا ؟ ويجعل المقدور هو المخلوق وهما في الأصل قولان معروفان ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره عن أهل السنة حسبما تقدم إيراده
وهذا القول الثاني هو قول ابن كلاب و الأشعري ومن وافقهما من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي و مالك و أحمد وغيرهم
والقول الأول : هو قول أئمة أهل الحديث والهشامية والكرامية وطوائف من أهل الكلام من المرجئة كأبي معاذ التومني و زهير الأثري وغيرهم ومن وافق هؤلاء من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم
فقد يقول القائل : إن عبد العزيز موافق لابن كلاب لأنه قال : إن الله لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه لكن إذا تدبر المتدبر سائر كلام عبد العزيز وجده من أهل القول الأول : قول أهل الحديث لأنه قال بعد هذا لبشر : بأي شيء حدثت الأشياء ؟ قال : أحدثها الله بقدرته التي لم تزل قال عبد العزيز : فقلت له : إنه قد أحدثها بقدرته كما ذكرت أفلست تقول : إنه لم يزل قادرا ؟ قال : بلى فقلت له : فتقول إنه لم يزل يفعل ؟ قال : لا أقول هذا قلت : فلا بد أن يلزمك أن تقول : إنه خلق بالفعل الذي كان بلا قدرة لأن القدرة صفة وقال عبد العزيز بعد هذا : لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع
وقد أثبت عبد العزيز فعلا مقدورا لله هوصفة له ليس من المخلوقات وأنه به خلق المخلوقات وهذا صريح في أنه يجعل الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول وأن الفعل صفة لله مقدور لله إذا شاء ولا يمنعه منه مانع وهذا خلاف قول الأشعري ومن وافقه
يبقى أن يقال : هذا الخلق - الذي يسمى التكوين - من الناس من يجعله قديما ومنهم من يجعله مقدورا مرادا و عبد العزيز صرح بأن الفعل الذي به يخلق الخلق مقدور له وهذا تصرح بأنه يقوم بذات الله عنده ما يتعلق بقدرته وما كان موجودا مقدورا لله فهو مراد له بالضرورة واتفاق الناس
وأيضا فإنه قال : قد أقر بشر أن الله أحدث الأشياء بقدرته وقلت أنا : إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته فقد صرح بأن القول يكون عن قدرته فجعل قول الله مقدرورا له مع أنه صفة له عنده
وهذا قول من يقول : إنه يقدر على التكلم وإنه بمشيئته وقدرته وليس هو قول من يقول : إن القول لازم له لا يتعلق بقدرته ومشيئته
فتبين أن عبد العزيز الكناني يثبت أنه يقوم بذات الله تعالى ما يتعلق بمشيئته وقدرته وأنه لا يجعل كل واحد من ذلك قديما وإن كان النوع قد يكون قديما لأن بشرا لما قال له : أحدثها بقدرته التي لم تزل قال له : أفليس تقول : لم يزل قادرا ؟ قال : بلى قال : فتقول إنه لم يزل يفعل ؟ قال : لا قال : فلا بد أن يلزمك أن تقول : إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة
وهذا لأنه إذا كان لم يزل قادرا ولا مخلوقا ثم وجد مخلوق لم يكن قد وجد بقدرة بلا فعل فإنه لو كان مجرد القدرة كافيا في وجوده بلا فعل للزم مقارنة المخلوق للقدرة القديمة
وهذا المقام هو المقام المعروف وهو أنه : هل يمكن وجود الحوادث بلا سبب حادث أم لا ؟ فإن جمهور العقلاء يقولون : إن انتفاء هذا معلوم بالضرورة وإن ذلك يقتضي الترجيح بلا مرجح وهذا هو الذي ذكره عبد العزيز بخلاف قول من يقول : إن نفس القادر يرجح أحد طرفي مقدروه بلا مرجح كما يقوله أكثر المعتزلة والجهمية أو بمجرد إرادة قديمة كما تقوله الكلابية والكرامية فإن هذا هو الذي ذكره بشر
يبقى هنا السؤال على عبد العزيز هو الذي ألزمه إياه بشر حيث قال له : وأنت أيضا يلزمك أن تقول : لم يزل يفعل ويخلق وإذا كان كذلك ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله لأن الحادث إن لم يفتقر إلى سبب حادث كفت القدرة القديمة وإن افتقر إلى سبب حادث فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في الذي حدث به فيلزم تسلسل الحوادث فيلزمك أنه لم يزل يفعل ويخلق فيكون المخلوق معه فأجابه عبد العزيز بأني لم أقل ( لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل ليلزمني ما قلت وإنما الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) وفي النسخة الأخرى : ( وإنما قلت : لم يزل الخالق سيخلق والفاعل سيفعل لأن الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع )
ومضمون كلامه : أنني لم أقل إن الله لم يزل يخلق الأشياء المنفصلة ويفعلها ولا يلزمني هذا كما لزمك لأنك جعلت المخلوقات تحصل بالقدرة القديمة من غير فعل من القادر يقوم به فإذا لم تتوقف المخلوقات على غير القدرة والقدرة قديمة لزم وجود المخلوقات معها وإلا لزم الترجيح بلا مرجح والحدوث بلا سبب لأن القدرة دائمة أزلا وأبدا ووجود المخلوقات ممكن والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وعند وجود المرجح التام يجب وجوده لأنه لو لم يجب لكان قابلا للوجود والعدم فيبقى ممكنا كما كان فلا يترجح إلا بمرجح تام فتبين أن وجود القدرة التي يمكن معها وجود المخلوقات لا يوجد المخلوق مع مجردها بل لا بد من أمر آخر يفعله الرب
قال عبد العزيز : وهذا الفعل صفة لله ليس من المخلوقات المنفصلة عنه والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع فأما قول القائل : ( إن ذلك الفعل الذي لم يكن ثم كان بالقدرة وهوصفة ) فإنه يسأل عن سبب حدوثه كما يسأل عن سبب حدوث المخلوق به
فيجيب عنه عبد العزيز بأجوبة
أحدها : الجواب المركب وهو أن يقول : تسلسل الآثار الحادثة إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا فلا محذور في التزامه وإن كان ممتنعا لم يلزمني ذلك ولا يلزم من بطلان التسلسل بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل أو بطلانه ولهذا كان كثير من الطوائف يقولون : الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول فيثبتون لك مع إبطال التسلسل مثل كثير من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد ومن الصوفية وأهل الحديث والكلام من الكرامية والمرجئة والشيعة وغيرهم وهؤلاء منهم من يقول : الفعل الذي هو التكوين قديم والمكون المنفصل حادث كما يقولون مثل ذلك في الإرادة ومنهم من يقول : بل ذلك حادث الجنس بعد أن لم يكن وكلا الفرقين لا يقولون : إن ذلك مخلوق بل يقولون : إن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة
الجواب الثاني : أن يقول : ما ذكرته من التسلسل لازم لكل من قال : إن جنس الحوادث يكون بعد أن لم يكن فهو لازم لك ولي إذا قلت بهذا فلا أختص بجوابه وأما وجود المفعول بدون فعل : فهذا لازم لك وحدك وهو الذي احتججت به عليك فحجتي عليك ثابتة تبطل قولك دون قولي والإلزام الذي ذكرته أنت مشترك بيني وبينك فلا يخصني جوابه
الجواب الثالث : أن يقول : أنا قلت : الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه وإنما يجب أن يكون المخلوق معه في الأزل إذا ثبت أن الفعل يستلزم فعلا قبله وأن الفعل اللازم يستلزم ثبوت الفعل المتعدي إلى المخلوق فإن ذك يستلزم ثبوت غير المخلوق
وكل هذه المقدمات فيها ممانعات ومعارضات وتحتاج إلى حجج لم يذكر المريسي منها شيئا و عبد العزيز لم يلتزم شيئا من ذلك وإنما التزم أن الفعل صفة لله تعالى والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وحجته يحصل بها المقصود
وقوله في النسخة الأخرى - إن صح عنه : ( إنما قلت لم يزل الفاعل سيفعل والخالق سيخلق ) قد نفى فيه ان يكون نفس الفعل قديما فضلا عن أن يكون المفعول قديما
وقوله : ( إن الفعل صفة لله والله يقدر عليه لا يمنعه منه مانع ) يمنع قدم عين الفعل لا يمنع قدم نوعه إلا أن يثبت امتناع تسلسل الآثار وليس في كلامه تعرض لنفي ذلك ولا إثباته
وقوله : ( لم يزل سيفعل ) إن صح عنه يحتمل معنيين : أحدهما : أنه لم يزل موصوفا بأنه سيفعل ما يفعله من جميع المفعولات أعيانها وأنواعها كما يقوله من يقول بحدوث نوع الفعل القائم به كما يقوله من يقول بحدوث أنواع المنفصلات عنه والثاني : أنه لم يزل الفاعل سيفعل شيئا بعد شيء فهو متقدم على كل واحد واحد من أعيان المفعولات
فعلى الأول يمتنع أن يكون شيء من أنواعها أو أعيانها قديما وعلى الثاني لا يمتنع تقدم النأواع بل قد يمتنع تقدم أعيان المخلوقات فلا يكون شيء من المخلوقات مع الله في الأزل على التقديرين
وجماع ذلك : أن الذي ألزمه عبد العزيز للمريسي لازم له مبطل لقوله بلا ريب وعليه جمهور الناس فإن جماهير الناس يقولون : الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول وهذا قو ل جماهير الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد وجماهير الصوفية وجماهير أهل الحديث بل كلهم وكثير من أهل الكلام والفلسفة أو جماهيرهم فهو قول أكثر المرجئة من الكرامية وغيرهم وأكثر الشيعة وكثير من المعتزلة والكلابية وكثير من الفلاسفة و لأصحاب مالك و الشافعي و احمد في ذلك قولان فالذي عليه أئمتهم : أن الخلق غير المخلوق وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى وقول جمهور أصحاب أحمد وهو الذي حكاه البغوي عن أهل السنة وهو قول كثير من الكلابية
قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه
وأما قوله : ( إنه قادر على الفعل لا يمنعه منه مانع ) فكلامه يقتضي أنه لم يزل قادرا على الفعل لا يمنعه منه مانع وهذا الذي قاله هو الذي عليه جماهير الناس ولهذا أنكروا على من قال : لم يكن قادرا على الفعل في الأزل وكان من يبغض الأشعري ينسب إليه هذا لتنفر عنه قلوب الناس وأراد أبو محمد الجويني وغيره تبرئته من هذا القول كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع
وإذا كان لم يزل قادرا على الفعل كان هذا صفة كمال فلهذا قال عبد العزيز : ( لأن الفعل صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع ) وقد خلق المخلوقات بفعله فوجدت بالفعل الذي هو الخلق والفعل الذي هو الخلق بقدرة الله تعالى والقدرة على خلق المخلوق هي القدرة عليه
كما قال تعالى : { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى } ( يس : 81 ) وقوله تعالى : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } ( القيامة : 40 ) وقوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } ( الأنعام : 65 ) الآية ونحو ذلك مما فيه وصف الله بالقدرة على الأفعال المتناولة للمفعولات وفيه بيان أن الخلق ليس هو المخلوق ولا أن نفس خلقه للسماوات والأرض هو السماوات والأرض والقدرة التي تزل ثم وجدت المخلوقات بدون فعل اصلا
فيقول له المريسي : فذلك الفعل الذي هو صفته وهو يقدر عليه لا يمنعه منه مانع إن كان قديما كان كالقدرة وكان السؤال علي كالسؤال عليك وإن كان حادثا من غير تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث المخلوق بالقدرة التي لم تزل وإن كان ذلك الفعل كان بفعل آخر وتسلسل الأمر : لزم تسلسل الأفعال ولزم أن يكون الفاعل لم يزل يفعل والخالق لم يزل يخلق
فيقول له عبد العزيز : لم أقل إنه قديم بل قلت : إنه صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع وماكان مقدورا له لا يمنعه منه مانع لم يجب أن يكون قديما معه بل إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله
وأماسؤالك عن سبب حدوثه فهنا لأهل الإثبات جوابان :
أحدهما : - وهو جواب الكرامية ومن وافقهم - أن إثبات الفعل للمفعول والخلق للمخلوق لا بد منه فإنا نعقل أن القادر على الفعل قبل أن يفعله ليس له فعل فإذا فعله كان هناك فعل به فعل المفعول وخلق به خلق المخلوق ونحن مقصودنا إثبات فعل وصفة لله تقوم به مغاير مخلوقاته وكلامه من هذا الباب ونحن لم نورد عليكم التسلسل فإن ذلك باطل على قولنا وقولكم جميعا
الجواب الثاني : أن يقول من يجيب به : لا يمتنع أن يكون قبل الفعل المعين ما هو أيضا فعل فعله الله بقدرته ولا يضرني التسلسل فإن ذلك جائز ممكن فإن هذا تسلسل في الأفعال والآثار والشروط وهذا ليس بممتنع
فعلى الجواب الأول : يظهر قوله : ( إنما قلت لم يزل الخالق سيخلق وسيفعل ولم أقل لم يزل يخلق ويفعل )
وأما على الجواب الثاني : ( فإذا قال : لم يزل يخلق ويفعل بل أقول : إنه لم يزل سيخلق وسيفعل فنقرره بوجهين :
أحدهما : أن الفعل لا يستلزم وجود مخلوق بل يكون الفعل قائما بنفسه بعد فعل قائم بنفسه وهلم جرا من غير وجود مخلوق منفصل عنه
الثاني : أنه لو قدر تسلسل المفعولات كتسلسل الأفعال فما من مفعول ولا فعل إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال إذ كان كل منهما حادثا بعد أن لم يكن والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارنا للقديم الذي لم يزل وإذا قيل : ( إن نوع الأفعال أو المفعولات لم يزل ) فنوع الحوادث لا يوجد مجتمعا لا يوجد إلا متعاقبا فإذا قيل : ( لم يزل الفاعل يفعل والخالق يخلق ) - والفعل لا يكون إلا معينا والخلق والمخلوق لا يكون إلا معينا - فقد يفهم أن الخالق للسماوات والإنسان لم يزل يخلق السماوات والإنسان والفاعل لذلك لم يزل يفعله وليس كذلك بل لم يزل الخالق لذلك سيخلقه ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله فما من مخلوق من المخلوقات ولا فعل من الأفعال إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله ليس موصوفا بأنه لم يزل فاعلا له خالقا له بمعنى أنه موجود معه في الأزل وإن قدر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلا لفعل آخر وقبل هذا المخلوق خالقا لمخلوق آخر فهو لم يزل بالنسبة إلى كل فعل ومخلوق سيفعله وسيخلقه لا يقال : لم يزل فاعلا له خالقا بمعنى مقارنته له وإذا أريد أنه لم يزل فاعلا للنوع كان هذا بمعنى قولنا : ( إنه لم يزل سيفعل ما يفعله ) لكن هذه العبارة تفهم من الباطل ما لا تفهمه تلك العبارة
وهذا الموضع للناس فيه أقوال فإن جمهور أهل السنة يقولون : لم يزل الله خالقا فاعلا كما قال الإمام أحمد : لم يزل الله عالما متكلما غفورا بل يقولون : لم يزل يفعل إما بناء على أن الفعل قديم وإن كان المفعول محدثا أوبناء على قيام الأفعال المتعاقبة بالفاعل
ومذهب بشر وإخوانه الجهمية : أن المخلوقات كلها كائنة بدون فعل ولا خلق وكلام الله من جملتها فألزمه عبد العزيز على أصله فقال له : إذا قلت : كان الله ولما يفعل ولما يخلق شيئا وهو لم يزل قادرا ثم خلق المخلوقات فأنت تقول : لم يزل قادرا ولا تقول : لم يزل يفعل المخلوقات فلا بد له من أن يكون هناك فعل حصل بالقدرة وليس هو القدرة التي لم تزل ولا هو المخلوق المنفصل إذ لو كان كذلك لكان المخلوق قد وجد من غير خلق والمفعول قد وجد من غير فعل وهذا أعظم امتناعا في العقل من كونه وجد بغير قدرة فإنه إذا عرض على العقل مفعول مخلوق حدث بعد أن لم يكن بلا فعل ولا خلق كان إنكار العقل لذلك أعظم من إنكاره لحدوثه من غير قدرة الفاعل وإنكاره لحدوثه من غير فاعل أعظم امتناعا في العقل من هذا وهذا فإذا قيل : فعله الفاعل بلا قدرة أنكره العقل وإذا قيل : فعله بالقدرة التي لم تزل بدون فعل كان إنكاره أعظم وإذا قيل : حدث بلا فاعل كان أعظم وأعظم فإن الفاعل بلا فعل كالعالم بلا علم والحي بلا حياة والقادر بلا قدرة نحو ذلك وذلك نفي لجزء مدلول اللفظ الذي دل عليه بالتضمن وأما نفي القدرة عن الفاعل فهو نفي لما دل عليه باللزوم العقلي
وإذا قال القائل : ( بل يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا فعل ولا خلق غيره لأنه لو كان بفعل للزم أن يكون للفعل فعل ولزم التسلسل وأن يكون محلا للحوادث )
قيل : فعلى هذا يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا قدرة من الفاعل لأن ثبوت القدرة يستلزم ثبوت الصفات وقيام الأعراض به
فإذا قال : ( الفعل بدون القدرة ممتنع وليس في العقل ما يحيل لوازم القدرة بل علمنا بامتناع الفعل بلا قدرة أعظم من علمنا بامتناع قيام الصفات به وإن سماها المسمي أعراضا )
قيل له : والمخلوق المفعول بلا فعل ولا خلق أعظم امتناعا في العقل وليس في العقل ما يحيل لوازم الفعل الذي كان بالقدرة بل علمنا بامتناع ذلك أعظم من علمنا بامتناع قيام الأفعال به وإن سماها المسمي حوادث
يبين ذلك : أن افتقار المخلوق إلى خلق والمفعول المنفصل إلى فعل يعلم باللزوم العقلي وبالقول السمعي فإن ( فاعل وخالق ) مثل متكلم وقائل ومريد ومتحرك وغير ذلك من الأسماء التي تستلزم قيام معان بالمسميات
فلما ظهرت حجة عبد العزيز على المريسي في أنه لا بد من فعل للرب تعالى بقدرته كما قال له : ( يلزمك أن تقول إنه خلق بلا فعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة لله ولا يقال لصفة الله : هي الله ولا يقال : إنه غير الله ) ولم يقل عبد العزيز أنها ليست هي الله ولا غيره بل قال : لا يقال إنها هي الله ولا يقال إنها غيره
وقل عبد العزيز هذا هو قول أئمة السنة كالإمام أحمد وغيره وهو قول ابن كلاب وغيره من الأعيان ولكن طائفة من أصحاب أحمد مع طائفة من متكلمي الصفاتية أصحاب الأشعري يقولون : لا هي الله ولا غيره
وتلك العبارة هي الصواب كما قد بسط في غير هذا الموضع فإن لفظ ( الغير ) فيه إجمال فلا يصح إطلاقه لا نفيا ولا إثباتا على الصفة ولكن يصح نفي إطلاقه نفيا أو إثباتا كما قال السلف مثل ذلك في لفظ ( الجبر ) ونحوه من الألفاظ المجملة : إنه لا يطلق لا نفيها ولا إثباتها وإذا قيل : ( لا يطلق لا هذا ولا هذا ) لم يلزم إثبات قسم ثالث لا هو الموصوف ولا غير الموصوف بل يلزم إثبات مالا يطلق عليه لفظ الغير لا ما ينفي عنه المغايرة
ومقصود عبد العزيز : أن القدرة صفة لله ليست هي الفعل الذي كان عن القدرة فإنه يقول : لم يزل الله قادرا ولا يقول : لم يزل فاعلا
فعارضه المريسي بأن هذا يلزمك أيضا فيلزمك أن تقول : لم يزل يفعل ويخلق
وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله
فقال له عبد العزيز : ليس لك أن تحكم علي وتلومني ما لا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل وذلك لأن عبد العزيز لم يقل في هذا قولا يحكى عنه ولكن قال له : إما أن تلتزم أنت ما ألزمتني وإلا التزمت أن تقول : إن المخلوق لم يزل مع الله
وهذا الذي قاله المريسي إنما يلزم عبد العزيز إذا أبطل كل قسم مما يمكن أن يقال في هذا المقام وهو لم يفعل ذلك ولا سبيل له إليه بخلاف ما ألزمه إياه عبد العزيز فإنه لازم له لامحالة إذ كان قوله : ( إن المخلوقات كلها - وكلام الله عنده من جملتها - حدثت بعد أن لم تكن من غير فعل فعله الله بل بقدرته التي لم تزل ) مع أن عبد العزيز قد بين فيما بعد أن ما أقر به المريسي يكفيه في الاحتجاج في مسألة القرآن فإن المريسي أقر بأن الله خلقها بقدرته فأثبت هنا معنى هو صفة لله تعالى ليس بمخلوق فبطل أصل قوله الذي نفى به الصفات وقال : إنا القرآن مخلوق لكن عبد العزيز بين له ما يلزمه وما أقر به وأن الحجة تحصل بهذا وبهذا وأما المريسي فعارضه بأن قال : يلزمك ما ألزمتني
وذلك مبني على مقدمات لم يذكر منها واحدة
أحدها : أن يقول : إذا كان أحدث الأشياء بفعله الكائن عن قدرته حصل المقصود من غير إثبات قديم مع الله تعالى ولهذا قال له عبد العزيز : ( إنما قلت : الفعل صف لله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) وفي نسخة أخرى زيادة على ذلك : ( إنما قلت : إنه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة لله )
وهذه الزيادة لم تتقدم في كلام عبد العزيز فإما أن تكون ملحقة من بعض الناس في بعض النسخ أو يكون معنى الكلام : إنما قولي هذا وإنما قلت إني إنما اعتقدت والتزمت هذا أو يكون المعنى : إنما أقول وأعتقد هذا والأشبه أن هذه الزيادة ليست من كلام عبد العزيز فإنها لا تناسب ما ذكره من مناظرته المستقيمة ولم يتقدم من عبد العزيز ذكر هذا الكلام ولا ما يدل عليه بخلاف قوله : ( إنما الفعل صفة لله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) فإن هذا كلام حسن صحيح وهو لم يكن قد قاله ولهذا لم يقل : إني قلت ذلك ولكن قال : هذا هو الذي يجب أن يقال وهو الذي يلزمني أن أقوله لأني بينت أن المخلوق لا يكون إلا بفعل عن قدرة الله والفعل قائم بالله ليس هو مخلوقا منفصلا وهذا مراده بقوله : ( إنه صفة ) لم يرد بذلك أن الفعل المعين لازم لذات الله تعالى لأنه قد قال : ( والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع )
فحصل بذلك مقصود عبد العزيز من أنها فعلا أحدث الله به المخلوقات عن قدرته فأقام الحجة على أنه يقوم بالله تعالى أمر غير المخلوقات عن القدرة واعترف له المريسي بالقدرة
فقد ثبت على كل تقدير أن قبل المخلوق شيئا خارجا عن المخلوق سواء كان هو القدرة وحدها أو كان مع ذلك الفعل والقول والإرادة وما كان متقدما قبل المخلوق فليس هو من المخلوق فبطل قول المريسي : إن ما لا يسمى بالله فهو مخلوق فإن هذه الأمور يقال : ( إنها غير الله ) وإذا قلنا : ( الله الخالق وما سواه مخلوق ) فقد دخل في مسمى اسمه صفاته فإنها داخلة في مسمى اسمه ولما قال النبي صلى الله عيه وسلم : [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] لم يكن الحلف بعزةالله ونحوه حلفا بغير الله
ولما حدثت الجهمية واعتقدوا أن القرآن خارج عن مسمى اسم الله تعالى قال من قال من السلف : ( الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق ) فاستثنوا القرآن مما سواه لما أدخله من أدخله فيما سواه ولفظ ( ما سواه ) هو كلفظ ( الغير ) وقد قلنا :
إن القرآن وسائر الصفات لا يطلق عليه أنه هو ولا يطلق عليه أنه غيره فكذلك لا يطلق عليه أنه مما سواه ولا أنه ليس مما سواه لكن مع القرينة قد يدخل في هذا تارة وفي هذا تارة
فما كان بعض الناس قد يفهم أن القرآن هو مما سواه قال من قال من السلف ( ماسواه مخلوق ) إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق : منه بدأ وإليه يعود ) ومن لم يفهم دخول الكلام في لفظ ( سواه ) لم يحتج إلى هذا الاستثناء بل قال : ( الله الخالق وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق ) لا يقول : ( إلا القرآن ) أي القرآن هو كلامه وكلامه وفعله وعمله وسائر ما يقوم بذاته لا يكون مخلوقا وإنما المخلوق ما كان مبيانا له ولهذا قال السلف والأئمة كأحمد وغيره : ( القرآن كلام الله ليس ببائن منه ) وقالوا : ( كلام الله من الله )
وقال أحمد بن حنبل لرجل سألة فقال له : ( ألست مخلوقا ؟ فقال : بلى فقال : أو ليس كلامك منك ؟ قال : بلى قال : والله ليس بمخلوق وكلامه منه ) ومراده أن المخلوق : إذا كان كلامه صفة له هو داخل في مسمى اسمه وهو قائم به فالخالق أولى أن يكون كلامه صفة له داخلة في مسمى اسمه وهو قائم به لأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص فالمتكلم أكمل ممن لا يتكلم والخالق أحق بكل كمال من غيره
والسلف كثيرا ما يقولون : الصفة من الموصوف والصفة بالموصوف فيقولون : علم الله من الله وكلام الله من الله ونحو ذلك لأن ذلك داخل في مسمى اسمه فليس خارجا عن مسماه بل هو داخل في مسماه وهو من مسماه
فعبد العزيز قرر حجته بأن الفعل صفة لله عن قدرته لا يمنعه منه مانع وهذا كاف وما ألزمه إياه بشر لا يلزمه إلا بمقدمات لم يقرر بشر منها شيئا
وأي تقدير من تلك التقديرات قال به القائل كان خيرا من قول المريسي
التقدير الأول : قول من يقول : إن الفعل حادث قائم بذات الله بقدرته كما يقول ذلك من يقوله من الكرامية وهذا خير من قول المريسي وأمثاله من الجهمية فإن ما يلزم أصحاب هذا القول من تسلسل الحوادث يلزمهم مثله والذي يلزمهم من نفي الخلق الفعل لا يلزم أصحاب هذا القول
وأما قولهم : ( إنه محل للحوادث ) فمثل قولهم : إنه محل للأعراض )
التقدير الثاني : قول من يقول : إن الفعل قديم أزلي كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية ومن الفقهاء : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والصوفية
وهذا أيضا على هذا التقدير يكون من جنس قول الصفاتية وهؤلاء لا يقولون بقيام الحوادث به ولا تسلسلها وإذا ألزمهم المريسي وإخوانه أن يقال : فإذا كان الفعل لم يزل والإرادة لم تزل : لزم أن يكون المفعول المراد لم يزل وقيل لهم : فحدوث الحوادث لا بد له من سبب قالوا : هذا السؤال مشترك بيننا وبينكم لكن عبد العزيز لم يجب بهذا الجواب فإنه لو أجاب به لانتفضت حجته التي احتج بها على المريسي فإنه احتج بأنه لم يزل قادرا فلو قال ( الفعل قديم ) قال المريسي : إنه لم يزل فاعل عندك
وأيضا فعبد العزيز ذكر أنه يقدر على الفعل لا يمنعه منه مانع وذكر غير ذلك
التقدير الثالث : ان الفعل الذي كان عن قدرته كان قبله فعل آخر كان عن قدرته أيضا وهلم جرا ولم يكن شيء من المفعولات والمخلوقات موجودا معه في الأزل فإن الفعل ينقسم إلى متعد ولازم فإذا قدر دوام الأفعال اللازمة لم يجب دوام الأفعال المتعدية وعلى هذا التقدير فإذا قال : ( كان الله ولما يخلق شيئا ولما يفعل شيئا ) لم يزل أن لا يكون هناك فعل قائم بنفسه بدون مخلوق مفعول ولا يجب أن يكون المخلوق لم يزل مع الله تعالى
وهذا التقدير إن لم ينفه المريسي بالحجة لم يكن ما ألزمه لعبد العزيز لازما
وإذا قال السلف والأئمة : ( إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ) فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلما بل نفس تكلمه بمشيئته قديم وإن كان يتكلم شيئا بعد شيء فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات وهو المسمى بتناهى الحوادث والذي عليه السلف وجمهور الخلف : أن المقدورات المرادات لا تتناهى وهم بهذا نزهوه عن كونه كان عاجزا عن الكلام كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام وعن أنه كان ناقصا فصار كاملا وأثبتوا مع ذلك أنه قادر على الكلام باختياره وحجة عبد العزيز على المريسي تتم على هذا التقدير ولا يكون مع الله في الأزل مخلوق
التقدير الرابع : أنه لو قيل : ( بأن كل ماسوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن فليس مع الله في أزله شيء من المخلقوات لكنه لم يزل يفعل ) ولم يوجب ذلك أن يكوم معه شيء من المفعولات المخلوقات وإنما يوجب ذلك كون نوع المفعول لم يزل مع أن كل واحد من آحاده حادث لم يكن ثم كان معه فليس من ذلك شيء مع الله في الأزل و عبد العزيز لم يقل هذا ولم يلتزمه بل ولا التزم شيئا من هذه التقديرات ولا يلزمه واحد منها بعينه إلا بتقدير امتناع ما سواه ولكن المقصود أن إلزام المريسي له بأن يكون المخلوق لم يزل مع الله لا يلزمه التزامه فإنه على التقديرات الثلاث لا يلزم وجود شيء من المفعولات ولا نوعها في الأزل
وأما على التقدير الرابع : فإنما يلزم أنه لم يزل نوع المفعول لا شيء من المفعولات بعينه
وهذا التقدير إذا كان باطلا : فالمريسي لم يذكر إبطاله ولا إبطال شيء من التقديرات وهو لو أراد أن يبطل هذا لم يبطله إلا بإبطال التسلسل في الآثار كما هو طريقة من أبطل ذلك من أهل الكلام ولكن المريسي وموافقوه الذين يقولون : ( بأن الله يخلق المخلوقات بغير فعل قائم به ) ويقولون : ( الخلق هو المخلوق ) ويقولون : ( إن المخلوقات كلها وجدت بعد أن لم تكن موجودة من غير أن يتجدد من الله فعل ولا قصد ولا أمر من الأمور بل ولا من غيره ) - فيقولون : إن الأمر ما زال على وجه واحد ثم حدثت جميع المحدثات وكانت جميع المخلوقات وليس هناك من الفاعل شيء غير وجودها بل حاله قبل وجودها ومع وجودها وبعد وجودها واحد لم يتجدد منه أمر يضاف الحدوث إليه فأصحاب القول الأول يلتزمون التسلسل مع قولهم : ( بأن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه لكن تحدث الحوادث شيئا بعد شيء وهو محدثها بأفعاله سبحانه التي يفعلها أيضا شيئا بعد شيء ) وأصحاب الثاني يقولون : ( بل حدثت من غير سبب حادث ) كما ترى
ومن المعلوم : أنه إذا عرض على العقل القولان كان بطلان هذا القول أظهر من بطلان ذلك القول فإن ترجيح أحد طرفي الممكن بغير مرجح وتخصيص الشيء عن أمثاله التي تماثله من كل وجه بلا مخصص وحدوث الحوادث جميعها بدون سبب حادث - بل مع كون الأمر قبل حدوثها ومع حدوثها على حال واحد - هو أبعد في المعقول وأنكر في القلوب من كون المحدثات لم تزل تحدث شيئا بعد شيء ومن كون الله سبحانه لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء كما أنه لا يزال في الأبد يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء
فلو قدر أن عبد العزيز و المريسي انتهيا إلى هاتين المقدمتين لم يكن للمريسي أن يلزم عبد العزيز بشيء إلا ألزمه عبد العزيز بما هو أشنع منه فكيف و عبد العزيز لم يحتج إلى شيء من ذلك ؟ بل بين أنه لا بد أن يكون قبل المخلوق ما به يخلق المخلوق من صفات الله وأفعاله فيبطل ما يدعيه المريسي ونحوه من أن الله لا صفة له ولا كلام ولا فعل بل خلق المخلوقات وخلق الكلام الذي سماه كلامه بلا صفة ولا فعل ولا كلام
وهذان الجوابان اللذان يمكن عبد العزيز أن يجيب بهما عن إلزامه التسلسل يمكن معهما جواب ثالث مركب منهما كما تقدم التنبيه على ذلك وهو أن يقول :
إن كان التسلسل ممتنعا بطل هذا الإلزام وإن كان مممكنا أمكن التزامه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع : أن المسلمين وغيرهم من أهل الملل القائلين بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام يمكنهم أن يجيبوا بمثل هذا الجواب للقائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم المحتجين على ذلك بحجتهم العظمى التي اعتمد عليها ابن سينا و ابن الهيثم وغيرهما حيث احتجوا على المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام فقالوا : الموجب التام للعالم إن كان ثابتا في الأزل لزم قدمه وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وإن لم يكن ثابتا في الأزل احتاج في حدوث تمامه إلى مرجح والقول فيه كالقول في الأول ويلزم التسلسل
وعظم شأن هذه الحجة على هؤلاء المتكلمين لأنهم يقولون ببطلان التسلسل وبحدوث الحوادث من غير سبب حادث ويقولون بأن المرجح التام لايستلزم أثره بل القادر أو المريد يرجح أحد مقدوريه أو أحد مراديه على الآخر بلا مرجح فصاروا بين أمرين : إما إثبات الترجيح بلا مرجح وإما التزام التسلسل وكلامهما مناقض لأصولهم ولهذا عدل من عدل في جوابها إلى الإلزام والمعارضة بالحوادث اليومية
جواب على الفلاسفة في مسألة التسلسل
ونحن قد بينا جوابها من وجوه :
منها أن يقال : التسلسل يراد به أمور أحدها : التسلسل في المؤثرات والفاعلين والعلل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء ومنها : التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثرا وهذا كالذي قبله باطل بصريح العقل وقول جمهور العقلاء
ومنها : التسلسل الذي في معنى الدور مثل أن يقال : لا يحدث حادث أصلا حتى يحدث حادث وهذا أيضا باطل بضرورة العقل واتفاق العقلاء
ومنها : التسلسل في الآثار المتعاقبة وتمام التأثير في الشيء المعين مثل أن يقال : لا يحدث هذا حتى يحدث قبله ولا يحدث هذا إلا ويحدث بعده وهلم جرا وهذا فيه نزاع مشهور بين المسلمين وبين غيرهم من الطوائف فمن المسلمين وغيرهم من جوزه في المستقبل دون الماضي
وإذا عرفت هذه الأنواع قالوا : إذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل لم يحدث عنه شيء حتى يحدث حادث به يتم كونه مؤثرا إذ القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فيكون حقيقة الكلام : أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
لكن هذا الدليل إن طلبوا به أنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا يناقض قولهم وهو حجة عليهم وإن أرادوا أنه كان في الأزل مؤثرا تاما في الأزل لم تتجدد مؤثريته لزم من ذلك أنه لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء ولهذا عارضهم الناس بالحوادث اليومية وهذا لازم لا محيد لهم عنه وهو يستلزم فساد حجتهم
وإن أرادوا أنه مؤثر في شيء فالحجة لا تدل على ذلك وهو أيضا باطل من وجوه كما قد بسط في موضع آخر فالمؤثر التام يراد به المؤثر في كل شيء والمؤثر في شيء معين والمؤثر تأثيرا مطلقا في شيء بعد شيء : فالأول هو الذي يجعلونه موجب حجتهم وهو يستلزم أن لا يحدث شيء فعلم بطلان دلالة الحجة على ذلك ويراد به التأثير في شيء بعد شيء فهذا هو موجب الحجة وهو يستلزم فساد قولهم وأنه ليس في العالم شيء قديم بل لا قديم إلا الرب رب العالمين ويراد به التأثير في شيء معين فالحجة لا تدل على هذا فلم يحصل مطلوبهم بذلك بل هذا باطل من وجوه أخرى
فبهذا التقسيم ينكشف ما في هذا الباب من الإجمال والاشتباه فكل حادث معين فيقال : هذا الحادث المعين إن كان مؤثره التام موجودا في الأزل لزم جواز تأخير الأثر عن مؤثره التام فبطل قولهم
وإن قيل : بل لا بد أن يحدث تمام مؤثره عند حدوثه فالقول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث تمام الأول وذلك يستلزم التسلسل في حدوث تمام التأثير
وهو باطل بصريح العقل فيلزم على قولهم حدوث الحوادث بغير سبب حادث وهذا أعظم مما أنكروه على المتكلمين من التسلسل
فإن قيل : فما الفرق بين هذا التسلسل وبين التسلسل في تمام تأثير معين بعد معين
قيل : الفرقف بينهما من وجوه :
أحدها : أن هؤلاء قد قالوا إنه مؤثر تام في الأزل والمؤثر التام مستلزم أثره معه فيلزمكم أن لا يحدث عنه شيء بل تكون جميع الممكنات قديمة أزلية وهذا باطل بالحس والمشاهدة
فادعوا أمرين باطلين : أحدها : أنه كان مؤثرا تاما في الأزل وأن المؤثر التام يكون أثره معه في الزمان حتى يكون الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان
فإن قيل : إنه يتقدم عليه بالعلية وهذا بخلاف قول من قال : لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا لم يقل إنه كان مؤثرا في الأزل في شيء قط ولم يكن مؤثرا تاما في الأزل قط
الثاني : أنهم إن قالوا : إن الأثر يجب أن يقارنه أثره في الزمان لزم أن لا يحدث شيء
وإن قالوا : بل الأثر عقب المؤثر في الزمان لزم أن لا يكون معه قديم وحينئذ فمن قال بهذا قال : إنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء وكل ما سواه حادث مسبوق بالعدم
الثالث : أن هؤلاء يقولون : كل حادث معين لا بد أن يحدث تمام تأثيره فيكون هو حادثا عقب تمام التأثير فأي شيء كونه الله كان عقب تكوين الرب له كأجزاء الزمان والحركة التي توجد شيئا فشيئا فقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) فيكون الحادث عقب تكوين الرب له كما يكون الانكسار عقب التكسر والطلاق عقب التطليق فيلزم على هذا حوادث متعاقبة شيئا بعد شيء
وهذا غير ممتنع عند من يقول بهذا من أئمة أهل الملل ومن الفلاسفة بخلف قول المتفلسفة ومن وافقهم على أن الأثر يكون مع المؤثر في الزمان كما قالوا : الفلك قديم بقدم علته وهو معه في الزمان
فهؤلاء إن قالوا بحدوث الحوادث بدون سبب حادث لزمهم المحذور الذي فروا منه وإن قالوا : بل عند كل حادث يحدث مع زمن حدوثه وحدوث تمام مؤثره لزم حدوث حوادث لا تتناهى في آن واحد من غير تجدد شيء عن المؤثر الأزلي فلزمهم التسلسل في تمام أصل التأثير لا في تأثير معين وهو ممتنع مع قولهم بحوادث لا تتناهى في آن واحد
وهم وسائر العقلاء يسلمون بطلان هذا وإنما نازع فيه معمر صاحب المعاني وقد ظهر بطلان ذلك فإنه تسلسل في أصل التأثير لا في تأثير المعينات فلزمهم المحال الذي لزم أصحاب معمر ويلزمهم المحال والتناقض الذي اختصوا به ؟ وهو قولهم بأن المؤثر مع مؤثره في الزمان مع كون الرب مؤثرا تاما في الأزل فيلزمهم أن لا يحدث في العالم شيء
ومنها أن يقال : التسلسل جائز في أصلكم فلا تكون الحجة برهانية بل تكون جدلية وهي تلزمنا بتقدير صحتها أحد أمرين : إما القول بالترجيح بلا مرجح وإما القول بالتسلسل وإلا كنا قد تناقضنا في نفي هذا وهذا ولكن جواز التناقض علينا يقتضي بطلان أحد قولينا فلم قلتم : إن قولنا الباطل هو نفي الترجيح بلا مرجح مع اتفاقنا على بطلانه ؟ فقد يكون قولنا الباطل : هو نفي التسلسل في الآثار الذي نازعنا فيه من نازعنا من إخواننا المسلمين مع منازعتكم لنا في ذلك وإذا كان كذلك فالتزامنا لقول نوافق فيه إخواننا المسلمين وتوافقوننا أنتم عليه وتبطل به حجتكم على قدم العالم أولى أن نلتزمه من قول يخالفنا فيه هؤلاء وهؤلاء وتقوم به حجتكم على قدم العالم
الجواب الثالث : الجواب المركب وهو أن يقال : إن كان التسلسل في تمام التأثير ممكنا بطلت الحجة فإنه يمكن حينئذ أن يحدث كل ما سوى الله بأن يحدث تمام تأثيره وإن كان ممتنعا لزم إما أن لا يحدث شيء وهو خلاف المشاهد وإما أن تحدث الحوادث بدون سبب حادث وهو يبطل الحجة فبطلت الحجة على كل تقدير
وإن شئت قلت : إن التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بحيث يحدث شيئا بعد شيء ولا يكون علة تامة في الازل لزم حدوث كل ما سوى الله وبطلت الحجة وإن كان ممتنعا لزم أيضا أن تحدث الحوادث عن المؤثر التام الأزلي فيلزم حدوث جميع الحوادث عنه ولزم حينئذ حدوث العالم فتبطل حجة قدمه فالحجة باطلة على التقديرين وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
مراجعة تعليق عبد العزيز الكناني
وأما قول عبد العزيز : ( فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريدا ومرادا وقولا وقائلا ومقولا له وقدرة وقادرا ومقدورا عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق ) فيحتمل أمرين :
أحدهما : أنه أراد بالمراد : المراد المتصور في علم الله وبالمقدور عليه : الثابت في علم الله وبالمقول له المخاطب الثابت في علم الله المخاطب خطاب التكوين كما قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) وهذه معان ثابتة لله تعالى قبل وجود المخلوق لهذا اضطربت نفاة الصفات من المعتزلة وغيرهم في هذه الأمور فتارة يثبتونها في الخارج وتارة ينفونها مطلقا ومن هنا غلط من قال : ( المعدوم شيء ) فإنهم ظنوا أنه لما كان لا بد من تمييز ما يريده الله مما لا يريده ونحو ذلك توهموا أن هذا يقتضي كون المعدوم ثابتا في الخارج وليس الأمر كذلك بل هي معلومة لله تعالى ثابتة في علم الله تعالى
وضل آخرون في مقابلة هؤلاء كهشام الفوطي فإنه ذكر عنه الأشعري في المقالات أنه كان يقول : ( لم يزل الله عالما أنه واحد لا ثاني له ولا يقول : إنه لم يزل عالما بالأشياء ) وقال : ( إذا قلت : لم يزل عالما بالأشياء أثبتها لم تزل مع الله ) وإذا قيل له : ( أفتقول بأن الله لم يزل عالما بأن ستكون الأشياء ؟ قال : إذا قلت بأن ستكون فهذه إشارة إليها ولا يجوز أن يشار إلا إلى موجود ) وكان لا يسمى ما لم يخلقه ولم يكن شيئا
والثاني : أن يريد بذلك نفس الفعل المقدور المراد الذي يكون به المخلوق
وأما القول : فهو المصدر كما تقدم والمقول هو الكلام فإن في إحدى النسختين : ( مقولا له ) وفي الأخرى : ( ومقولا )
وعلى هذا فقول عبد العزيز : ( إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد سبيلا إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول لأن الله لا يكون مكانا لحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك ! ) مراده : أنه لا يكون مكانا لما حدث مطلقا وهو ما حدث جنسه كالكلام عند من يقول : إنه حادث الجنس فإنه يقول : إن الله صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فيكون جنس الكلام محدثا وكذلك إذ قيل : أراد بعد أن لم يكن مريدا فحدث جنس الإرادة وكذلك إذا قيل : علم بعد أن لم كن عالما فيكون جنس العلم حادثا وأمثال هذا فإن الله لا يكون مكانا لأجناس الحوادث
وعلى هذا فيكون عبد العزيز قد ذكر على بطلان قول المريسي عدة حجج : أنه لا يكون مكانا للمخلوقات ولا يكون مكانا لما جنسه حادث ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء فهذه ثلاث حجج وهذا لا ينافي ما ذكره من أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة وأن الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وأنه أحدث الأشياء بأمره وقوله عن قدرته ونحو ذلك فإن هذا الفعل والقول المقدور الذي ليس هو مخلوقا منفصلا عنه ليس جنسه محدثا عنده وإن كان الواحد من آحاده يكون بعد أن لم يمكن فالجنس لا يقال له حادث ولا محدث بل لم يزل الله موصوفا بذلك عنده ولهذا قال : ( ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه ) فإن ما كان جنسه محدثا كان قد زادت به الذات وقد عرف أن المخلوق عنده : ما كان مسبوقا بفعله الذي خلق به وقوله وقدرته وأن المخلوق لا يكون إلا منفصلا عنه
فهذا الذي قاله عبد العزيز فيه رد على الكرامية ومن وافقهم في أنهم جوزوا عليه أن يحدث له جنس الكلام ونحوه مما لم يكن موجودا فيه قبل ذلك وجوزوا أن يحدث له جنس صفات الكمال ومتى قيل : ( إنه لم يكن موصوفا بجنس من أجناس صفات الكمال حتى حدث له ) لزم أن يكون قبل ذلك ناقصا عن صفة من صفات الكمال فلا يكون متكلما بل يكون موصوفا قبل ذلك بعدم الكلام وهذا الذي قاله عبد العزيز هو نظير قول الإمام أحمد وغيره من الأئمة
رأي أحمد بن حنبل في مسألة أفعال الله
قال أحمد في ( رده على الجهمية ) : باب ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى : - ( فقلنا : لم أنكرتم ذلك ؟ قالوا : إن الله لم يتكلم ولا يتكلم وإنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين فقلنا : هل يجوز لمكون أوغير الله أن يقول : { يا موسى * إني أنا ربك } ( طه : 12 ) أويقول : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ( طه : 14 ) ؟ فمن قال ذلك زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي : أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون : { يا موسى إني أنا الله رب العالمين } ( القصص : 30 ) وقد قال جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء : 164 ) وقال تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ( الأعراف : 143 ) وقال تعالى : { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ( الأعراف : 144 ) هذا منصوص القرآن
فأما ما قالوا : ( إن الله لا يتكلم ) فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خثيمة عن عدي بن حاتم الطائي قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ]
وأما قولهم : إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان وأدوات فقد قال تعالى : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } ( الأنبياء : 79 ) أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا : { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } فصلت : 21 ) أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان ؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء وكذلك الله يتكلم كيف شاء من غير أن نقول : بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان فلما خنقته الحجج قال : إ : ن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره فقلنا : وغيره مخلوق ؟ قالوا : نعم قلنا : مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة وحديث الزهري قال : [ لما سمع موسى كلام الله قال : يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك ؟ قال : نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له : صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله ! وهل أستطيع أن أصفه لكم ؟ قالوا : فشبهه قال : هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله ]
فقد ذكر أحمد في هذا الكلام : أن الله تعالى يتكلم كيف شاء وذكر فيما استشهد به من الأثر ( أن الله كلم موسى عليه السلام بقوة عشرة آلاف لسان ) وأن له قوة الألسن كلها وهو أقوى من ذلك وأنه إنما كلم موسى على قدر ما يطيق ولو كلمه بأكثر من ذلك لمات وهذا بيان منه لكون تكلم الله متعلقا بمشيئته وقدرته كما ذكر عبد العزيز وهو خلاف قول من يجعله كالحياة القديمة اللازمة للذات التي لا تتعلق بمشيئة ولا قدرة وبين أيضا في كلامه أنه سبحانه تكلم وسيتكلم ردا على الجهمية وأستدل على أنه تكلم بالحديث الذي في الصحيحين عن عدي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ] وجعل قوله : [ سيكلمه ربه ] دليلا على أنه سيتكلم فبين أن التكلم عنده مستلزم للتكليم متضمن للتكلم ليس هو مجرد خلق إدراك في المستدل
وقال الإمام أحمد : ( وقلنا للجهمية : من القائل يوم القيامة : { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } ( المائدة : 116 ) أليس الله هو القائل ؟ قالوا : يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون شيئا فعبر لموسى قلنا : فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم } ( الأعراف : 6 - 7 ) أليس الله هو الذي يسأل ؟ قالوا : هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله فقلنا : قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان فلما ظهرت عليه الحجة قال : إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا : وكذلك بنوا آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم : قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة ! بل نقول : إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول : إن كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما ولا نقول : إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول : إنه كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول : إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول : إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة )
فقد بين أحمد في هذا الكلام الإنكار على النفاة الذي شبهوه بالجمادات التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان مثل الأصنام المعبودة من دون الله والإنكار على من زعم أنه كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام فشبهه بالآدمي الذي كان لا يتكلم حتى خلق الله له كلاما فأنكر تشبيهه الجماد الذي لا يتكلم وبالإنسان الذي كان قادر على الكلام حتى خلق الله له الكلام فكان قادرا على الكلام في وقت دون وقت وبين أن من وصف الله ذلك فقد جمع بين الكفر - حيث سلب ربه صفة الكلام وهي من أعظم صفات الكمال وجحد ما أخبرت به النصوص - وبين التشبيه
ثم قال أحمد : ( بل نقول : إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول : إنه كان ولا يتكلم حتى خلق ) فبين أن الكلام يتعلق بمشيئته وأنه لم يزل متكلما إذا شاء فرد قول من لا يجعل الكلام متعلقا بالمشيئة كقول الكلابية ومن وافقهم ومن يقول : ( كان ولا يتكلم حتى حدث له الكلام ) كقول الكرامية ونحوهم وقال : ( لا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما لا نقول : إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول : إنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسة قدرة ولا نقول : إنه قد كان له ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول : إنه كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة ) فنزهه سبحانه عن سلب صفات الكمال في وقت من الأوقات وإنا لا نقول : تجددت له صفات الكمال بل لم يزل موصوفا بصفات الكمال ومن صفات الكمال : إنه لم يزل متكلما إذا شاء لا أن يكون الكلام خارجا عن قدرته ومشيئته ولهذا لم يقل : لم يزل عالما إذا شاء ولا قال : يعلم كيف شاء وقد قال في موضع آخر فيما رواه عنه حنبل : ( لم يزل الله عالما متكلما غفورا )
وكلام أحمد وغيره من الأئمة في هذا الأصل كثير ليس هذا موضع بسطه مثل ما ذكره البخاري في آخر صحيحه في كتاب التوحيد والرد على الجهمية قال : باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب تعالى بصفاته وفعله وأمره - وفي نسخه ( وكلامه ) - هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان يفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مكون مخلوق )
وقال بعد ذلك : باب قول الله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } إلى قوله { ماذا قال ربكم قالوا الحق } ( سبأ : 23 ) ولم يقولوا ماذا خلق ربكم قال عز و جل : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ( البقرة : 255 ) وقال مسروق عن أبن مسعود : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا : { ماذا قال ربكم قالوا الحق } ( سبأ : 23 ) ويذكر عن جابر بن عبد الله بن أنيس سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان ] وذكر حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير ] وذكر حديث أبي سعيد الخدري قال : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم يقول الله : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك ! فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ] والحديث فيه طول استوفاه في موضع آخر
وقال بعد ذلك : باب ما جاء في قول الله تعالى : { كل يوم هو في شأن } ( الرحمن : 29 ) وقال : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } ( الأنبياء : 2 ) وقوله تعالى : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ( الطلاق : 1 ) وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى : 11 ) وذكر قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث : أن لا تكلموا في الصلاة ] وقول ابن عباس : كتابكم أحدث الأخبار بالرحمن عهدا محضا لم يشب
ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول ولهذا تأتلف ولا تختلف وتتوافق ولا تتناقض والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول فتشعبت بهم الطرق وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب وقد قال تعالى : { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } ( البقرة : 176 )
ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصيرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ؟ وكم من ذال تائه قد هدوه ؟ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجموعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين )
ومن أعظم أصول التفريق بينهم في هذه المسألة - مسألة أفعال الله تعالى وكلام الله ونحوه ذلك مما يقوم بنفسه ويتعلق بمشيئته وقدرته - فإن هذا الأصل لما أنكره من أنكره من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ونحوهم وظنوا أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع إلا إثبات حدوث الجسم ولا يمكن إثبات حدوثه إلا بإثبات حدوث ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة ألجأهم ذلك إلى أن ينفوا عن الله صفاته وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته أو ينفوا بعض ذلك وظنوا أن الإسلام لا يقوم إلا بهذا النفي وأن الدهرية من الفلاسفة وغيرهم لا يبطل قولهم إلا بهذا الطريق وأخطأوا في هذا وهذا
أما الفلاسفة الدهرية فإن هذه الطريقة زادتهم إغراء وأوجبت لهم حجة عجز هؤلاء عن دفعها إلا بالمكابرة التي لا تزيد الخصم إلا قوة وإغراء فقالو لهم : كيف يحدث الحادث بلا سبب حادث ؟ وكيف تكون الذات حالها وفعلها وجميع ماينسب إليها واحدا من الأزل إلى الأبد ؟ والعالم يصدر عنها في وقت دون وقت من غير فعل يقوم به ولا سبب حدث ؟
فكان ما جعلوه أصل للدين وشرطا في معرفة الله تعالى منافيا للدين ومانعا من كمال معرفة الله وكان ما أحتجوا به من الحجج العقلية هي في الحقيقة على نقيض مطلوبهم أدل فالحوادث لا تحدث إلا بشرط جعلوه مانعا من الحدوث وأما أمور الإسلام : فإن هذا الأصل اضطرهم إلى نفي صفات الله تعالى لئلا تنتقض الحجة ومن لم ينف الصفات نفى الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته فلزمهم من عدم الإيمان ببعض ما جاء به الرسول ومن جحد بعض ما يستحقه الله تعالى من أسمائه وصفاته ما أوجب له من من التناقض والإرتياب ما تبين لأولى الألباب فلم يعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه ولا الجهاد لعدو الله ورسوله حقه وقد قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا } ( الآية ( الحجرات : 15 )
هذا مع دعواهم أنهم أعظم علما وإيمانا وتحقيقا لأصول الدين وجهادا لأعدائه بالحجج من الصحابة وإن هم في ذلك إلا كبعض الملوك الذين لم يجاهدوا العدو بل أخذوا منهم بعض البلاد ولا عدلوا في المسلمين العدل الذي شرعه الله للعباد إذا ادعى أنه أمكن وأعدل من عمر بن الخطاب وأصحابه رضوان الله عليهم
أقوال مختلفة في كلام الله تعالى
ثم إنهم بسبب ذلك تفرقوا في أصول دينهم كتفرقهم في كلام الله من القرآن وغيره فإنهم تفرقوا فيه شيعا : شيعة قالت : هومخلوق وحقيقة قولهم : لم يتكلم الله هبه كما كان قدماؤهم يقولون : لكن المعتزلة صاروا يطلقون اللفظ بأن الله متكلم حقيقة وكان مرادهم مراد من قال : إن الله لم يتكلم ولا يتكلم كما ذكره أحمد : إنهم تارة ينفون الكلام وتارة يقولون : يتكلم بكلام مخلوق وهو معنى الأول
وهذا في الحقيقة تكذيب للرسل الذي إنما أخبروا الأمم بكلام الله الذي أنزله إليهم وجاءت الفلاسفة القائلون بقدم العالم فقالوا أيضا : متكلم وكلامه ما يفيض من العقل الفعال على نفوس الأنبياء وهذا قول من وافقهم من القرامطة الباطنية ونحوهم ممن يتظاهر بالإسلام ويبطن مذهب الصابئة والمجوس ونحو ذلك وهو قول طوائف من ملاحدة الصوفية كأصحاب وحدة الوجود ونحوهم الذين أخذوا دين الصابئة والفراعنة والدهرية فأخرجوه في قالب المكاشفات والولاية والتحقيق
والذين قالوا ليس هو مخلوقا ظن فريق منهم أنه لا يقابل المخلوق إلا القديم اللازم للذات الذي يثبتونه بدون مشيئة الرب وقدرته كثبوت الذات فقالوا ذلك
ثم طائفة رأت أن الحروف والأصوات يمتنع أن تكون كذلك فقالت : كلامه هو مجرد معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر وأنه إن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا فلزمهم أن تكون معاني القرآن هي معاني التوراة والإنجيل وأن يكون الأمر هو النهي وهو الخبر وأن تكون هذه صفات له لا أنواعا له ونحو ذلك مما يعلم فساده بصريح العقل
وطائفة قالت بل هو حروف وأصوات أزلية لا تتعلق بمشئيته وقدرته كما قال الذين من قبلهم
واتفق الفريقان على أن تكليم الله لملائكته وتكليمه موسى وتكليمه لعباده يوم القيامة ومناداته لمن ناداه ونحو ذلك : إنما هو خلق إدراك في المستمع أدرك به ما لم يزل موجودا كما أن تجليه - عند من ينكر مباينته لعباده وأن يكشف لهم حجابا منفصلا عنهم - ليس هو إلا خلق إدراك في أعينهم من غير أن يكون هناك حجاب منفصل عنهم يكشفه لهم
وطائفة ثالثة لما رأت شناعة كل من القولين قالت : بل يتكلم بعد أن لم يكن يتكلم بصوت وحروف وكلامه حادث قائم بذاته متعلق بمشيئته وقدرته وأنكروا أن يقال : لم يزل متكلما إذا شاء إذ ذلك يقتضي تسلسل الحوادث وتعاقبها وهذا هو الدليل الذي استدلوا به على حدوث أجسام العالم
فليتدبر المؤمن العالم كيف فرق هذا الكلام المحدث المبتدع بين الأمة وألقى بينها العداوة والبغضاء مع أن كل طائفة تحتاج أن تضاهي من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض إذ مع كل طائفة من الحق ما تنكره الأخرى فالذين قالوا بخلق القرآن إنما ألقاهم في ذلك أنهم رأوا أنه لا يمكن أن يكون الكلام لازما للذات لزوم العلم بل الكلام يتعلق بمشيئتة المتكلم وقدرته فقالوا : يكون من صفات الفعل والمتكلم : من فعل الكلام ثم لم يثبتوا فعلا إلا منفصلا عنه لنفيهم أن يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته وصار من قابلهم يريد أن يثبت كلاما لازما للمتكلم لا يتعلق بمشيئته وقدرته : إما معنى وإما حروفا ويثبت أن المتكلم لا يقدر على التكلم ولا يمكنه أن يقول غير ما قال ويسلب المتكلم قدرته على القول والكلام وتكلمه باختياره ومشيئته فإذا قال له الأول : ( المتكلم من فعل الكلام ) قال هو : ( المتكلم من قام به الكلام ) ولكن ذاك يقول : لا يقوم الكلام بفاعله وهذا يقول : لا يختار المتكلم أن يتكلم
فأخذ هذا بعض صفة الكلام وهذا بعضها والمتكلم المعروف : من قام به الكلام ومن يتكلم بمشيئته وقدرته ولهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها
وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل قول فلا يعرفونه ولا يعرفون قائله فالشهرستاني صنف المل والنحل وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره و القاضي أبو بكر و أبو المعالي و القاضي أبو يعلى و ابن الزاغوني و أبو الحسين البصري و محمد بن الهيثم ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين تجد أحدهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة ويختار واحدا منها والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام أحمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم مع أن عامة المنتسبين إلى السنة من جميع الطوائف يقولون : إنهممتبعون للأئمة كمالك و الشافعي و أحمد و ابن المبارك و حماد بن زيد وغيرهم لا سيما الإمام أحمد فإنه بسبب المحنة المشهورة من الجهمية له ولغيره أظهر من السنة ورد من البدعة ما صار به إماما لمن بعده وقوله هو قول سائر الأئمة فعامة المنتسبين إلى السنة يدعون متابعته والاقتداء به سواء كانوا موافقين له في الفروع أو لا فإن أقوال الأئمة في أوصول الدين متفقة ولهذا كلما اشتهر الرجل بالانتساب إلى السنة كانت موافقته لأحمد أشد ولما كان الأشعري ونحوه أقرب إلى السنة من طوائف من أهل الكلام كان انتسابه إلى أحمد أكثر من غيره كما هو معروف في كتبه
وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة و مالك و الشأفعي و أحمد وغيرهم من يقول أقوالا ويكفر من خالفها وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها كما أنهم كثيرا ما ينكرون أقوالا ويكفرون من يقولها وتكون منصوصة عن النبي صلى الله عليه و سلم لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس حتى صار الحق الذي جاء به الرسول - وهو المطابق للمعقول - لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات : { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ( الحشر : 10 )
عدم ذكر مصنفي أصول الدين
وكان هذا من تلك البدع الكلامية كبدع الذين جعلوا أصل الدين مبنيا على كلامهم في الأجسام والأعراض ولهذا كثر ذم السلف والأئمة لهؤلاء وإذا رأيت الرجل قد صنف كتابا في أصول الدين ورد فيه من أقوال أهل الباطل ما شاء الله ونصر فيه من أقوال أهل الحق ما شاء الله ومن عادته أنه يستوعب الأقوال في المسأل فيبطلها إلا واحدا ورأيته في مسألة كلام الرب تعالى وأفعاله أو نحو ذلك ترك من الأقوال ما هو معروف عن السلف والأئمة - تبين أن هذا القول لم يعرفه ليقبله أو يرده إما لأنه لم يخطر بباله أو لم يعرف قائلا له أو لأنه خطر له فدفعه بشبهة من الشبهات وكثيرا ما يكون الحق مقسوما بين المتنازعين في هذا الباب فيكون في قول هذا حق وباطل وفي قول هذا حق وباطل والحق بعضه مع هذا وبعضه مع هذا وهو مع ثالث غيرها والعصمة إنما هي ثابتة لمجموع الأمة ليست ثابتة لطائفة بعينها
فإذا رأيت من صنف في الكلام - كصاحب الإرشاد و المعتمد ومن أتبعهما ممن لم يذكروا في ذلك إلا أربعة أقوال وما يتعلق بها - علم أنه لم يبلغهم القول الخامس ولا السادس فضلا عن السابع فالذين يسلكون طريقة ابن كلاب كصاحب الإرشاد ونحوه يذكرون قول المعتزلة وقول الكرامية ويبطلونهما ثم لا يذكرون مع ذلك إلا ما يقولون فيه ( وذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أن كلام الله تعالى قديم أزلي ثم زعموا أنه حروف وأصوات وقطعوا بأن المسموع صوت القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع صوت الله تعالى الله عن قولهم ! وهذا قياس جهالاتهم ثم قالوا : إذا كتب كلام الله بجسم من الأجسام رقوما ورسوما وأسطرا وكلما فهي بأعينها كلام الله القديم فقد كان إذ كان جسما حادثا ثم أنقلب قديما ثم قضوا بأن المرئي من الأسطر هو الكلام القديم الذي هو حرف وأصوات وأصلهم أن الأصوات على تقطيعها وتواليها كانت ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وقواعد مذهبهم مبينة على دفع الضرورات )
فلم يذكر أبوالمعالي إلا هذا القول من قول المعتزلة والكلابية والكرامية
ومعلوم أن هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول ولا نعرف هذا القول عن معروف بالعلم من المسلمين ولا رأينا هذا في شيء من كتب المسلمين ولا سمعناه من أحمد منهم فما سمعنا من أحد ولا رأينا في كتاب احد أن المداد الحادث انقلب قديما ولا أن المداد الذي يكتب به القرآن قديم بل رأينا عامة المصنفين من أصحاب أحمد وغيرهم ينكرون هذا القول وينسبون ناقله عن بعضهم إلى الكذب
و أبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم بل يذكر كلاما مجملا يتناول النقيضين ولايميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر فيحكيه الحاكي مفصلا ولا يجمله إجمال القائل ثم إذا فصله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضا وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها القائل نفسه وما كل من قال قولا التزمه لوازمه بل عامة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم فالحاكي يجعل ما يظنه من لوازم قوله هو أيضا من قوله لا سيما إذا لم ينف القائل ما يظنه الحاكي لازما فإنه يجعله قولا بطريق الأولى
ولا ريب أن من الناس من يقول : هذا القرآن كلام الله وما بين اللوحين كلام الله ويقول : إن كلام الله محفوظ في القلوب متلو بالألسن مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف وهذا الإطلاق حق متفق عليه بين المسملين ثم من هؤلاء من إذا سئل عن المداد وصوت العبد : أقديم هو ؟ أنكر ذلك وربما سكت عن ذلك وكره الكلام فيه بنفي أو إثبات خشية أن يجره ذلك إلى بدعة مع أنه لو سمع من يقول : ( إن المداد قديم ) ألزمه العقوبة به والعذاب الأليم
وأما صوت العبد فقد تكلم فيه طائفة من المنتسبين إلى الأئمة كالشافعي و أحمد وغيرهما فمنهم من قال : إن الصوت المسموع قديم ومنهم من يقول : يسمع شيئين الصوت القديم والمحدث وهذا خطأ في العقل الصريح وهو بدعة وقول قبيح
و الإمام أحمد وجماهير أصحابه منكرون لما هو أخف من ذلك فإن أحمد وأئمة أصحابه قد أنكروا على من قال : اللفظ بالقرآن غير مخلوق فكيف بمن قال : اللفظ به قديم فكيف بمن قال : الصوت غير مخلوق ؟ فكيف بمن قال : الصوت قديم ؟ وقد بدعوا هؤلاء وأمروا بهجرهم وقد صنف المروذي في ذلك مصنفا كبيرا ذكره الخلال في كتاب السنة كما جهموا وبدعوا من قال : اللفظ به مخلوق أيضا كما بين في موضعه
إذا المقصود هنا أن من أكابر الفضلاء من لا يعرف أقوال الأئمة في أكابر المسائل لا أقوال أهل الحق ولا أهل الباطل بل لم يعرف إلا بعض الأقوال المبتدعة في الإسلام ومن المعلوم أن السلف والأئمة كان لهم ليس هو قول المعتزلة ولا الكلابية ولا الكرامية ولا هو قول المسلمين بالحشوية فأين ذلك القول ؟ أكان أفضل الأمة وأعلمها وخير قرونها لا يعلمون في هذا حقا ولا باطلا ؟
ومعلوم أن كل قول من هذه الأقوال فاسد من وجوه وقد يكون بعضها أفسد من بعض فقول المعتزلة الذي قالوا : ( إن كلام الله مخلوق ) وإن كان فاسدا من وجوه فقول الكلابية فاسد من وجوه وقول الكرامية فاسد من وجوه
و الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا هذه الأقوال كلها : أنكروا قول الكلابية والكرامية بالنصوص الثابتة عنهم وإنكارهم لقول المعتزلة متواتر مستفيض عنهم وأنكروا على من جعل ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة فكيف بالقول المنسوب إلى هؤلاء الحشوية ؟ ولهذا لما كان أبو حامد مستمدا من كلام أبي المعالي وأمثاله وأراد الرد على الفلاسفة في التهافت ذكر أنه يقابلهم بكلام المعتزلة تارة وبكلام الكرامية تارة وبكلام الواقفة تارة كما يكلمهم بكلام الأشعرية وصار في البحث معهم إلى مواقف غايته فيها بيان تناقضهم وإذا ألزموه فر إلى الوقف
ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر أو تفصيل ومن المعلوم أن كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام لا بد أن يناقضه حق معلوم من دين الإسلام موافق لصريح العقل فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بمحالات العقل وإنما يخبرون بمجازات العقول وما يعلم بصريح العقل أنتفاؤه لا يجوز أن يخبر به الرسل بل تخبر بما لا يعلمه العقل وبما يعجز العقل عن معرفته
ومن المعلوم أن السلف والأئمة له قول خارج عن قول المعتزلة والكرامية والأشعرية والواقفة ومن علم ذلك القول فلا بد أن يحكيه ويناظرهم به كما يناظرهم بقول المعتزلة وغيرهم لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول إلا بمبلغ علمه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها
ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإنكان ذلك في المسائل العملية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابة الرسول بحسب إمكانه : هو أحق بان يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه تحقيقا لقوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ( البقرة : 286 )
عدم ذكر الشهرستاني لقول السلف في نهاية الإقدام
و الشهرستاني - لما كان أعلم بالمقالات من إخوانه - ذكر في مسألة الكلام قولا سادسا وظن أنه قول السلف فقال في نهاية الإقدام - بعد أن ذكر قول الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية والكرامية وأن المعتزلة لما قالت : ( أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منظمومة وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة على التحقيق لها مفتتح ومختتم وأنه معجزه للرسول صلى الله عليه و سلم دالة على صدقه وأن الأشعرية تفرق بين اللفظ والمعنى وتثبت معنى هو مدلول اللفظ ) - ثم قال : ( قال السلف والحنابلة : قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله وأن ما نقرؤه ونكتبه ونسمعه عين كلام الله فيجب أن تكون تلك الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله ولما تقرر الاتفاق على أن كلام غير مخلوق فيجب أن تكون تلك الكلمات أزلية غير مخلوقة
ولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين : أحدهما القدم والثاني الحدوث والقولان مقصوران على الكلمات المتوبة والآيات المقروءة بالألسن فصار الآن قول ثالث وهو حدوث الحروف والكلمات وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات وقد حتم قدحا ليس منها وهو خلاف القولين فكانت السلف على إثبات القدم والأزلية لهذه الكلمات دون التعرض لمعنى وراءها فأبدع الأشعري قولا وقضى بحدوث الحروف وهو خرق الإجماع وحكم بأن ما نقرأه كلام الله مجازا لا حقيقة وهو عين الابتداع فهلا قال : ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته ؟ كما ورد السمع بإثبات كثير من الصفات من الوجه واليدين إلى غير ذلك من الصفات الخبرية )
قال : قال السلف : ولا يظن بنا أن نثبت القدم للحروف والأصوات التي قامت بألسنتنا وصارت صفات لنا فأنا على قطع نعلم افتتاحها واختتامها وتعلقها بأكسابنا وأفعالنا وقد بذل السلف أرواحهم وصبروا على أنواع البلايا والمحن من معتزلة الزمان دون أن يقولوا : القرآن مخلوق : ولم يكن ذلك على حروف وأصوات هي أفعالنا وأكسابنا بل هم عرفوا يقينا أن لله تعالى قولا وكلاما وأمرا وأن أمره غير خلقه بل هو أزلي قديم بقدمه
كما ورد القرآن بذلك في قوله تعالى : { ألا له الخلق والأمر } ( الأعراف : 54 ) وقوله تعالى : { لله الأمر من قبل ومن بعد } ( الروم : 4 ) وقوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) فالكائنات كلها إنما تتكون بقوله وأمره وقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) وقوله تعالى : { وإذ قال ربك } ( البقرة : 30 ) { وإذ قلنا للملائكة } ( البقرة : 34 ) { قال الله } ( المائدة : 115 ) فالقول قد ور في السمع مضافا إلى الله أخص من إضافة الخلق فإن المخلوق لا ينسب إلى الله تعالى إلا من جهة واحدة وهي الخلق والإبداع والأمر ينسب إليه لا على تلك النسبة وإلا فيرتفع الفرق بين الخلق والأمر والخلقيات والأمريات
قالوا : ومن جهة العقل : العاقل يجد فرقا ضروريا بين ( قال ) و ( فعل ) وبين ( أمر ) و ( خلق ) ولو كان القول فعلا كسائر الأفعال بطل الفرق الضروري فثبت أن القول غير الفعل وهو قبل الفعل وقبليته قبلية أزلية إذ لو كان له أول لكان فعلا سبقه قول آخر ويتسلسل )
قال : ( وحققوا زيادة تحقيق فقالوا : قد ورد في التنزيل أظهر مما ذكرناه من الأمر وهو التعرض لإثبات كلمات الله حيث قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } ( الأنعام : 115 ) وقال : { ولولا كلمة سبقت من ربك } ( يونس : 19 ) وقال تعالى : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } ( الكهف : 109 ) وقال تعالى { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } ( لقمان : 17 ) وقال تعالى : { ولكن حق القول مني } ( السجدة : 13 ) وقال : { ولكن حقت كلمة العذاب } ( الزمر : 71 ) فتارة يجيء الكلام بلفظ الأمر وتثبت له الوحدة الخالقية التي لا كثرة فيها : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } ( القمر : 50 ) وتارة يجيء بلفظ الكلمات وتثبت لها الكثرة البالغة التي لا وحدة فيها ولا نهاية لها { ما نفدت كلمات الله } فله تعالى إذا أمر وكلمات كثيرة وذلك لا يتصور إلا بحروف
فعن هذا قلنا : أمره قديم وكلماته أزلية والكلمات مظاهر الأمر والروحانيات مظاهر الكلمات والأجسام مظاهر الروحانيات والإبداع والخلق إنما يبتدي من الأرواح والأجسام وأما الكلمات والحروف والأمر فأزلية قديمة وكما أن أمره لا يشبه أمرنا فكلماته وحروف كلماته لا تشبه كلامنا وهي حروف قدسية علوية وكما أن الحروف بسائط الكلمات والكلمات أسباب الروحانيات والروحانيات مدبرات الجسمانيات وكل الكون قائم بكلمات الله محفوظ بأمر الله )
قال : ( ولا يغفلن عاقل عن مذهب السلف وظهور القول في حدوث الحروف فإن له شأنا وهم يسلمون الفرق بين القراءة والمقروء والكتابة والممكتوب ويحكمون بأن القراءة التي هي صفتنا وفعلنا غير المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير أن المقروء بالقراءة قصص وأخبار وأحكام وأمر وليس المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير بأن المقروء بالقراءة قص وأخبار وأحكام وأمر وليس المقروء من قصة آدم وإبليس هو بعينه المقروء من قصة موسى وفرعون وليست أحكام الشرائع الماضية هي بعينها أحكام الشرائع الخاتمة فلا بد إذا من كلمات تصدر عن كلمة وترد على كلمة ولا بد من حروف تتركب منها الكلمات وتلك الحروف لا تشبه حروفنا وتلك الكمات لا تشبه كلامنا )
قلت : فهذا القول الذي ذكره الشهرستاني وحكاه عن السلف والحنابلة ليس هو من الأقوال التي ذكرها صاحب الإرشاد وأتباعه فإن أولئك لم يحكوا إلا قول من يجعل القديم عين صوت العبد والمداد وهذا القول لا يعرف به قائل له قول أو مصنف في الإسلام وأما القول الذي ذكره الشهرستاني : فقال به طائفة كبيرة وهو أحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد و مالك و الشافعي وغيرهم من الطوائف وهو المذكور عن أبي الحسن بن سالم وأصحابه السالمية وقد قاله طائفة غير هؤلاء كما ذكر ذلك الأشعري في كتاب المقالات لما ذكر كلام ابن كلاب فقال : ( قال ابن كلاب : إن الله لم يزل متكلما وإن كلامه صفة له قائمة به وإنه قدمي بكلامه وإن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به وإن الكلام ليس بحروف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض وإنه معنى واحد قائم بالله )
قال : ( وقال بعض من أنكر خلق القرآن : إن القرآن يسمع ويكتب وإنه متغاير غير مخلوق وكذلك العلم غير القدرة والقدرة غير العلم وإن الله لا يجوز أن يكون غير صفاته وصفاته متغايرة وهو غير متغاير )
قال : ( وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث وأن الله لم يزل متكلما وأنه مع ذلك حروف وأصوات وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله متكلما بها )
قلت : فبعض هذا القول الذي ذكره الشهرستاني عن السلف منقول بعينه عن السلف مثل إنكارهم على من زعم أن الله خلق الحروف وعلى من زعم أن الله لا يتكلم بصوت ومثل تفريقهم بين صوت القارىء وبين الصوت الذي يسمع من الله ونحو ذلك فهذا كله موجود عن السلف والأئمة وبعض ما ذكره من هذا القول ليس هو معروفا عن السلف والأئمة مثل إثبات القدم والأزلية لعين اللفظ المؤلف المعين ولكن القول الذي أطبقوا عليه : هو أن كلام الله غير مخلوق ولكن الناس تنازعوا في مرادهم بذلك والنزاع في ذلك موجود في عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
والنزاع في ذلك مبني على هذا الأصل هو كون قوله - مع أنه غير مخلوق ومع أنه قائم به ومع أنه لم يزل متكلما - : هل يتعلق بقدرته ومشيئته أم لا ؟ فهذا القول السابع لم يذكره الشهرستاني ونحوه إذ الأقوال المعروفة للناس في مسألة الكلام سبعة أقوال
موقف الرازي في مسألة القرآن وأفعال الله
والمقصود هنا : أن أبا عبد الله الرازي في أكثر كتبه لم يبن مسألة القرآن على الطريقة المعروفة ل الأشعري وهو أنه يمتنع أن يحدث في نفسه كلام لكونه ليس محلا للحوادث وذلك لأنه قد ضعف هذا الأصل فلم يمكنه أن يبني عليه بل أثبت ذلك بإجماع مركب فقرر بأن الكلام له معنى غير العلم والإرادة خلافا للمعتزلة ونحوهم وإذا كان كذلك فكل من قال بذلك قال : إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله تعالى فلو لم يقل بذلك لكان خلاف الإجماع فهذا هو العمدة التي اعتمد عليها في نهاية العقول وهو ضعيف فإن الإقوال في المسألة متعددة قول غير المعتزلة والكلابية
وكان من الممكن أن يقال له : إن ثبت أنه لا يقوم بالله ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن أن يجعل كلام الله قديما بالطريقة المعروفة فإنه يمتنع أن يحدثه قائما في نفسه أو في محل آخر فإذا أمتنع حدوثها في نفسه تعين قدمه وإن لم يثبت ذلك بل أمكن أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن هنا قول الكرامية وقول أهل الحديث الذين يقولون : إنه قول السلف والأئمة فلم يتعين قول الكلابية فذكر في نهاية العقول ما جرت عادته وعادة غيره بذكره وهو أن معنى الكلام : إما أن يكون هو الإرادة والعلم وإما أن يكون الطلب مغايرا للإرادة والحكم الذهني مغايرا للعلم والأول باطل لأن الإنسان في الشاهد قد يخبر بما يعلمه ولا يعتقده وقد يأمر بأمر لا يريده كالسيد إذا كان قصده امتحان العبد
قال : ( وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب )
قال : ( فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقية قائمة بذاته مغايره لذاته وعلمه وأن الألفاظ الواردة في الكتب الإلهية دالة عليها وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها لأن الأمة علىقولين في هذه المسألة : منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى ومنهم من أثبت ذلك وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبتنا كونه تعالى موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل )
وأورد على نفسه أسئلة : فمنها قول القائل : ( لم قلتم إن تلك المعاني قديمة قولكم : كل من أثبت تلك المعاني أثبتها قديمة ؟ قلنا : القول في إثباتها مسألة والقول في قدمها مسألة أخرى فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت الأخرى لزم من أثبات كونه تعالى عالما بعلم قديم إثبات كونه تعالى متكلما بكلام قديم وإن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا لإجماع )
وذكر في جواب ذلك ( قوله : لو لزم من إثبات هذه الصفة إثبات قدمها - لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - قلنا : الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول فإن المعتزلة يساعدوننا على الفرق بين الموضعين فلا نطول قوله : إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع قلنا : قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع )
قلت : المقصود أن يعرف أنه عدل عن الطريقة المشهورة وهو أنه لو أحدثه في نفسه لكان محلا للحوادث - مع أنه عمدة ابن كلاب و الأشعري ومن اتبعهما - لضعف هذا الأصل عنده ولو أعتقد صحته لكان ذلك كافيا مغنيا له عن هذه الطريقة التي أحدثها
وليس المقصود هنا الكلام في مسألة القرآن فإن هذا مبسوط في مواضعه وإنما الغرض التنبيه على اعتراف الفضلاء بأن هذا الأصل ضعيف وأما ضعف ما اعتمده في مسألة القرآن : فمبين في موضع آخر فإن إثبات المقدمة الأولى فيها كلام ليس هذا موضعه إذ كانت العمدة فيه على أمر الممتحن وخبر الكاذب والمنازع يقول : هذا إظهار للأمر والخبر وإلا فهو في نفس الأمر لم يدل الخبر هنا على معنى في النفس ولهذا يقول الله تعالى عن الكاذبين إنهم : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } ( الفتح : 11 ) فهم ينازعون في أن الكاذب قام بنفسه حكم أو دل لفظه على معنى في نفسه بل أظهر الدلالة على معنى في نفسه كذبا
وأما المقدمة الثانية فضعيفة وذلك أنه يقال : هب أن هذا ثبت لكن لم لا يجوز أن يتكلم بحروف ومعان قائمة في ذاته حادثة ؟ وهذا القول قول طوائف من المسلمين فليس هو خلاف الإجماع فإن أبطل هذا بقوله : ( ليس هو محلا للحوادث ) قيل : فهذا - إن صح - فهو دليل كاف كما سلكه من سلكه من الناس وإن لم يصح بطلت الدلالة فتبين أنه لا بد في إثبات قدمه من هذه المقدمة
وأما قوله : ( كل من أثبت اتصاف الله بهذه المعاني فإنه يقول بقدمها ) فليس الأمر كذلك بل كثير من أهل الحديث وأهل الكلام يثبتونها ولا يقولون بقدمها
وأما الفرق الذي ذكره في المحصول فهو أن الأمة إذا اختلفت في مسألتين على قولين : فإن كان مأخذهما واحدا - كتنازعهم في الرد وذوي الأرحام - لم يكن لمن بعدهم إحداث موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة وإن كان المأخذ مختلفا - كتنازعهم في الشفعة وميراث ذوي الأرحام - جاز موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة فظن أن قدم الكلام مع إثبات هذه المعاني من هذا الباب وليس الأمر كذلك فإن مأخذ إثبات هذه المعاني ليس هو مأخذ القدم فإن القدم مبني على مسألة الصفات وعلى أنه : هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ؟ وأما إثبات هذه المعاني فمسألة أخرى
والناس لهم في مسمى ( الكلام ) أربعة أقوال : أحدهما : أنه اللفظ الدال على المعنى والثاني أنه المعنى المدلول عليه باللفظ والثالث : أنه مقول بالاشتراك على كل منهما والرابع : أنه اسم لمجموعهما وإن كان مع القرينة يراد به أحدهما وهذا قول الأئمة وجمهور الناس وحينئذ فمن أثبت هذه المعاني وقال : إن اسم ( الكلام ) يتناولهما بالعموم أو الأشتراك يمكنه إثبات قيام اللفظ والمعنى جميعا بالذات
ثم من جوز تعلق ذلك بمشيئته وقدرته يمكنه أن لا يقول بالقدم أو لا يقول بالقدم في الكلام المعين وإن قال بالقدم في نوع الكلام ومن لم يجوز ذلك فمنهم طائفة يقولون بقدم الحروف وطائف تقول بقدم المعاني دون الحروف وما به يستدل أولئك على حدوث الحروف كالتعاقب والمحل يعارضونهم بمثله في المعاني فإنه بالنسبة إلينا متعاقبة ولها محل لا يليق بالله تعالى فإن جاز أن تجعل فينا متعددة مع اتحادها في حق الله تعالى وأن محلها منه ليس كمحلها منا : أمكن أن يقال في الحروف كذلك : إنها وإن تعددت فينا فهي متحدة هناك وليس المحل كالمحل وإذا قيل : ( هي مرتبة فينا ) قيل : فكذلك المعاني مرتبة فينا فترتيب أحدهما كترتيب الآخر وإذا قيل : ( دعوى أتحادهما مخالف لصريح العقل ) قيل : وكذلك دعوى اتحاد المعاني فكلام هؤلاء من جنس كلام هؤلاء
والمقصود هنا : الكلام على هذا الأصل وهي مسألة الصفات الاختيارية كالأفعال ونحوها مما يقوم به ويتعلق بمشيئته وقدرته
وأما قول القائل : ( الجمهور على خلاف ذلك وإنما الخلاف فيه مع الكرامية ) فهذا قول من ظن أن طوائف المسلمين منحصرة في المعتزلة والكلابية والكرامية بل أكثر طوائف المسلمين يجوزون ذلك : من أهل الكلام وأهل الحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم وأما أئمة أهل الحديث والسنة فكالمجمعين على ذلك فكلام من يعرف كلامه في ذلك صريح فيه والباقون معظمون لمن قال ذلك شاهدون له بأنه إمام في السنة والحديث لا ينسبونه إلى بدعة
وأما متأخرو أهل الحديث فلهم فيها قولان ولأصحاب أحمد قولان ولأصحاب الشافعي قولان و لأصحاب مالك قولان و لأصحاب أبي حنيفة قولان وللصوفية قولان وجمهور أهل التفسير على الإثبات
وأما أهل الكلام فقد ذكر الأشعري هذا في كتاب المقالات عن غير واحد من أئمة الكلام غير الكرامية ولم يذكر للكرامية شيئا انفردوا به إلا قولهم في الإيمان بل ذكر عن هشام بن الحكم وغيره من الشيعة أنهم يصفونه بالحركة والسكون ونحو ذلك وأن عامة القدماء من الشيعة كانوا يقولون بالتجسيم أعظم من قول الكرامية وأن المتأخرين منهم هم الذين قالوا في التوحيد بقول المعتزلة بل ذكر عنهم تجدد الصفات من العلم والسمع والبصر والناس قد حكوا عن هشام والجهم أنهما يقولان بحدوث العلم وهذا رأس المعطلة وهذا رأس الشيعة لكن جهم كان يقول بحدوث العلم في غير ذاته وهشام يقول بحدوثها في ذاته وحكى الأشعري تجدد العلم له عن جمهور الإمامية وحكى عنهم إثبات الحركة به وأن كلهم يقولون بذلك إلا شرذمة منهم وذكر عن هشام بن الحكم وهشام بن الجواليقي وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وغيرهم أنهم يقولون إرادته حركة وهل يقال : إنها غيره أم لا ؟ على قولين لهم وذكر عن طائفة أنهم يقولون : يعلم الأشياء قبل كونها إلا أعمال العباد فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها وهذا قول غلاة القدرية كمعبد الجهني وأمثاله وهو أحد قولي عمروبن عبيد وذكر عن زهير الأثري أنه كان يقول : إن الله ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 ) ويزعم أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق )
قال : ( وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيرا في أكثر قوله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله : حدث غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في محبته وإرادته أيضا )
قال زهير : كلام الله حدث وليس بمحدث وفعل وليس بمفعول وامتنع أن يزعم أنه خلق ويقول : ليس بخلق ولا مخلوق وإنه قائم بالله ومحال أن يتكلم بالله بكلام قائم بغيره كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه : إن ذلك أجمع قائم بالله
قال الأشعري : ( وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول : إن الله لم يزل متكلما بمعنى أنه يزل قادرا على الكلام ويقول : إن كلام الله محدث غير مخلوق ) قال : ( وهذا قول داود الأصبهاني ) قال : ( وكل القائلين بأن القرآن غير مخلوق كنحو عبد الله بن كلاب ومن قال إنه محدث كنحو زهير ومن قال : إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني - يقولون : إن القرآن ليس بجسم ولا عرض )
وأما الحجة التي احتج بها الرازي للنفاة فهي أيضا ضعيفة من وجوه
أحدها : أن المقدمة التي اعتمد عليها فيه قوله : ( إن الخالي عن الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص )
فيقال : معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل كما لا يمكن وجودها في الأزل فإن ما كان وجوده مشروطا بحادث سابق له امتنع إمكان وجوده قبل وجود شرطه وعلى هذا : فالخلو عن هذه في الأزل لا يكون خلوا عما يمكن الاتصاف به والخالي عما لا يمكن اتصافه به ليس بناقص
الوجه الثاني : أن يقال : هو لم يثبت امتناع ما ذكره من النقص بدليل عقلي ولا ينص كتاب ولا سنة بل إنما أثبته بما ادعاه من الإجماع وهذه طريقته وطريقة أبي المعالي قبله ومن وافقهم يقولون : إن امتناع النقص على الله تعالى إنما علم بالإجماع لا بالنص ولا بالعقل وإذا كان كذلك فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسائل النزاع ؟
فإن قال : هؤلاء وافقونا على امتناع النقص عليه وإنما نازعونا في كون ذلك نقصا
قيل له : إما أن يكونوا وافقوا على إطلاق اللفظ وإما أن يكونوا وافقوا على معانية
فإن وافقوا على إطلاق القول بأنه سبحانه منزه عن النقص وقالوا : ليس هذا من النقص لم يكن مورد النزاع داخلا فيما عنوه بلفظ النقص ومعلوم إن الإجماع حينئذ لا يكون حاصلا على المعنى المتنازع فيه ولكن على لفظ لم يدخل فيه هذا المعنى عند بعض أهل الإجماع ومثل هذا لا يكون حجة في المعنى ولكن غايته - إذا قام الدليل على أن هذا يسمى في اللغة نقصا - : أن يكونوا لم يعبروا باللفظ اللغوي وهذا بتقدير أن لا يكون له مساغ في اللغة : إنما فيه خطأ لغوي فكيف إذا كانت هذه المقدمات غير مسلمة لهم في اللغة أيضا ؟ ومثل هذا ليس بحجة على المعاني المتنازع فيه وإنما يكون حجة لفظية لو صحت مقدماته فلا يحصل بها المقصود
وإن كانوا وافقوا على نفي المعاني التي يعبر عنها بلفظ النقص : فمعلوم أن المعنى المتنازع فيه لم يوافقهم عليه فتبين أن مورد النزاع لا إجماع على نفيه قطعا فلا يجوز الإحتجاج على نفيه بالإجماع
الوجه الثالث : أن يقال : إن قول القائل : ( إن الأمة اجتمعت على تنزه الله تعالى عن النقص وقوله : أجتمعت على تنزيه الله تعالى عن العيب والآفة ونحو ذلك ) وهذا القدر ليس بمنقول اللفظ عن كل واحد من الأمة لكن نحن نعلم أن كل مسلم فهو ينزه الله تعالى عن النقص والعيب بل العقلاء كلهم متفقون على ذلك فإنه ما من احد ممن يعظم الصانع سبحانه وتعالى وصف الله بصفة وهو يعتقد أنها آفة وعيب ونقص في حقه وإن كان بعض الملحدين يصفه بما يعتقده هو نقصا وعيبا فهذا من جنس نفاة الصانع تعالى ولهذا كان نفاة الصفات إنما نفوها وهم يعتقدون أن إثباته يقتضي النقص كالحدوث والإمكان ومشابهة الأحياء مثبتوها إنما اثبتوها لاعتقادهم أن إثباتها يوجب الكمال وعدمها يستلزم النقص والعدم ومشابهة الجمادات وكذلك مثبتة القدر ونفاته بل بعض نفاة النبوة زعموا أنهم نفوها تعظميا لله أن يكون رسوله من البشر وأهل الشرك أشركوا تعظيما لله أن يعبد بلا وساطة تكون بينه وبين خلقه فإذا كان كذلك فمن المعلوم : أن الإنسان لو احتج بإجماع المسملين على نفي النقص والعيب عن الله تعالى على من يثبت الصفات مدعيا أن إثباتها نقص وعيب أو بالعكس لقال له المثبتة : نحن لم نوافقك على نفي هذا المعنى الذي سميته أنت نقصا وعيبا فلا تحتج علينا بالموافقة على لفظ لم نوافقك على معناه وأمكنهم حينئذ أن يقولون : نحن ننازعك في هذا المعنى وإن سميته أنت نقصا وعيبا فلا يكون حجة ثابتة إلا أن يقوم دليل على انتفاء ذلك غير الإجماع المشروط بموافقتهم
الوجه الرابع : أن يقال له : قولك : ( إجماع الأمة على أن صفاته كلها صفات كمال ) إن عنيت بذلك صفاته كلها اللازمة له لم يكن في هذا حجة لك وإن عنيت ما يحدث بقدرته ومشيئته لم يكن هذا إجماعا فإنك أنت وغيرك من أهل الكلام تقولون : إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفا فكونه خالقا ومبدعا وعادلا ومحسنا ونحو ذلك عندك أمور حادثة متجددة وليست صفة مدح ولا كمال وإن قلت ( المفعولات ليست قائمة به بخلاف ما يقوم به ) قيل لك : هب أن الأمر كذلك لكن ما يحدث بقدرته ومشيئته إما أن يقال : هو متصف به أولا يقال : هو متصف به فإن قيل ( ليس متصفا لا بهذا ولا بهذا وإن قيل ( هو متصف به ) كان متصفا بهذا وهذا
ومعلوم أن المشهور عند أهل الكلام من عامة الطوائف أنهم يقسمون الصفات إلى صفات فعلية وغير فعلية مع قول من يقول منهم : إن الأفعال لا تقوم به فيجعلونه موصوفا بالأفعال كما يقولون : إنه موصوف بأنه خالق ورازق وعندهم هذه أمور كائنة بعد أن لم تكن ولما قال لهم من يقول بتسلسل الحوادث من الفلاسفة وغيرهم : ( الفعل إن كان صفة كمال لزم اتصافه به في الأزل وإن كان صفة نقص امتنع اتصافه به في الأبد ) أجابوا عن ذلك بأن الفعل ليس صفة كمال ولا نقص
الوجه الخامس : احتجاجه بقوله : ( إن الأمة مجمعة على أن صفاته لا تكون إلا صفة كمال ) أضعف من احتجاجه بإجماعهم على تنزيه عن صفة النقص فإن كونه منزها عن صفات النقص مشهور في كلام الناس وأما كون صفاته لا تكون إلا صفات كمال فليس هذا اللفظ مشهورا معروفا عن الأئمة ومن اطلق ذلك منهم فإنما يطلقه على سبيل الإجمال لما استقر بالقلوب من ان الله موصوف بالكمال دون النقص وهذه الإطلاقات لا تدل على دق المسائل ولوقيل لمطلق هذا : ( كونه يفعل أفعالا بنفسه يقدر عليها ويشاؤها هو صفة نقص أو كمال ) ؟ لكان إلى أن يدخل ذلك في صفات الكمال أو يقف عن الجواب أقرب منه إلى أن يجعل ذلك من صفات النقص
الوجه السادس : أن هذا الإجماع حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاما وفعلا يقوم به والآخر لا يمكنه ذلك بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور له ولا مراد أو يكون بائنا عنه - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل موجودين وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقا أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني كما أنا إذا عرضنا على العقل موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقا أحدهما حي عليم قدير والآخر لا حياة له ولا علم ولا قدرة لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والعلم والقدرة صفة كمال به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به التي بها يفعل المفعولات المباينة صفة كمال
والعقلاء متفقون على أن الأعيان المتحركة أو التي تقبل الحركة أكمل من الأعيان التي لا تقبل الحركة كما أنهم متفقون على أن الأعيان الموصوفة بالعلم والقدرة والسمع والبصر أو التي تقبل الاتصاف بذلك أكمل من الأعيان التي لا تتصف بذلك ولا تقبل الاتصاف به
وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات وكان السلف يحتجون بها ويثبتون أن من عبد إلها لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فقد عبد ربا ناقصا معيبا مؤوفا ويثبتون أن هذه صفات كمال فالخالي عنه ناقص
ومن المعلوم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه يثبت للمخلوق فالخالق أحق له وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أحق بتنزيه عنه
ولما أورد من أورد من الملاحدة نفاة الصفات بأن عدم هذه الصفات إنما يكون نقصا إذا كان المحل قابلا لها وإنما يكون عدم البصر عمى وعدم الكلام خرسا وعدم السمع صمما : إذا كان المحل قابلا لذلك كالحيوان فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد فإنه لا يوصف بهذا ولا بهذا - أجيبوا عن هذا بأن ما لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا أعظم نقصا مما يقبلهما ويتصف بأحدهما وإن اتصف بالنقص فالجماد الذي لا يقبل الحياة والسمع والبصر الكلام أعظم نقصا من الحيوان الذي يقبل ذلك وإن كان أعمى أصم أبكم فمن نفى الصفات جعله كالأعمى الأصم الأبكم ومن قال : إنه لا يقبل لا هذا ولا هذا جعله كالجماد الذي هو دون الحيوان الأعمى الأصم الأبكم وهذا بعينه موجود في الأفعال فإن الحركة بالذات مستلزمة للحياة وملزومة لها بخلاف الحركة بالعرض كالحركة القسرية التابعة للقاسر والحركة الطبيعية التي تطلب بها العين العود إلى مركزها لخروجها عن المركز فإن تلك حركة بالعرض والعقلاء متفقون على ما كان من الأعيان قابلا للحركة فهو أشرف مما لا يقبلها وما كان قابلا للحركة بالذات فهو أعلى مما لا يقبلها بالعرض وما كان متحركا بنفسه كان أكمل من الموات الذي تحركه بغيره وقد بسط في غير هذا الموضع
فصل
ونحن نتكلم على هذه الحجة - حجة الكمال والنقصان - كلاما مطلقا لا يختص بنظم الرازي إذ يقول القائل : أنا أصوغها على غير الوجه الذي صاغها عليه الرازي فنقول :
أعلم أن الطوائف المسلمين لهم في هذا الأصل الذي تنبني عليه مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى أربعة أقوال تتفرع إلى ستة وذلك أنهم متنازعون : هل يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال ؟ على قولين مشهورين ومتنازعون في أن الأمور المتجددة الحادثة : هل يمكن تسلسلها ودوامها في الماضي والمستقبل أو في المستقبل دون الماضي أو يجب تناهيها وانقطاعها في الماضي والمستقبل ؟ على ثلاثة أقوال معروفة فصارت الأقوال أربعة :
طائفة تقول : يقوم به ما يتعلق بمشئيته وقدرته ثم هل يقال ما زال كذلك أو يقال : حدث هذا الجنس بعد أن لم يكن ؟ على قولين
وطائفة تقول : لا يقوم به شيء من ذلك ثم هل يمكن دوام ذلك وتسلسله خارجا عنه ؟ على قولين
وكل من الطائفتين تنازعوا : هل يمكن وجود هذه المعاني بدون محل تقوم به ؟ على قولين
فالقائلون من أهل القبلة بجواز تسلسل الحوادث : منهم من قال : تقوم به ومنهم من قال : تحدث لا في محل ومنهم من قال : تحدث في محل غيره
والمانعون لذلك من أهل القبلة : منهم من قال : تقوم له ولها ابتداء ومنهم من قال : بل تحدث قائمة في غيره ولها ابتداء ومنم من قال : بل تحدث لا في محل ولا ابتداء
وقد ذكرنا حجة المانعين من قيام المقدرورات والمرادات به وكلام من ناقضها ونحن نذكر حجة المانعين من التسلسل في الآثار وكلام بعض من عارضهم من أهل القبلة وهذا موجود في عامة الطوائف حتى في الطائفة الواحدة فإن أبا الثناء الأرموي قد ذكر في لباب الأربعين لأبي عبد الله الرازي من الاعتراضات على ذلك ما يناسب هذا الوضع وتابع في ذلك طوائف من النظار كأبي الحسن الآمدي وغيره بل نفس الرازي قد ذكر في مواضع من كتبه نقض ما ذكره في الأربعين ولم يجب عن ذلك كما قد حكينا كلامه في موضع آخر وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي في إفساد هذه الحجج التي ذكرها في تناهي الحوادث بأمور لم يذكر عنها جوابا
حجج الرازي على حدوث العالم ومعارضة الأموري له
وذلك أن أبا عبد الله الرازي ذكر في الأربعين في مسألة حدوث العالم من الحجج على حدوث الأجسام أو العالم ما لم يذكره في عامة كتبه
البرهان الأول
فذكر خمس حجج : الأولى : أنه لو كانت الأجسام قديمة لكانت إما متحركة أو ساكنة والأول يستلزم حوادث لا أول لها
امتناع حوادث لا أول لها من وجوه
واحتج على انتفاء ذلك بستة أوجه :
( الأول والتعليق عليه )
أن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير وماهية الأزل تنفيها فامتنعت أزلية الحركة
فعارضه أبو الثناء الأرموي بأنه : لقائل أن يقول : كون ماهية الحركة مركبة من جزء سابق وجزء لاحق لا ينافي دوامها في ضمن أفرادها المتعاقبة لا إلى أول وهو المعني بكونها أزلية
قلت : ونكتة هذا الاعتراض أن يقال : إن المستدل قال : ماهية الحركة تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير فهل المراد بالغير : أن تكون الحركة مسبوقة بما ليس بحركة أو أن يكون بعض أجزائها سابقا لبعض ؟ أما الأول فباطل وهو الذي يشعر به قوله : ( ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ) فإن ذلك قد يفهم منه أم ماهيتها تقضي أن تكوم مسبوقة بغير الحركة ولو كان الأمر كذلك لا متنع كون المسبوق بغيره أزليا لكن لا يصلح أن يريد إلا الثاني وهو أن ماهيتها تقتضي تقديم بعض أجزاها على بعض وحينئذ فقد منعوه المقدمة الثانية وهي قولهم : ( إن ماهية الأزل تنفي ذلك ) وقالوا : لا نسلم أن ما كان كذلك لا يكون أزليا بل هذا رأس المسألة ولا سيما وهو - وجماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل - يسلمون أن ما كان كذلك فإنه يصلح أن يكون أبديا
ومعلوم أن ماهية الحركة تقتضي أن يكون بعضها متأخرا عن بعض ولا يمتنع مع ذلك وجود ما لا انقضاء له من الحركات قالوا : فكذلك لا يمتنع وجود ما لا ابتداء له منها كما لم يمنتع وجود ما لا أول لوجوده وهو القديم الواجب الوجود مع إمكان تقدير حركات وأزمنة لا ابتداء لها مقارنة لوجوده والكلام في انتهاء المحقق كالكلام في انتهاء المقدر
الثاني والتعليق عليه
قال الرازي : الوجه الثاني : ( لو كانت أدوار الفلك متعاقبة لا إلى أول كان قبل كل حركة عدم لا إلى أول وتكل العدمات مجتمعة في الأزل وليس معها شيء من الوجودات وإلا لكان السابق مقارنا للمسبوق فلمجموع الوجودات أول )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع لأنه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها فيه لوجود الحركة التي هي عدمها ضرورة تعاقب تلك الحركات لا إلى أول وإن عنيت به أنه لا ترتيب في بدايات تلك العدمات كما في بدايات الوجودات فلا يلزم من اجتماع بعض الوجودات معها المحذور )
قلت : مضمون هذا : أن عدم كل حركة ينتهي بوجودها فليست الأعدام متساوية في النهايات فلا تكون مجتمعة في شيء من الأوقات لأنه في كل وقت يثبت بعضها دون بعض لوجود حادث يزول به عدمه ولكن لا بداية لكل عدم منها فإن ما حدث لم يزل معدوما قبل حدوثه بخلاف الحركات فإن لكل بداية وحينئذ فلا يمتنع أن يقارن الوجود بعضها دون بعض كما يقارن الوجود الباقي الأزلي عدم كل ما سواه فالمستدل يقول : عدم كل حادث ثابت في الأزل وليس الجنس حادثا حتى يكون مسبوقا بعدم الجنس وإنما الحادث أفراده كما في دوامه في الأبد فليس لعدم المجموع تحقق في الأزل والعدم السابق لأفراد الحركات بمنزلة العدم اللاحق لها ولا يقال : إن تلك الإعدام مجتمعة في الأبد
والفرق بين عدم المجموع وعدم كل فرد فرد : فرق ظاهر والمستدل يقول : عدم كل واحد أزلي فمجموع الأعدام أزلي وهذا بمنزلة أن يقول : كل واحد من الأفراد حادث فالمجموع حادث أو كل حادث فله بداية فالمجموع له بداية وبمنزلة أن يقول : كل حادث فله انقضاء فمجموع الحوادث له انقضاء أو كل واحد مسبوق بغيره فالمجموع مسبوق بغيره
فإذا قال المتكلم عن المستدل : قول المعترض : ( إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع لأنه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها فيه ) ليس بمستقيم فإنها مجتمعة في الأزل
قال المتكلم عن المعترض : ليس الأزل ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم كما أن الأبد ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم ولكن معنى كون الشيء أزليا : أنه ما زال موجودا أو ليس لوجوده ابتداء ومعنى كونه أبديا أنه لا يزال موجودا أو ليس لوجوده انتهاء
ومعنى كون عدم الشيء أزليا : أنه ما زال معدوما حتى وجد وإن كان عدمه مقارنا لوجود غيره
وقائل ذلك يقول : لا يتصور اجتماع هذه العدمات في وقت من الأوقات أصلا بل ما من حال إلا فيه عدم بعضها ووجود غيره فقول القائل : ( إن العدمات مجتمعة في الأزل ) فرع إمكان اجتماع هذه الأعدام واجتماع هذه الأعدام ممتنع وسيأتي تمام الكلام على ذلك بعد هذا
الثالث والتعليق عليه
قال الرازي : ( الثالث ) : إنه إن لم يحصل شيء من الحركات في الأزل أو حصل ولم يكن مسبوقا بغيرها - فلكلها أول وإن كان مسبوقا بغيرها كان الأزل مسبوقا بالغير ) قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : ليس شيء من الحركات الجزئية أزليا بل كل واحدة منها حادثة وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها فلم يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول )
قلت : قول المستدل : ( إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيرها فلها أول ) يريد به : ليس مسبوقا بحركة أخرى فإن الحركة المعينة التي لم تسبقها حركة أخرى تكون لها إبتداء فلا تكون أزلية إذ الأزلي لا يكون إلا الجنس
أما الحركة المعينة إذا قدرت غير مسبوقة بحركة كانت حادثة كما أنها إذا كانت مسبوقة كانت حادثة ولم يرد بقوله : ( إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيره فلها أول ) أي لم يكن مسبوقا بغير الحركات فإن ما كان في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيره لا يكون له أول فلو أراد بالغير غير الحركات لكان الكلام متهافتا فإن ما كان أزليا لا يكون مسبوقا بغيره فالجنس عند المنازع أزلي وليس مسبوقا بغيره والواحد من الجنس ليس بأزلي وهو مسبوق بغيره وما قدر أزليا لم يكن مسبوقا بغيره سواء كان جنسا أو شخصا لكن إذا قدر أزليا - وليس مسبوقا بغيره - فكيف يكون له أول ؟ ولكن إذا قدر مسبوقا بالغير كان له أول فالمسبوق بغير هو الذي له أول وأما ما ليس مسبوقا بغيره فكيف يكون له أول ؟
ومع هذا فيقال له : تقدير كون الحركة المعينة في الأزل ومسبوقة بأخرى جمع بين النقيضين فهو ممتنع لذاته والممتنع لذاته يلزمه حكم ممتنع فلا يضر ما لزم على هذا التقدير وأما على التقدير الآخر - وهو حصول شيء منها في الأزل مع كونه مسبوقا - فقد أجابوا الأرموي : بأن وجود الحركة المعينة في الأزل محال أيضا وإذا كان ذلك ممتنعا جاز أن يلزمه حكم ممتنع وهو كون الأزلي مسبوقا بالغير وإنما الأزلي هو الجنس وليس مسبوقا بالغير
وقد اعترض بعضهم على هذا الاعتراض بأن قال : فحيئنذ ليس شيء من الحركات حاصلا في الأزل إذ لو حصل في الأزل لا متنع زواله وما هذا شأنه يمتنع كونا أزليا
وجواب هذا الاعتراض أن يقال : ليس شيء من الحركات المعينة في الأزل إذ ليس شيء منها لا أول له بل كل واحد منها له أول لكن جنسها : هل له أول ؟ وهذا غير ذلك والمنازع يسلم أن ليس شيء من الحركات المعينة أزليا وإنما نزاعه في غير ذلك كما أنه يسلم أنه ليس شيء من الحركات المعينة أبديا مع أنه يقول : جنسها أبدي
الرابع والتعليق عليه
قال الرازي : الوجه الرابع : ( كلما تحرك زحل دورة تحركت الشمس ثلاثين فعدد دورات زحل أقل من عدد دورات الشمس والاقل من غير متناه والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه فعددهما متناه )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : تضعيف الواحد إلى غير النهاية أقل من تضعيف الاثنين كذلك مع كونهما غير متناهيين )
قلت : هذا الذي ذكره الأرموي معارضة ليس فيه منع شيء من مقدمات الدليل ولا حل له ثم قد يقول المستدل : الفرق بين مراتب الأعداد وأعداد الدورات من وجهين
أحدهما : أن مراتب الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج وإنما يقدرها الذهن تقديرا كما يقدر الأشكال المجردة يقدر شكلا مستديرا وشكلا أكبر منه وشكلا أكبر من الآخر وهلم جرا وتلك الأشكال التي يقدرها الذهن لا وجود لها في الخارج وكذلك الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج فالكم المتصل أو المنفصل إذا أخذ مجردا عن الموصوف به لم يكن إلا في الذهن وكذلك الجسم التعليمي - وهو أن يقدر طول وعرض وعمق مجرد عن الموصوف به - وإذا كان كذلك لم يلزم من إمكان تقدير ذلك في الذهن إمكان وجوده في الخارج فإن الذهن تقر فيه الممتنعات كاجتماع النقيضين والضدين فيقدر فيه كون الشيء موجودا معدوما وكون الشيء متحركا ساكنا ويقدر فيه أن كون الشيء لا موجودا ولا معدوما ولا واجبا ولا ممكنا ولا ممتنعا إلا غير ذلك من التقديرات الذهنية التي لا تسلتزم إمكان ذلك في الخارج ولهذا يمكن تقدير خط لا يتناهى وسطح لا يتناهى وتقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية وأبعاد لا نهاية لها ولا يلزم من إمكان تقدير ما لا نهاية له في الذهن إمكان ذلك في الخارج والمنازعون يسلمون امتناع أجسام لا يتناهى قدرها وأبعاد لا تتناهى وعلل ومعلولات لا تتناهى مع إمكان تقدير ذلك في الذهن
فإذا قيل لهم : كذلك تقدير أعداد لا تتناهى أو تقدير مراتب أعداد لا تتناهى بعضها أفضل من بعض إذا قدر في الذهن لم يدل ذلك على إمكان وجوده في الخارج - بطلت معارضتهم وكان من عارض تقدير الأعداد التي لا تتناهى بتقدير الأشكال التي لا تتناهى وتقدير التفاضل في هذا كالتفاضل في هذا : أولى ممن عارض تفاضل الدورات بتفاضل مراتب الأعداد فإنه إذا قيل : تضعيف الواحد إلى غير نهاية أقل من تضعيف الاثنين قيل : وإذا فرض خط عرضه بقدر الكف لا يتناهى طولا وخط عرضه بقدر الذراع لا يتناهى فالذي بقدر الكف أقل وإذا فرض أجسام مستديرة كل منها بقدر رأس الإنسان لا تتناهى وأخرى كل منها بقدر الفلك لا تتناهى كانت مقادير تلك أصغر مع أن الجميع لا يتناهى كان معلوما أن هذه المعارضة أعدل وأولى بالقبول من تلك المعارضة
الوجه الثاني : إن كان تضعيف الأعداد ومراتبها وسائر المقادير إلى غير نهاية كان هذا التضعيف إنما هو في الذهن فكل ما يتصوره الذهن من ذلك ويقدره فهو يتناهى والذهن لا يزال يضعف حتى يعجز وهكذا أذا نطق بأسماء الأعداد أو بألفاظ فلا يزال ينطق حتى يعجز وإن قدر أنه لا يعجز بل لا يزال الذهن يقدر اللسان ينطق فإن جميع ذلك داخل في الوجود الذهني واللفظي والجناني واللساني وكل ما يدخل من ذلك في الوجود فهو متناه وله مبدأ محدود فله أول ابتدء منه وهو من ذهن الإنسان ولفظه وكل ما يوجد منه متعاقبا فإنه منتهاه لكن هذا يدل على جواز ما لا نهاية له في المستقبل وأن الشيء قد يكون له بداية ولا يكون له نهاية فإن ما يخطر بالأذهان وينطق به اللسان له بداية ويمكن وجود ما لا يتناهى منه ومن هذا الباب أنفاس أهل الجنة وألفاظهم وحركاتهم فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ومن هذا الباب تسبيح الملائكة دائما
فهذا المذكور من تضعيف الأعداد ذهنا ولفظا يدل على وجود ما لا يتناهى في المستقبل إذا كان له بداية محدودة وأما التفاضل فيه - سواء أريد به تضعيف الذهن أو اللسان أو جميعهما - فمعلوم أنه إذا قيل : ضعف الواحد وضعف ضعفه وضعف ضعف ضعفه وهلم جرا وقيل : ضعف الاثنين وضعف ضعفهما وضعف ضعف الضعف وهلم جرا فإن أريد بكون تضعيف الواحد أقل من تضعيف الاثنين أن ما وجد من نطق اللسان بالتضعيف أو ما يخطر بالقلب من التضعيف أقل فهذا ممنوع إذا قدر التساوي في المبدأ والحركة وإن قدر التفاضل فأكثرهما أسبقهما مبدأ وأقواهما حركة وحينئذ فقد يكون تضعيف الواحد هو الأكثر
وإن أريد بذلك أن مسمى أحد اللفظين أكثر مما في كل مرتبة من مراتب التضعيف فإذا ضعف الواحد خمس مرات كان اثنين وثلاثين وإذا ضعف الاثنان خمس مرات كان أربعا وستين مرة فهذه الأربع والستون ليست معدودا موجودا في الخارج ولا في الذهن حتى يقال : وجد التفاضل فيما لا يتناهى وإنما نطق بلفظ أعداد متناهية والمعدودات ليست موجودة لا في الذهن ولا في الخارج فلو قدر وجود ألفاظ الأعداد من هذه المرتبة ومن هذه المرتبة في الذهن واللسان لم يلزم إذا قدر أنهما غير متناهيين أن يكونا متفاضلين مع استوائهما في المبدأ والحركة
وإن أراد أن مسمى هذا لو وجد لكان أكبر من مسمى هذا
فيقال : نعم ولكن لم قلت : إن وجود ذلك المسمى ممكن ؟ وهذا كما لو قال القائل : ( ما لا يتناهى أقدره في ذهني وأتكلم بلفظه ) لم يكن في ذلك ما يقتضي أنه يمكن وجوده في الخارج كما يقدر ذهنا ولسانا ما لا يتناهى من الأجسام والأبعاد والأشكال فهذا هذا فهذا مما يجيب به المستدل عن المعارضة بمراتب الأعداد
وهذا الفرق - وإن كما قد أوردناه - فقد ذكره غير واحد من النظار المفرقين بين العدد والحركات من متكلمي المسلمين وغيرهم وذكر هؤلاء هذا الفرق المعروف عند من يوافق المستدل على هذا النقض هو أن تضعيف العدد ليس أمرا موجودا بل مقدرا بخلاف ما وجد من الحركات
وهكذا فرق من فرق بين الماضي والمستقبل بأن الماضي قد وجد بخلاف المستقبل والممتنع وجود ما لا يتناهى لا تقدير ما لا يتناهى
ومن يوافق المعترض يقول : الماضي أيضا قد عدم فليست أفراده موجودة معا والمحذور وجود ما لا يتناهى فيما كان مجتمعا بل مجتمعا منتظما بعضه ببعض بحيث يكون له ترتيب طبيعي أو وضعي
وهذا فرق ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة ولكن ابن رشد يقول : إن مذهب الفلاسفة الفرق بين المجتمع وغير المجتمع سواء كان المجتمع له ترتيب أو ليس له ترتيب وإنما النزاع بينهم في النفوس البشرية المفارقة : هل هي موجودات متميزة غير متناهية أم لا ؟
ويقول هؤلاء : لا نسلم أن ما كان وعدم أو ما سيكون إذا قدر أن بعضه أقل من بعض يجب أن يكون متناهيا والمؤمنون بأن نعيم الجنة دائم لا ينقضي من المسلمين وأهل الكتاب يسلمون ذلك ولم ينازع فيه من أهل الكلام إلا الجهم ومن وافقه على فناء النعيم وأبو الهذيل القائل بفناء الحركات وهما قولان شاذان قد اتفق السلف والأئمة وجماهير المسلمين على تضليل القائلين بهما ومن أعظم ما أنكروه السلف والأئمة على الجهمية : قولهم بفناء الجنة
وقال الأشعري في كتاب المقالات : وأختلفوا أيضا في معلومات الله عز و جل ومقدوراته : هل لها كل أو لا كل لها ؟ على مقالتين فقال أبو الهذيل : إن لمعلومات الله كلا وجميعا ولما يقدر الله عليه : كل وجميع وإن أهل الجنة تنقطع حركاتهم يسكنون سكونا دائما وقال أكثر أهل الإسلام : ليس لمعلومات الله ولا لما يقدر عليه كل ولا غاية واختلفوا أيضا : هل لأفعال الله سبحانه آخر أم لا آخر لها ؟ على مقالتين فقال الجهم بن صفوان : إن لمعلومات الله ومقدوراته غاية ونهاية ولأفعاله آخر وإن الجنة والنار تفنيان ويفنى أهلهما حتى يكون الله آخر وإنهما لا تزالان باقيتين وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ليس لذلك آخر ولا لمعلومات الله ومقدوراته غاية ولا نهاية
وقد ذكر بعض الناس بين الماضي والمستقبل فرقا بمثال ذكره كما ذكره صاحب الإرشاد وغيره وهو أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل : لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده درهما وهذا كلام صحيح والماضي بمنزلة لا أعطيك درهما إلا أعطيتك قبله درهما وهذاكلام متناقض
لكن هذا المثال ليس بمطابق لأن قوله : ( لا أعطيك ) نفي للحاضر والمستقبل ليس نفيا للماضي فإذا قال ( لا أعطيك هذه الساعة أو بعدها شيئا إلا أعطيتك قبله شيئا ) اقتضى أن لا يحدث فعلا الآن حتى يحدث فعلا في الزمن الماضي وهذا ممتنع أو بمنزلة أن يقول : ( لا أفعل حتى أفعل ) وهذا جمع بين النقيضين وإنما مثاله أن يقول : ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله درهما فكلاهما ماض فإذا قال القائل : ( ما يحدث شيء إلا ويحدث بعده شيء ) كان مثاله أن يقول : ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول لا يحدث بعده شيء ) كان مثاله أن يقول : ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول ( لا يحدث في المستقبل شيء إلا حدث قبله شيء ) وكل ما له ابتداد وانتهاء كعمر العبد يمتنع أن يكون فيه عطاء لا انتهاء له أو عطاء لا ابتداء له وإنما الكلام فيما لم يزل ولا يزال
والناس لهم في إمكان وجود ما لا يتناهى أقوال :
أحدها : امتناع ذلك مطلقا في الماضي والمستقبل والحاضر في كل شيء وهذا قول الجهم وأبي الهذيل
والثاني : جواز ذلك حتى في الأبعاد التي لا تتناهى وهو قول طائفة من فلاسفة الهند وطائفة من نظار أهل الملة وغيرهم يقولون : إن الرب له قدر لا يتناهى ثم من هؤلاء من يقول : لا يتناهى من جميع الجهات ومنهم من يقول : يتناهى من جهة العرش فقط وأما من سائر الجهات فإنه لا يتناهى
وقد ذكر الأشعري في المقالات هذه الأقوال وغيرها عن طوائف وممن ذكر ذلك : الكرامية وطائفة من أتباع الأئمة ك القاضي أبي يعلى وغيره وهؤلاء منهم من يقول بتناهي الحوادث في الماضي مع قوله بوجود ما لا يتناهى من المقدار في الحاضر
وكذلك معمر وأتباعه من أصحاب المعاني يقولون بوجود معان لا تتناهى في آن واحد مع قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فصار بعض الناس يقول بجواز التناهي في الحوادث الماضية والأبعاد ومنهم من يقول بجواز ذلك في الأبعاد دون الحوادث فهذه ثلاثة أقوال
الرابع : قول من يقول : لا يجوز ذلك فيما دخل في الوجود لا في الماضي ولا في الحاضر ويجوز فيما لم يوجد بعد وهو المستقبلات وهذا قول كثير من النظار
الخامس : قول من يقول : يجوز ذلك في الماضي ولامستقبل ولا يجوز فيما يوجد في آن واحد لا في الأبعاد ولا الأنفس ولا المعاني وهو قول ابن رشد وحكاه عن الفلاسفة وزعم أن النفوس البشرية واحدة بعد المفارقة كما زعم أنها كانت كذلك قبل المفارقة
السادس : قول من يقول : ما كان مجتمعا مترتبا فإنه يجب تناهيه كالعلل والأجسام فتلك لها ترتيب طبيعي وهذه لها ترتيب وضعي وكلها موجودة في آن واحد وأما ما لم يكن له ترتيب - كالأنفس - أو كان له ترتيب ولكن يوجد متعاقبا - كالحركات - فلا يمتنع فيه وجود ما لا يتناهى وهذا قول ابن سينا وهو المحكي عندهم عن أرسطو وأتباعه لكن ابن رشد ذكر أن هذا القول لم يقله أحد من الفلاسفة إلا ابن سينا
وأما وجود علل ومعلولات لا تتناهى : فهذا مما لم يجوزه أحد من العقلاء
إذا عرف هذا تكلمنا على الاحتجاج بتفاضل الدورات التي لا تتناهى فإن الشمس تقطع الفلك في السنة مرة والقمر اثنتي عشرة مرة وهذا مشهود والمشتري في كل اثنتي عشرة سنة مرة وزحل في كل ثلاثين سنة مرة فتكون دورات القمر بقدر دورات زحل ثلاثمائة وستين مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فتكون دورات هذا أضعاف دورات هذا وكلاهما لا يتناهى عند القائلين بذلك والأقل من غير المتناهي متنهاه والزائد على المتناهي متناه وقد عرف أن المعارضة بالعدد باطلة
وقد يقال : هذا من جنس تطبيق الحوادث الماضية إلى اليوم بالحوادث الماضية إلى أمس فإن كلاهما لا يتناهى مع التفاضل وهو الوجه الخامس الذي سيأتي لكن بينهما فروق مؤثرة :
منها : أنه هناك هذه الحوادث هي تلك بعينها لكن زادت حوادث اليوم فغاية تلك : أن يكون ما لا إبتداء له من الحوادث لا يزال في زيادة شيئا بعد شيء وأما هنا : فهذه الدورات ليست تلك
ومنها : أنه هناك فرض انطباق اليوم على الأمس مع اشتراكهما في عدم البداية وهذا التطبيق ممتنع فإن حقيقته : أنا نقدر تماثلهما وتفاضلهما فإنه إذا طبق أحدهما على الآخر لزم التماثل مع التفاضل لأنهما استويا في عدم البداية وفي حد النهاية وهما متفاضلان وهذا تقدير ممتنع بخلاف الدورتين فإنهما هنا مشتركان في عدم البداية وفي حد النهاية فالتفاضل هنا حاصل مع الاشتراك في عدم النهاية عند هؤلاء فهذا لا يحتاج إلى فرض وتقدير حتى يقال : هو تقدير ممتنع بخلاف ذلك ولكن التقابل يوافق ذلك التقابل في أن كليهما قد عدمت فيه الحوادث الماضية ويوافقه في أن كليهما قد قدر فيه انتهاء الحوادث من أحد الجانبين فهما متفقان من هذين الوجهين مفترقان من ذينك الوجهين
وحينئذ فيقال : الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية لا يجعلون لها آخرا تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين بل يلزمهم قطعا أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلة فدورات زحل عنهم لم تزل ولا تزال وكذلك دورات الشمس والقمر مع أن دورات القمر دورات بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا أقل من هذا بقدر متناه وهذا أزيد من هذا بقدر متناه فإذا كان الأقول من غيره متناهيا لزم أن يكون كل من الدورات متناهيا
وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء وأنه محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأنه ينشق وينفطر فتبطل حركة الشمس والقمر وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية
وهذا الدليل إنما يدل على أن حركته يمتنع أن تكون غير متناهية ولا يلزم إذا وجب تناهي حركة جسم معين أن يجب تناهي جنس الحوادث إلا إذا كان الدليل الذي دل على تناهي حرك المعين يدل على تناهي الجنس وليس الأمر فإن هذا الدليل لا يتناول إلا الفلك وهو دليل على حدوثه وامتناع أن تكون حركته بلا بداية ولا نهاية فهو يدل على فساد مذهب أرسطو وابن سينا وأمثالهما ممن يقول بأن الفلك قديم أزلي فهذا حق متفق عليه بين أهل الملل وعامة العقلاء وهو قول جمهور الفلاسفة ولم يخالف في ذلك إلا شرمذة قليلة ولهذا كان الدليل على حدوثه قويا والاعتراض الذي اعترض به الأرموي ضعيفا بخلاف الوجوه الدالة على امتناع جنس دوام الحوادث فإن أدلتها ضعيفة واعتراضات غيره عليها قوية
وهذا مما يبين أن ما جاءت به الرسل هو الحق وأن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه وما يدخل في العقل وليس منه كالذين جعلوا من السمع : أن الرب لم يزل معطلا عن الكلام والفعل لا يتكلم بمشيئته ولا يفعل بمشيئته بل ولا يمكنه عندهم أنه لا يزال يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته
فجعل هؤلاء هذا قول الرسل وليس هو قولهم وجعل هؤلاء من المعقول : أنه يمتنع دوام كونه قادرا على الكلام والفعل بمشيئته
وعارضهم آخرون : فادعوا أن الواحد من مخلوقاته كالفلك أزلي معه وأنه لم يزل ولا تزال حوادثه غير متناهية فهذه الدورات لا تتناهى وهذه لا تتناهى مع أن هذه بقدر هذه مرات متناهية وكون الشيئين لا يتناهيان أزلا وأبدا مع كون أحدهما بقدر الآخر مرات مع كونه مفعولا معلوما مساويا لفاعله في الزمن - هو الذين أنفردوا به وأما الفاعلية فيما لا يتناهى ابتداء وانتهاء فهو الذي ذكر في هذا الوجه
وقد يقال : يلزم مثل هذا في كلمات الله وإرادته التي كل منها غير متناه أزلا وأبدا وإن كان أحدهما أكثر من الآخر وقد يذكر هنا أن مقدرار القمر أصغر من مقدار الشمس فحركته وإن زادت في الدورات فقد نقصت في المقدار لكن هذا لا ينفع إلا إذا عرف تساوي مقدار جميع حركات الكواكب التي كل منها غير متناه وإلا لزم التفاضل فيما لا يتناهى فإذا كان تساويها باطلا كان هذا السؤال باطلا
الخامس والتعليق عليه
قال الرازي : الوجه الخامس : ( نقدر أن الأدوار الماضية من اليوم لا إلى أول جملة ومن الأمس كذلك ثم نطبق الطرف المتناهي من إحدى الجملتين في الوهم على الطرف المتناهي من الأخرى ونقابل كل فرد إحداهما بنظيره من الأخرى فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره وإن قصرت كانت متناهية والأخرى زائدة بقدر متناه فهي متناهية أيضا )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : الجملة الناقصة لا تنقطع من طرف المبدأ وإنما يكون الشيء مع غيره كهو لا مع غيره إذا كان أفراد الزائد مثل أفراد الناقص كما في مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى ومن العشرة إلى ما لا يتناهى إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى )
قلت : المعترض لم يبين فساد الحجة بل عارضها معارضة وغيره قد يمنع كلتا المقدمتين أو إحداهما فالمعترض يقول : ( وإن قصرت كانت متناهية ) فنقول : إنما تكون متناهية لو كانت منقطعة من طرف المبدأ فأما مع عدم انقطاعها فلا نسلم تناهيها كما أن المستقبل وتضعيف العدد لما لم يكن منقطعا من جهة المنتهى لم يكن متناهيا وإن أمكن فيه مثل هذه المقابلة
وأما غيره فيجيب بثلاثة أجوبة :
أحدها : قوله : ( فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره ) فنقول : هذا إنما يلزم إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى ) والتطبيق في المعدوم ممتنع كما في تطبيق مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى ومن العشرة إلى ما لا يتناهى ومن المائة إلى ما لا يتناهى فإنا نعلم أن عدد تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المائة وعدد تضعيف المائة أقل من تضعيف الألف والجميع لا يتناهى وهذه الحجة من جنس حجة مقابلة دورات أحد الكوكبين بدورات الآخر لكن هناك الدورات وجدت وعدمت وهنا قدرت الأزمنة والحركات الماضية ناقصه وزائدة
ومما يجاب به عن هذه الحجة - وهي أشهر حججهم - أن يقال : لا نسلم إمكان التطبيق فإنه إذا كان كلاهما لا بداية له وأحدهما انتهى أمس والآخر انتهى اليوم : كان تطبيق الحوادث إلى اليوم على الحوادث إلى الأمس ممتنعا لذاته فإن الحوادث إلى اليوم أكثر فكيف تكون إحداهما مطابقة للأخرى ؟ فلما كان التطبيق ممتنعا جاز أن يلزمه حكم ممتنع
أيضا فيقال : نحن نسلم أنها متناهية من الجانب المتناهي لكن لم قلت : إذا كانا متناهيين من أحد الجانبيين كانا متناهيين من الجانب الآخر ؟ وهذا أول المسألة والتفاضل وقع من الجانب المتناهي لا من الجانب الذي ليس بمتناه فلم يقع فيما لا يتناهى تفاضل
السادس والتعليق عليه
قال الرازي : السادس : ( لو كانت الأدوار الماضية غير المتناهية كان وجود اليوم موقوفا على إنقضاء ما لا نهاية له والموقوف على المحال محال )
قال الأرموي : ولقائل أن يقول : انقضاء ما لا نهاية له محال وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه نزاع
قلت : هنا نزاع لفظي ونزاع معنوي أما اللفظي فهو أنه إذا قدر تسلسل الحوادث في الماضي وعدم إنقطاعها وأنها لا أول لها فهل يعبر عن هذا بأن يقال : لا نهاية لها أو يقال : لا بداية لها ولا يقال لا نهاية لها ؟ فالمستدل عبر بأنه لا نهاية لها والمعترض أنكر ذلك وهذا نزاع لفظي وذلك أنه يقال : هذا غير متناه بمعنى أنه ليس له حد محدود وقد يقال : ( غير متناه ) بمعنى أنه لا آخر له ويقال ( هذا له نهاية ) أي : له آخر و ( هذا لا نهاية له ) أي : لا آخر له والحوادث الماضية إذا قدر أنها لم تزل فإنه يقال : ( لا نهاية لها ) بالمعنى الأول وأما بالمعنى الثاني : فقد انقضت وانصرمت ولها آخر
وهذه الحجة اعتمد عليها أكثر المتكلمين كـ أبي المعالي ومن قبله وبعده من المعتزلة والأشعرية وذكروا أنه اعتمد عليها يحيى النحوي وغيره من المتقدمين وظنوا أن ما لا يتناهى يمتنع أن يكون منقضيا منصرما فإن ما أنقضى وانصرم فقد تناهى فكيف يقال : إنه لا نهاية له ؟ واشتبه عليهم لفظ ( النهاية ) لما فيه من الإجمال والاشتباه ) فإن الماضي له آخر انتهى إليه فهو متناه بهذا الاعتبار بلا نزاع وبهذا المعنى يقال : إنه انصرم وانقضى وفرغ ونفد وأما بالمعنى المتنازع فيه فهو أنه لا بداية له : أي لم تزل آحاده متعاقبة
وأما النزاع المعنوي فهو أنه : هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي مم جهة مبدئه أو لا ؟ ولا ريب أن المستدل لم يذكر دليلا على امتناع انقضاء ذلك لكن أخذ لفظ ( ما لا يتناهى ) ولفظ ( ما لا يتناهى ) فيه إجمال فقد يعني به ما لا يتناهى في المستقبل من جهة آخره فإذا قيل : ( إن هذا ينقضي ) كان ذلك جمعا بين النقيضين وقد يعني به ما لا بداية له وهو ينازع في إمكان ذلك لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية وكأنه يقول : ما له نهاية فلا بد له من بداية ومنازعوه يقولون : هذا مسلم في الأشخاص فكل شخص ينتهي فلا بد له من مبدأ إذ لو لم يكن له مبدأ لكان قديما وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي وينازعونه في النوع ويقولون : يمكن أن يقال : إن الله لم يزل يفعل شيئا بعد شيء
وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي على إفساد هذه الحجة التي ذكرها ههنا على تناهي الحوادث بكلام لم يذكر عنه جوابا
قال الرازي : وإن كان الجسم في الأزل ساكنا كان ذلك ممتنعا ( لأن ) السكون وجودي وكل وجودي أزلي فإنه يمتنع زواله
والمنازع نازعه في كون السكون وجوديا ولم ينازعه في أن الوجود الأزلي يمتنع زواله وقد قرر ذلك الرازي بأن القديم إما واجب بذاته أو ممكن يكون مؤثرة بذاته سواء كان تأثيره بنفسه أو بشرط لازم له ولا يحتاج إلى هذا بل يقال : القديم إن كان واجبا بنفسه امتنع عدمه وإن لم يكن كذلك فالمقتضى له - سواء سمى موجبا أو مختارا - إما أن يتوقف اقتضاؤه له على شرط محدث أو لا والثاني ممتنع فإن القديم لا يتوقف على شرط محدث إذ لو توقف عليه لكان القديم مع المحدث أو بعده وإذا لم يتوقف على شرط محدث لزم ان يكون قد وجد المقتضى التام المستلزم له في الأزل وحينئذ فيجب دوامه بدوام المقتضى التام ثم كون القديم لا يكون مقتضية له اختيار : فيه كلام ونزاع ليس هذا موضعه والمقصود هنا : أن منازعه نازعه في كون السكون وجوديا
وقد احتج عليه الرازي بأن ( تبدل حركة الجسم الواحد بالسكون وبالعكس يقتضي كون أحدهما وجوديا لأن رفع العدم ثبوت فيكون الآخر وجوديا لأن الحركة هي : الحصول في حيز مسبوقا بالحصول في الآخر والسكون هو : الحصول في حيز مسبوقا بالحصول فيه فاختلافهما إنما هو بالمسبوقية بالغير وإنها وصف عرضي لا يمنع اتحاد الماهية فيلزم كونهما وجوديين )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين أو تقابل العدم والملكة والبديهة حاكمة باختلاف الضدين في تمام الماهية وكذا العدم والملكة وايضا المسبوقية وصف عرضي لما به الاشتراك والوصف العرضي لما به الاشتراك يكون ذاتيا للماهية المركبة منهما )
قلت : مضمون ذلك أن الرازي احتج بأن السكون من جنس الحركة وإنما يختلفان في كون أحدهما مسبوقا بالغير وهذا اختلاف في وصف عرضي لا يمنع التماثل في الحقيقة فمنعه الأرموي بمقدمتين بل أبطل الأولى بأن المتقابلين تقابل الضدين - كالسواد والبياض والحلاوة والمرارة ونحو ذلك - هما مختلفان في الحقيقة وكذا المتقابلان تقابل العدم والملكة - كالعمى والبصر والحياة والموت والعلم والجهل ونحو ذلك - والحركة مع السكون : إما من هذا وإما من هذا فكيف تجعل حقيقة أحدهما مماثلة لحقيقة الآخر وأنهما لا يختلفان إلا بوصف عرضي ؟
وإيضاح هذا : أن الحركة ليست من جنس الحصول المشترك بينها وبين السكون فإن كون الشي في هذا الحيز وفي هذا الحيز معقول مع قطع النظر عن كونه متحركا فإنه إذا قدر أنه سكن في الحيز الثاني كان هذا الحصول من جنس ذلك الحصول وأما نفس حركته : فأمر زائد على مطلق الحصول المشترك ومنع الثانية وجعل سند منعه : أن قول القائل : ( المسبوقية وصف عرضي ) إن عنى أنها ليست ذاتية : فلا دليل على ذلك وإن عنى أنه عرضية لما اشتركا فيه : فالعرض لما به الاشتراك قد يكون ذاتيا للحقيقة المركبة من المشترك والمميز كالناطقية فإنها تعرض للحيوانية ليست ذاتية لها ثم أنها ذاتية للإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية
و الرازي قد يمكنه أن يجيب عن هذا بأن كون هذا مسبوقا بهذا إنما هو أمر إضافي أي هو متأخر عنه مثل هذا لا يكون من الصفات الذاتية كالحركتين المتماثلتين الثانية مع الأولى فإنهما إذا كانت متماثلتين لم يجز أن يجعل كون إحداهما مسبوقة بالغير دون الاخرى من الصفات الذاتية المفرقة بينهما
ولقائل أن يقول : الحجة والاعتراض مبني على أن الصفات اللازمة للحقيقة تنقسم إلى ذاتي وعرضي كما يقوله من يقوله من أهل المنطق فإن تقسيم الصفات اللازمة للحقيقة إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة وما هو عرضي خارج عنها : قول لا يقوم عليه دليل بل الدليل يقوم على نقيضه ولهذا لما لم يكن في نفس الأمر بينهما فرق لم يحدد المفرقون بينهما حدا بفصل بينهما بل ما ذكروه من الضوابط منتقض كما هو مبسوط في موضعه وإذا كانت الصفتان متلازمتين في الوجود والعدم والثبوت والانتفاء لا توجد هذه إلا مع هذه وإذا انتفت هذه انتفت هذه : كان التفريق بجعل إحداهما مقومة والأخرى عرضية تحكما
ثم إذا قيل : الذات هي المركبة من الصفات الذاتية والصفات الذاتية ما لا تتصور الذات إلا بها لم تعرفه الذات إلا بالصفات الذاتية ولا الصفات الذاتية إلا بالذات
وأيضا فإن هذا مبني على أن وجود الشيء في الخارج زائد على حقيقته الموجودة في الخارج وهو أيضا قول باطل ضعيف
وأيضا فالذات الموجودة في الخارج القائمة بنفسها كهذا والإنسان : إن قيل : ( إنه مركب من عرضين ) لزم كون الجوهر مركبا من عرضين وإن يكونا سابقين له وهذا ممتنع في البديهة وإن قيل : ( إنه ركب من جوهرين كل منهما يحمل عليه كما يقال : هو حيوان ناطق ) لزم أن يكون فيه جوهران أحدهما : حيوان والآخر : ناطق وهذا مكابرة للحس والعقل إذ هو حيوان واحد موصوف بأنه ناطق
وإذا كان كذلك فكون الحصول الذي هو مسبوق بحصول آخر إذا كان ذلك لازما له كان من الصفات اللازمة وإذا افترق الشيئان في الصفات اللازمة لم يجب أن تكون حقيقة أحدهما مثل حقيقة الآخر فإن المتماثلين هما المشتركان فيما يجب ويجوز ويمتنع فإذا وجب لأحدهما ما لا يجب للآخر لم يكن مثله
و للأرموي أن يقول : قد تبين بطلان المقدمتين سواء كان بطريقة المنطقيين أو بطريقة سائر أهل النظر الذين أنكروا على المنطقيين ما ذكروه كما أنكر سائر طوائف أهل النظر من المسلمين وغيرهم عليهم كثيرا مما ذكروه في الحدود وغيرها كما هو معروف في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية وطوائف الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وليس المقصود هنا بسط ما يتعلق بهذا
قال الرازي : ( وإنما قلنا السكون لا يمتنع زواله لأن الخصم يسلم جواز حركة كل جسم ولأن المتحيز يجوز خروجه من حيزه لأنه إن كان بسيطا كانت طبائع جوانبه متساوية فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر وإن كان مركبا كان هذا لازما لبسائطه وخروجه عن حيزه هو الحركة
ولقائل أن يقول : هذا يقتضي إمكان كون نوع الجسم يقبل الحركة فإذا قدر أن السكون وجودي وله موجب مستلزم له كان امتناع الحركة لمعنى آخر يختص به الجسم المعين لم يوجد لغيره من الأجسام فلا يلزم إذا قدر أنه موجود أزلي أنه يمكن زاواله بل هذا جمع بين المتناقضين فما قدر موجودا أزليا لا يمكن زواله بحال ولا يمكن أن يجمع بين تقديرين متناقضين وقبول كل جسم للحركة لا يحتاج إلى هذا فإذا قيل : ( إن السكون عدم الحركة ) أمكن مع كون السكون أزليا من إثبات الحركة ما لا يمكن مع تقدير كونه وجوديا وذلك أنه حينئذ لا تتوقف الحركة إلا على وجود مقتضيها وانتفاء مانعها وليس هناك معنى وجودي أزلي يحتاج إلى زواله
وقد أورد بعضهم على استدلاله على أن السكون أمر وجودي اعتراضا بالغا فقال : هذا فيه نظر من جهة أن مقدمة الدليل مناقضة للمطلوب لأن المطلوب كونهما وجوديين ومقدمة الدليل أن أحدهما وجودي ولا يمكن تقريره إلا بما سبق وهو يقتضي أن يكون أحدهما عدميا فادعاء كونهما وجوديين بعد ذلك مناقض له
قلت : وهذا كلام جيد فإن الأمرين اللذين تبدل أحدهما بالأخر ورفعه : إن لزم أن يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا لزم أن تكون الحركة والسكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا وهو نقيض المطلوب وإن جاز أن يكونا جميعا وجوديين أو عدميين بطل الدليل - وهو قوله : لأن تبدل أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون أحدهما وجوديا لان المرفوع إن كان وجوديا وإلا فالرافع وجودي لأن رفع العدم ثبوت - فإنه على هذا التقدير يمكن رفع العدم بالعدم والوجود بالوجود
وإن قيل : بل يجب أن يكونا وجوديين أو يكون أحدهما وجوديا ولا يجوز أن يكونا عدميين لأن العدم لا يرتفع بالعدم كما يرتفع الوجود بالوجود والعدم بالوجود أو بالعكس
قيل : بل العدمان قد يتضادان كما قد يتلازمان فكما أن عدم الشرط مستلزم لعدم المشروط فعدم الأمور الواجب واحد منها ينافي عدمها كلها فإذا كان الجنس لا يوجد إلا بوجود نوع له فصل امتنع مع وجود الجنس عدم جميع الأنواع والفصول فكان عدم بعضها ينافي عدمها كلها وهذا كما يقال في التقسيم وهو الشرطي المنفصل : قد يكون مانعا من الجمع والخلو كقول القائل : العدد إما شفع وإما وتر وقد يكون مانعا من الجمع فقط كقول القائل : الجسم إما أسود وإما أبيض وقد يكون مانعا من الخلو فقط فما كان مانعا من الخلو فقط أو من الجمع : امتنع اجتماع العدمين فيه فكما أن الشفعية تنافي الوترية في العدد فعدم الشفعية ينافي عدم الوترية لا ثبوتها فلا يحصل العدمان معا بل إذا ثبت أحد العدمين لم يثبت العدم الآخر فيكون الدعم رافعا للعدم
وأيضا فمطلوب المستدل : أن تكون الحركة والسكون وجوديين فإذا قال : ( تبدل الحركة بالسكون يقتضي كون أحدهما وجوديا لأن رفع العدم ثبوت ) كان إثبات كونهما وجوديين موقوفا على تقدير كون أحدهما عدميا لأنه قال ( لأن رفع العدم ثبوت ) فإن لم يكن أحدهما عدميا لم يصح هذا وإذا كان المرفوع عدميا امتنع أن يكونا وجوديين والمطلوب كونهما وجوديين فصار المطلوب مناقضا لمقدمة الدليل كما ذكره المعترض
لكنه قال : فالأولى أن يقال في تقريره : إن الحركة وجودية إجماعا ولأنه مبصر فوجب أن يكون السكون أيضا وجوديا بالتقرير الذي سبق
ثم ذكر اعتراض الأرموي فقال : وأورد بينهما إما تقابل التضاد أو العدم والملكة والبديهة حاكمة باختلاف ماهية المتضادين والمتقابلين
قال : وأجيب بان التضاد بين الشيئين إذا كان عارضا لهما كما بين الأسود والأبيض لم يلزم ذلك وما نحن فيه كذلك فإن التضاد عارض لهما بسبب المسبوقية بالغير وهي عدمية فلم يجز أن تكون جزءا ولأنه ليس جعل السكون عبارة عن دعم الحركة أولى من العكس فإما أن يكونا عدميين وهو باطل وفاقا وفتعين أن يكونا وجوديين
ولقائل أن يقول : التضاد بين الحركة والسكون من جنس التضاد بين الحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض والعمى والبصر والحلاوة والحموضة ونحو ذلك من الصفات الثبوتية أو التي بعضها ثبوتي وبعضها عدمي ليس هو من جنس تضاد القائمين بأنفسهما كالأسود والأبيض فإن التضاد إنما يكون في المعتقبين اللذين يعتقبان على محل واحد كما قال متكلمة أهل الإثبات : الضدان كل معنيين يستحيل اجتماعهما في محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة فما لم يكن المعنيان قائمين بمحل واحد فلا تضاد والحركة والسكون يعتقبان على المحل الواحد إما تعاقب اللونين والطعمين وإما تعاقب العلم والبصر والسمع وعدم ذلك فكيف يكون أحدها مثل الآخر لا يفارقه إلا بصفة عرضية ؟ وفي الجملة : فالحركة والسكون هما إن كانا وجوديين فهما عرضان وإن كان أحدهما وجوديا فأحدهما عرض والآخر عدم العرض وعلى التقديرين : فليسا قائمين بأنفسهما فلا يجوز تشبيهما بالأجسام كالأسود والأبيض والطويل والقصير والعالم والجاهل بل يجب تشبيههما بالاعراض وعدم كالسواد والبياض والعلم وعدم العلم ونحو ذلك
فقول الأرموي : ( إن الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين أو تقابل العدم والملكة وعلى التقديرين : يجب اختلاف ماهيتها لا تماثلهما ) كلام صحيح وقول المعارض له : إن الاختلاف إذا كان لعارض كما بين الأسود والأبيض : لم يجب اختلاف الماهيتين فإن ماهية الأسود من جنس ماهية الأبيض : كلام باطل لأن الأسود والأبيض من باب الأجسام القائمة بأنفسهما لا من باب الصفات والأعراض
وأيضا فالأسود والأبيض لا يتقابلان تقابل الضدين ولا تقابل العدم والملكة فليس من هذا الباب اللهم إلا إذا مريد بذلك : أن الحيز الذي فيه الأسود لا يكون فيه الأبيض وحينئذ فيكون تضاد الأبيض والأسود كتضاد الأسودين والأبيضين
وأيضا فيقال : اختلاف الأسود والأبيض يراد به اختلاف عينهما مع قطع النظر عن السواد والبياض أوبشرط السواد والبياض فإن أريد الأول فلا اختلاف بين ذاتيهما مع قطع النظر عن اللونين فإن الجسم الذي هو الأسود قد يكون نفس الجسم الذي هو الأبيض وإن أريد بالاختلاف اختلافهما بشرط اللون المختلف فحينئذ يكون اختلافهما كاختلاف السواد والبياض فإن الشيء المشروط بالسواد مخالف للشيء المشروط بالبياض ولا يجوز أن يقال : إن الذاتين متماثلين إلا مع التجريد عن الاختلاف وإلا فإذا أخذت الذاتين مشروطتين بالاختلاف لم يكونا متماثلتين التماثل الذي لا يشترط فيه الاختلاف كيف والتماثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ؟ والشيء في حال سواده لا يجوز أن يكون أبيض وهو في حال بياضه لا يكون أسود ؟ فلا يكون الأسود حال كونه مشروطا بالسواد يجوز عليه ما يجوز على الأبيض حال كونه مشروطا بالبياض
وقول القائل : ( إن الإختلاف بين الحركة والسكون عارض بسبب المسبوقية بالغير ) ليس بمسلم له فإنه يعقل التضاد بينهما مع عدم خطور المسبوقية بالبال كما يعقل التضاد بين العلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض
وقول القائل : ( ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة بأولى من العكس ) دعوى مجردة فلا نسلم انتفاء هذه الأولوية بل هذه الدعوى بمنزلة قول القائل : ليس جعل العمى عدم البصر بأولى من العكس وليس جعل الصمم عدم السمع بأولى من العكس وليس جعل الجهل البسيط عدم العلم بأولى من العكس وليس جعل المتقابلين عدما والآخر وجودا بأولى من العكس
ومعلوم أن كل هذه دعاى مجردة بل باطلة فإنا نعلم بالحس أن الحركة أمر وجودي كما نعلم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر أمر وجودي وأما كون ما يقابل ذلك هو ضد ما ينافيها أو عدمها من محلها فهذا فيه نظر ولهذا تنازع العقلاء في هذا دون الأول وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظيا فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزما لأمر وجودي مثل الحياة مثلا فإن عدم حياة البدن مثلا مستلزما لأعراض وجودية
والناس تنازعوا في الموت : هل هو عدمي أو وجودي ؟ ومن قال : ( إنه وجودي ) احتج بقوله تعالى : { خلق الموت والحياة } ( الملك : 2 ) فأخبر أنه خلق الموت كما خلق الحياة ومنازعه يقول : العدم الطارىء يخلق كما يخلق الوجود أو يقول : الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة وحينئذ فالنزاع لفظي
وكذلك تنازعوا في الظلمة : هل هي وجودية أو عدمية وهي عدم النور عما من شأنه قبوله ومن قال : ( إنها وجودية ) يحتج بقوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } ( الأنعام : 1 ) والآخر يقول : كل ما يتجدد ويحدث من الأمور الوجودية والعدمية فالله سبحانه جاعله أو يقول : عدم النور مستلزم لأمور وجودية هي الظلمة المجعولة وكون السكون وجوديا أبعد من كون الموت والظلمة ونحو ذلك وجوديا والسكون قد يراد به قوة في الجسم تمنع حركته كالطبيعة التي في الحجر التي توجب استقراره في الأرض وهذا أمر وجودي لكن من قال ( إن السكون عدمي ) لم يجعل تلك الطبيعة هي السكون بل قد يسمون ذلك اعتمادا ويفرقون بين السكون والاعتماد لكن قد يقال له : فالجسم إذا كان ساكنا فإما أن يكون السكون وجوديا أو مستلزما لأمر وجودي وحينئذ فالمقتضى لذلك الأمر الوجودي : إما موجب بنفسه ويساق الدليل إلى آخره لكن من قال : ( إن الجسم الأول كان ساكنا في الأزل ثم تحرك ) يقول في هذا ما يقوله القائلون بحدوث الأجسام فإنهم إذا قالوا : ( حدثت هي وحركتها من غير سبب يقتضي حدوثها ) قال لهم هذا المنازع : بل كان ما قدر قديما من الأجسام ساكنا ثم حدثت حركته من غير سبب يقتضي حركتها وهذا يقوله من يقول : إن الأول جسم وإنه يتجدد له الفعل بعد أن لم يكن له فاعلا ويقول : الكلام في حدوث الفعل القائم به كالكلام في حدوث المفعول المنفصل عنه
وذلك أن أهل الكلام والنظر من أهل القبلة وغيرهم تنازعوا في ثبوت جسم قديم :
فطائفة قالت : بامتناع جسم قديم وحدوث كل جسم وتنازعوا في المحدث للجسم هل أحدث بعد أن لم يكن محدثا بدون سبب حادث أصلا أم لا بد من سبب حادث ؟ وهل تقوم به أمور حادثة كإرادة حادثة وتصور حادث بل وفعل حادث ؟ على قولين لهم
وطائفة قالت بثبوت جسم قديم : ثم هؤلاء منهم من قال : لم يزل فاعلا متحركا ومنهم من قال : بل تجدد له الفعل والحركة فإذا احتج الأولون على هؤلاء بأن الجسم لو كان أزليا لم يخل من الحركة والسكون والحركة لا تكون أزلية لامتناع دوام الحوادث وتسلسلها والسكون لايكون أزليا لأنه وجودي فلو كان أزليا لامتنع زواله لأن الوجودي الأزلي يمتنع زواله لأن المقتضي له إما موجب بنفسه أو لازم للموجب بنفسه ثم نقول : والسكون يجوز زواله فلا يكون أزليا
أجابوهم عن جواز الحوادث بأجبوتهم المعروفة كما تقدم التنبيه على ذلك وأجابوهم على السكون الأزلي بأن قالوا : ما ذكرتموه يناقض ما ذكرتموه في حدوث الأجسام وذلك أنكم إذا قلتم بحدوثها فلا يخلو : إما أن تقولون بجواز تسلسل الحوادث وإما أن لا تقولوا بجواز ذلك
فإن قلتم بجواز تسلسل الحوادث وأن الأجسام حدثت بشرط حوادث متعاقبة كما قال ذلك من قاله من القائلين بحدوث الأجسام كالأرموي و الأبهري وغيرهما قالوا لهم : فإذا جوزتم تسلسل الحوادث بطل دليلكم على امتناع التسلسل في الآثار وأمكن حينئذ أن يكون الجسم القديم لم يزل متحركا فبطل دليلكم على حدوث الجسم
وإن قلتم لا يجوز تسلسل الحوادث والآثار وقلتم بحدوث الأجسام من غير سبب حادث - لزم أن لا يكون حدوث الحادثات متوقفا على سبب حادث بل كان الفاعل المختار يحدث ما يحدث من غير سبب حادث أصلا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن وافقهم
وحيئنذ فيقول لهم منازعوهم من الهشامية والكرامية وغيرهم : فيجوز حينئذ أن يكون الجسم القديم الازلي تحرك بعد أن كان ساكنا من غير سبب أوجب ذلك بل بمحض المشيئة والقدرة لأن القادر المختار يمكنه ترجيح احد طرفي الممكن بلا مرجح : يرجح السكون تارة والحركة أخرى
فإن قالوا هم : نحن نقول : ( يفعل بعد أن لم يكن فاعلا فإذا قلتم السكون أمر وجودي جعلتموه فاعلا في الأزل لأمر وجودي والفعل في الأزل محال )
قالوا لهم : نحن ليس لنا غرض في أن نجعل السكون أمرا وجوديا ولا أن نجعله فاعلا في الأزل لأمر وجودي بل اتفقنا نحن وأنتم على أنه يفعل ما لم يكن فاعلا له من غير سبب حادث لكن نزاعنا في الفعل : هل يقوم به ؟ وفي الفاعل : هل هو جسم ؟ فإذا طالبتمونا بسبب فعله للحركة بعد السكون قلنا لكم : هذا بمنزلة فعله لكل محدث بعد أن لم يكن فاعلا والفرق إنما يعود إلى محل الفعل لا إلا سببه ومقتضيه وتلك مسألة أخرى قد تكلم عليها في غير هذا الموضع وإلا فمن جهة المطالبة بسبب الفعل الحادث لا فرق بيننا وبينكم بل قولنا أقرب إلى المعقول من قولكم فإن أحداث الأمور المنفصلة بدون حدوث فعل يقوم بالفاعل أمر غير معقول بخلاف العكس
فإذا قالوا لهم : السكون أمر وجودي فإذا كان أزليا كان له موجب قديم فيمتنع زواله
قالوا لهم : حدوث ما يحدث إما أن يقف على سبب حادث وإما أن لا يقف فإن وقف على أمر حادث بطل قولكم بحدوث الأجسام وإن لم يقف فقد يقال : فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا وحدوث حادث يزيل أمرا عدميا فإن لم يقف بطل قولكم بحدوث الاجسام وإن وقف فلا فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا أو حدوث حادث لايزيل أمرا وجوديا وذلك أنه إن جوز على الفاعل أن يحدث ما يحدث من غير تجدد أمر فقد تغير الأمر الذي لم يزل بلا سبب اقتضى التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته وحيئنذ فيجوز أن يتغير السكون الذي لم يزل بدون سبب يقتضي التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته وإذا كان الفاعل القادر المختار قادر على أن يحدث ما يحدث ويجعل المعدوم موجودا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح كان قادرا على أن يجعل الساكن متحركا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا إحداث الاجسام التي تكون ساكنة ومتحركة أعظم من إحداث نفس حركاتها فإذا أمكنه إحداثها بدون سبب حادث فإحداث حركاتها أمكن وأمكن
ويقال لهم : لو خلق الباري تعالى جسما ساكنا ثم أراد تحريكه بدون سبب حادث : أكان ذلك ممكنا أو ممتنعا ؟
فإن قلتم : ( يمتنع ذلك ) بطل مذهبكم ودليلكم وإن قلتم : ( يمكن ذلك ) قيل لكم : فالقول في زوال ذلك السكون كالقول في زوال غيره فإنه يقال : السكون أمر وجودي وذلك السكون الوجودي لا بد له من سبب وحيئنذ فتجيء مسألة زوال الضد : هل هو بإحداث ضد آخر أو بإحداث عدمه أو بخلق فناء أو نفس الاعراض لا تبقى ؟ فيقال في هذا ما يقال في ذلك
ومن قال : ( السكون الوجودي لا يبقى زمانين بل ينقضي شيئا فشيئا ) قيل له : فكذلك إذا قدر السكون قديما فإنه لا يبقى زمانين بل يحدث شيئا فشيئا وحينئذ فكل جزء من أجزاء السكون ليس هو قديما بنفسه كما قلتم في كل جزء من أجزاء الحركة : ليس هو قديما بنفسه
فإذا كان القائلون بأن السكون أمر وجودي يقولون : إنه يتجدد شيئا فشيئا كما يقولون مثل ذلك في الحركة
قيل لهم : فيكون دليلكم على امتناع كون الازلي ساكنا من جنس دليلكم على امتناع كونه متحركا وهو تناهي الحوادث وقد تقدم الكلام فيه
فإذا قالوا : ( السكون أمر وجودي فإذا كان قديما امتنع زواله لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه لأن القديم إما أن يكون واجبا بنفسه أو من لوازم الواجب بنفسه )
قيل لهم : هذا مثل أن يقال : عدم الفعل هو تركه وترك الفعل أمر وجودي فإذا كان قديما امتنع عدمه لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه
فإذا قالوا : ( عدم الفعل ليس هو تركا وجوديا ) أمكن أن يقال : عدم الحركة ليس هو سكونا وجوديا
وقد ضعف الآمدي وغيره هذه الحجة : حجة الحركة والسكون وهي فاسدة على أصول من يقول بان الأعراض لا تبقى زمانين من هذه الجهة وهي في الأصل من حجج المعتزلة الذين يقولون بجواز بقاء الأعراض لكن من ينازعهم من الهشامية والكرامية وغيرهم : ممن يقول بإثبات جسم قديم وأنه قام به من الفعل ما لم يكن قائما - سواء سموا ذلك حركة كما يقر بعضهم بذلك أو لم يسموه حركة كما يمتنع بعضهم من ذلك - فإن المقصود المعاني العقلية لا الإطلاقات اللفظية
فإذا قال من قال من معتزلة البصرة : ( إن إفناء الاجسام بإحداث فناء لا في محل كما إن إحداثها بحدوث إرادة لا في محل ) والتزموا حدوث عرض لا محل له وحدوث الحوادث بلا سبب حادث وأن من الحوادث ما يحدث بدون إرادة وقالوا : لا يزوال الضد إلا بحدوث ضده
قال لهم هؤلاء : فكذلك إذا قدرنا جسما قديما متحرك بعد أن كان ساكنا كان زوال ذلك السكون بحدوث ضده من الحركة وحدوث ذلك بما به يحدث المنفصل ومن قال : ( العرض يعدم بإحداث إعدام ) كما هو أحد القولين لمتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية والكرامية وغيرهم قالوا : ذلك السكون يعدم بإحداث إعدام والقول في سبب حدوث الإعدام كالقول في حدوث سبب الإحداث
وإن قالوا : ( إن السكون ينقضي شيئا فشيئا كما تنقضي الحركة شيئا فشيئا ) كما قالوا مثل ذلك في سائر الأعراض - كما هو أحد قولي أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم - قالوا لهم : فالسكون إذن كالحركة فكما أن الحركة متعاقبة الأجزاء فكذلك السكون
ولا ريب أن هذه الأمور تلزم المستدلين بدليل الحركة والسكون لزوما لا محيد عنه وإنما التبس مثل هذا لأن الواحد من هؤلاء يبنى على المقدمة الصحيحة في موضع ويلتزم ما يناقضها في موضع آخر فيظهر من تناقض أقوالهم ما يبين فسادها لكن قد يكون ما أثبتوه في أحد الموضعين صحيحا متفقا عليه فلا ينازعوهم الناس فيه ولا في مقدماته وقد تكون المقدمات فيها ضعف لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها وإنما يقع تحرير المقدمات والنزاع فيها إذا كانت النتيجة مورد نزاع
والمسلمون متفقون على أن الله سبحانه وتعالى وصفاته اللازمة لذاته لايجوز عليها العدم وقد اشتهر في اصطلاح المتكلمين تسميته بالقديم بل غالب المعتزلة ومن سلك سبيلهم غالب ما يسمونه بالقديم وإن كان من المعتزة وغيرهم من لايسميه بالقديم وإن سماه بالأزلي وأكثرهم يجعلون القدم أخص وصفه كما أن الفلاسفة المتأخرين الإلهيين غالب ما يسمونه به ( واجب الوجود ) والمتقدمون منهم غالب ما يسمونه به ( العلة الأولى ) و ( المبدأ الأول )
فإذا قرر المقرر أن ما وجب قدمه امتنع عدمه كان من المعلوم أن الرب القديم الواجب الوجود يمتنع عدمه تعالى وليس عند المسلمين قديم قائم بنفسه غيره حتى يقال : إنه يمتنع عدمه والمتفلسفة القائلون بقدم الأفلاك يقولون : إنه يمتنع عدمها فهذه المقدمة وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يصلح أن يستدل بها من قال بما يناقضها أو بما يستلزم ما يناقضها فإن نفس ما يستدل به عليها إذا ناقض قوله أمكن معارضه أن يبطل حجته بالاعتراض المركب لاسيما إذا اقتضى فساد قوله على التقديرين
فمن كان من أصل قوله إن الفاعل المختار له أن يرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح أصلا بمجرد كونه قادرا أو بمجرد إرادته القديمة وقدر مع ذلك جسم قديم قادر مختار يقبل الحركة والسكون كان تحركه بعد سكونه الدائم بمنزلة تحريكه لغيره فإن أمكن تحركيه لغيره بمجرد كونه قادرا أو بمجرد إرادته أمكن ذلك في هذا الموضع ولا يمتنع من ذلك إلا أن يقوم دليل على أن الجسم يمتنع قدمه أو أن القديم يمتنع كونه يتحرك لكن هؤلاء إذا لم يثبتوا حدوث الجسم أو امتناع تحريك القديم إلا بهذا الدليل لم يمكنهم أن يجعلوا من مقدمات الدليل حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم بل إذا كان حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم موقوفا على هذا الدليل كانوا قد صادروا على المطلوب وجعلوا المطلوب حجة في إثبات نفسه لكن غيروا العبارات وداروا الدورات وهم من موضعهم لم يتغيروا فلهذا كان من وافقهم وفهم كلامهم حائرا لم يفده علما ومن لم يفهمه ووافقهم كان جاهلا مقلدا لأقوام جهال ضلال يظهرون أنهم من أعلم الناس بأصول الدين والكلام والعقليات
ثم إن الرازي ذكر من جهة المنازعين بأن هذه الوجوه الستة في امتناع كون الجسم أزليا متحركا - التي تقدمت وتقدم اعتراض الأرموي عليها - معارضة : ( بأن امتناع الحركة في الأزل إن كان لذاتها وجب أن لا توجد أصلا وإن كان لغيرها فذلك المانع إن كان واجبا لذاته فكذلك وإن كان واجبا لغيره عاد الكلام فيه وتسلسل أو ينتهي إلى واجب الوجود لذاته ولزم امتناع زوال المانع
فإن قلت : المانع هو مسمى الأزل لأنه ينافي المسبوقية بالغير التي تقتضيها الحركة وإنه زائل فيما لايزال
قلت : الترديد المذكور عائد في مسمى الأزل أنه : هل هو واجب لذاته أو لغيره ؟ )
وأجاب الرازي عن هذه المعارضة فقال : ( قوله : صحة الحركة أزلية قلنا : إنه لايلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية ) قلت : ولقائل أن يقول : ما تعني بقولك : صحة الحركة أزلية أتعني به : أنه يصح وجود الحركة في الأزل ؟ أم تعني به أنه في الأزل يصح الحكم عليها بالصحة فيما لا يزال ؟ أما الأول : فهو تسليم للمطلوب وأما الثاني : فهو حكم علمي لا كلام فيه كالأحكام العقلية الذهنية فينا فإنه يصح في الأزل الحكم بالامتناع على الممتنعات كما يصح الحكم بالجواز على الجائزات ثم يقال : الحركة في الأزل إما ممتنعة الإمكان العام الذي يدخل فيه الواجب وإما ممكنة فإن كانت ممتنعة فهو باطل كما تقدم وإن كانت ممكنة كان الدليل على امتناعها باطلا فبطلت الوجوه الدالة على امتناع الحركة في الأزل
ولم يرض أبو الحسن الآمدي هذا الجواب الذي ذكره الرازي بل ذكر جوابا آخر فقال : ( وجوابه أن يقال : لا يلزم من امتناع الوجود الأزلي على الحركة لذاتها امتناع الوجود الذي ليس بأزلي فإذا ما هو ممتنع غير زائل وهو الوجود الأزلي وما هو الجائز لم يكن ممتنعا )
قلت : ولقائل أن يقول : هذا يستلزم انقلاب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي من غير تجدد سبب يوجب هذا الانقلاب بما لا ينضبط لا في الوجود ولا في العقل فإن الإمكان الذاتي ثابت بالضرورة والاتفاق وما من وقت يقدر فيه الإمكان إلا والإمكان ثابت قبله لا إلى غاية فليس للإمكان ابتداء محدود
يبين ذلك : أنه قد يقال : صحة الحركة إو إمكان الحركة أو جواز الحركة وصحة الفعل أو جواز أو إمكان الفعل إما أن يكون به ابتداء وإما أن لا يكون فإن لم يكن له ابتداء لزم أنها لم تزل جائزة ممكنة فلا تكون ممتنعة فتكون جائزة في الأزل وإن كان لجوازها ابتداء فمعلوم أنه ما من وقت يقدره الذهن إلا والجواز ثابت قبله فكل ما يقدر فيه الجواز فالجواز ثابت قبله لا إلى غاية فعلم أنه ليس للجواز بداية فيكون جواز ثبوت الحركات دائما لا ابتداء له ويلزم من ثبوت الجواز عدم الامتناع
وإذا قال القائل : إن مسمى الحركة ممتنع في الأزل قيل : معنى هذا الكلام أن مسمى الحركة يمتنع أن يكون قبله حركة أخرى لا إلى أول وزوال الأزل ليس موقوفا على تجدد أمر من الأمور فإن المتجدد هو من الحوادث فتكون الحركة ممتنعة ثم صارت ممكنة من غير تجدد أمر من الأمور
فإن قيل : المتجدد هو عدم الأزل أو انقضاء الأزل أو نحو ذلك
قيل : عدم الأزل ليس شيئا كان موجودا فعدم ولا معدوما فوجد إذ معنى الأزل في الماضي كمعنى الأبد في المستقبل فما ليس بأزلي فهو متجدد حادث فإذا قيل ( يشترط في جواز المتجدد الحادث تجدد المتجدد الحادث ) كان المعنى أنه يشترط في إمكان الشيء ثبوته ومن المعلوم أن ثبوته كاف في إمكانه
يوضح هذا : أن القائل إذا قال : كل ما يسمى متجددا حادثا إما أن يكون ممكنا في الأزل وإما أن لا يكون فإن كان ممكنا بطل القول بامتناعه في الأزل وإن كان ممتنعا ثم صار ممكنا لزم انقلاب الشيء من كونه ممكنا إلى كونه ممتنعا من غير تجدد شيء أصلا وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب ممتنعا لاستلزامه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح فالقول بتجدد الإمكان والجواز أو حدوث الإمكان والجواز بلا سبب حادث أولى بالامتناع إذا كانت الحقيقة المحكوم عليها بالجواز والإمتناع هي هي بالنسبة إلى كل ما يقدر في كل وقت وقت وإذا كانت نسبة الحقيقة إلى كل ما يقدر من الأوقات كنسبتها إلى الوقت الآخر امتنع اختصاص أحد الوقتين بجواز الحقيقة فيه دون الوقت الآخر وإذا امتنع الاختصاص إلا بمخصص ولا مخصص لزم : إما الامتناع في جميع الأوقات وهو باطل بالحس والإجماع فلزم الإمكان والجواز في جميع الأوقات وهو المطلوب
وعلى هذا التقدير : فيمكن أن ينظم ما ذكروه من المعارضة بعبارة لا يرد عليها ما ذكر بأن يقال : إن قيل إن الحركة لم تزل ممكنة ثبت المطلوب وإن قيل إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة فالامتناع إما لذاتها وإما لموجب واجب بذاته وعلى التقديرين فيلزم دوام الامتناع وإن كان لا لذاتها ولا لموجب بذاته فلا بد أن يكون الامتناع لأمر واجب بغيره وحيئنذ فالكلام في ذلك المانع في غيره ويلزم التسلسل ثم يقال : تسلسل الموانع إن كان ممكنا ثبت جواز التسلسل وأمكن القول بتسلسل الحوادث وإن كان تسلسل الموانع ممتنعا بطل كون الامتناع متسلسلا وقد بطل كونه واجبا بنفسه أو بغيره فلا يكون الامتناع ثابتا في الأزل فيثبت نقيضه وهو الإمكان
وإيضاح ذلك بعبارة أخرى أن يقال : مسمى الحركة إما أن يكون ممتنعا في الأزل وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممتنعا في الأزل ثبت إمكانه فيكون مسمى الحركة ممكنا في الأزل وإن كان ممتنعا في الأزل فامتناع إما لنفسه وإما لموجب واجب بنفسه أو لازم للواجب وحينئذ فلا يزول الامتناع وإن كان لمعنى متسلسل لزم جواز التسلسل وهو يستلزم بطلان الأصل الذي بنى عليه امتناع تسلسل الحوادث
وسر هذا الدليل : أن الأزل ليس هو شيئا معينا محدودا ولكن ما من وقت يقدر إلا وقبله شيء آخر وهلم جرا وهذا هو التسلسل فيلزم من تحقق الأزل التسلسل
لكن قد يقال : تسلسل العدميات ليس كتسلسل الوجوديات بل تسلسل العدميات ممكن بخلاف تسلسل الوجوديات ويكون حدوث حدوث الحوادث موقوفا علىتسلسل العدميات فيقال : إن لم يكن تسلسل العدميات أمرا محققا فلا حقيقة له فيكون إمكان حدوث الحوادث موقوفا على ما لا حقيقة له وهذا باطل وإن كان تسلسلها أمرا محققا فقد ثبت أن تسلسل الأمور المحققة جائز وأنه أزلي مع أن كل واحد من تلك التسلسلات ليس بأزلي وهذا ينقض ما ذكروه في امتناع تسلسل الحوادث فهم بين أمرين : إما أن يقولون بالترجيح بلا مرجح وإما أن يقولون بجواز التسلسل وهذا بعينها هو الذي يلزمهم في قولهم : إنه لا بد للحوادث من ابتداء فكما أنهم في هذا يلزمهم إما الترجيح بلا مرجح وإما التسلسل فكذلك في قولهم ( إنه لا بد لإمكانها من ابتداء ) يلزمهم إما هذا وإما هذا والقول بالترجيح بلا مرجح تام ممتنع وهم متفقون على أن الترجيح بلا فاعل مرجح ممتنع لكن لا يشترطون تمام ما به يكون مرجحا بل يقولون : يحصل الترجيح التام من غير حصول الرجحان ويحصل الرجحان بدون المرجح التام بناء على أن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح إذ أن الإرادة القديمة ترجح أحد المثلين بلا مرجح والقول بجواز التسلسل يبطل القول بامتناع التسلسل فثبت بطلان قولهم على التقديرين
حدوث العالم والأجسام
قال الرازي : ( البرهان الثاني : كل جسم متناهي القدر وكل متناهي القدر محدث ) وقرر الثانية بأن ( متناهي القدر يجوز كونه أزيد وأنقص فاختصاصه له دونهما لمرجح مختار وإلا فقد ترجح الممكن لا عن المرجح وفعل المختار محدث )
معارضة الأرموي
قال الأرموي : ( ولقائل أن يمنع لزوم الترجيح لا لمرجح )
تعليق ابن تيمية
قلت : مضمونه أنه يقول : لانسلم أنه لم يكن المرجح للقدر مختارا لزم الترجيح بلا مرجح بل قد يكون أمرا مستلزما للقدر فإن المرحج أعم من أن يكون مختارا أو غير مختار فإذا قدر المرجح أمرا مستلزما لذلك القدر إما أمر قائم به أو أمر منفصل عنه حصل المرجح للقدر وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذا إذا ذكرنا اعتراضات الآمدي على هذا
البرهان الثالث للرازي
قال الرازي : ( البرهان الثالث : لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك والأزلي يمتنع زواله لما تقدم فامتنعت الحركة عليه وقد ثبت جوازها )
معارضة الأرموي له
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : معنى الأزلي الدائم لا إلى أول فيكون معنى قولنا : لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين أنه لو كان الجسم دائما لا إلى أول لكان حصوله في حيز واحد معين دائما وهو معنى السكون وهذا ممنوع بل دائما يكون حصوله في موضع معين إما عينا وإما على البدل : أي يكون في كل وقت في حيز معين غير الذي كان حاصلا فيه قبله ) انتهى
تعليق ابن تيمية
قلت : مضمون هذا الاعتراض : أن المشار إليه بأنه هنا أو هناك لا يستلزم حيزا معينا يمتنع انتقاله عنه غاية ما يقال : إنه لا بد من حيز أما كونه واحدا بعينه في جميع الأوقات فلا وإذا استلزم نوع الحيز لا عينه أمكن كونه تارة في هذا وتارة في هذا
يوضح هذا : أن هذا الحكم لازم للجسم سواء قدر أزليا أو محدثا فإن الجسم المحدث لا بد له من حيز أيضا مع إمكان انتقاله عنه
فإن قال : لا بد للجسم من حيز معين يكون فيه إذ المطلق لا وجود به في الخارج فإذا كان أزليا امتنع زواله بخلاف المحدث
قيل : ليس الحيز أمرا وجوديا بل هو تقدير المكان ولو قدر وجودي فكونه فيه نسبة وإضافة ليس أمرا وجوديا أزليا
وأيضا فيقال : مضمون هذا الكلام : لو كان أزليا لزم أن يكون ساكنا لا يتحرك عن حيزه لأن الموجود الأزلي لا يزول
فيقال : إن لم يكن السكون وجوديا بطل الدليل وإن كان وجوديا فأنت لم تقم دليلا على إمكان زوال السكون الوجودي الأزلي وإنما أقمت الحجة على أن جنس الجسم يقبل الحركة ومعلوم أنه إذا كان كل جسم يقبل الحركة وغيرها من الصفات كالطعم واللون والقدرة والعلم وغير ذلك ثم قدر أن في هذه الصفات الوجودية ما هو أزلي قديم لوجوب قدم ما يوجبه لم يلزم إمكان زوال هذه الصفة التي وجب قدم ما يوجبها فإن ما وجب قدم موجبه وجب قدمه وامتنع حدوثه ضرورة
فإن قيل : نحن نشاهد حركة الفلك فامتنع أن يقال : لم يزل ساكنا
قيل : أولا : ليس الكلام في حدوث الفلك بعينه بل في حدوث كل جسم فإذا قدر جسم أزلي ساكن غير الفلك لم يكن فيما ذكره ولا في حركة الفلك دليل على حدوثه لا سيما عند من يقول القديم الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا كما يقوله كثير من النظار من الهشامية والكرامة وغيرهم
وقيل : ثانيا : الفلك - وإن كان متحركا - فحيزه واحد لم يخرج عن ذلك الحيز وحركته وضعية ليست حركة مكانية تتضمن نقله من حيز إلى حيز وحينئذ فقوله ( وقد ثبت جواز الحركة ) إن أراد به الحركة المكانية كان ممنوعا وإن أراد غيرها كالحركة الوضعية لم يلزم من ذلك جواز انتقاله من هذا الحيز إلى غيره
وقد سبق الآمدي إلى هذا الاعتراض فإنه قال في الأعتراض على المقدمة الأولى : ( الأزل ليس هو عبارة عن زمان مخصوص ووقت مقدر حتى يقال بحصول الجسم في الحيز فيه بل الأزل لا معنى له غير كون الشيء لا أول له والأزل على هذا يكون صادقا على ذلك الشيء في كل وقت يفرض كون ذلك الشيء فيه فقول القائل : ( الجسم في الأزل موصوف بكذا ) أي في حالة كونه متصفا بالأزلية وما من وقت يفرض ذلك الجسم فيه إلا وهو موصوف بالأزلية وأي وقت قدر حصول ذلك الجسم فيه وهو في حيز معين لم يلزم أن يكون حصوله في ذلك الحيز المعين أزليا لأن نسبة حصوله في ذلك الحيز المعين كنسبة حصولة في ذلك الوقت المعين وما لزم من كون الجسم الازلي لا يخلو عن وقت معين أن يكون كونه في الوقت المعين أزليا فكذلك الحصول في الحيز المعين ) قال : ( وفيه دقة مع ظهوره )
قلت : ويوضح فساد هذه الحجة أن قوله : ( كل جسم يجب اختصاصه بحيز معين لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك ) يجاب عنه بأن يقال : أتريد به أنه يجب اختصاصه بحيز معين مطلقا أو يجب اختصاصه بحيز معين حين الإشارة إليه ؟ أما الأول فباطل فليس كل مشار إليه إشارة حسية يجب اختصاصه دائما بحيز معين فإنه ما من جسم إلا وهو يقبل الإشارة الحسية مع العلم بأنا نشاهد كثيرا من الأجسام تتحول عن أحيازها وأمكنتها
فإن قال : ( بل يجب أن يكون حين الإشارة إليه له حيز معين ) فهذا حق لكن الإشارة إليه ممكنة في كل وقت فالاختصاص بمعين يجب أن يكون في كل وقت أما كونه في كل الأوقات لا يكون إلا في ذلك المعين لا في غيره فلا والأزلي : هو الذي لم يزل فليس بعض الأوقات أخص به من بعض حتى يقال : يكون في ذلك الوقت المعين في حيز معين بل يجوز أن يكون في وقت في هذا الحيز وفي وقت آخر في حيز آخر وتمام ذلك ما تقدم ذكره من أن الأزل ليس شيئا معينا حتى يطلب له حيز معين بل هو عبارة عن عدم الأول
البرهان الرابع
ثم ذكر الرازي البرهان الرابع والخامس وليس متعلقين بهذا المكان ومضمون الرابع : أن ( كل ماسوى الواحد ممكن بذاته وكل ممكن بذاته فهو مفتقر إلى المؤثر والمؤثر لا يؤثر إلا في الحادث لا في الباقي سواء كان تأثيره فيه في حال حدوثها أو حال عدمه لأن التأثير في الباقي من باب تحصيل الحاصل )
( والمقدمة الأولى من هذه الحجة مبنية على وتوحيد الفلاسفة وهو نفي التركيب وأن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره وهو في غاية الضعف كما بسط في غير موضع
والثانية مبنية على أن علة الافتقار هي الحدوث لا الإمكان )
تعليق ابن تيمية
قلت : إنه إن أريد بذلك الحدوث مثلا دليل على أن المحدث يحتاج إلى محدث أو أن الحدوث شرط في افتقار المفعول إلى الفاعل فهذا صحيح وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقرا إلى الفاعل فهذا باطل وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على الافتقار إلى المؤثر أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقرا فهذا باطل وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر وشرطا في الافتقار إلى المؤثر
وإنما النزاع في مسألتين : أحدهما : أن الواجب بغيره هل يصح كونه مفعولا لمن يقول : الفلك قديم معلول ممكن فهذا مما ينكره جماهير العقلاء ويقولون : لا يمكن مقارنته لفاعله أزلا وأبدا ويقولون : الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا معدوما تارة وموجودا أخرى فنفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي لا يحتاج إلى علة فليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل وهو باطل باتفاق العلماء بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لايمكن أن يكون مفارقا للذوات ولا يفتقر إلى علة وكون كل ما سوى الله فقيرا إليه محتاجا إليه دائما هو من هذا الباب فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله كما أن الغنى والصمدية أمر لازم لذات الله
وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية وهو أن المحدث المخلوق هل افتقاره إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط أو هو دائما مفتقر إليه ؟ على قولين للنظار
وكثير من أهل الكلام المتلقى عن جهم وأبي الهذيل يقولون : إنه لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث لا في حال البقاء وهذا في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية القائلين بأن افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثها بل افتقاره إليه في حال بقائه أزلا وأبدا وكلا القولين باطل
وهو في أكثر كتبه ينصر خلاف ذلك ولكن نحن نقرر أن كل ما سوى الواجب فهو محدث وأن التأثير لا يكون إلا في حادث وأن الحدوث والإمكان متلازمان وهو قول جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وإنما أثبت ممكنا ليس بحادث طائفة من متأخري الفلاسفة كابن سينا و الرازي فلزمهم إشكالات لا محيص عنها - مع أنهم في كتبهم المنطقية يوافقون أرسطو وسلفهم - وهو أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا وقد أنكر ابن رشد قولهم بأن الشيء الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديما أزليا وقال : ( لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا
قلت : و ابن سينا ذكر في الشفاء في مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا فتناقضى في ذلك تناقضا في غير هذا الموضع
وقد أورد هو على هذه الحجة معارضة مركبة تستلزم فساد إحدى المقدمتين وهي المعارضة بكونه تعالى عالما بالعلم قادرا بالقدرة فإن علمه إن كان واجبا لذاته وذاته واجبة أيضا فقد وجد واجبان وبطلت المقدمة الأولى وإن كان ممكنا كان واجبا بغيره لوجوب ذاته ولزم كون الأثر والمؤثر دائمين وبطلت المقدمة الثانية ولم يجب عن هذه المعارضة بل قال : ( وأما الجواب عن كونه عالما بالعلم قادرا بالقدرة فصعب )
وقد اعترض الأرموي على ما ذكره في المقدمتين أما الأولى فإن الرازي قال : ( لو وجد واجبان وجوبا ذاتيا لتشاركا في الوجوب الذاتي وتباينا بالتعيين فيلزم تركبهما مما به المشاركة والمباينة وكل مركب مفتقر إلى غيره لافتقاره إلى جزئه وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : قد يكون الوجوب والتعيين وصفين عرضيين للماهية البسيطة )
قلت : تقدم الكلام على هذا في التركيب وذكر ما استدلوا به على امتناع كونه عرضيا فإن الوصف العرضي يحتاج إلى سبب منفصل عن الذات فيكون وجوب الواجب مفتقرا إلى شيء غير الواجب وأيضا فيكون وجوب الواجب وصفا عرضيا وهو ظاهر الفساد وأيضا التفريق في الصفات اللازمة للحقيقة بين الذاتي والعرضي تحكم محض
ولكن لقائل أن يقول : قول القائل : تشاركا في الوجوب الذاتي أتعني به تشاركهما في مطلق الوجوب أو أن أحدهما شارك الآخر في الوجوب الذي يخصه ؟
فإن أراد الأول قيل له : وكذلك قد اشتركا في مطلق التعين فإن هذا واجب وهذا واجب وهذا معين وهذا معين والمعينات مشتركة في مسمى التعين كما أن الواجبات مشتركة في مسمى الوجوب والموجودات مشتركة في مسمى الوجود والماهيات مشتركة في مسمى الماهية والحقائق مشتركة في مسمى الحقيقة وكذلك سائر الأسماء العامة المطلقة الكلية وحينئذ فلم يتباينا في مطلق التعيين كما لم يتباينا في مطلق الوجوب
وإن قال : اشتركا في عين الوجوب
قيل : هذا ممتنع كما أن اشتراكهما في عين التعين ممتنع
وإن جاء لقائل أن يقول : هذا شارك هذا في نفس وجوبه الذي يخصه لجاز لآخر أن يقول : إن هذا شارك هذا في نفس تعينه الذي يخصه وإنما المستدل أخذ الوجوب مطلقا وأخذ التعين مقيدا وكان الواجب أن يسوي بينهما في الإطلاق والتعيين إذ هما متلازمان فإن وجوب هذا ملازم لعينه ووجوب هذا ملازم لعينه فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر
ولو عكس عاكس قوله لكان قوله مثل قوله بأن يقول : اشتركا في التعين الذاتي فإن لكل منهما تعينا ذاتيا وتباينا في الوجوب فإن لكل منهما وجوبا يخصه ومعلوم أن هذا فاسد فكذلك نظيره
وفي الجملة فالصفات المتلازمة لا يكون بعضها أخص من بعض فإذا قدر إنسانان فكل منهما له إنسانا تخصه وحيوانية تخصه وناطقية تخصه وهي متلازمة لا توجد إنسانيته دون ناطقيته ولا ناطقيته دون إنسانيته ولا توجد واحدة منهما دون عينه المعينة وإن وجد إنسانية أخرى وناطقية أخرى فتلك نظير إنسانيته وناطقيته ليست هي هي بعينها كما أن هذا الإنسان نظير هذا الإنسان ليس هو إياه بعينه إلا أن يراد بلفظ العين النوع كما يقال لمن عمل مثل ما يعمل غيره : هذا عمل فلان بعينه فالمقصود أنه ذلك النوع بعينه ليس المقصود أنه ذلك العمل المشخص الذي قام بذات ذلك الفاعل فإنه مخالف للحس فقد تبين أن الموجودين والواجبين ونحو ذلك لم تركب أحدهما من مشارك ومميز بل ليس فيه إلا وصف مختص به تميز به عن غيره وإن كانت صفاته بعضها يشابه فيها غيره وبعضها يخالف فيها غيره
فإذا قيل : لو قدر واجبان أو موجودان إن إنسانان لكان أحدهما يشابه الآخر في الوجوب أو الوجود أو الإنسانية لكان صحيحا ولكان يمكن ذلك أنه يشابهه في الحقيقة كما يمكن أن يخالفه
ثم هب أن كلا منهم فيه ما يشارك به غيره وما يتميز به عنه فقوله : ( إنه مركب مما به الاشتراك والامتياز ) إن عنى بذلك أنه موصوف بالأمرين فصحيح وإن عنى أن هناك أجزاء تركبت ذاته منها فهذا باطل كقول من يقول : إن الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية فإنه لا ريب أنه موصوف بهما وأما كون الإنسان المعين له أجزاء تركب منها فهذا باطل كما تقدم
ولو سلم أن مثل هذا يسمى تركيبا فقوله : ( كل مركب مفتقر إلى غيره ) يدخل فيه ما ركبه المركب كالأجسام المركبة من مفرداتها من الأغذية والأدوية والأشربة ونحو ذلك ويدخل فيه ما يقبل تفريق أجزائه كالإنسان والحيوان النبات ويدخل فيه ما يتميز بعض جوانبه عن بعض ويدخل فيه الموصوف بصفات لازمة له وهذا هو الذي أراده هنا
فيقال له : حينئذ يكون المراد أن كل ما كان له صفة لازمة له فلابد في ثبوته من الصفة اللازمة له وهذا حق وهب أنك سميت هذا تركيبا فليس ذلك ممتنعا في واجب الوجود بل هو الحق الذي لا يمكنه نقيضه
قولك : ( المركب مفتقر إلى غيره ) معناه أن الموصوف بصفة لازمة له لا يكون موجودا بدون صفته اللازمة له لكن سميته مركبا وسميت صفته اللازمة له جزءا وغيرا وسميت استلزامه إياها افتقارا فقولك بعد هذا ( كل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ) معناه : أن كل مستلزم لصفة لازمة له لا يكون موجودا بنفسه بل بشيء مباين له ومعلوم أن هذا باطل وذلك لأن المعلوم أن ما كانت ذاته تقبل الوجود والعدم فلا يكون موجودا بنفسه بلا لا بد له من واجب بنفسه يبدعه وهذا حق فهو مفتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجودا له يبدعه وهذا هو الغير الذي يفتقر إليه الممكن وكل ما افتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجودا بنفسه قطعا أما إذا أريد بالغير الصفة اللازمة وأريد بالافتقار التلازم فمن أين يقال : إن كل ما استلزم صفة لازمة له لا يكون موجودا بنفسه بل يفتقر إلى مبدع مباين له ؟
وقد ذكرنا مثل هذا في غير موضع وبينا أن لفظ ( الجزء ) و ( الغير ) و ( الافتقار ) و ( التركيب ) ألفاظ مجملة موها بها على الناس فإذا فسر مرادهم بها ظهر فساده وليس هذا المقام مقام بسط هذا
ونحن هذا البرهان عندنا صحيح وهو أن كل ماسوى الله ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى المؤثر لأن المؤثر لا يؤثر إلا في حال حدوثه لكن يقرر ذلك بمقدمات لم يذكرها الرازي هنا كما بسط في موصع آخر
وأما الجواب عن المعارضة بكون الرب عالما قادرا فجوابه : أن الواجب بذاته يراد به الذات الواجبة بفسها المبدعة لكل ما سواها وهذا واحد ويراد به : الموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم
وعلى هذا : فالذات واجبة والصفات واجبة ولا محذور في تعداد الواجب بهذا التفسير كما لا محذور في تعدد القديم إذا أريد به ما لا أول لوجوده وسواء كان ذاتا أوصفه لذات القديم بخلاف ما إذا أريد بالقديم الخالقة لكل شيء فهذا واحد لا إله إلا هو وقد يراد بالواجب الموجود بنفسه القائم بنفسه وعلى هذا : فالذات واجبة دون الصفات
وعلى هذا : فإذا قال القائل : الذات مؤثرة في الصفات والمؤثر والأثر ذاتان قيل له : لفظ التأثير مجمل أتعني بالتأثير هنا : كونه أبدع الصفات وفعلها أم تعني به كون ذاته مستلزما لها ؟ فالأول ممنوع في الصفات والثاني مسلم والتأثير في المبدعات هو بالمعنى الأول لا بالمعنى الثاني بل قد بينا في غير هذا الموضع : أنه يمنع أن يكون مع الله شيء من المبدعات قديم بقدمه
البرهان الخامس
قال الرازي في البرهان الخامس : ( لو كان الجسم قديما لكان قدمه : إما أن يكون عين كونه جسما وإما مغايرا لكونه جسما والقسمان باطلان فبطل القول بكون الجسم قديما
إنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قدم الجسم عين كونه جسما لأنه لو كان كذلك لكان العلم بكونه جسما علما بكونه قديما فكما أن العلم بكونه جسما ضروري لزم أن يكون العلم بكونه قديما ضروريا ولما بطل ذلك فسد هذا القسم
وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قدم الجسم زائدا على كونه جسما لأن ذلك الزائد : إن كان قديما لزم أن يكون قدمه زائدا عليه ولزم التسلسل وإن كان حادثا فكل حادث فله أول وكل قديم فلا أول له فلو كان قدم القديم عبارة عن ذلك الحادث للزم أن يكون ذلك الشيء له أول وأن لا يكون له أول وهو محال )
ثم قال : ( فإن عارضوا بكونه حادثا قلنا : الحادث عبارة عن مجموع الوجود الحاصل في الحال والعدم السابق ولا يبعد حصول العلم بالوجود الحاصل مع الجهل بالعدم السابق بخلاف القديم فإنه لا معنى له إلا نفس وجوده فظهر الفرق )
ثم قال : وهذا وجه جدلي فيه مباحثات دقيقة )
قال : ( وليكن هذا آخر كلامنا في شرح دلائل حدوث الأجسام )
معارضة الأرموي
قلت : قال الأرموي : ( لقائل أن يقول : ضعف الأصل والجواب لايخفى )
تعليق ابن تيمية
قلت : قد بين في غير هذا الموضع فساد مثل هذه الحجة من وجوه وهي مبنية على أن القديم : هل هو قديم بقدم أم لا ؟ فمذهب ابن كلاب و الأشعري - في أحد قوليه - وطائفة من الصفاتية : أنه قديم بقدم ومذهب الأشعري - في القول الآخر - و القاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى و أبي علي بن أبي موسى و أبي المعالي الجويني وغيرهم : ليس كذلك وهم متنازعون في البقاء فقول الأشعري وطائفة معه : أنه باق ببقاء وهو قول الشريف و أبي علي بن أبي موسى وطائفة وقول القاضي أبي بكر وطائفة كالقاضي أبي يعلى نفى ذلك
وحقيقة الأمر : أن النزاع في هذه المسألة اعتباري لفظي كما قد بسط في غير هذا الموضع وهو متعلق بمسائل الصفات : هل هي زائدة على الذات أم لا ؟ وحقيقة الأمر : أن الذات أن أريد بها الذات الموجودة بالخارج فتلك مستلزمة لصفاتها يمتنع وجودها بدون تلك الصفات وإذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم فلا يمكن فرض الذات الموجودة في الخارج منفكة عن لوازمها حتى يقال : هي زائدة أو ليست زائدة لكن يقدر ذلك تقديرا في الذهن وهو القسم الثاني فإذا أريد بالذات ما يقدر في النفس مجردا عن الصفات فلا ريب أن الصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في النفس ومن قال من متكلمة أهل السنة : ( إن الصفات زائدة على الذات ) فتحقيق قوله أنها زائدة على ما أثبته المنازعون من الذات فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات ونحن نثبت صفاتها زائدة على أثبتوه هم لا أنا نجعل في الخارج ذاتا قائمة بنفسها ونجعل الصفات زائدة عليها فإن الحي الذي يمتنع أن لا يكون إلا حيا كيف تكون له ذات مجردة عن الحياة ؟ وكذلك ما لا يكون إلا عليما قديرا كيف تكون ذاته مجردة عن العلم والقدرة ؟
والذين فرقوا بين الصفات النفسية والمعنوية قالوا : القيام بالنفس والقدم - ونحو ذلك من الصفات النفسية - بخلاف العلم والقدرة فإنهم نظروا إلى ما لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديره فجعلوه من النفسية وما يمكن تقديرها بدونه فجعلوه معنويا ولا ريب أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه ليس قائما بنفسه بخلاف ما يقدر أنه عالم فإنه يمكن ذاته بدون العلم
وهذا التقدير عاد إلى ماقدروه في أنفسهم وإلا ففي نفس الأمر جميع صفات الرب اللازمة له هي صفات نفسية ذاتية فهو عالم بنفسه وذاته وهو عالم بالعلم وهو قادر بنفسه وذاته وهو قادر بالقدرة فله علم لازم لنفسه وقدرة لازمة لنفسه وليس ذلك خارجا عن مسمى اسم نفسه
وعلى كل تقدير فالاستدلال على حدوث الأجسام بهذه الحجة في غاية الضعف كما اعترفوا هم به فإن ما ذكروه يوجب أن لا يكون في الوجود شيء قديم سواء قدر أنه جسم أو غير جسم فإنه يقال : لو كان الرب - رب العالمين - قديما لكان قدمه إما أن يكون عين كونه ربا وإما زائدا على ذلك والأمران باطلان فبطل كونه قديما
أما الأول : فلأنه لو كان كذلك لكان العلم بكونه ربا أو واجب الوجود أو نحو ذلك علما بكونه قديما وهذا باطل
وأما الثاني : فلأن ذلك الزائد إن كان قديما يلزم أن يكون قدمه زائدا عليه ولزم التسلسل وإن كان حادثا كان للقديم أول فما كان جوابا عن مواضع الإجماع كان جوابا في مورد النزاع وإن كان العلم بكونه رب العالمين يستلزم العلم بقدمه لكن ليس العلم بنفس الربوبية هو العلم بنفس القدم بل قد يقوم العلم الأول بالنفس مع ذهولها عن الثاني وقد يشك الشاك في قدمه مع العلم بأنه ربه ويخطر له أن للرب ربا حتى يتبين له فساد ذلك وقد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم ذلك في الحديث الصحيح في قوله : [ إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ فيقول : الله فيقول : فمن خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته ] وقد بسطت هذا في موضع آخر كما سيأتي إن شاء الله
والمقصود هنا : أن هذه البراهين الخمسة التي احتج بها على حدوث الأجسام قد بين أصحاب المعظمون له ضعفها بل هو نفسه أيضا بين ضعفها في كتب أخرى مثل المطالب العالية وهي آخر ما صنفه وجمع فيها غاية علومه و المباحث المشرقية وجعل منتهى نظره وبحثه تضعيفها
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع وبين كلام السلف والأئمة في هذا الموضع كالإمام أحمد وغيره وكلام النظار الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وغيره وأن القائل إذا قال : عبدت الله ودعوت الله وقال : الله خالق كل شيء ونحو ذلك فاسمه تعالى يتناول الذات والصفات ليست الصفات خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك بل هي داخلة في مسمى اسمه ولهذا قال أحمد فيما صفنه في الرد على الجهمية نفاة الصفات : ( قالوا : إذا قلتم الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره قلتم بقول النصارى
فقال لا نقول : الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره ولكن الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد ) فبين أحمد أنا لا نعطف صفاته على مسمى اسمه العطف المشعر بالمغايرة بل ننطق بما يبين أن صفاته داخلة في مسمى اسمه
ولما ناظره الجهمية في محنته المشهورة فقال له عبد الرحمن بن إسحاق القاضي : ما تقول في القرآن : أهو الله أم غير الله ؟ يعني إن قلت ( هو الله ) فهذا باطل وإن قلت : ( غير الله ) فما كان غير الله فهو مخلوق
فأجابه أحمد بالمعارضة بالعلم فقال : ما تقول في علم الله : أهو الله أم غير الله ؟ فقال : أقول في كلامه ما أقوله في علمه وسائر صفاته وبين ذلك في رده على الجهمية : بأنا لا نطلق لفظ الغير نفيا ولا إثباتا إذ كان لفظا مجملا يراد بغير الشيء ما بيانه وصارت مفارقته له ويراد بغيره ما أمكن تصوره بدون تصوره ويراد به غير ذلك
وعلم الله وكلامه ليس غير الذات بالمعنى الأول وهو غيرها بالمعنى الثاني ولكن كونه ليس غير الله بالمعنى الأول فعلى إطلاقه وأما كونه غير الله بالمعنى الثاني ففيه تفصيل فإن أريد بتصوره معرفته المعرفة الواجبة الممكنة في حق العبد فلا يعرفه هذه المعرفة من لم يعرف أنه حي عليم قادر متكلم فلا يمكن تصوره ومعرفته بدون صفاته فلا تكون مغايرة لمسمى اسمه وإن أريد أصل التصور وهو الشعور به من بعض الوجوه فقد يشعر به من لا يخطر له حينئذ أنه حي ولا عليم ولا متكلم فتكون صفاته مغايرة له بالاعتبار الثاني
وأجاب أحمد أيضا بأن الله لم يسم كلامه غيرا ولا قال : إنه ليس بغير يعني والقائل إذا قال : ماكان غير الله أو سوى الله فهو مخلوق فإن احتج على ذلك بالسمع فلا بد أن يكون مندرجا هذا اللفظ في كلام الشارع وليس كذلك وإن احتج بالعقل فالعقل إنما يدل على خلق الأمور المباينة له وأما صفاته القائمة بذاته فليست مخلوقة والذي يجعلون كلامه مخلوقا يقولون : هو بائن عنه والعقل يعلم أن كلام المتكلم ليس ببائن عنه
وبهذا التفصيل يظهر أيضا الخلل فيما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية بأن الذاتية لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديرها بخلاف المعنوية فإنه يقال لهم : أم تعنون بتقدير الذات في الذهن أو تصور الذات أو نحو ذلك من الألفاظ ؟ أتعنون به اصل الشعور والتصور والمعرفة ولو من بعض الوجوه أم تريدون به التصور والمعرفة والشعور الواجب أو الممكن أو التام ؟ فإن عنيتم الأول فما من صفة تذكر إلا يمكن أن يشعر الإنسان بالذات مع عدم شعوره بها وقد يذكر العبد ربه ولا يخطر له حينئذ كونه قديما أزليا ولا باقيا أبديا ولا واجب الوجود بنفسه ولا قائما بنفسه ولا غير ذلك وكذلك قد يخطر له ما يشاهده من الأجسام ولا يخطر له كونه متحيزا أو غير متحيز
وإن عنيتم الثاني فمعلوم أن الإنسان لا يكون عارفا بالله المعرفة الواجبة في الشرع ولا المعرفة التي تمكن بني آدم ولا المعرفة التامة حتى يعلم أنه حي عليم قدير وممتنع لمن يكون عارفا بأن الله متصف بذلك إذا خطر بباله ذاته وهذه الصفات : أن يمكن تقدير ذاته موجودة في الخارج بدون هذه الصفات كما يمتنع أن يقدر ذاته موجودة في الخارج بدون أن تكون قديمة واجبة الوجود قائمة بنفسها فجميع صفاته تعالى اللازمة لذاته يمتنع مع تصور الصفة والموصوف والمعرفة بلزوم الصفة للموصوف يمتنع أن يقدر إمكان وجود الذات بدون الصفات اللازمة لها مع العلم باللزوم وإن قدر عدم العلم باللزوم أو عدم خطور الصفات اللازمة بالبال فيمكن خطور الذات بالبال بدون شيء من هذه الصفات وإذا علم لزوم بعض الصفات دون بعض فما علم لزومه لايمكن تقدير وجود الذات دونه وما لا يعلم لزومه أمكن الذهن أن يقدر وجوده دون وجود تلك الصفة التي لم يعلم لزومها لكن هذا الإمكان معناه عدم العلم بالامتناع لا العلم بالإمكان في الخارج إذ كل ما لم يعلم الإنسان عدمه فهو ممكن عنده إمكانا ذهنيا بمعنى عدم علمه بامتناعه لا إمكانا خارجيا بمعنى أنه يعلم إمكانه في الخارج
وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالامتناع وكثير من الناس يشتبه عليه هذا بهذا فإذا تصور ما لا يعلم امتناعه أو سئل عنه قال : هذا ممكن وهذا غير ممتنع وهذا لو فرض وجوده لم يكن من فرضه محال
وإذا قيل له : قولك ( إنه لو فرض وجوده لم يلزم منه محال ) قضية كلية وسلب عام فمن أين علمت أنه لا يلزم من فرض وجوده محال والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل ؟ وهل علمت ذلك بالضرورة المشتركة بين العقلاء أم بنظر مشترك أم بضرورة اختصصت بها أم بنظر اختصصت به ؟ فإن كان بالضرورة المشتركة وجب أن يشركك نظراؤك من العقلاء في ذلك وليس الأمر كذلك عندهم وإن كان بنظر مشترك فإين الدليل الذي تشترك فيه أنت وهم ؟ وإن كان بضرورة مختصة أو نظر مختص فهذا أيضا باطل لوجهين أحدهما : أنك تدعي أن هذا مما يشترك فيه العقلاء ويلزمهم موافقتك فيه وتدعي أنهم إذا ناظروك كانوا منقطعين معك بهذه الحجة وذلك يمنع دعواك الإختصاص بعلم ذلك والثاني : أن اختصاصك بعلم ذلك ضرورة أو نظرا إنما يكون لاختصاصك بما يوجب تخصيصك بذلك كمن خص بنبوة أو تجربة أو نحو ذلك مما ينفرد به وأنت لست كذلك فيما تدعي إمكانه ولا تدعي اختصاصك بالعلم بإمكانه وإن ادعيت ذلك لم يلزم غيرك موافقتك في ذلك إن لم تقم عليه دليلا يوجب موافقتك سواء كان سمعيا أو عقليا وأنت تدعي أن هذا من العلوم المشتركة العقلية وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على هذا الأصل الذي نشأ منه التنازع أو الاشتباه في مسأئل الصفات من هذا الوجه وتفريق هؤلاء المتلكمين في الصفات اللازمة للموصوف بين ما سموها نفسية وذاتية وما سموها معنوية يشبه تفريق المنطقيين في الصفات اللازمة بين ما سموه ذاتيا مقوما داخلا في الحقيقة وما سموه عرضيا خارجا عن الذات مع كونه لازما لها وتفريقهم في ذلك بين لازم الماهية ولازم وجود الماهية كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وبين أن هذه الفروق إنما تعود عند الحقيقة إلى الفرق بين ما يتصور في الأذهان وهو الذي قد يسمى ماهية وبين ما يوجد في الأعيان وهو الذي قد يسمى وجودها وأن ما يتصور في النفس من المعاني ويعبر عنه بالألفاظ : له لفظ دل عليه بالمطابقة هو الدال على تلك الماهية وله جزء من المعنى هو جزء تلك الماهية واللفظ المذكور دال عليه بالتضمن وله معنى يلزمه خارج عنه فهو اللازم لتلك الماهية الخارج عنها واللفظ يدل عليه باللالتزام وتلك الماهية التي في الذهن هي بحسب ما يتصوره الذهن من الصفات الموصوف تكثر تارة وتقل تارة وتكون تارة مجملة وتارة مفصلة وأما الصفات اللازمة للموصوف في الخارج فكلها لازمة له لا تقوم ذاته مع عدم شيء منها وليس منها شيء يسبق الوصوف في الوجود العيني كما قد يزعمونه من أن الذاتي يسبق الموصوف في الذهن والخارج وتلك الصفات هي أجزاء الماهية المتصورة في الذهن كما أن لفظ كل صفة جزء من تلك الألفاظ إذا قلت : جسم حساس نام مغتذ متحرك بالإرادة ناطق وأما الموصوف الموجود في الخارج كالإنسان فصفاته قائمة به حالة فيه ليست أجزاء الحقيقة الموجودة في الخارج سابقة عليها سبق الجزء على الكل كما يتوهمه من يتوهمه من هؤلاء الغالطين كما قد بسط في موضعه
وقول هؤلاء المتكلمين في الصفات اللازمة ( إنها زائدة على حقيقة الموصوف ( يشبه قول أولئك ( إن الصفات اللازمة العرضية خارجة عن حقيقة الموصوف ) وكلا الأمرين منه تلبيس واشتباه حاد بسببه كثير من النظار الأذكياء وكثر بينهم النزاع والجدال والقيل والقال وبسط هذا له موضع آخر
وإنما المقصود هنا التنبيه على ذلك والله أعلم وأحكم وإن كان قد بسط الكلام على ضعفها في غير هذا الموضع مع أن هذا الذي ذكره مستوعب لما ذكره غيره من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم في ذلك
طريقة الآمدي في الاستدلال على حدوث العالم
وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق بل بين ضعفها واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف وهو أن الأجسام لا تنفك عن الأعراض والأعراض لا تبقى زمانين فنكون حادثة وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث وهذا الدليل مبني على مقدمتين : على أن كل عرض في زمان فهو لايبقى زمانين وجمهور العقلاء يقولون : إن هذا مخالف للحس والضرورة وعلى امتناع حوادث لا أول لها وقد عرف الكلام في ذلك والوجوه التي ضعف بها الآمدي ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الأرموي وهو متقدم على الأرموي
فإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر أو أن يكون الآرموي و الآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره وهذا الاحتمال أرجح فإن هذين وأمثالهما وقفوا على كتبه التي فيها هذه الحجج مع أن تضعيفها مما سبق هؤلاء إليه كثير من النظار ومن تكلم من النظار ينظر ما تكلم به من قبله فإما أن يكون أخذه عنه أو تشابهت قلوبهم
وبكل حال فهما - مع الرازي ونحوه - من أفضل بني جنسهم من المتأخرين فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه يعرف بها الحق من الباطل في ذلك بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسالك وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها وعلى القدح فيها استقر أمرهم وكذلك غيرهم قدح فيها كأبي حامد الغزالي وغيره وليس هذا موضع استقصاء ذكر من قدح في ذلك وإنما المقصود القدح في هذه المسالك التي يسمونها براهين عقلية ويعارض بها نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف ثم إن نفس حذاقهم قدحوا فيها
مسلك الآمدي على إثبات حدوث الأجسام
فأما المسلك الأول الذي ذكره الرازي فقال الآمدي : ( المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا في الدلالة على إثبات حدوث الأجسام وهو أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل : إما أن تكون متحركة أو ساكنة ) وساق المسلك إلى آخره ثم قال : ( وفيه وفي تقريره نظر وذلك أن القائل يقول : إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز أو لا تكون كذلك فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان في حيز آخر وليس ساكنا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمرا وجوديا ولا محيص عنه
فإن قيل : الكلام إنما هو في الجسم في الزمن الثاني والجسم في الزمن الثاني ليس يخلو عن الحركة والسكون بالتقسير المذكور فهو ظاهر الإحالة فإنه إذا كان الكلام في الجسم إنما هو في الزمن الثاني من وجود الجسم فالزمن الثاني ليس هو حالة الأزلية وعند ذلك لا يلزم أن يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون )
قال : ( وإن سلمنا الحصر فلم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية ؟ وما ذكروه من الوجه الأول في الدلالة فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى يكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات المشخصة حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى أنها متعاقبة إلى غير النهاية )
قال : ( وما ذكروه في الوجه الثاني باطل أيضا فإن كل واحدة من الحركات الدورية وإن كانت مسبوقة بعدم لا بداية له فمعنى اجتماع الأعدام السابقة على كل واحدة من الحركات في الأزل : أنه لا أول لتلك الأعدام ولا بداية ومع ذلك فالعدم السابق على كل حركة وإن كان لا بداية له فيقارنه وجود حركات قبل الحركة المفروضة لا نهاية لها على جهة التعاقب ) أي : يعاقبه وجود حركات لا نهاية لها قبل الحركة المفروضة ( وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق وعلى هذا فيكون الكلام في العدم السابق على حركة حركة وعلى هذا فحصول شيء من الموجودات الأزلية مع هذه الأعدام أزلا على هذا النوع لا يكون ممتنعا إذ ليس في مقارنة للمسبوق على ما عرف )
قال : ( وفيه دقة فليتأمل )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا هو الاعتراض الذي ذكره الأرموي وقد ذكره غيرهما والظاهر أن الأرموي تلقى هذا عن الآمدي وهم يقولون : اجتماع الأعدام لا معنى له سوى أنها مشتركة في عدم البداية والأولية وحينئذ فعدم كل حركة يمكن أن يقارنه وجود أخرى وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق وهذا الذي قالوه صحيح لكن قد يقال : هذا الاعتراض إنما يصح لو كان احتج بأن في ذلك مقارنة السابق للمسبوق فقط وهو لم يحتج إلا بأن العدمات تجتمع في الأزل وليس معها شيء من الموجودات إذ كان معها موجود لكان هذا الموجود مقارنا لتلك العدمات المجتمعة منها عدمه فاقترن السابق والمسبوق فعمدته اجتماعها في الأزل
وقد قالوا له : إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا فهو ممنوع لأنه من من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها وهو يقول : أنا لم أعن باجتماعهما في حين حادث ليلزمني انتهاء واحد منها وإنما قلت : هي مجتمعة في الأزل
وفصل الخطاب أن يقال : العدم ليس بشيء وليس لعدم هذه الحركة حقيقة ثابتة مغايرة لعدم الأخرى حتى يقال : إن أعدامها اجتمعت في الأزل أو لم تجتمع بل معنى حدوث كل منها أنهاكانت بعد أن لم تكن وكون الحوادث كلها مشتركة في أنها لم تكن لا يوجب أن يكون عدم كونها حقائق متغايرة ثابتة في الأزل
يوضح ذلك أن يقال : أتعني بكونها مسبوقية بالعدم أن جنسها مسبوق بالعدم أو كل واحد منها مسبوق بالعدم ؟ أما الأول فهو محل النزاع وأما الثاني فإذا قدر أن كل واحد كان بعد أن لم يكن - والجنس لم يزل كائنا - لم يجز أن يقال : الجنس كائن بعد أن لم يكن ولا يلزم من كون كل من أفراده مسبوقا بعدم أن يكون الجنس مسبوقا بالعدم إلا إذا ثبت حدوث الجنس وهو محل النزاع وعدم الحوادث هو نوع واحد ينقضي بحسب الحدوث فكلما حدث حادث انقضى من ذلك العدم ذلك الحادث ولم ينقض عدم غيره فالأزلي حينئذ عدم أعيان الحوادث كما أن الأزلي عند من يقول بأنه لا أول لها هو جنس الحوادث فجنس وجودها أزلي وعدم كل من أعيانها أزلي ولا منافاة بين هذا وهذا إلا أن يثبت وجوب البداية وهو محل النزاع
إيراد أحد المتكلمين الدليل على وجه آخر
وبهذا يظهر الجواب عما ذكره بعضهم في تقرير هذا الوجه فإن بعضهم لما رأى ما أوردوه على ما ذكره الرازي حرر الدليل على وجه آخر فقال : القول بكون كل من الحركات الجزئية مسبوقا بأخرى لا إلى أول يستلزم المحال فيكون محالا
بيان الأول : أن كل واحد منه من حيث إنه حادث يقتضي أن يكون مسبوقا بعدم أزلي لأن كل حادث مسبوق بعدم أزلي فهذا يقتضي أن تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل ومن حيث إنه ما من جنس يفرض إلا وجب أن يكون فرد منها موجودا يقتضي ألا تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل وإلا لزم أن يكون السابق مقارنا للمسبوق ولا شك أن اجتماعهما في الأزل وعدم اجتماعهما فيه متناقضان فالمستلزم له محال
فيقال لمن احتج بهذا الوجه : العدم الأزلي السابق على كل من الحوادث إن جعلته شيئا ثابتا في الأزل متميزا عن عدم الحادث الآخر فهذا ممنوع فإن العدم الأزلي لا امتياز فيه أصلا ولا يعقل حتى يقال : إن هناك أعداما ولكن إذا حدث حادث علم أنه انقضى عدمه الداخل في ذلك النوع الشامل لها وليس شمول جنس الموجودات لها كشمول جنس العدم للمعدومات فإن الموجودات لها امتياز في الخارج فشخص هذا الموجود متميز في الخارج عن شخص الآخر وأما العدم فليس بشيء أصلا في الخارج ولا امتياز فيه بوجه من الوجوه
ولكن هذا الدليل قد بني على قول من يقول : المعدوم شيء ولا يبعد أن يكون الرازي أخذ هذا الوجه من المعتزلة القائلين بهذا فإنهم يثبتون المعدوم شيئا فيكون هذا الحادث في حال عدمه شيئا وهذا الحادث في حال عدمه شيئا وحينئذ فللحوادث أعدام متميزة ثابتة في الأزل
وهؤلاء القائلون بهذا يقولون ذلك في كل معدوم ممكن سواء حدث أو لم يحدث فإذا قال القائل : ( للحوادث أعدام أزلية ثابتة في الأزل متميزة ) لم يتوجه إلا على قول هؤلاء وهذا القول قد عرف فساده وبتقدير تسليمه فيجاب عنه بما ذكره هؤلاء وهو أن اجتماعه في الأزل بمعنى غير انتفاء البداية ممتنع وعدم البداية ليس أمرا موجودا حتى يعقل فيه اجتماع
وعلى هذا فيقال : لا نسلم أن الأزل شيء مستقر أو شيء موجود وليس للأزل حد محدود حتى يعقل فيه اجتماع بل الأزل عبارة عن عدم الابتداء وما لا ابتداء له فهو أزلي وما لا انتهاء له فهو أبدي وما من حين يقدر موجودا إلا وليس هو الأزل ففي كل حين بعضهما موجود وبعضها معدوم فوجود البعض مقارن لقدم البعض دائما وحينئذ فاجتماعها في الأزل معناه اشتراكهما في أن كل واحد ليس له أول وعدم اجتماعها فيه معناه أنه لم يزل في كل حين واحد منها موجودا وعدمه زائلا ولا تناقض بين اشتراكها في عدم الابتداء ووجود أشخاصها دائم إلا إذا قيل : يمتنع جنس الحوادث الدائمة
وقد اعترض المستدل بهذا على ما ذكره الآمدي و الأرموي في الوجه الأول
قال : فإن قلت : الأزلي الحركة الكلية بمعنى أن كل فرد منها مسبوق بالآخر لا إلى أول لا أفرادها الموجودة التي تقتضي المسبوقية بالغير
ثم قال : قلت : فحينئذ ما هو المحكوم عليه بالأزلي غير موجود في الخارح لامتناع وجود الحركة الكلية في الخارج وما هو موجود منها في الخارج فهو ليس بأزلي
ولقائل أن يقول : هذا غلط نشأ من الإجمال الذي لفظ الكلي وذلك أنه إنما يمتنع وجود الكلي في الخارج مطلقا إذا كان مجردا عن أفراده كوجود إنسان مطلق وحيوان مطلق وحركة مطلقة لا تختص بمتحرك ولا بجهة ولون مطلق لا يكون أبيض ولا أسود ولا غير ذلك من الألوان المعينة فإذا قدر حركة مطلقة لا تختص بمتحرك معين كا ن وجودها في الخارج ممتنعا وأما الحركات المتعاقبة فوجود الكلي فيها هو وجود تلك الأفراد كما إذا وجد عدة أناسى فوجود الإنسان الكلي هو وجود أشخاصه ولا يحتاج أن يثبت للكلي في الخارج وجودا غير وجود أشخاصه بل نفس وجود أشخاصه هو وجوده
ومعلوم إنه إذا أريد بوجود الكلي في الخارج وجود أشخاصه لا ينازع فيه أحد من العقلاء وإن كانوا قد يتنازعون في أن الكلي المطلق لا بشرط وهو الطبيعي : هل هو موجود في الخارج أم لا ؟ وحيئنذ فمرادهم بوجود الحركة الكلية في الخارج هو وجود أفرادها المتعاقبة شيئا بعد شيء فكل فرد مسبوق بالغير وليس هذا الجنس المتعاقب الذي يوجد بعضهم شيئا فشيئا بمسبوق بالغير
وإن شئت قلت : لا نسلم أن الكلي لا يوجد في الخارج ولكن نسلم أنه لا يوجد في الخارج كليا وهذا هو الكلي الطبيعي وهو المطلق لا بشرط كمسمى الإنسان لا بشرط فإنه يوجد في الخارج لكن معينا مشخصا وتوجد أفراده إما مجتمعة وإما متعاقبة كتعاقب الحوادث المستقبلة فوجود الحركات المعينة كوجود سائر الأشياء المعينة ووجود مسمى الحركة كوجود سائر المسميات الكلية والمحكوم عليه بالأزلية هو النوع الذي لا يوجد إلا شيئا فشيئا لا يوجد مجتمعا
فإن قال القائل ( مسمى الحركة ليس بموجود في الخارج على وجه الاجتماع كما يوجد من أفراد الإنسان ) فقد صدق وإن قال ( إنه لا يوجد شيئا فشيئا ) فهذا ممنوع وم قال ذلك لزمه أن لا يوجد في الخارج حركة أصلا لا متناهية ولا غير متناهية وهذا مخالف للحس والعقل وقد تفطن ابن سينا لهذا الموضع وتكلم في وجود الحركة بكلام له وقد نقله عنه الرازي وغيره وقد تكلمنا عليه وبينا فساده فيما سيأتي إن شاء الله
قال الآمدي : ( وباقي الوجوه في الدلالة ما ذكرناه في امتناع حوادث غير متناهية في إثبات واجب الوجود وقد ذكرت فلا حاجة إلى إعادتها )
وهو قد ذكر قبل ذلك في امتناع ما لا يتناهى أربعة طرق فزيفها واختار طريقا خامسا الأول : التطبيق وهو أن يقدر جملة ( فلو كا ما قبلها لا نهاية له فلو فرضنا زيادة متناهية على الجملة المفروضة ولتكن الزيادة عشرة مثلا فالجملة الأولى : إما أن تكون مساوية لنفسها مع فرض الزيادة عليها أو أزيد أو أنقص والقول المساواة والزيادة محال فإن الشيء لا يكون مع غيره كهو لا مع غيره ولا أزيد وإن كانت الجملة الأولى ناقصة بالنظر إلى الجملة الثانية فمن المعلوم أن التفاوت بينهما إنما هو بأمر متناه وعند ذلك فالزيادة لا بد أن يكون لها نسبة إلى الباقي بجهة من جهات النسب على نحو زيادة المتناهي على المتناهي
ومحال أن يحصل بين ما ليس بمتناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين
وأيضا فإنه إذا كانت إحدى الجملتين أزيد من الأخرى بأمر متناه فليطبق بين الطرفين الآخرين بأن تأخذ من الطرف الأخير من إحدى الجملتين عدوا مفروضا ومن الأخرى مثله وهلم جرا فإما أن يتسلسل الأمر إلى غير النهاية فيلزم منه مساواة الانقص للأزيد في كلا طرفيه : وهو محال وإن قصرت الجملة الناقصة في الطرف الذي لانهاية له فقد تناهت والزائدة إنما زادت على الناقصة بأمر متناه وكل ما زاد على المتناهي بأمر متناه فهو متناه )
قال : ( وهذا لا يستقيم لا على قواعد الفلاسفة وعلى قواعد المتكلمين )
أما الفلاسفة فإنهم قضوا بأن كل ما له ترتيب وضعي كالأبعاد والامتدادات أو الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معا كالعلل والمعلولات فالقول بعدم النهاية فيه مستحيل وما سوى وذلك فالقول بعدم النهاية فيه غير مستحيل وسواء كانت آحاده موجودة معا كالنفوس بعد مفارقة الأبدان أو هي على التعاقب والتجدد كالأزمنة والحركات الدورية فإن ما ذكروه - وإن استمر لهم فيما قضوا فيه بالنهاية - فهو لازم لهم فيما قضوا فيه بعدم النهاية وعند ذلك فلا بد من بطلان أحد الأمرين : إما الدليل إن كان اعتقادهم عدم النهاية حقا وإما اعتقاد عدم النهاية إن كان الدليل حقا لاستحالة الجمع )
قال : ( وليس لما يذكره الفيلسوف من جهة الفرق بين العلل والمعلولات والأزمنة والحركات قدح في الجمع وهو قوله : إن ما لا ترتيب له وضعا ولا آحاده موجودة معا - وإن كان ترتيبه طبيعيا - فلا يمكن فرض جواز قبوله الانطباق وفرض الزيادة والنقصان فيه بخلاف مقابله لأن المحصل يعلم أن الاعتماد على هذا الخيال في تناهي ذوات الأضلاع وفيما له الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معا ليس إلا من جهة إفضائه إلى وقوع الزيادة والنقصان بين ما ليس بمتناهيين وذلك إنما يمكن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض أو وحدة ما من العدد المفروض وعند ذلك فلا يخفى إمكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات والنفوس الإنسانية المفارقة لأبدانها وجواز فرض الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس المذكور في محل الاستدلال بعينها مستعملة في صورة الإلزام مع اتحاد صورة القياسية من غير فرق
وأيضا فليس كل جملتين تفاوتتا بأمر متناه تكونان متناهيتين فإن عقود الحساب مثلا لا نهاية لأعدادها وإن كانت الأوائل أكثر من الثواني بأمر متناه وهذه الأمور - وإن كانت تقديرية ذهنية - فلا خفاء أن وضع القياس المذكور فيها على نحو وضعه في الأمور الموجودة بالفعل فلا تتوهمن الفرق واقعا من مجرد هذا الاختلاف
والقول بأن ما زادت به إحدى الجملتين على الأخرى لابد وأن تكون له نسبة إلى الثاني غير مسلم ولا يلزم من قبول المتناهي لنسبة المتناهي إليه قبول غير المتناهى لنسبة المتناهى إليه )
حول إبطال القول بعدم النهاية
قال : ( وأما المتكلم فله في إبطال القول بعدم النهاية طرق الأول : ما أسلفناه من الطريقة المذكورة ويلزم عليه ما ذكرناه ما عدا التناقض اللازم للفيلسوف من ضرورة اعتقاد عدم النهاية فيما ذكرناه من الصور وعدم اعتقاد المتكلم لذلك غير أن المناقضة لازمة للمتكلم من جهة اعتقاده عدم النهاية في معلومات الله تعالى ومقدوراته مع وجود ما ذكرناه من الدليل الدال على وجوب النهاية فيها )
قال : ( وما يقال : من أن المعني بكون المعلومات والمقدورات غير متناهية صلاحية العلم لتعلقه بما يصح أن يعلم وصلاحية القدرة لتعلقها بكل ما يصح أن يوجد وما يصح أن يعلم ويوجد غير متناه لكنه من قبيل التقديرات الوهمية والتجويزات الإمكانية وذلك مما لا يمتنع كونه غير متناه بخلاف الأمور الوجودية والحقائق العينية فلا أثر له في القدح أيضا فإن هذه الأمور - وإن لم تكن من موجودات الأعيان غير أنها متحققة في الأذهان ولا يخفى أن نسبة ما فرض استعماله فيما له وجود ذهني على نحو استعماله فيما له وجود عيني )
تعليق ابن تيمية
قلت : التفريق بين الشيئين يحتاج إلى ثبوت الوصف الفارق وثبوت تأثيره و الآمدي سلم لهم الوصف ونازعهم في كونه مؤثرا والتحقيق أن ما ذكروه من الوصف متوحه في القدرة فإن تعلقها بالمعدوم من باب التجويز بخلاف العلم فإن فساد تعلقه بالمعدوم ليس من باب التجويز فإن المعدوم هنا معلوم للعالم ليس المراد بذلك أن ثم صفة تصلح أن يعلم بها المعدوم إذا وجد بل هو معلوم قبل وجوده بخلاف القدرة فإن تعلقها بالمعدوم معناه أنها صفة صلاحة لتعلق المعدوم إذا وجد
قلت : وأيضا فإن قول القائل : المعني بكون المعلومات والمقدروات غير متناهية هو صلاحية العلم والقدرة للتعلق وهو وإن سلم في القدرة فلا يسلم في العلم فإن الكلام ليس هو في إمكان العلم بها بل في العلم الذي يقال إنه علم موجود أزلي متعلق بما لا نهاية له وهذا أمر موجود
وعن هذه الشبهة صار طائفة من النظار إلى استرسال العلم على آحاد نوع العرض كما قاله أبو المعالي وحكي ذلك عن أبي الحسين البصري و داود الجواربي
قال أبو المعالي : ( الأجسام جنس واحد والأعراض أجناسها محصورة وأفراد الجنس غير محصورة ) قال : ( فلا يجوز وجود أجناس لا تتناهى لأنه يجب حينئذ وجود ما لا يتناهى في العلم والدليل دال على نفي النهاية في هذا وهذا ) قال : ( وأما آحاد الأعراض فإن العلم يسترسل عليها استرسالا وأما الجواب بصلاحية التعلق فهو جواب الشهرستاني ونحوه )
الثاني
قال : ( الطريق الثاني - يعني في بيان امتناع ما لا نهاية له - قوله : لو وجد أعداد لا نهاية لها لم تخل : إما أن تكون شفعا أو وترا أو شفعا ووترا معا أو لا شفعا ولا وترا فإن كانت شفعا فهي تصير وترا بزيادة واحد وإن كانت وترا فهي تصير شفعا بزيادة واحد وإعواز الواحد لما لا يتناهى محال وإن كانت شفعا ووترا فهو محال لأن الشفع ما يقبل الانقسام بمتساويين والوتر غير قابل لذلك والعدد الواحد لا يكون قابلا وغير قابل له معا وإن لم يكن شفعا ولاوترا فيلزم منه وجود واسطة بين النفي والإثبات وهو محال وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدد لا نهاية له فالقول به محال )
قال : ( وهو محال من النمط الأول في الفساد لوجهين : الأول : قد نسلم استحالة الشفعية أو الوترية فيما لا نهاية له والقول بأن ما لا يتناهى لا يعوزه الواحد الذي به يصير شفعا إن كان وترا أو وترا إن كان شفعا فدعوى مجردة ومحض استبعاد لا دليل عليه
الوجه الثاني : أنه يلزم عليه عقود الحساب ومعلومات الله تعالى ومقدوراته فإنها غير متناهية إمكانا مع إمكان إجراء الدليل المذكور فيها )
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : أما الوجه الأول فضعيف فإن كون ما لا يتناهى معوزا للواحد كالمعلوم فساده بالضرورة بل يمكن أن يقال : ما لا يتناهى لا يمكن أن يكون لا شفعا ولاوترا لأن الشفع والوتر نوعا جنس العدد المحصور الذي له طرفان : مبدأ ومنتهى فأما إذا قدر ما لا مبدأ ولا منتهى له فليس عددا محصورا فلا يكون شفعا ولا وترا كما يقولوه المسلمون وغيرهم من أهل الملل فيما يحدثه الله تعالى في المستقبل من نعيم الجنة : إنه لا شفع ولا وتر
وهذا أيضا قول الفلاسفة الطبيعية والإلهية : إن ما لا نهاية له لا يكون شفعا ولا وترا وذلك أن ما لا نهاية له ليس طرفان والشفع : ما يقبل الانقسام بقسمين متساويين وهذا إنما يعقل فيما له طرفان منتهيان وإذا لم يمكن أن يكون شفعا لم يمكن أن يكون وترا
وأما عقود الحساب فالمقدر منها في الذهن محصور متناه وما لا يتناهى لا تقدره الأذهان بل كل مايضعفه الذهن من عقود الحساب فهو متناه والمراتب في نفسها متناهية ولكن إحدى المرتبتين لو وجدت أفرادها في الخارج لكانت أكثر من الأولى وليس ذلك تفاوتا في أمور موجودة ولا في الأذهان ولا في الأعيان
الثالث
قال أبو الحسن الآمدي : ( الطريق الثالث : أنه لو وجد أعداد لا نهاية لها فكل واحد منها محصور بالوجود فالجملة محصورة بالوجود وما لا يتناهى لا ينحصر بحاصر )
قال : ( وهو أيضا فاسد لثلاثة أوجه :
الأول : لا نسلم أن الوجود زائد على الموجود حتى يقال : يكون الوجود حاصرا له بل الوجود هو ذات الموجود وعينه على ما يأتي
الثاني : وإن كان زائدا على كل واحد من آحاد الجملة فلا نسلم كونه حاصرا بل عارض مقارن لكل واحد من الآحاد والمعارض المقارن للشيء لايكون حاصرا له
الثالث : سلمنا أن الوجود حاصر لكل واحد من آحاد الجملة ولكن لا نسلم أن الحكم على الآحاد يكون حكما على الجملة ولهذا يصدق أن يقال لكل واحد من آحاد الجملة : إنه جزء الجملة ولا يصدق على الجملة أنها جزء الجملة )
تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول : في إفساد هذا الوجه أيضا : قول القائل ( إنه محصور في الوجود ) أيريد به أن هناك سورا موجودا حصر ما يتناهى أو ما لا يتناهى بين طرفيه أم يريد به أنه موصوف بكونه موجودا ؟ فإن أراد الأول فهو باطل فإنه ليس للموجودات شيء خارج عن الموجودات يحصرها سواء قيل : إنها متناهية أو غير متناهية وإن قيل : إن كل واحد مما لا يتناهى من الموجودات فهو موجود فهذا حق
فإذا سمى المسمى هذا حصرا كان هذا إطلاقا لفظيا وكان قوله حينئذ ( ما لا يتناهى لا يكون محصورا ) بمنزلة قوله ( لا يكون موجودا ) وهذا محل النزاع فقد غير العبارة وصادر على المطلوب ثم ما لا يتناهى في المستقبل موجود باتفاق أهل الملل وعامة الفلاسفة ولم ينازع في ذلك إلا من شذ كالجهم وأبي الهذيل ونحوهما ممن هو مسبوق بإجماع المسلمين محجوج بالكتاب والسنة مخصوم بالأدلة العقلية مع مخالفة جماهير العقلاء من الأولين والآخرين وهو مع هذا محصور بالوجود كما أن ما لا يتناهى في الماضي محصور بالوجود لكنهم يفرقون بأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل ومنازعوهم يقولون : الماضي دخل ثم خرج فصارا جميعا معدومين والمستقبل لم يدخل في الوجود وهة تفريق صوري حقيقته أن الماضي كان وحصل والمستقبل لم يحصل بعد
فيقال لهم : ولم قلتم : إن كل ما حصل وكان يمتنع أن يكون دائما لم يزل ؟ وهو وإن كان متناهيا من الجانب الذي يلينا فالمستقبل أيضا متناه في هذا الواجب وإنما الكلام في الطرفين الآخرين
وأيضا فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها فهي الآن معدومة كما أن الحوادث المستقبلة الآن معدومة فلا هذا موجود ولا هذا موجود الآن وكلاهما له وجود في غير هذا الوقت ذاك في الماضي وهذا في المستقبل وكون الشيء ماضيا ومستقبلا أمر إضافي بالنسبة إلى ما يقدر متأخرا عن الماضي ومتقدما على المستقبل وإلا فكل ماض قد كان مستقبلا وكل مستقبل سيكون ماضيا كما أن كل حاضر قد كان مستقبلا وسيصير ماضيا
الرابع
قال الآمدي : ( الطريق الرابع : أنه لو وجد ما لا يتناهى فما من وقت يقدر إلا وهو متناه في ذلك الوقت وانتهاء ما لا يتناهى محال )
قال : ( وهو أيضا غير سديد فإن الانتهاء من أحد الطرفين - وهو الأخير - وإن سلمه الخصم فلا يوجب النهاية في الطرف الآخر ثم يلزم عليه عقود الحساب ونعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار فإنه وإن كان متناهيا من طرف الابتداء فغير متناه إمكانا في طرف الاستقبال )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الوجه من جنس الوجه السادس الذي ذكره الرازي وهو أنه : ( لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية كان وجود اليوم موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له وانقضاء ما لا نهاية له محال والموقوف على المحال محال )
وقد اعترض عليه الأرموي بما اعترض به هو وغيره بأن انقضاء ما لا نهاية له محال
وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه النزاع وهو من جنس جواب الآمدي فإن الانتهاء الذي يسلمه الخصم هو من أحد الطرفين دون الآخر والآخر هو الابتداء وقد تقدم ذلك
كلام آخر للآمدي
ثم قال الآمدي : ( والأقرب في ذلك أن يقال : لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية وكل واحد منها ممكنا على ما وقع به الفرض فهي : إما متعاقبة وإما معا فإن كانت متعاقبة فقد قيل : إن ذلك محال لوجوه ثلاثة
الأول : أن كل واحد منها يكون مسبوقا بالعدم والجملة مجموع الآحاد فالجملة مسبوقة بالعدم وكل جملة مسبوقة بالعدم فلوجودها أول تنتهي إليه وكل ما لوجوده أول ينتهي إليه فالقول غير متناه محال
الثاني : أن كل واحد منها يكون مشروطا في وجوده علته قبله ولا يوجد حتى توجد علته وكذلك الكلام في علته بالنسبة إلى علتها وهلم جرا
فإذا قيل بعدم النهاية فقد تعذر الوقوف على شرط الوجود فلا وجود لواحد منها وهذا كما إذا قيل : لا أعطيك درهما إلا وقبله درهم فإنه لما كان إعطاء الدرهم مشروطا بإعطاء درهم قبله وكذلك في إعطاء كل درهم يفرض إلى غير النهاية كان الإعطاء محالا
الثالث : هو أن القول بتعاقب العلل والمعلولات يجر إلى تأثير العلة بعد عدمها في معلولها وتأثير المعدوم في الموجود محال )
قال : ( وهذه الحجج مما لا مثبت لها
أما الأولى فلأنه لا يلزم من سبق على كل واحد من الآحاد سبقه على الجملة فإن الحكم على الآحاد لا يلزم أن يكون حكما على الجملة كما سبق تحقيقه
وأما الثاني فإنما يلزم أن لو كان ما توقف عليه الموجود وهو شرط في الوجود غير موجود كما في المثال المذكور وأما إن كان موجودا فلا يلزم امتناع وجود المشروط والقول بأن الشرط غير موجود محل النزاع فلا تقبل الدعوى به من غير دليل
وأما الثالثة فإنما تلزم أيضا أن لو كان معنى التعاقب وجود المعلول بعد عدم علته وليس كذلك بل معناه : وجود المعلول متراخيا عن وجود علته مع بقاء علته موجودة إلى حال وجوده وبقائه موجودا بعد عدم علته وكذلك في كل علة مع معلولها وذلك لا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود ولا أن تكون العلل والمعلولات موجودة معا وذلك متصور في العلل الفاعلة بالاختيار )
قال : ( والأقرب في ذلك أن يقال : لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أو لا وجود لشيء منها في الأزل فإن كان الأول ممتنع لأن الأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم والحادث مسبوق بالعدم فلو كان شيء منها في الأزل لكن مسبوقا بالعدم ضرروة كونه حادثا وغير حادث ضرورة كونه أزليا وإن كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ضرورة أن لا شيء منها في الأزل ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية غير متوقف على سبق غيره عليه وهو المطلوب )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الوجه هو الوجه الثالث الذي ذكره الرازي حيث قال : ( إما أن يقال : حصل في الأزل شيء من هذه الحركات أو لم يحصل فإن لم يحصل في الأزل شيء من هذه الحركات وجب أن يكون لمجموع هذه الحركات والحوادث بداية وأول وهو المطلوب وإن حصل في الأزل شيء من هذه الحركات فتلك الحركة الحاصلة في الأزل إن لم تكن مسبوقة بغيرها كانت تلك الحركة أول الحركات وهو المطلوب وإن كانت مسبوقة بغيرها لزم أن يكون الأول مسبوقا بغيره وهو محال )
وقد اعترض أبو الثناء الأرموي على هذا بأنه ( ليس من الحركات الجزئية أزليا بل كل واحدة منها حادثة وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها فلا يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول )
وبيان هذا الاعتراض - فيما ذكره الآمدي - أن يقال : قوله : ( إما ان يقال بوجود شيء منها في الأزل أو لا وجود لشيء منها في الأزل ) جوابه : أنه ليس شيء بعينه موجودا في الأزل ولكن الجنس لم يزل متعاقبا وحيئنذ يندفع ما ذكره على التقديرين : أما الأول فإنه قال : لو كان شيء منها موجودا في الأزل لكان مسبوقا بالعدم غير مسبوق بالعدم وهذا إنما يلزم إذا قيل في واحد من الحوادث المتعاقبة : إنه قديم أزلي وهذا لا يقوله عاقل
وأما التقدير الثاني : فقوله : ( وإن كان الثاني فقول القائل : العلل والمعلولات المتعاقبة أو غيرها من الحوادث المتعاقبة تكون مسبوقة بالعدم ) إنما يلزم إذا قيل : إن جنسها ليس بقديم ولا أزلي وهذا محل النزاع
وحقيقة الأمر أن قول القائل : ( إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أولا وجود لشيء منها في الأزل ) معناه : إما أن شيئا منها قديم أزلي أو ليس شيء منها قديما أزليا وهذا اللفظ محتمل فإن أراد به أن واحدا من الحوادث المتعاقبة يكون قديما أزليا فهذا لا يقولونه وإن أراد أن جنسها لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وأنه لا أول للجنس بل الجنس قديم أزلي فهذا هو الذي يقولون وحينئذ فلا يلزم من نفي الأزلية عن واحد نفيها عن الجنس
وذلك أن معنى الأزل ليس هو شيئا له ابتداء محدود حتى يقال : هل حصل شيء منها في ذلك المبدأ المحدود ؟ بل معنى الأزل هو معنى القدم ومعناه : ما لا ابتداء لوجوده ولا يقدر الذهن غاية إلا كان قبل تلك الغاية فإذا قال القائل : ( هل وجد شيء من هذه الحوادث في الأزل ) كان معناه : هل منها قديم لا أول لوجوده لم يزل موجودا ؟
والمثبت لذلك إنما يقول : لم يزل الجنس موجودا شيئا بعد شيء كما يقوله المسلمون وجمهور الناس غيرهم في الأبد فيقولون : إنه لا يزال جنس الحوادث يحدث شيئا بعد شيء فلو قال القائل : ( الحوادث المنقضية لا تكون أبدية ولاتكون فيما لا يزال لأنه إما أن يوجد شيء منها في الأبد أو لا وجود لشيء منها في الأبد فإن كان الأول فهو ممتنع لأن الأبدي لا يكون منقضيا بل لا يزال موجودا وإن كان الثاني فجملة المنقضيات ملحوقة بالعدم وما كان ملحوقا بالعدم لم يكن أبديا لأن الأبدي هو ما لا يلحقه العدم كما أن الأزلي ما لا يسبقه العدم ) كان الجواب عن قول هذا القائل بأن يقال : الأبدي هو جنس الحوادث المنقضية لا واحد واحد منها والجنس لا يلحقه العدم وإن لحق آحاده كما قال تعالى { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } ( ص : 54 ) وقال تعالى : { أكلها دائم } ( الرعد : 35 ) فالدائم : هو الجنس وكذلك الذي لا نفاد له هو الجنس لا كل واحد من أعيان الرزق والمأكولات
قول آخر عن الآمدي
وقد أورد الآمدي على نفسه سؤالا وأجاب عنه فقال : ( قولكم : إن لم يوجد شيء منها في الأزل فلها أول وبداية فنقول : لا يلزم من كون كل واحد من العلل والمعلولات غير موجود في الأزل أن تكون الجملة غير أزلية فإنه لا يلزم من الحكم على الآحاد أن يكون حكما على الجملة بل جاز أن يكون كل واحد من أحاد الجملة غير أزلي والجملة أزلية بمعنى تعاقب آحادها إلى غير النهاية ) وقال في الجواب عن هذا : ( قلنا إذا كان كل واحد من الآحاد لا وجود له في الأزل وهو بعض الجملة فليس بعض من أبعاض الجملة يكون موجودا في الأزل وإذا لم يكن شيء من الأبعاض موجودا في الأزل فالجملة غير موجودة في الأزل فإنه لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها )
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : قوله : ( لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها ) أيعني به وجود أبعاضها معها ؟ أو وجود أبعاضها ولو كانت متعاقبة ؟
أما الأول فلا يصح لأن ما فرض متعاقبا لايمكن أن تكون أبعاضه موجودة معه وليس له وجود مجتمع في زمن واحد حتى يمكن اجتماع أبعاضه معه بل وجود أبعاضه - وهو متعاقب مع جملته - جمع بين النقيضين
وإن عنى به وجود ابعضاها كيفما كان فيقال له : هذا صحيح والمنتفي إنما هو وجود شيء من أبعاضها في الأزل ولا يلزم من انتفاء كون الواحد من أبعاضها قديما أزليا أن لا يكون موجودا فإذا كان وجود الجملة موقوفا على وجود أبعاضها فوجود أبعاض المتعاقب ممكن وإن قال : ( إن وجود الجنس المتعاقب الذي هو قديم أزلي أبدي موقوف على كون الواحد من آحاده قديما أزليا أو أبديا ) فهذا محل النزاع
فتبين أن الجواب فيه مغلطة وحقيقة الجواب أنه يجب الحكم على الجملة بما يحكم به على أفرادها وقد بين هو وغيره فساد هذا الجواب فإنه إذا لم يكن بعض الجملة أزليا كان ذلك سلبا للأزلية عن أفراد الجنس ونفي الأزلية هو لحدوث فيصير معنى الكلام : إذا كان كل واحد من الأفراد أو الأبعاض المتعاقبة حادثا وجب أن يكون الجنس المتعاقب حادثا وقد عرف فساد هذا الكلام
و أبو الحسن الآمدي وغيره أدخلوا هذه المقدمة - أعني منع العلل المتعاقبة - في إثبات واجب الوجود ولا حاجة بهم إليها وهي مبنية على مقدمتين إحداهما : أن العلة قد تتقدم المعلول وقد ذكر هو في كتابه المسمى بـ ( دقائق الحقائق ) نقيض ما ذكره هنا في كتابه المسمى ( أبكار الأفكار ) وذكر في إثبات واجب الوجود هذه الطريقة التي تقدمت حكايتها عنه وقال فيها : إن كانت العلل والمعلولات غير متناهية فإما أن تكون متعاقبة أو معا لا جائز أن يقال بالأول إذ قد بينا امتناع الافتراق بين العلة والمعلول فيما تقدم )
والذي قاله فيما تقدم هو أن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة لمعلوله ولا كون المعلول معلولا إلى سبق العدم فإن ما كان من المعلولات الوجودية مسبوقا بالعدم : إما أن يكون وجوده بإيجاد العلة له في حال وجوده أو في حال عدمه لا جائز أن يكون ذلك له في حال عدمه لامتناع اجتماع الوجود والعدم فلم يبق إلا أن يكون موجودا له في حال وجوده لا بمعنى أنه أوجد بعد وجوده بل بمعنى أن ما قدر له من الوجود غير مستغن عن العلة بل يستند إليها ولولاها لما كان وإذا ذاك الفرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق بالعدم
تعليق ابن تيمية
قلت : هذه الحجة هي حجة ابن سينا وأمثاله على أن المعلول يكون مع العلة في الزمان وهي حجة فسادة وبتقدير صحتها لا تنفع الآمدي في هذا المقام فإن الناس لهم في مقارنة المعولل لعلته والمفعول لفاعله ثلاثة أقوال :
الأقوال في مقارنة المعلول لعلته الثانية
قيل : يجب أن يقارن الأثر ولتأثيره بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان فلا يتعقبه ولا يتراخى عنه وهذا قول هؤلاء الدهرية القائلين بأن العالم قديم عن موجب قديم وقولهم أفسد الأقوال الثلاثة وأعظمها تناقضا فإنه إذا كان الأثر كذلك لزم أن لا يحدث في العالم شيء فإن العلة التامة إذا كانت تسلتزم مقارنة معلولها لها في الزمان وكان الرب علة تامة في الأزل - لزم أن يقارنه كل معلول وكل ما سواه معلول له : إما بواسطة وإما بغير واسطة فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء
وأيضا فما يحدث من الحوادث بعد ذلك يفتقر إلى علة تامة مقارنة له فيلزم تسلسل علل أو تمام علل ومعلولات في آن واحد وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وإن قدر أن الرب لم يكن علة تامة في الأزل بطل قولهم
وقيل : بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر التام كما يقوله أكثر أهل الكلام ويلزم من ذلك أن يصير المؤثر مؤثرا تاما بعد أن لم يكن مؤثرا تاما بدون سبب حادث أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام
وهذا قول كثير من أهل الكلام منهم من يقول : القادر يرجح أحد المقدورين بلا مرجح
ومنهم من يقول : بل يرجح بالإرادة القديمة الأزلية
ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول : بل يرجح مع كون الرجحان أولى لا مع وجوبه وهو قول محمود الخوارزمي من الأولين وهو قول محمد بن الهيثم الكرامي وغيره من الآخرين فإن الكرامية مع الأشعرية والكلابية يقولون : المرجح هو الإرادة القديمة الأزلية ويقولون : إن الإرادة لا توجب المراد لكن منهم من يقول : من شأن الإرادة أن ترجح بلا مزية للترجيح بل مع تساوي الأمرين كما تقوله الأشعرية : ومنهم من يقول : ترجيح أولوية الترجيح وهذا قول الكرامية
والقول الثالث : أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره عقبه لا معه في الزمان ولا متراخيا عنه كما قال تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب لأنه مسبوق بوجود التأثير ليس زمنه زمن التأثير والقادر المريد يستلزم مع وجود القدرة والإرادة وجود المقدور المراد والقدرة والإرادة حاصلان قبل المقدور المراد ومع وجود المقدور المراد هما مستلزمان له وهذا قول أكثر أهل الإثبات
وعلى هذا فيجب الفرق بين وجود العلة والفاعل والمؤثر عند وجود الأثر في الزمان فإن هذا لا بد منه وبين وجود العلة التي هي الفعل والتأثير في الزمان فإن هذا هو الذي يتعقبه المفعول المعلول الذي هو الأثر
ومن الناس من فرق بين التأثير القادر المختار وتأثير العلة الموجبة فزعم أن الأول لا يكون إلا مع تراخي الأثر والثاني لا يكون إلا مع مقارنة الأثر للمؤثر
وهذا أيضا غلط فإن الأدلة الدالة توجب التسوية لو قدر أنه يمكن أن يكون المؤثر غير قادر مختار فكيف إذا كان ذلك ممتنعا ؟
وكون المعلول والمفعول لا يكون مفعولا معلولا إلا بعد عدمه هو من القضايا الضرورية التي اتفق عليها عامة العقلاء من الأولين والآخرين وكل هؤلاء يقولون : ما كان معلولا يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم
وممن قال ذلك أرسطو وأتباعه حتى ابن سينا وأمثاله صرحوا بذلك لكن ابن سينا تناقض مع ذلك فزعم أن الفلك هو قديم أزلي مع كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مخالف لما صرح به هو وصرح به أئمته وسائر العقلاء وهو مما أنكره عليه ابن رشد الحفيد وبين أن هذا مخالف لما صرح به أرسطو وسائر الفلاسفة وأن هذا لم يقله أحد قبله
وأرسطو لم يكن يقسم الوجود إلى واجب وممكن ولا يقول : إن الأول موجب بذاته للعالم بل هذا قول ابن سينا وأمثاله وهو - وإن كان أقرب إلى الحق مع فساده وتناقضه - فليس هو قول سلفه بل قول أرسطو وأتباعه : إن الأول إنما افتقر إليه الفلك لكونه يتحرك للتشبه به لا لكون الأول علة فاعلة له
وحقيقة قول أرسطو وأتباعه : أن ما كان واجب الوجود فإنه يكون مفتقرا إلى غيره فيكون جسما مركبا حاملا للأعراض فإن الفلك عندهم واجب بذاته وهو كذلك كما قد بسط كلامهم والرد عليهم في غير هذا الموضع وبين ما وقع من الغلط في نقل مذاهبهم وأن أتباعهم صاروا يحسنون مذاهبهم فمنهم من يجعل الأول محدثا للحركة بالأمر وليس هذا قولهم فإن الأول عندهم لا شعور له بحركة ولا إرادة وإنما الفلك يتحرك عندهم للتشبه به فهو يحركه كتحريك الإمام للمؤتم به أو المعشوق لعاشقه لا تحريك الآمر لمأموره كما يزعمه ابن رشد وغيره
ومنهم من يقول : بل هو علة مبدعة فاعلة للأفلاك كما يقوله ابن سينا وأتباعه وليس هذا أيضا قولهم
ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة إلا ما ذكره ابن سينا وأتباعه وليس هذا أيضا قولهم
ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة إلا ما ذكره ابن سينا كأبي حامد الغزالي و الرازي و الآمدي وغيرهم ويذكرون ما ذكره ابن سينا من حججه كما ذكره الآمدي في هذا الموضع حيث قال : ( إن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة إلى سبق العدم لأن تأثير العلة في المعلول إنما هو في حال وجود المعلول )
فيقال لهم : ليس في هذا ما يدل على أن المعلول يجوز أن يكون قديما أزليا غير مسبوق بالعدم بل قولكم : ( وإذ ذاك فلا فرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق ) دعوى مجردة
فتبين أن ما ذكره الآمدي وغيره من امتناع الافتراق بين العلة والمعلول في الزمن ووجوب مقارنتهما في الزمن من أضعف الحجج بل ما ذكره لا يدل على جواز الإقتران فضلا عن أن يدل على وجوب الاقتران بل غاية ما ذكره أن سبق العدم ليس بشرط في إيجاد العلة ولا يلزم من كونه ليس بشرط وجوب الاقتران بل قد يقال بجواز الاقتران وجواز التأخير
وحينئذ فلقائل أن يقول : هذا الذي ذكرته وإن كان باطلا كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه أن للناس في هذا المقام ثلاثة أقوال :
قيل : يجوز أن يقارن المعلول العلة في الزمان فيقترن الأثر بالمؤثر في الزمان كما يقوله ابن سينا ومتابعوه
وقيل : بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر وتأثيره كما يقوله أكثر المتكلمين
وقيل : بل الأثر يتعقب التأثير ولا يكون معه في الزمان ولا يكون متراخيا عنه وهذا هو الصواب كما قال تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) لهذا يقال : طلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق فالعتق والطلاق عقب التطليق والإعتاق لا يقترن به ولا يتأخر عنه
وبين أن من قال باقتران الأثر بالمؤثر كما يقوله هؤلاء المتفلسفة فإن ذلك يستلزم أن لا يكون لشيء من الحوادث فاعل ويستلزم أن لا يحدث شيء في العالم ومن قال بالتراخي فقوله يستلزم أن المؤثر التام لا يستلزم الأثر بل يحدث الحادث بلا سبب حادث وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هذا الجواب الذي ذكره هو مأخوذ من كلام ابن سينا وهو مع فساده غايته أن المعلول يجوز أن يقارن وجوده وجود العلة لا يجب أن يكون مسبوقا بالعدم مع وجود العلة وليس في هذا بيان أنه يمتنع تأخر وجوده عن وجود العلة
والأقسام الممكنة ثلاثة : إما أن يقال بوجوب المقارنة أو بوجوب التأخر أو بجواز الأمرين وما ذكرته لا يدل على شيء من ذلك ولو دل فإنما يدل على جواز الاقتران لا على وجوبه وأنت فيما ذكرته هناك جوزت تأخر المعلول فلا منافاة بين الأمرين
وذلك أن غاية ما ذكرته أن المؤثر - أي : المعلول الذي هو المصنوع المفعول - إما أن تكون تأثيراته قديمة كواجب الوجود وذلك لا ينفي أن يكون التأثير به هو الأحداث فإن فاعل هذه الحادثات تأثيره فيها في حال الوجود مع كونها محدثة فليس كون التأثير فيها في حال وجودها مما ينفي أنه لا بد أن تكون محدثة
وقولك : ( إذا كان التأثير فيها في حال وجودها فلا فرق بينه أن يكون وجودها مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق ) دعوى مجردة لاستواء الحالين والعقلاء يعلمون - بضرورة عقلهم - أن المبدع الفاعل لا يعقل أن يبدع القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا وإنما يعقل إبداع ما لم يكن ثم كان بل العقلاء متفقون على أن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا بعد عدمه ولا يكون قديما أزليا
وهذا مما اتفق عليه الفلاسفة مع سائر العقلاء وقد صرح به أرسطو وجميع أتباعه حتى ابن سينا وأتباعه ولكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا فادعوا في موضع آخر أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه قد يكون قديما أزليا ومن قبله من الفلاسفة - حتى الفارابي - لم يدعو ذلك ولا تناقضوا وقد حكينا أقوالهم في غير هذا الموضع
وأما المقدمة الثانية التي بنوا عليها امتناع العلل المتعاقبة فهي مبينة على امتناع حوادث لا أول لها والمتفلسف لا يقول بذلك فلم يمكنهم أن يجعلوها مقدمة في إثبات واجب الوجود
والتحقيق أنه لا يحتاج إليها بل ولا يحتاج في إثبات واجب الوجود إلى هذه الطريقة كما قد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وهؤلاء تجدهم - مع كثرة كلامهم في النظريات والعقليات وتعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها وأشرفها وأسناها - لا يحققون ما هو المقصود منه بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق وإن أثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها بل قد يورثون الناس شكا فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية
والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بإفسادها وتغييرها قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } ( الروم : 30 - 32 )
وفي الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا : يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
فالإقرار بالخالق سبحانه وتعالى والاعتراف بوجود موجود واجب الوجود قديم أزلي كما أنه مركوز في الفطرة مستقر في القلوب فبراهينه وأدلته متعددة جدا ليس هذا موضعها وهؤلاء عامة ما يذكرونه من الطرق : إما أن يكون فيه خلل وإما أن يكون طويلا كثير التعب والغالب عليهم الأول
إثبات الرازي للصانع
فالرازي أثبت الصانع بخمسة مسالك وهي كلها مبنية علىمقدمة واحدة
( الأول )
الاستدلال بحدوث الذوات كالاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض كالحركة والسكون وامتناع ما لا نهاية له وهذا طريق المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية كأبي المعالي - بناء على أن أجسام العالم محدثه وكل محدث فله محدث
تعليق ابن تيمية
أما المقدمة الأولي فقد تبين كلامهم فيها ومناقضة بعضهم بعضا وأنهم التزموا لأجلها : إما جحد صفات الله وأفعاله القائمة به وإما جحد بعض ذلك وأنهم اشترطوا في خلق الله تعالى للعالم ما ينافي خلق العالم فسلطوا عليهم أهل الملل والفلاسفة جميعا
وأما الثاني فهي أظهر وأعرف وأبده في العقول من أن تحتاج إلي بيان فبنوها على أن كل محدث فهو ممكن الوجود وأن الممكن يحتاج في وجوده إلى مؤثر موجود وكل من هاتين المقدمتين صحيحة في نفسها مع أن القول بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأظهر في العقل من القول بافتقار الممكن إلى المؤثر الموجود فبتقدير بيانهم للمقدمتين يكونون قد طولوا وداروا بالعقول دورة تبعد على العقول معرفة الله تعالى والإقرار بثبوته وقد يحصل لها في تلك الدورة من الآفات ما يقطعها عن المقصود فكانوا كما قيل لبعض الناس : أين أذنك ؟ فرفع يده وأدارها على رأسه ومدها وتمطى وقال : هذه أذني وكان يمكنه أن يشير إليها بالطريق المستقيم القريب ويقول : هذه أذني وهو كما قيل :
( أقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء )
وهو نظير ما يذكر عن يعقوب بن إسحاق الكندي فيما حكاه عنه السيرافي من قوله : هذا من باب فقد عدم الوجود وفقد عدم الوجود هو الوجود فكيف وقد ذكروا في افتقار الممكن إلى الواجب بنفسه مع ظهوره وبيانه كما قد بيناه في غير هذا الموضع : ما هو نقيض المقصود : من التعليم والبيان : وتحرير الأدلة والبراهين وقد تكلمنا على تقرير ما يتعلق بهذا المقام في غير هذا الموضع
الثاني
قال الرازي : ( المسلك الثاني : الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع سبحانه وتعالى وهو عمدة الفلاسفة قالوا : الأجسام ممكنة وكل ممكن فل بد له من مؤثر أما بيان كونها ممكنة فبالطريق المذكورة في مسألة الحدوث وأما بيان أن الممكن لا بد له من مؤثر فبالطريق المذكورة هنا )
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذه الطريقة هي طريقةابن سينا وأمثاله من المتفلسفة وليست طريقة أرسطو والقدماء من الفلاسفة وابن سينا كان يعجب بهذه الطريقة ويقول : إنه أثبت واجب الوجود من نفس الوجود من غير احتياج إلى الاستدلال بالحركة كما فعل أسلافه الفلاسفة ولا ريب أن طريقته تثبت وجودا واجبا لكن لم تثبت أنه مغاير للأفلاك إلا ببيان إمكان الأجسام كما ذكره الرازي عنهم وإمكان الأجسام هو مبني على توحيدهم المبني على نفي صفات الله تعالى كما تقدم التنبيه عليه وهو من أفسد الكلام كما قد بين ذلك في غير موضع
ومن طريقهم دخل القائلون بوحدة الوجود وغيرهم من أهل الإلحاد القائلين بالحلول والإتحاد كصاحب الفصوص وأمثاله الذين حقيقة قولهم : تعطيل الصانع بالكلية والقول بقول الدهرية الطبيعية دون الإلهية
الثالث
قال : ( المسلك الثالث : الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة و قديمة أو ممكنة وحادثة )
قال : ( وتقريره أن يقال : اختصاص كل جسم بما له من الصفات : إما أن يكون لجسميته أو لما يكون حالا في الجسمية أو لما يكون محلا لها أو لما لا يكون حالا فيها ولا محلا لها وهذا القسم الأخير : إما أن يكون جسما أو جسمانيا أولا جسما ولا جسمانيا وتبطل كل هذه الأقسام سوى القسم الأخير بما مر تقريره في إثبات المسلك الأول في مسألة حدوث العالم )
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا هو القول بتماثل الأجسام وأن تخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص والقول بتماثل الأجسام في غاية الفساد و الرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع وهذا الذي أحال عليه ليس فيه إلا أن الجسم لا يكون اختصاصه بالحيز واجبا بل جائزا وبتقدير ثبوت هذا في التحيز لا يلزم مثله في سائر الصفات
وما ذكره من الدليل لا يصح وذلك أنه قال : ( اختصاصه بذلك إن كان واجبا ) : فإما أن يكون الوجوب لنفس الجسمية أولأمر للجسمية أو لأمر الجسمية عرضت له أو لأمر غير عارض لها ولا معروض لها والأول يوجب اشتراك الأجسام في تلك الصفة وإن كان لعارض : فإما أن يكون ممتنع الزوال وهو اللازم أو ممكن الزوال وهو العارض فإن العرض في اصطلاحهم أعم من العرض فإن كان ممتنع الزوال : فإن كان الامتناع لنفس الجسمية عاد الإشكال الأول وإن كان لغيرها أفضى للتسلسل وإن كان لمعروض الجسمية لم يصح لأن المعقول من الجسمية الذهاب في الجهات فلو كان في محل لكن ذلك المحل يجب أن يكون ذاهبا في الجهات فيكون محل الجسمية جسما لأنه إن لم يكن ذاهبا في الجهات لم يكن له اختصاص بالحيز فلا يعقل حصول الجسم المختص بالحيز في محل غير مختص بالحيز وإذا كان محله ذاهبا في الجهات كان جسما وحينئذ فالقول في اختصاصه بذلك الحال فيه كالقول في الحيز لا يجوز أن يكون للجسمية أو لوازمها بل لأمر عارض ممكن الزوال فيكون ذلك الحيز ممكن الزوال وهو المقصود )
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الدليل مبني على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء على خلافه وقد قرر الرازي في موضع آخر أنها مختلفة لا متماثلة وهو مبني أيضا على الكلام في الصورة والمادة ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسط الكلام فيه لكن يبين فساده ببيان موضع المنع في مقدماته
قوله : ( إن كان الامتناع لغير الجسمية أفضى إلى التسلسل ) ممنوع فإن الأجسام إذا كانت مشتركة في مسمى الجسمية وقد اختص بعضها بصفات أخرى لم يجب في ذلك التسلسل كما في سائر الأمور التي تشترك في شيء وتفترق في شيء فالمقادير والحيوانات إذا اشتركت في مسمى القدر والحيوانية واختص بعضها عن بعض بشيء آخر لازم له لم يلزم التسلسل سواء قيل بتماثل الأجسام أو اختلافها فإنه إن قيل باختلافها كانت ذات كل واحد موصوفة بصفات لازمة لها لا توجد في الآخر كسائر الحقائق المختلفة وإن قيل بتماثلها كتماثل أفراد النوع فالموجب لوجود كل فرد من تلك الأفراد هو الموجب لصفاته اللازمة له لا تفتقر صفاته اللازمة له إلى موجب غير الموجب لذاته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فيه فساد ما يقوله المنطقيون : من أن اختلاف أفراد النوع إنما هو بسبب المادة القابلة ونحو ذلك فإنهم بنوه على أن للحقيقة الموجودة في الخارج سببا غير سبب وجودها وهذا غلط لا يستريب فيه من فهمه مع أنه لاحاجة بنا هنا إلى هذا بل نقول : مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسما أو متحيزا أو موصوفا أو مقدرا أو غير ذلك لا يمنع اختصاص أحدهما بصفات لازمة له وليس إذا احتاج اختصاصه بالحيز إلى سبب غير الجسمية المشتركة يلزم أن يكون ذلك المخصص له مخصص آخر بل المشاهد خلاف ذلك فإن اختصاص الأجسام المشهودة بأحيازها ليس للجسمية المشتركة بل لأمر يخصها هو من لوازمها بمعنى أن المقتضي لذاتها هو المقتضى لذلك اللازم
وأيضا فقوله : ( إن كان الامتناع لمعروض الجسمية فهو محال ) ممنوع
وقوله : ( لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات فمحله لا بد أن يكون له ذهاب في الجهات )
يقال له : محل الامتداد في الجهات هو الممتد في الجهات كما أن محل التحيز هو المتحيز ومحل الطول والعرض والعمق هو الطويل العريض العميق ومحل المقدار هو المقدر وكذلك محل السواد والبياض هو الأسود والأبيض وهذا في كل ما يوصف بصفة فمحل الصفة هو الموصوف وهكذا جميع مسميات المصادر وغيرها من الأعراض محلها الأعيان القائمة بنفسها فإذا كانت الجسمية هي الامتداد في الجهات التي هي الطول والعرض والعمق مثلا كان محلها هو الشيء الممتد في الجهات الذي هو الطويل العريض العميق وحينئذ فمحلها له اختصاص بالحيز ويكون ذلك المعروض للجسمية الذي هو محل لها الممتد في الجهات هو المقتضي لاختصاصه بما اختص به من الصفات اللازمة وهو مستلزم لذلك كما هو مستلزم للامتداد في الجهات فجنس الجسم مستلزم لجنس الامتداد وجنس الأعراض والصفات فالجسم المعين هو مستلزم للامتداد المعين في الجهات المعينة ومستلزم للصفات المعينة التي يقال : إنها لازمة له حتى إنه متى قدر عدم تلك اللوازم فقد تبطل حقيقته فالموجب لها هو الموجب لحقيقته وهذا مطرد في كل ما يقدر من المواصفات المستلزمة لصفاتها كالحيوانية والناطقية للإنسان وكذلك الإغتذاء والنمو للحيوان والنبات مثلا فإن كون النبات ناميا متغذيا هو صفة لازمة له لعموم كونه جسما ولا لسبب غير حقيقته التي يختص بها بل حقيقته مستلزمة لنموه وأغتذائه وهذه الصفات أقرب إلى أن تكون داخلة في حقيقته من كونه ممتدا في الجهات وإن كان ذلك أيضا لازما له فإنا نعلم أن النار والثلج والتراب والخبز والإنسان والشمس والفلك وغير ذلك كلها مشتركة في أنها متحيزة ممتدة في الجهات كما أنها مشتركة في أنها موصوفة بصفات قائمة بها وفي أنها حاملة لتلك الصفات وما به افترقت وامتاز بعضها عن بعض أعظم مما فيه اشتركت فالصفات الفارقة بينها الموجبة لاختلافها ومباينة بعضها لبعض أعظم مما يوجب تشابهها ومناسبة بعضها لبعض فمن يقول بتماثل الجواهر والأجسام يقول : إن الحقيقة هي ما اشتركت فيه من التحيزية والمقدارية وتوابعها وسائر الصفات عارضة لها تفتقر إلى سبب غير الذات
ومن يقول باختلافها يقول : بل المقدارية للجسم والتحيزية للمتحيز كالموصوفية للموصوف واللونية للملون والعرضية للعرض والقيام بالنفس للقائمات بأنفسها ونحو ذلك ومعلوم أن الموجودين إذا اشتركا في أن هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه : لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن هذا لون وهذا لون وهذا طعم وهذا طعم وهذا عرض وهذا عرض : لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن لهذا مقدارا ولهذا مقدارا ولهذا حيزا ومكانا ولهذا حيزا ومكانا : كان أولى أن لا يوجب هذا تماثلهما لأن الصفة للموصوف أدخل في حقيقته من القدر للمقدر والمكان للمتمكن والحيز للمتحيز فإذا كان اشتراكهما فيما هو أدخل في الحقيقة لا يوجب التماثل فاشتراكهما فيما هو دونه في ذلك أولى بعدم التماثل والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا : التنبيه على مجامع ما أثبتوا به الصانع
الرابع
قال الرازي : ( المسلك الرابع الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع تعالى مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا فإذا كانت تلك التركيبات أعراضا حادثة والعبد غير قادر عليه فلا بد من فاعل آخر ثم من ادعى العلم بأن حاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة هنا ومن استدل على ذلك بالإمكان أو القياس على حدوث الذوات فكذلك يقول أيضا في حدوث الصفات )
قال : ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال لحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن وهي التي جاءت بها الرسل وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث ويذكر في آياته خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ونحو ذلك لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حوادثها ولا تزال موجودة وإنما تغيرت صفاتها بتقدير حدوثها كان تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون وكما تتغير ألوانه وكما تتغير أشكاله وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم
وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم : أن الرب لم يزل معطلا لا يفعل شيئا ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئا بل إنما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل : الأنبياء وأتباعهم وبينهم وبين الفلاسفة في مثل هذا نزاع أخطأ فيه كل من الفرقين فإن الفلاسفة يقولون بإثبات المادة والصورة ويجعلون المادة والصورة جوهرين وهؤلاء يقولون : ليست الصورة إلا عرضا قائما بجسم
والتحقيق : أن المادة والصورة لفظ يقع على معان كالمادة والصورة الصناعية والطبيعية والكلية والأولية
فالأول : مثل الفضة إذا جعلت درهما وخاتما وسبيكة والخشب إذا جعل كرسيا واللبن والحجر إذا جعل بيتا والغزل إذا نسج ثوبا ونحو ذلك فلا ريب أن المادة هنا التي يسمونها الهيولى : هي أجسام قائمة بنفسها وأن الصورة أعراض قائمة بها فتحول الفضة من صورة إلى صورة هو تحولها من شكل إلى شكل مع أن حقيقتها لم تتغير أصلا
وبهذا يظهر لك خطأ قول القائل : إن من أثبت افتقار المحدث إلى الفاعل بالقياس على حدوث الذوات قال هنا كذلك وهذه الطريقة طريقة أبي علي و أبي هاشم ومن وافقهما
فيقال : هؤلاء إنما قاسوا على افتقار الكتابة إلى كاتب والبناء إلى بان ونحو ذلك ومعلوم أن البناء والكاتب لم يبدع جسما وإنما أحدث في الأجسام تأليفا خاصا وهو عرض من الأعراض فكيف يجعل مثل هذا محدثا للذوات ويجعل الذي خلق الإنسان من نطفة والشجرة من نواة إنما أحدث الصفات ؟ لكن المعتزلة لا يقولون : إن الجسم يحدث جسما وإنما يحدث عرضا
والثاني : من معاني المادة والصورة : هي الطبيعية وهي صورة الحيوانات والنباتات والمعادن ونحو ذلك فهذه إن أريد بالصورة فيها نفس الشكل الذي لها فهو عرض قائم بجسم وليس هذا مراد الفلاسفة وإن أريد بالصورة نفس هذا الجسم المتصور فلا ريب أنه جوهر محسوس قائم بنفسه
ومن قال : ( إن هذا عرض قائم بجوهر ) من أهل الكلام فقد غلط وحينئذ فيقول المتفلسف : إن هذه الصورة قائمة بالمادة والهيولى إن أراد بذلك ما خلق منه الإنسان كالمني - وهو لم يرد ذلك - فلا ريب أن ذاك جسم آخر فسد واستحال وليس هو الآن موجودا بل ذاك صورة وهذا صورة والله تعالى خلق إحداهما من الأخرى وإن أراد أن هنا جوهرا بنفسه غير هذا الجسم المشهود الذي هو صورة وأن هذا الجسم المشهود - الذي هو صورة - قائم بذلك الجوهر العقلي فهذا من خيالاتهم الفاسدة
ومن هنا تعرف قولهم في الهيولى الكلية حيث ادعوا أن بين أجسام العالم جوهرا قائما بنفسه تشترك في الأجسام ومن تصور الأمور وعرف ما يقول علم أنه ليس بين هذا الجسم المعين وهذا الجسم المعين قدر مشترك موجود في الخارج أصلا بل كل منهما متميز عن الآخر بنفسه المتناولة لذاته وصفاته ولكن يشتركان في المقدارية وغيرها من الأحكام اللازمة للأجسام وعلم أن اتصال الجسم بعد انفصاله هو نوع من التفرق والتفرق والاجتماع هما من الأعراض التي يوصف بها الجسم فالإتصال والإنفصال عرضان والقابل لهما نفس الجسم الذي يكون متصلا تارة ومنفصلا تارة أخرى كما يكون مجتمعا تارة ومفترقا أخرى ومتحركا تارة وساكنا أخرى وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
الخامس
قال الرازي : ( والطريقة الخامسة - وهي عند التحقيق عائدة إلى الطرق الأربع - وهي الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل والذي يدل على علم الفاعل هو بالدلالة على ذاته أولى )
تعليق ابن تيمية
قلت : والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم هو الحق الموافق لصريح المعقول وأن ما بينه من الآيات والدلائل والبراهين العقلية في إثبات الصانع سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله هو فوق نهاية العقول وأن خيار ما عند حذاق الأولين والآخرين من الفلاسفة والمتكلمين هو بعض ما فيه لكنهم يلبسون الحق بالباطل فلا يأتون به على وجهه كما أن طريقة الاستدلال بحدوث المحدثات على إثبات الصانع الخالق هي طريقة فطرية ضرورية وهي خيار ما عندهم بل ليس عندهم طريقة صحيحة غيرها لكنهم أدخلوا فيها من الاختلال والفساد ما يعرفه أهل التحقيق والانتقاد الذي آتاهم الله الهدى والسداد
وقد بسط الكلام على هذه المطالب في غير الموضع
بسم الله الرحمن الرحيم : فصل
وأما ما تكلموا به في وجود واجب الوجود وتحيرهم فيه هل وجوده حقيقة أو زائد على حقيقته ؟ وفي صفاته وأفعاله ؟ فهذا بحر واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع
وقد اعترف الرازي بحيرته في مسائل الذات والصفات والأفعال وهو تارة يقول بقول هؤلاء وتارة يقول بقول هؤلاء والآمدي متوقف في مسائل الوجود والذات ونحو ذلك مع أنه لم يذكر دليلا على إثبات واجب الوجود البتة فإنه ظن أن الطرق المذكورة ترجع إلى الاستدلال بالإمكان على المرجع الموجب فلم يسلك في إثبات واجب الوجود إلا هذه الطريقة التي هي طريقة ابن سينا لكن ابن سينا وأتباعه قرروها أحسن من تقرير الآمدي فإن أولئك أثبتوا أثبتوا واجب الوجود بالبرهان العقلي الذي لا ريب فيه لكن احتجوا على مغايرته للموجودات المحسوسة بطريقتهم المبنية على نفي الصفات وهي باطلة
كلام الآمدي في الأبكار في أثبات واجب الوجود
وأما الآمدي فلم يقرر إثبات واجب الوجود بحال بل قال في كتاب أبكار الأفكار في أعظم مسائل الكتاب وهي مسألة إثبات واجب الوجود : مذهب أهل الحق من المتشرعين وطوائف الإلهيين القول بوجوب وجود وجوده لذاته لا لغيره وكل ما سواه فمتوقف في وجوده عليه خلافا لطائفة شاذة من الباطنية ومنشأ الاحتجاج على ذلك ما نشاهده من الموجودات العينية ونتحققه من الأمور الحسية فإنه إما أن يكون واجبا لذاته أو لا يكون واجبا لذاته فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فك موجود لا يكون واجبا لذاته فهو ممكن لذاته لأنه لو كان ممتنعا لذاته لما كان موجودا وإذا كان ممكنا فالوجود والعدم عليه جائزان عند ذلك فإما أن يكون في وجوده مفتقرا إلى مرجح أو غير مفتقر إليه فإن لم يكن مفتقرا إلى المرجح فقد ترجح أحد الجائزين من غير مرجح وهو ممتنع وإن افتقر إلى المرجح فذلك المرجح إما واجب لذاته أو لغيره فإن كان الأول فهو مطلوب وإن كان الثاني فذلك الغير إما أن يكون معلولا لمعلوله أو لغيره فإن كان الأول فيلزم أن يكون كل واحد منهما مقوما للآخر ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما مقوما لمقوم نفسه فيكون كل فليحج منهما مقوما لنفسه لأن مقوم المقوم مقوم وذلك يوجب جعل كل واحد من الممكنين متقوما بنفسه والمقوم بنفسه لا يكون ممكنا وهو خلاف الفرض ولأن التقويم إضافة بين المقوم والمقوم فيستدعى المغايرة بينهما ولا مغايرة بين الشيء ونفسه وإن كان الثاني : وهو أن يكون ذلك الغير معلولا للغير فالكلام في ذلك الغير كالكلام في الأول وعند ذلك فإما أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الموجودات غير مفتقر في وجوده إلى غيره أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فهو ممتنع
ثم ذكر الأدلة المتقدمة على إبطال التسلسل وبين فسادها كلها كما تقدم حكاية قوله واختار الحجة المذكورة عنه التي حكيناها فقال وإن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معا فلا يخفى أن النظر إلى الجملة غير النظر إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد وعند ذلك فالجملة موجودة وهي إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة وإلا لما كانت آحادها ممكنة وقد قيل : إنها ممكنة كما سبق وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح والمرجح إما أن يكون داخلا فيها أو خارجا عنها لا جائز أن يقال بالأول فإن المرجح للجملة للجملة مرجح لآحادها يلزم أن يكون مرجحا لنفسه ضرورة كونه من الآحاد ويخرج بذلك عن أن يكون ممكنا وهو خلاف الفرض وأن يكون مرجحا لعلته لكونه من الآحاد وفيه جعل العلة معلولا والمعلول علة وهو دور ممتنع وأن كان المرجح خارجا عنها فهو إما ممكن أو واجب فإن كان ممكنا فهو من الجملة وهو خلاف الفرض فلم يبق إلا أن يكون واجبا لذاته وهو المطلوب
قلت : فهذه الطريقة التي ذكرها لم يذكر غيرها في إثبات الصانع ثم أورد على نفسه أسئلة كثيرة منها قول المعترض : لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي مع إشعاره بالحصر صحته في غير المتناهي سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وأنه ممكن ولكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون معللا بغير علة الآحاد سلمنا أنه زائد على الآحاد ولكن ما لمانع أن يكون مترجحا بآحاد الداخلة فيه لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من الآحاد بالآخر إلى غير النهاية وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ولا أن يكون المرجح للجملة مرجح لنفسه ولا لعلته
ثم قال في الجواب : قولهم : لا نسلم أن مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية قلنا : إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب قولهم : ما لمانع من أن يكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه ؟ قلنا : إما ان يقال : تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها أو بواحد منها فإن كان بواحد منها فالحال الذي ألزمناه حاصل وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المرفوضة و فيه ترجح الشيء بنفسه و هو محال
تعليق ابن تيمية
فهذا ما ذكره في كتابه المشهور بأبكار الأفكار المصنف في الكلام وليس في هذا تعرض لإبطال علل ومعلولات ممكنة مجتمعة لا نهاية لها ولكن فيه إثبات واجب الوجود خارجا عنها وقد ذهب طائفة من أهل الكلام كأصحاب معمر إلى إثبات معان لانهاية لها مجتمعة وهي الخلق وهي شرط في الحدوث
ثم إنه في كتابه المسمى بدقائق الحقائق في الفلسفة ذكر هذه الحجة وزاد فيها إبطال إثبات علل ومعلولات لا نهاية لها ولكنه اعتراض عليها باعتراض وذكر أنه لا جواب له عنه فبقيت حجته على إثبات واجب الوجود موقوفة على هذا الجواب
فقال بعد أن ذكر ما ذكره هنا الجملة إما أن تكون باعتبار ذاتها واجبة أو ممكنة إذا كانت الآحاد ممكنة ومعناه افتقار كل واحد إلى علته وكانت الجملة هي مجموع الآحاد فلا مانع من إطلاق الوجوب وعدم الإمكان عليها بمعنى أنها غير مفتقرة إلى أمر خارج عن ذاتها وإن كانت أبعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض فتوهم ساقط فإنه إذا قيل إن الجملة غير ممكنة فقد بينا في المنطقيات أن كل ما ليس بممكن بالمعنى الخاص فإما واجب بذاته وإما ممتنع لا جائز أن يقال بالامتناع وإلا لما كانت موجودة بقي أن تكون واجبة بذاتها وإذا كانت الجملة هي مجموع آحادها وكل واحد من الآحاد ممكن فالجملة أيضا ممكنة بذاتها والواجب باعتبار ذاته يستحيل أن يكون ممكنا باعتبار ذاته وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح لضرورة كونها موجودة والمرجح فإما أن يكون ممكنا أو واجبا لا جائز أن يكون ممكنا إذ هو من الجملة ثم يلزم أن يكون مرجحا لنفسه لكونه مرجحا للجملة والمرجح للجملة مرجح لآحادها وهو من آحادها وذلك محال ثم يلزم أن يكون علة علته وهو دور ممتنع وإن كان واجبا لذاته غير مفتقر إلى علة في وجوده فإما أن يكون علة للجملة أو لبعضها فإن كان علة للجملة لزم أن يكون علة لكل واحد من آحادها إذ الجملة هي مجموع الآحاد وهو محال من جهة إفضائه إلى كون كل واحد من آحاد الجملة المفروضة معللا بعلتين وهي العلة الواجبة الوجود وما قيل إنه علة له من آحاد الجملة وإن كان علة لبعض منها لا يكون معلولا لغيره فهو خلاف الفرض
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدم النهاية فهو محال كيف وكل علل ومعلولات قيل باستنادها إلى علة لا علة لها فالقول بكونها غير متناهية محال وجمع بين متناقضين وهو القول بأن ما من علة إلا ولها علة والقول بانتهاء العلل والمعلولات إلى علة لا علة لها
فإذا قد اتضح بما مهدنا امتناع كون العلل والمعلولات غير متناهية وإن القول بان لا نهاية لها محال
ثم قال : ولقائل أن يقول : إثبات الجملة لما لا يتناهى وإن كان غير مسلم لكن ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية على ما قيل
قال : وهذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله
قلت : فهذا استدلاله على واجب الوجود لم يذكر في كتبه غيره وأما حدوث العالم فأبطل طرق الناس وبناه على أن الجسم لا يخلو من الأعراض الحادثة إذ العرض لا يبقى زمانين واستدل على امتناع حوادث لا أول لها بعد ان أبطل وجوه غيره بالوجه الذي تقدم وتقدم ما فيه من الضعف الذي بينه الأرموي وغيره ثم إذا ثبت حدوث العالم فإنه لم يستدل بالحدوث على المحدث إلا بطريقة الذين بنوا ذلك على الإمكان وهو ان ذلك يتضمن التخصيص المفتقر إلى مخصص لأنه ترجيح لأحد طرفي الممكن فهو لا يستدل بالحدوث على المحدث إلا بناء على أن ذلك ممكن يفتقر إلى واجب ولا يجعل الممكن دالا على الواجب إلا بناء على نفي التسلسل والتسلسل قد أورد عليه السؤال الذي قال إنه لا جواب له عنه
وكل هذه المقدمات التي ذكرها لا يفتقر إثبات الصانع إليها وبتقدير افتقاره إليها فأبطال التسلسل ممكن فتتم تلك المقدمات وذلك أن إثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجسام كما تقدم بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغنى عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية وهو أبين من افتقار الممكن إلى المرجح فلا يحتاج أن يقرر ذلك بان الحدوث ممكن أو أنه كان يمكن حدوثه على غير ذلك الوجه فتخصيصه بوجه دون وجه ممكن جائز الطرفين فيحتاج إلى مرجح مخصص بأحدهما
وهذه الطريقة يسلكها من متأخري أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم على ذلك
من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم
وقد نبهنا على أنها وإن كانت صحيحة فإنها تطويل بلا فائدة فيه واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإن كان الحد مطابقا للمحدود مطردا منعكسا يحصل به التمييز مع أن الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه أخرى مثل من حصلت له شبهة أو معاندة في الأمر الجلي فيبين له بغيره لكون ذلك أظهر عنده فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي مثل من يكون من شانه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة فإذا كان الكلام طويلا مستغلقاها به وعظمة كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد لكن ليس هذا مما يتوقف العلم والبيان عليه مطلقا وهذا هو المقصود هنا وهؤلاء كثيرا ما يغلطون فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل وبسبب هذا الغلط يضل من يضل حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة
ولهذا لما بني الآمدي وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل حصل ما حصل فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به يجاهدون وتركوا واحدا ظنا أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم ثم أنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بإزاء العدو أحد
ومثل نهر كبير كدجلة والفرات كان عليه عدة جسور فقطعها كلها ولم يترك إلا واحد طويلا بعيدا ضعيفا ثم إنه خرقه في أثنائه حتى انقطع الطريق ولم يبق لأحد طريق إلى العبور وهو مع هذا يستعمل الناس في الآلات التي يصنع بها الجسور ويشعر الناس أنه لا يمكن أحدا أن يعبر إلا بما يصنعه
أو مثل رجل كان لمدينته أسوار متداخلة سور خلف سور كل سور منه يحفظ المدينة فعمد المتولي فهدم تلك الأسوار كلها وترك سورا هو أضعفها وأطولها وأصعبها حفظا ثم إنه مع ذلك خرق منه ناحية يدخل منها العدو فلم يبق للمدينة سور يحفظها
فيقال إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدث وهذا يكفى فيه حدوث الإنسان نفسه أو حدوث ما يشاهد من المحدثات كالنبات والحيوان وغير ذلك ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدث لا بد من محدث وإذا قدر أنه أثبت الصانع بحدوث العالم لزم أن المحدث لا بد من محدث ثم إذا قدر أنه استدل بطريقة الإمكان إما ابتداء وإما مع طريقة الحدوث فالعلم بأن الممكن يفتقر إلى الواجب علم ضروري لا يفتقر إلى نفي التسلسل
إبطال التسلسل
وأيضا فإبطال التسلسل له طرق كثيرة وذلك أنه يمكن أن يقال فيه وجوه :
الوجه الأول
أحدها : أن الموجودات بأسرها إما أن تكون واجبة الوجود أو ممكنة الوجود أو ممتنعة الوجود والأقسام الثلاثة باطلة فلزم أن يكون بعضها واجبا وبعضها ممكنا
أما الثالث فهو باطل لأن ما وجد لا يكون ممتنع الوجود
والثاني : باطل أيضا لأن ممكن الوجود هو الذي وجوده وعدمه وما كان كذلك لم يوجد إلا بغيره فلو كان مجموع الموجودات ممكنة لافتقرت الموجودات كلها إلى غيرها وما ليس بموجود فهو معدوم والمعدوم لا يفعل الموجود بالضرورة
والأول باطل أيضا لأنا نشاهد ما يحدث بعد أن لم يكن كالحيوان والنبات والمعدن والسحاب والأمطار
والحادث عدم ووجد أخرى فلا يكون ممتنعا لأن الممتنع لا يوجد ولا واجبا بنفسه لأن الواجب بنفسه لا يعدم فثبت أنه ممكن وثبت أن في الموجودات ما هو ممكن بنفسه وأنه ليس كلها ممكنا فثبت أن فيها موجودا ليس بممكن والموجود الذي ليس بممكن هو الواجب بنفسه فإن الموجود إما أن يكون وجوده بنفسه وهو الواجب أو بغيره وهو الممكن ولا يجوز أن يكون ممتنع لأن الممتنع هو الذي لا يجوز أن يوجد فيمتنع أن يكون في الوجود ممتنع
فتبين أن في الموجودات واجبا وممكنا وليس فيها ممتنع وإن شئت قلت : إما أن يقبل من جهة نفسه العدم وهو الممكن أو لا يقبل العدم وهو الواجب بنفسه وإن شئت قلت إما أن يفتقر إلى غيره وهو الممكن أو لا يفتقر وهو الواجب
وإذا كانت الموجودات إما واجبة وإما ممكنة وليس كلها ممكنا ولا كلها واجبا تعين أن فيها واجبا وفيها ممكنا
الوجه الثاني
أن يقال كل ممكن بنفسه لا يوجد إلا بموجب يجب به وجوده لأنه إذا لم يحصل ما به يجب وجوده ممكنا قابلا للوجود والعدم فلا يوجد وما به يجب وجوده لا يكون ممكنا لأن الممكن لا يجب به شيء لافتقاره إلى غيره فالمفتقر إلى الممكن مفتقر إليه وإلى ما به وجب الممكن وإذا كان الممكن وحده لا يجب به شيء علم افتقار الممكن إلى واجب بنفسه
الوجه الثالث
أن يقال : طبيعة الإمكان سواء فرضت الممكنات متناهية أو غير متناهية لا يوجب الوجود بنفسها فإن ما كان كذلك لم يكن ممكنا فلا بد للمكن من حيث هو ممكن من موجود ليس بممكن والمراد بالممكن في هذه المواضع الممكن الإمكان الخاص وهو الذي يقبل الوجود والعدم فيكون الواجب والممتنع قسيميه فأما إذا أريد به الممكن الإمكان العام وهو قسيم الممتنع فكل موجود فهو ممكن بالإمكان العام
ثم الموجود إما موجود بنفسه وإما بغيره وليس كل موجود وجد بنفسه لأن منها المحدثات التي يعلم بضرورة العقل أن وجودها ليس بأنفسها
فثبت أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وما هو موجود بغيره
الوجه الرابع
أن يقال الموجودات ليست كلها موجودة بغيرها لأن الغير إن كان معدوما امتنع أن يكون الموجود موجودا بما ليس بموجود وإن كان الغير موجودا كان الموجود خارجا عن جملة الموجودات
وإذا لم تكن الموجودات كلها موجودة بغيرها : فإما أن تكون كلها أو كل منها موجودا بنفسه وإما أن لا يكون والأول ممتنع لأن المحدثات التي يشهد حدوثها يعلم بالضرورة أنها ليست موجودة بنفسها وإذا لم تكن كلها موجودة بغيرها ولا كلها موجودة بنفسها تعين أن منها ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بغيره وهذا لك أن تعتبره في كل فرد فرد من الموجودات وفي المجموع فتقول : يمتنع في كل فرد من الموجودات أن يكون موجودا بغير موجود لأنه إذا كان كل واحد من الموجودات موجودا بغير موجود لزم أن يكون كل من الموجودات موجودا بمعدوم وهذا ممتنع وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجودا بنفسه وإما أن يكون موجودا بمعدوم وهذا ممتنع وإذا امتنع فإما أن يكون كل موجود موجودا بنفسه وإما أن يكون موجودا بوجود غيره وإما أن يكون منها ما هو موجود بنفسه ومنها ما هو موجود بوجود غيره
والأول ممتنع لوجود الحوادث التي لا توجد بأنفسها
والثاني ممتنع لأن كل واحد واحد من الموجودات إذا كان موجودا بوجود غيره والغير من الموجودات التي لا توجد إلا بموجود غيرها لم يكن فيها إلا ما هو مفتقر محتاج إلى الغير وما كان بنفسه مفتقرا محتاجا إلى الغير ولم يوجد إلا بوجود ذلك الغير وما كان في نفسه لا يوجد إلا بغيره فأولى أن لا يكون بنفسه مبدعا لغيره فيلزم أن لا يكون في الموجودات ما هو موجود بنفسه ولا ما هو فاعل لغيره فيلزم حينئذ أن لا يوجد شيء من الموجودات لأن الموجود إما موجود بنفسه وإما بوجود غيره وهذا إنما لزم لما قدر أن كل موجود موجود بغيره فتعين أن من الموجودات ما هو موجود بنفسه وهو المطلوب
وأما إذا اعتبرت ذلك في المجموع فمجموع الموجود لا يكون واجبا بنفسه لأن من أجزائه ما هو ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن والمجموع يتوقف عليه والمتوقف على الممكن لا يكون واجبا بنفسه ولا يكون المجموع مفتقرا إلى غيره المباين له فإن ذلك لا يكون إلا معدوما والموجود لا يكون مفتقرا إلى فاعل معدوم ليس بموجود فضلا عن مجموع الموجود فتعين أن يكون المجموع مفتقرا إلى ما هو داخل في المجموع وذلك البعض لا يكون إلا واجبا بنفسه إذ لم يكن واجبا بنفسه لكان ممكنا مفتقرا إلى غيره فيكون مجموع كل واحد من الموجودات مفتقرا إلى غيره وذلك الغير مجموع الممكنات ليس مفتقرا إلى ما هو بعض الممكنات فإن مجموعهما أعظم من بعضها وذلك البعض يشرك لمجموع في الفقر والإحتياج إلى الغير ففيه ما فيها من الإحتياج والفقر إلى الغير مع أن المجموع أعظم منه فإذا كانت الأجزاء كلها فقيرة محتاجة و المجموع محتاجا فقيرا أمتنع أن يكون شيء من الأجزاء بالمجموع وحده فضلا عن أن يكون بجزء آخر فضلا عن أن يكون المجموع الذي كل أجزائه فقراء بواحد من تلك الأجزاء الفقراء وهذا كله بين ضروري لا يستريب فيه من تصوره ويمكن تصوير هذه المواد على وجوه أخرى
فصل
وكذلك يمكن تصوير هذه الأدلة في مادة الحدوث بأن يقال : الموجودات إما أن تكون كلها حادثة وهو ممتنع لأن الحوادث لا بد من فاعل وذلك معلوم بالضرورة ومحدث الموجودات كلها لا يكون معدوما وذلك أيضا معلوم بالضرورة وما خرج عن الموجودات لا يكون إلا معدوما فلو كانت الموجودات كلها محدثة للزم : إما حدوثها بلا محدث وإما حدوثها معدوم وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة فثبت أنه لا بد في الوجود من موجود قديم وليس كل موجود قديما بالضرورة الحسية فثبت أن الموجودات تنقسم إلى قديم ومحدث
وهاتان المقدمتان وهو أن كل حادث فلا بد من محدث وأن المحدث للموجود لا يكون إلا موجودا مع انهما معلومتان بالضرورة فإن كثيرا من أهل الكلام أخذوا يقررون ذلك بأدلة نظرية ويحتجون على ذلك بأدلة وهي وإن كانت صحيحة لكن النتيجة أبين عند العقل من المقدمات فيصير كمن يحج الأجلى بالأخفى وهذا وإن كان قد يذمه كثير من الناس مطلقا فقد ينتفع به في مواضع مثل عناد المناظر ومنازعته في المقدمة الجلية دون ما هو أخفى منها ومثل حصول العلم بذلك من الطرق الدقيقة الخفية الطويلة لمن يرى أن حصول العلم له بمثل هذه الطرق أعظم عنده وأحب إليه وأنه إذا خوطب بالأدلة الواضحة المعروفة للعامة لم يكن مزية على العامة ولمن يقصد بمخاطبته بمثل ذلك أن مثل هذه الطرق معروف معلوم عندنا لم ندعه عجزا وجهلا وإنما أعرضنا عنه استغناء عنه بما هو خير منه واشتغالا بما هو أنفع من تطويل لا يحتاج إليه إلى أمثال ذلك من المقاصد
فأما كون الحادث لا بد له من محدث فهي ضرورية عند جماهير العلماء وكثير من متكلمة المعتزلة ومن اتبعهم جعلوه نظريا كما سيأتي ذكره بعد هذا
وأما كون المعدوم لا يكون فاعلا للموجودات فهو أظهر من ذلك ولذلك اعترف بكونه ضروريا من استدل على أن المحدث لا بد له من محدث موجود والممكن لا بد له من مؤثر موجود كالرازي وغيره
كلام الرازي في إثبات وجود الله
قال الرازي : أما كون المؤثر موجودا فإنه لا فرق بين نفي المؤثر وبين مؤثر منفي والحكم بالاكتفاء المؤثر المنفي حكم بعدم الإحتياج إلى المؤثر
قال : والعلم بذلك ضروري ولا يتصور في هذا المقام الاستدلال بالكلام المشهور من أن المعدوم لا تميز فيه فلا يمكن استناد الأثر إليه لأنه يتوجه عليه شكوك معروفة
قال : والجواب عنها وإن كان ممكنا إلا أن العلم بفساد استناد الأثر الموجود إلى المؤثر المعدوم أظهر كثيرا من العلم بذلك والدليل والأجوبة عن الأسولة التي تورد عليه وإيضاح الواضح لا يزيده إلا خفاء
قال : وقول القائل : هب أن المؤثر ليس بمعدوم فلم يجب أن يكون موجودا ؟ قلنا : لا واسطة بين الوجود والعدم وقول القائل : الماهية تقتضي الإمكان لا بشرط الوجود ولا العدم فهو متوسط بين الوجود والعدم قلنا : نحن لا ندعي أن كل حقيقة فهي إما الوجود وإما العدم حتى يلزم من كون الماهية مغايرة لهما فساد ذلك الحصر بل ندعي أن العقل يحكم على كل حقيقة من الحقائق التي لا نهاية لها أنها لا تخلو عن وصفي الوجود والعدم وإذا كان كذلك فكون الماهية مغايرة للوجود والعدم لا يقدح في قولنا : إنه لا واسطة بين الوجود والعدم
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا السؤال والجواب عنه لا يحتاج إليه مع علمنا الضروري بأن المؤثر في الموجود لا يكون إلا موجودا وهذا قد سبقه إليه غير واحد من النظار
كلام الجويني في الإرشاد
كأبي المعالي الجويني فإنه قال في الإرشاد : فإن قال قائل : قد دللتم فيما قدمتم على العلم بالصانع فيم تنكروه على من يقدر الصانع عدما قلنا : العدم عندنا نفي محض وليس المعدوم على صفة من صفات الإثبات ولا فرق بين نفي الصانع وبين تقدير الصانع منفيا من كل وجه بل نفي الصانع وإن كان باطلا بالدليل القاطع فالقول به غير متناقض في نفسه والمصير إلى إثبات صانع منفي متناقض وإنما يلزم القول بالصانع المعدوم المعتزلة حيث أثبتوا للمعدوم صفات الإثبات وقضوا بأن المعدوم على خصائص الأجناس
قال : والوجه أن لا نعد الوجود من الصفات فإن الوجود نفس الذات وليس بمثابة التحيز للجوهر فإن التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر وجود الجوهر عندنا نفسه من غير تقدير مزيد
قال : والأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات والعلم به علم بالذات
قال الكيا الهراسي الطبري : إذا قلنا الباري موجود فوجوده ذاته هذا بالاتفاق من أصحابنا القائلين بالأحوال والنافين لها إلا على رأي المعتزلة الذين قالوا : المعدوم شيء
كلام أبي القاسم الأنصاري
وقال أبو القاسم الأنصاري شارح الإرشاد والقاضي أبو بكر : وإن أثبت الأحوال فلم يجعل الوجود حالا فإن العلم به علم بالذات وعند أبي هاشم ومتبعيه الوجود من الأحوال وهو من أثر كون الفاعل قادرا
قال وما قاله إمام الحرمين : من أن الأئمة يتوسعون في عد الوجود من الصفات فإنما قالوا ذلك لما بيناه من ان صفة النفس عندهم تفيد ما تفيده النفس فلا فرق بين وجود الجوهر وتحيزه وهكذا قال الكيا : الوجود بمنزلة التحيز للجوهر فإن التحيز للجوهر نفس الجوهر خالف أبا المعالي
قال ومن الدليل على وجود الصانع أنه موصوف بالصفات القائمة به كالحياة والقدرة والعلم ونحوها وهذه الصفات مشروطة بوجود محلها وقد يكون الشيء موجودا ولا يكون مختصا بهذه الصفات ويستحيل الاختصاص بهذه الصفات من غير تحقق وجود
قال ومما يحقق ما قلناه قيام الدليل القاطع على أنه فاعل ومن شرط الفاعل أن يكون موجودا
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الثاني هو ما ذكره أبو المعالي فإن إثبات الصانع إثبات لوجوده وإلا فصانع منتف كنفي الصانع وأما الأول فهو وإن كان صحيحا لكن النتيجة أبين من المقدمات فإن العلم بأن الصانع لا يكون إلا موجودا أبين من كون ما تقوم به الصفة لا يكون إلا موجودا وكلاهما معلوم بالضرورة لكن الفاعل الذي يبدع غيره أحق بالوجود وكما أن الوجود من محل الصفة فإن محل الصفة قد يكون جمادا وقد يكون حيوانا وقد يكون قادرا وقد يكون عاجزا والصفة وإن كانت مفتقرة إلى محل وجودي فهو من باب الأفتقار إلى المحل القابل وأما المفعول المفتقر إلى الفاعل فهو من باب الافتقار إلى الفاعل
ومعلوم أن الحاجة إلى الفاعل فيما له فاعل أقوى من الحاجة إلى القابل فيما له قابل وأيضا فإن القابل شرط في المقبول لا يجب تقدمه عليه بل يجوز اقترانهما بخلاف الفاعل فإنه لا يجوز أن يقارن المفعول بل لا بد من تقدمه عليه ولهذا اتفق العقلاء على أنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لا بمعنى كونه علة فاعلة ولا بغير ذلك من المعاني وأما كون كل من الشيئين شرطا للآخر فإنه يجوز وهذا هو الدور المعي وذاك هو الدور القبلي وقد بسط هذا في غير الموضع وبين ما دخل على الفلاسفة من الغلط في مسائل الصفات من هذا الوجه حيث لم يميزوا بين الشرط والعلة الفاعلة بل قد يجعلون ذلك كله علة إذ العلة عندهم يدخل فيها الفاعل والغاية وهما العلتان المفصلتان اللتان بهما يكون وجود المعلول والقابل الذي قد يسمى مادة وهيولى مع الصورة وهما علتا حقيقة الشيء في نفسه سواء قيل إن حقيقته غير العين الموجودة في الخارج كما يدعون ذلك أو قيل هي هي كما هو المعروف عن متكلمي أهل السنة
والمقصود هنا أن الدليل لما دل على أنه لا بد من موجود واجب بنفسه أي لا يكون له فاعل يوجده : لا علة فاعلة ولاما يسمى فاعلا غير ذلك صاروا يطلقون عليه الواجب بنفسه ثم أخذوا ما يحتمله هذا اللفظ من المعاني فأرادوا إثباته كلها فصاروا ينفون الصفات وينفون أن يكون له حقيقة موصوفة بالوجود لئلا تكون الذات متعلقة بصفة فلا تكون واجبة بنفسها ومعلوم أن كون الذات مستلزمة لصفة كمال يمتنع تحققها بدونها لا يوجب افتقارها إلى فاعل أو علة فاعلة ولكن غاية ما فيه أن تكون الذات مشروطة بالصفة والصفة مشروطة بالذات وأن تكون الصفة إذا قيل بأنها واجبة لا تقوم إلا بموصوف فإذا قيل : هذا فيه افتقار الواجب إلى غيره لم يلزم أن يكون ذلك الغير فاعلا ولا علة فاعلة بل إذا قدر أنه يطلق عليه غير فإنما هو شرط من المشروط وكون الذات مشروطة بالصفة اللازمة لها والصفة مشروطة بالذات لا يمنع أن يكون الجميع واجبا بنفسه لا يفتقر إلى فاعل ولا إلى علة فاعلة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والمقصود أنه إذا كان قد علم أن الصفة المشروطة بمحلها تقتضي أن يكون محلها موجودا فالمفعول المفتقر إلى فاعل موجب يقتضي أن يكون فاعله موجودا بطريق الأولى
وأيضا فيقال : الحوادث المشهودة لا بد لها من محدث إذ المحدث من حيث هو محدث وكل ما يقدر محدثا سواء قدر متناهيا أو غير متناه لا يوجد بنفسه بل لا بد له من فاعل ليس بمحدث والعلم بذلك ضروري إذ طبيعة الحدث تقتقي الإفتقار إلى فاعل فلا بد لكل ما يقدر محدثا من فاعل فيمتنع أن يكون فاعل كل المحدثات محدثا فوجب أن يكون قديما
وأيضا فالمحدث مفتقر إلى محدث كامل مستقل بالفعل إذ ما ليس مستقلا بالفعل مفتقر إلى غيره فلا يكون هو وحده الفاعل بل الفاعل هو وذلك الغير فلا يكون وحده فاعلا للمحدث ثم ذلك الغير إن كان محدثا فلا بد له من فاعل أيضا فلا بد للمحدثات من فاعل مستقل بالفعل مستغن عن جميع محدثاته والعقل يعلم ضرورة افتقار المحدث إلى المحدث الفاعل ويقطع به ويعلمه ضرورة أبلغ من علمه بافتقار الممكن إلى الواجب الموجب له فلا يحتاج أن يقال في ذلك أن المحدث يتخصص بزمان دون زمان أو بقدر دون قدر ولا بد للتخصيص مكن مخصص فإن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين في العقل وأبده له
ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } الطور 35
قال جبير بن مطعم : لما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرؤها أحسست بفؤادي قد انصدع
وقال { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } الواقعة 58 - 59 إذ كان كل من القسمين : وهو كونهم خلقوا من غير خالق وكونهم خلقوا أنفسهم معلوم الانتفاء بالضرورة فإن الإنسان يعلم بالضرورة أنه لم يحدث من غير محدث وأنه لم يحدث نفسه فلما كان العلم بأنه لا بد له من محدث وأن محدثه ليس هو إياه علما ضروريا ثبت بالضرورة أن له محدثا خالقا غيره وكل ما يقدر فيه انه مخلوق فهو كذلك
والخلق يتضمن الحدوث والتقدير ففيه معنى الإبداع والتقدير وإذا علمت أن الممكن لا بد له من مرجح يجب به وإلا لم يكن موجودا بل يبقى معدوما على أصح القولين أو مترددا بين الوجود والعدم على الآخر فالمحدث لا بد له من فاعل يستغن به المفعول فيكون به وإلا بقي مفتقرا إلى غيره وإذا قدر محدثه أيضا فهو أيضا محدث لم يستغن به لأن ذلك المحدث مفتقر إلى غيره فالمفتقر إليه مفتقر إلى ذلك الغير الذي هو الأول مفتقر إليه بطريق الأولى فلا توجد الحوادث إلا بفاعل غني عن غيره وكل محدث مفتقر إلى غيره فلا توجد الحوادث إلا بفاعل قديم غير محدث فهذه طرق متعددة يثبت بها الموجود الواجب بنفسه القديم
فصل
ويمكن تصوير هذه المادة في الغنى والفقر وفي الخلق وعدم الخلق والقدرة وعدم القدرة والكمال والنقصان والحياة والموت والعلم والجهل وغير ذلك بأن يقال : كل موجود فإما أن يكون غنيا بنفسه عما سواه وإما أن يكون مفتقرا إلى ما سواه والمفتقر إلى ما سواه لا يوجد إلا بغنى عما سواه فيلزم وجوده الغني عما سواه على التقديرين والحوادث مفتقرة إلى غيرها فثبت أن من الموجودات ما هو غني بنفسه ومنها ما هو مفتقر إلى ما سواه ومثل أن يقال : كل موجود فإما أن يكون مخلوقا وإما ألا يكون مخلوقا والمخلوق لا يكون مخلوقا إلا بخالق ليس بمخلوق
وقد علم أن الحوادث لا تكون إلا مخلوقة فثبت أن في الموجودات ما هو حادث مخلوق ومنها ما هو خالق لتلك الحوادث ليس بمخلوق وهو المطلوب
ومثل أن يقال : الموجودإما أن يكون قادرا بنفسه وإما ألا يكون قادرا بنفسه وما ليس بقادر بنفسه لا يكون قادرا إلا بإقدار القادر بنفسه والحوادث المشهودة كانت معدومة والمعدوم لا يكون موجودا بنفسه فضلا عن أن يكون قادرا بنفسه فثبت أن في الموجودات ما هو محدث ومنها ما هو موجود قادر بنفسه والقادر بنفسه لا يكون إلا قديما أزليا واجبا بنفسه فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا وهو المطلوب
ومثل أن يقال : الموجودإما أن يكون كاملا ليس فيه نقص يحتاج إلى غيره وإما أن يكون ناقصا يحتاج في كماله إلى غيره ومعلوم أن الحوادث المشهودة ليس لها من نفسها وجود فضلا عن أن تكون كاملة بنفسها وأنها بعد وجودها مفتقرة إلى من يكمل نقصها فثبت أن الموجودات فيها كامل ليس فيه نقص يحتاج فيه إلى غيره وما ليس فيه نقص لا يكون إلا كاملا قديما أزليا واجبا بنفسه فثبت انقسام الموجودات إلى هذا وهذا وهو المطلوب
ومثل أن يقال : الموجودإما عالم بنفسه وإما محتاج في العلم إلى من يعلمه وإما أن لا يقبل العلم ومعلوم أن الإنسان مفتقر في حصول علمه إلى من يعلمه ليس علمه من لوازم ذاته فإنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئا ثم حدث له العلم بعد ذلك فثبت أن في الموجود ما ليس عالما بنفسه بل هو مفتقر في حصول العلم له إلى من يعلمه ومعلوم أن كل ما ليس بعالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه وذاك العلم إن كان عالما بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد له من عالم يعلمه وذاك العالم إن كان عالما بنفسه وإلا افتقر إلى عالم بنفسه فلا بد أن ينتهي الأمر إلى عالم بنفسه قطعا للتسلسل الممتنع فثبت أن في الوجود ما هو عالم بنفسه وما ليس عالما بنفسه بل بمن يعلمه كما قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى قوله : { اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } العلق 1 - 5 وقال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } البقرة 255
وما كان عالما بنفسه فإن يكون موجودا بنفسه أولى وأحرى فإن العلم صفة له وإذا كانت تلك الصفة قديمة واجبة لا تفتقر إلى فاعل يفعلها في العالم بنفسه فلا يكون الموصوف بها قديما واجبا بطريق الأولى والأحرى
ومثل أن يقال الموجود : إما حي بنفسه وإما حي بغيره وإما ليس بحي ومعلوم أن الحي بغيره موجود فإن الإنسان يكون في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ليس بحي ثم يصير حيا بعد ذلك فثبت وجود الحي بغيره الذي جعله حيا وذلك الذي جعله حيا إما أن يكون حيا بنفسه وإما بغيره والحي بغيره يحتاج إلى حي فلا بد أن ينتهي الأمر إلى حي بنفسه قطعا للتسلسل الممتنع فثبت أن في الوجود ما هو حي بنفسه والحي بنفسه لا يكون إلا واجبا قديما بنفسه فإن ذاته إذا كانت مستلزمة لحياته بحيث لا تكون حياته حاصلة له من غيره فغن تكون ذاته واجبة بنفسها لا تكون حاصلة بغيرها أولى وأحرى فغن الحياة قائمة في الموصوف الحي بها فإذا كانت الحياة قديمة أزلية واجبة بنفسها يمتنع عدمها فالحي الموصوف بها أن يكون حيا قديما أزليا واجبا بنفسه أولى وأحرى
والتسلسل الذي يسمى التسلسل في العلل والمعلولات والمؤثر والأثر والفاعل والمفعول والخالق ولمخلوق هو ممتنع باتفاق العقلاء وبصريح المعقول بل هو ممتنع في بديهة العقل بعد التصور وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالاستعاذة منه في قوله صلى الله عليه و سلم [ يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ فيقول : الله فيقول : من خلق الله فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته ] فأمره بالاستعاذة منه ليقطع عنه الله الوساوس الفاسدة التي يلقيها الشيطان بغير اختياره ويؤذيه بها حتى قد يتمنى الموت أو حتى يختار أن يحترق ولا يجدها وهي الوسوسة التي سأله عنه الصحابة فقالوا : يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حمة أو يخر من السماء إلى الأرض خيرا له من أن يتكلم به فقال : ذلك صريح الإيمان وفي رواية : ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به فقال : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة وأراد بذلك أن كراهته هذه الوسوسة ونفيها هو محض الإيمان وصريحة
فصل
واعلم أن علم الإنسان بأن كل محدث لا بد له من محدث أو كل ممكن لا بد له من واجب أو كل فقير فلا بد له من غني أو كل مخلوق فلا بد له من خالق أو كل معلوم فلا بد له من يعلم أو كل أثر فلا بد له من مؤثر ونحو ذلك من القضايا الكلية والأخبار العامة هو علم كلي بقضية كلية وهو حق في نفسه لكن علمه بأن هذا المحدث المعين لا بد له من محدث وهذا الممكن المعين لا بد له من واجب هو أيضا معلوم له مع كون القضية معينة مخصوصة جزئية وليس علمه بهذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته قبل أن يستشعر تلك القضايا الكلية وهذا كعلمه بأن الكتابة لا بد من كاتب والبناء لا بد له من بأن فإنه إذا رأى كتابه معينة علم انه لا بد لها من كاتب وإذا رأى بنيانا علم أنه لا بد له من بأن وإن لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابه كانت أو تكون أو يمكن أن تكون ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعينة الجزئية وإن كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة وهذا كما أن الإنسان يعلم أن هذا المعين لا يكون أسود أبيض ولا يكون في مكانين وإن لم يستحضر أن كل سواد وكل بياض فأنهما لا يجتمعان وأن كل جسمين فإنهما لا يكونان في مكان واحد وهكذا إذا رأى درهما ونصف درهم علم أن هذا الكل أعظم من هذا الجزء وإن لم يستحضر أن كل كل فإنه يجب أن يكون أعظم من جزئه
وكذلك إذا قيل : هذا العدد الأول مساو لهذا العدد الثاني وهذا العدد الثاني مساو لهذا العدد الثالث فإنه يعلم أن الأول مساو لمساوي الثاني وهو مساو للثالث وإن لم يستحضر أن كل مساو لمساو فهو مساو
وكذلك إذا علم أن الشخص موجود علم أنه ليس بمعدوم وإذا علم انه ليس بمعدوم علم أنه موجود ويعلم انه لا يجتمع وجوده وعدمه بل يتناقضان وأن لم يستحضر قضية كلية عامة أنه لا يجتمع نفي كل شيء وإثباته ووجوده وعدمه وهكذا عامة القضايا الكلية
فإنه قد يكون علم الإنسان بالحكم في أعيانها المشخصة الجزئية أبده للعقل من الحكم الكلي ولا تكون معرفته بحكم المعينات موقوفه على تلك القضايا الكليات ولهذا كان علم الإنسان أنه هو لم يحدث نفسه لا يتوقف على علمه بان كل إنسان لم يحدث نفسه ولا على أن كل حادث لم يحدث نفسه بل هذه القضايا العامة الكلية صادقة وتلك القضية المعينة صادقة والعلم بها فطري ضروري لا يحتاج أن يستدل عليه وإن كان قد يمكن الاستدلال على بعض المعينات بالقضية الكلية ويستفاد العلم بالقضية الكلية بواسطة العلم بالمعينات لكن المقصود أن هذا الاستدلال ليس شرطا في العلم بل العلم بالمعينات قد يعلم كما تعلم الكليات وأعظم بل قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات ولهذا لا تجد أحدا يشك في أن هذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا البناء لا بد له من باب بل يعلم هذا ضرورة
وإن كان العلم بان كل حادث لا بد له من محدث فاعل قد اعتقده طوائف من النظار نظريا حتى أقاموا عليه دليلا : إما بقياس الشمول وإما بقياس التمثيل فالأول قول من يقول : كل محدث لا بد له من محدث والثاني قول من يقول هذا محدث فيفتقر إلى محدث قياسا على البناء والكتابة
ثم القائلون بأن كل محدث لا بد له من محدث منهم من يثبت هذا بالاستدلال على أن الحادث مختص والتخصيص لا بد له من مخصص ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن والممكن لا بد له من مرجح لوجوده ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء فلا بد من ترجيح أحد الجانبين
وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية بل يجعلها أبين من الثانية التي استدل بها عليها وهذا الاضطراب غنما يقع في القضايا الكلية العامة
وأما كون هذا البناء لا بد له من بان وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر وهذه الضربة لا بد لها من ضارب وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ وهذا الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن
فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل وإن كان ذكر نظائرها حجة لها وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة مع قطع نظرهم عن قضية كلية كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة فإنه يعلم أنه لم يحدث نفسه وإن لم يستحضر أن كل حادث لا يحدث بنفسه
ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم شاهدوا شيئا من الحوادث المتجددة كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم بخلاف المتجدد الغريب وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغريب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو أعظم منه ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات فكل أحد يعلم أنه هو لم يحدث نفسه ولا أبواه أحداثاه ولا أحد من البشر أحدثه ويعلم أنه لا بد له من محدث فكل أحد يعلم أن له خالقا خلقه ويعلم انه موجود حي عليم قدير سميع بصير ومن جعل غيره حيا كان أولى أن يكون حيا ومن جعل غيره عليما كان أولى أن يكون عليما ومن جعل غيره قادرا كان أولى أن يكون قادرا ويعلم أيضا أن فيه من الإحكام ما دل على علم الفاعل ومن الإختصاص ما دل على إرادة الفاعل وأن نفس الإحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الإلهية وغيرها ن كما قال تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21
فصل
إذا تبين ذلك فالآية والعلامة والدلالة على الشيء يجب أن يكون ثبوتها مستلزما لثبوت المدلول الذي هي آية له وعلامة عليه ولا تفتقر في كونها آية وعلامة ودلالة إلى أن تندرج تحت قضية كلية سواء كان المدلول عليه قد عرفت عينه أو لم تعرف عينه بل عرف على وجه مطلق مجمل
فالأول مثل أن يقال : علامة دار فلان أن على بابها كذا أو على عتبها كذا أو علامة فلان أنه كذا وكذا فإذا رؤيت تلك العلامة عرف ذلك المعين
والثاني أن يقال : علامة من يكون أميرا أو قاضيا أن تكون هيئته كذا وكذا فإن رؤيت تلك الهيئة علم أن هناك أميرا أو قاضيا وإن لم تعلم عينه
وإذا كان كذلك فجميع المخلوقات مستلزمة للخالق سبحانه وتعالى بعينه وكل منها يدل بنفسه على أن له محدثا بنفسه ولا يحتاج أن يقرن بذلك أن كل محدث فله محدث كما قدمناه أن العلم بأفراد هذه القضية لا يجب أن يتوقف على كلياتها بل قد تكون دلالته على المحدث المعين أظهر وأسبق
ولهذا كان ما يشهده الناس من الحوادث آيات دالة على الفاعل المحدث بنفسها من غير أن يجب أن يقترن بها قضية كلية : أن كل محدث فله محدث وهي أيضا دالة على الخالق سبحانه من حيث يعلم أنه لا يحدثها إلا هو فإنه كما يستدل على أن المحدثات لا بد لها من محدث قادر عليم مريد حكيم فالفعل يستلزم القدرة والإحكام يستلزم العلم والتخصيص يستلزم الإرادة وحسن العافية يستلزم الحكمة
وكل حادث يدل على ذلك كما يدل عليه الآخر وكل حادث كما دل على عين الخالق فكذلك الآخر يدل عليه فلهذا كانت المخلوقات آيات عليه وسماها الله آيات والآيات لا تفتقر في كونها آيات إلى قياس كلي : لا قياس تمثيلي ولا قياس شمولي وإن كان القياس شاهدا لها مؤيدا لمقتضاها لكن علم القلوب بمقتضى الآيات والعلامات لا يجب أن يقف على هذا القياس بل يعلم موجبها مقتضاها وإن لم يخطر لها أن كل ممكن فإنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
ومن هنا يتبين لك أن ما تنازع فيه طائفة من النظار وهو أن علة الإفتقار إلى الصانع هل هو الحدوث أو الإمكان أو مجموعيهما لا يحتاج إليه وذلك أن كل مخلوق فنفسه وذاته مفتقرة إلى الخالق وهذا الافتقار وصف له لازم ومعنى هذا أن حقيقته لا تكون موجودة إلا بخالق يخلقه فإن شهدت حقيقته موجودة في الخارج علم أنه لا بد لها من فاعل وإن تصورت في العقل علم أنها لا توجد في الخارج إلا بفاعل ولو قدر أنها تتصور تصورا مطلقا علم أنها لا توجد إلا بفاعل فهي في نفسها لا توجد إلا بفاعل وهذا يعلم بنفس تصورها وإن لم يشعر القلب بكونها حادثة أو ممكنة وإن كان كل من الإمكان والحدوث دليلا أيضا على هذا الافتقار لكن الحدوث يستلزم وجودها بعد العدم وقد علم أنها لا توجد إلا بفاعل والإمكان يستلزم أنها لا تكون إلا بموجد وذلك يستلزم إذا وجدت أن تكون بموجد وهي من حيث هي هي وإن لم تدرج تحت وصف كلي يستلزم الافتقار إلى الفاعل أي لا تكون موجودة إلا بفاعل ولا تدوم وتبقى إلا بالفاعل المبقي المديم لها فهي مفتقرة إليه في حدوثها سواء قيل إن بقاءها وصف زائد عليها أو لم يقل
ولهذا يعلم العقل بالضرورة أن هذا الحادث لا يبقى إلا بسبب يبقيه كما يعلم أنه لم يحدث إلا بسبب يحدثه ولو بنى الإنسان سقفا ولم يدع شيئا يمسكه لقال له الناس : هذا لا يدوم ولا يبقى وكذلك إذا خاط الثوب بخيوط ضعيفة وخاطه خياطة فاسدة قالوا له هذا لا يبقى البقاء المطلوب فهم يعلمون بفطرتهم افتقار الأمور المفتقرة إلى ما يبقيها كما يعلمون افتقارها إلى ما يحدثها وينشئها
وما يذكر من الأمثال المضروبة والشواهد المبينة لكون الصنعة تفتقر إلى الصانع في حدوثها وبقائها إنما هو للتنبيه على ما في الفطرة كما يمثل بالسفينة في الحكاية المشهورة عن بعض أهل العلم أنه قال له طائفة من الملاحدة : ما الدلالة على وجود الصانع ؟ فقال لهم : دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب قالوا قالوا : ما هو ؟ قال : بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها فقالوا له : أمجنون أنت ؟ قال : وما ذاك قالوا أهذا يصدقه عاقل ؟ فقال : فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك ؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام وهكذا إذ قيل : فهذه السفينة أثبتت نفسها في الساحل بغير موثق اوثقها ولا رابط ربطها كذبت العقول بذلك
فهكذا إذ قيل : إن الحوادث تبقى وتدوم بغير مبق يبقيها ولا ممسك يمسكها
ولهذا نبه سبحانه على هذا وهذا فالأول : كثير وأما الثاني : ففي مثل قوله { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } فاطر 41 وقوله { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } الروم 25 وقوله { رفع السماوات بغير عمد ترونها } الرعد 2 وهذا الإبقاء يكون بالرزق الذي يمد الله به المخلوقات كما قال الله تعالى { الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون } الروم 40
كلام الشهر ستأتي في نهاية الإقدام
وهذا الذي ذكرناه من أن نفس الأعيان المحدثة كالإنسان تستلزم وجود الصانع الخالق وأن علم الإنسان بأنه مصنوع يستلزم العلم بصانعه بذاته من غير احتياج إلى قضية كلية تقترن بهذا وهو معنى ما يذكره كثير من الناس مثل قول الشهر ستأتي : أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فليست أراها مقالة ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا : كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقا فحصل العالم بشكله الذي تراه عليه
قال : ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع بل هو يعترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق احترازا عن التعليل فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها بصانع عليم قادر حكيم { أفي الله شك } إبراهيم 10 { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } الزخرف 87 { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } الزخرف 9 وإن هو غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء { دعوا الله مخلصين له الدين } يونس 22 { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } الإسراء 67
قال ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشرك : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فأعلم انه لا إله إلا الله ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا } غافر 12 { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } الزمر 45 { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } الإسراء 46
قال وقد سلك المتكلمون طريقا في إثبات الصانع وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان
قلت : وهذا الطريق الثاني لم يسلكه الأوائل وإنما سلكه ابن سينا ومن وافقه ولكن الشهرستاني وأمثاله لا يعرفون مذهب أرسطو والأوائل إذ كان عمدتهم فيما ينقلونه من الفلسفة على كتب ابن سينا
قال ويدعي كل واحد في جهة الاستدلال ضرورة وبديهة
قال وأنا أقول : ما شهد به الحدوث أو دل عليه الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياجه في ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات يرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث
وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } النمل 62 { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } الأنعام 63 { قل من يرزقكم من السماوات والأرض } يونس { أمن يبدأ الخلق ثم يعيده } النمل 64
وعن هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين عنها ]
قلت : لفظ الحديث في الصحيح : [ يقول الله خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
قال : فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويلة الاستغناء ونفي الحاجة والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها عن تسويلات الشياطين فإنهم الباقون على أصل الفطرة وما كان له عليهم من سلطان { فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى } الأعلى 10 - 11 { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } طه 44
قلت : الذي في الحديث : إن الشياطين امرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وهذا المرض العام في أكثر بني آدام وهو الشرك كما قال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } يوسف 106 وأما التعطيل فهو مرض خاص لا يكاد يقع إلا عن عناد كما وقع لفرعون
وليس في الحديث أن الشياطين سولت لهم الاستغناء عن الصانع فإن هذا لا يقع إلا خاصا لبعض الناس أو لكثير منهم في بعض الأحوال وهو جنس السفسطة بل هو شر السفسطة والسفسطة لا تكون عامة لعدد كثير دائما بل تعرض لبعض الناس أو لكثير منهم في بعض الأشياء
قال : ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع فعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه الخ
تعليق ابن تيمية
قلت هو وطائفة معه يضنون أن الضمير في قوله { حتى يتبين لهم أنه الحق } فصلت 53 عائد إلى الله تعالى ويقولون هذه جمعت طريق من استدل بالخلق على الخالق ومن استدل بالخالق على المخلوق
والصواب الذي عليه المفسرون وعليه تدل الآية أن الضمير عائد إلى القرآن وأن الله يري عباده من الآيات الفقيه والنفسية ما يبين لهم أن القرآن حق وذلك يتضمن ثبوت الرسالة وأن يسلم ما أخبر به الرسول كما قال تعالى { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد * سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } فصلت 52 53
والمقصود هنا التنبيه على أن حاجة المعين إلى العلم لا تتوقف على العلم بحاجة كل من هو مثله والاستدلال على ذلك بالقياس الشمولي والتمثيلي
وأيضا فالحاجة التي يقترن مع العلم بها ذوق الحاجة هي اعضم وقعا في النفس من العلم الذي لا يقترن به ذوق ولهذا كانت معرفة النفوس بما تحبه وتكرهه وينفعها ويضرها هو أرسخ فيها فيها من معرفتها بما لا تحتاج إليه ولا تكرهه ولا تحبه ولهذا كان ما يعرف من أحوال الرسل مع أممهم بالأخبار المتواترة ورؤية الآثار من حسن عاقبة أتباع الرسل وسوء عاقبة المكذبين أنفع من معرفة صدق الرسول وأتباعه مما يفيد العلم فقط فإن هذا يفيد العلم مع الترغيب والترهيب فيفيد كمال القوتين : العلمية والعملية بنفسه بخلاف ما يفيد العم ثم العلم يفيد العمل
ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى مالا تتعلق به حاجتها
ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم ومضارهم كولاة أمورهم وممالكيهم وأصدقائهم وأعدائهم مالا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار : { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } النحل 53
وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه كأنبيائه وصالحي عباده إنما يحبونهم لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ]
ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والإعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسؤل المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والإفتقار الذي تواضع كل شيء لعظمته واستسلم كل شيء لقدرته وذل كل شيء لعزته
فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع به أولى أن يكون في النفوس
وقول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ كل مولود يولد على الفطرة ] يروي عن ربه : [ خلقت عبادي حنفاء ] ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له ن وهذا هو الحنيفية
وأصل الإيمان قول القلب وعمله أي علمه بالخالق وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا وهذا وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض إما بجهله وإما بظلمه فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع طائفة من قول من ذكر أن المعرفة ضرورية والعلم الذي يقترن به حب المعلوم قد يسمى معرفة كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمعروف ما تحبه القلوب مع العلم والمنكر ما تكرهه وتنفر عنه عند العلم به فلهذا قد يسمى من كان فيه مع علمه بالله حب لله وإنابة إليه عارفا بخلاف العالم الخالي عن حب القلب وتألهه فإنهم لا يسمونه عارف
ومن المعلوم أن وجود حب الله وخشيته والرغبة إليه وتألهه في القلب فرع وجود الإقرار به وهذا الثاني مستلزم للأول فإذا كان هذا يكون ضروريا في القلب فوجود الإقرار السابق عليه اللازم له أولى أن يكون ضروريا فإن ثبوت الملزوم لا يكون إلا مع ثبوت اللازم
وقد يراد بلفظ المعرفة العلم الذي يكون معلومة معينا خاصا وبالعلم الذي هو قسيم المعرفة ما يكون المعلوم به كليا عاما وقد يراد بلفظ المعرفة ما يكون معلومة الشيء بعينه وإن كان لفظ العلم يتناول النوعين في الأصل كما بسط في موضع آخر وسيأتي كلام الناس في الإقرار بالصانع هل يحصل بهذا وبهذا
وقد بينا في غير هذا الموضع الكلام على قولهم : علة الحاجة إلى المؤثر : هل هي الحدوث أو الإمكان أو مجموعها ؟ وبينا أنه إن أريد بذلك أن الحدوث مثلا دليل على أن هذا المحدث يحتاج إلى محدث أو أن الحدوث شرط في إفتقار المفعول إلى فاعل فهذا صحيح وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقرا إلى الفاعل فهذا باطل وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على إلى المؤثر أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقرا فهذا باطل
وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر وشرطا في الافتقار إلى المؤثر وإنما النزاع في مسألتين :
إحداهما : أن الواجب بغيره إزلا وأبدا : هل يصح أن يكون مفعولا لغيره ؟ كما يقوله من يقول من المتفلسفة : إن الفلك قديم معلول ممكن لواجب الوجود ازلا وأبدا فهذا هو القول الذي ينكره جماهير العقلاء من بني آدم ويقولون ك إن كون الشيء مفعولا مصنوعا مع كونه مقارنا لفاعله أزلا وأبدا ممتنع ويقولون أيضا : إن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا موجودا تارة ومعدوما أخرى فأما ما كان دائم الوجود فهذا عند عامة العقلاء ضروري الوجود وليس من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم وهذا مما وافق عليه الفلاسفة قاطبة حتى ابن سينا وأتباعه
ولكن ابن سينا تناقض فادعى في باب إثبات واجب الوجود أن الممكن قد يكون قديما أزليا مع كونه ممكنا ووافقه على ذلك طائفة من المتأخرين كالرازي وغيره ولزمهم على ذلك من الاشكالات ما لم يقدروا على جوابه كما قد بسط في موضعه وعلى هذا فالإمكان والحدوث متلازمان فكل ممكن محدث وكل محدث ممكن
وأما تقدير ممكن مفعول واجب لغيره مع أنه غير محدث فهذا ممتنع عند جماهير العقلاء وأكثر الفلاسفة من أتباع ارسطو وغيره مع الجمهور يقولون : إن الإمكان لا يعقل إلا في المحدثات وأما الذي أدعى ثبوت ممكن قديم فهو ابن سينا ومن وافقه ولهذا ورد عليهم في إثبات هذا الإمكان سؤالات لا جواب لهم عنها
موافقة الرازي لابن سينا وإنكار ابن رشد على ابن سينا
و الرازي لما كان مثبتا لهذا الإمكان لابن سينا كان في كلامه من الاضطراب ما هو معروف في كتبه الكبار والصغار مع أن هؤلاء كلهم يثبتون في كتبهم المنطقية ما يوافقون فيه سلفهم أرسطو وغيره : أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا كائنا بعد أن لم يكن وقد ذكر أبو الوليد بن رشد الحفيد هذا وقال : ما ذكره ابن سينا ونحوه من أن الشيء يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم مع كونه قديما أزليا قول لم يقله أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا
قلت : و ابن سينا قد ذكر أيضا في غير موضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم كما قاله سلفه وسائر العقلاء وقد ذكرت ألفاظه من كتاب الشفاء وغيره في غير هذا الموضع وهو مما يتبين به اتفاق العقلاء على أن كل ممكن يقبل الوجود والعدم فلا يكون إلا حادثا كائنا بعد أن لم يكن وهذا مما يبين أن كل ما سوى الواجب بنفسه فهو محدث كائن بعد أن لم يكن وهذا لا يناقض دوام فاعليته
والمقصود هنا أن نفس الحدوث والإمكان دليل على الافتقار إلى الموثر وأما كون أحدهما جعل نفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق فهذا خطأ بل نفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي لها لا يحتاج إلى علة فإنه ليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل وهو باطل باتفاق العلماء بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لا يمكن أن يكون مفارقا للذوات ولا يفتقر إلى علة وكون كل ما سوى الله فقيرا إليه محتاجا إليه دائما هو من هذا الباب
فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله كما أن الغني والصمدية أمر لازم لذات الله فيمتنع أن يكون سبحانه فقيرا ويمتنع أن يكون إلا غنيا عن كل ما سواه ويمتنع فيما سواه أن يكون غنيا عنه بوجه من الوجوه ويجب في كل ما سواه أن يكون فقيرا محتاجا إليه دائما في كل وقت
وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية وهو أن المحدث المخلوق هل افتقار إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط أو هو دائما مفتقر إليه على قولين للنظار وكثير من أهل الكلام المحدث المتلقى عن جهم وأبي الهذيل ومن تبعهما من المعتزلة وغيرهم يقولون إنه لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث لا في حال البقاء وهذا القول في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية الذين يقولون : افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثه بل افتقاره إليه في حال بقائه دائما ازلا وأبدا
فهؤلاء زعموا وجود الفعل بلا حدوث شيء وأولئك زعموا أن المخلوق لا يفتقر إلى الخالق لا يحتاج دائما وكلا القولين باطل كما قد بسط في موضعه
والمقصود هنا أن كثيرا مما يجعلونه مقدمات في أدله إثبات الصانع وإن كان حقا فإنه لا يحتاج إليه عامة الفطر السليمة وإن كان من عرضت له شبهة قد ينتفع به
والكلام على إبطال الدور والتسلسل هو من هذا الباب وما سلكوه من الطرق بقطع التسلسل والدور فهو طريق صحيح أيضا
وجماع ذلك أن الدور نوعان والتسلسل نوعان
أما الدور : فقد يراد به أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا ولا هذا إلا مع هذا ويسمى هذا الدور المعي الاقتراني ويراد به أنه لا يوجد هذا إلا بعد هذا ولا هذا إلا بعد هذا ونحو ذلك وهو الدور البعدي
فالأول ممكن كالأمور المتضايفة مثل البنوة والأبوة وكالمعلولين لعلة واحدة وسائر الأمور المتلازمة التي لا يوجد منها إلا مع الآخر كصفات الخالق سبحانه المتلازمة وكصفاته مع ذاته وكسائر الشروط كغير الشروط كغير ذلك مما هو من باب الشرط والمشروط
وأما الثاني فممتنع فإنه إذا كان هذا لا يوجد إلا بعد ذاك وذاك لا يوجد إلا بعد هذا لزم أن يكون ذاك موجودا قبل هذا وهذا قبل ذاك فيكون كل من هذا وذاك موجودا قبل أن يكون موجودا فيلزم اجتماع الوجود والعدم غير مرة وذلك كله ممتنع
ومن هذا الباب أن يكون هذا فاعلا لهذا او علة فاعلة أو علة غائية ونحو ذلك لأن الفاعل والعلة ونحو ذلك يمتنع أن يكون فعلا لنفسه فكيف يكون فاعلا لفاعل نفسه ؟ وكذلك العلة الفاعلة لا تكون علة فاعلة لنفسها فكيف لعلة نفسها ؟ وكذلك العلة الغائية التي يوجدها الفاعل هي مفعولة للفاعل ومعلولة في وجودها له لا لنفسها فإذا لم تكن معلولة لنفسها فكيف تكون معلولة لمعلول نفسها ؟
فهذا ونحوه من الدور المستلزم تقدم الشيء على نفسه أو على المتقدم على نفسه وكونه فاعلا لنفسه المفعولة أو لمفعول نفسه أو علة لنفسه المعلولة أو لمعلول معلول نفسه أو معلولا مفعولا لنفسه أو لمعلول نفسه ومفعول نفسه كل ذلك ممتنع ظاهر الامتناع ولهذا اتفق لعقلاء على امتناع ذلك
وأما التسلسل في الآثار والشروط ونحو ذلك ففيه قولان معروفان لأصناف الناس وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة ونحو ذلك فهذا ممتنع بلا ريب
فإذا تبين هذا فنقول : لو كان جميع الموجودات ممكنا مفتقرا إلى فاعل غيره فذلك الغير إن كان هو الغير الفاعل له لزم كون كل منهما فاعلا للآخر وهذا من الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء وإن كان ذلك الغير غيرا آخر لزم وجود فاعلين ومفعولين إلى غير غاية وإن شئت قلت : لزم مؤثرون كل منهم مؤثر في الآخر إلى غير غاية وإن شئت قلت لزم علل كل منها معلول للآخر إلى غير غاية وكل من هؤلاء ممكن الوجود مفتقر إلى غيره لا يوجد بنفسه
فهنا سؤالان :
أحدهما : قول القائل : لم لا يجوز أن يكون المجموع واجبا بنفسه وإن كان كل فرد من أفراد ممكنا بنفسه ؟ وقد أجيب عن هذا بأنه يستلزم ثبوت واجب الوجود بنفسه مع أنه باطل أيضا لأن المجموع هو الأجزاء المجتمعة مع الهيئة الاجتماعية وكل من الأجزاء ممكن بنفسه والهيئة الاجتماعية عرض من الأعراض الذي لا يقوم بنفسه فهو أيضا ممكن لنفسه بطريق الأولى فكل من الأجزاء ومن الهيئة الاجتماعية ممكن لنفسه فامتنع أن يكون هناك ما يقدر واجبا بنفسه
وأيضا فإن ما توصف به الأفراد قد يوصف به المجموع وقد لا يوصف فإن كان اتصاف الأفراد به لطبيعة مشتركة بينها وبين المجموع وجب اتصاف المجموع بخلاف ما إذا حدث للمجموع بالتركيب وصف منتف في الأفراد
ومعلوم أن كل واحد واحد إذا لم يكن موجودا إلا بغيرة وهو فقير محتاج فكثرة المفتقرات المحتاجات واجتماعها لا يوجب استغناءها إلا أن يكون في بعضها معاونة للآخر كالضعيفين إذا اجتمعا حصل باجتماعهما قوة لأن كلا منهما مستغن عن غيره من وجه محتاج إليه من وجه وأما إذا قدر أن كلا منهما مفتقر إلى غيره من كل وجه امتنع أن يحصل لهما بالاجتماع قوة أو معونة من أحدهما للأخر إذ التقدير أن كل كل منهما ليس له شيء إلا من الآخر وهذا هو الدور القبلي دور الفاعلين والعلل الفاعلية والغائية فلا يحصل لأحدهما من الآخر شيء والتقدير أنه ليس له من نفسه شيء فلا يحصل بالاجتماع وجود أصلا
يبين هذا أن كل جزء فهو مفتقر من كل وجه إلى غيره والمجموع أيضا مفتقر من كل وجه إلى الأفراد فإنه أي فرد من الأفراد قدر عدمه لزم عدم المجموع فليس في المجموع وجود يعطيه للأفراد ولا لشيء من الأفراد وجود يعطيه للمجموع او لغيره من الأفراد وهذا بخلاف ما إذا اجتمعت آحاد العشرة فإن كونها عشرة لا يحصل لأفرادها كما أن كل فرد ليس وجوده مستفادا من اجتماع العشرة فلما لم يكن كل من الأفراد وجوده من العشرة ولا من غيره من الأفراد أمكن وجوده بنفسه وأمكن أن يكون شرطا في وجود الفرد الآخر وأن يكون الحكم الحاصل باجتماع العشرة لا يحصل لفرد فرد فتبين أن مجموع الممكنات لا يكون ممكنا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
سؤال للآمدي وأجوبة عنه
والسؤال الثاني : سؤال الامدي وهو قوله : ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح كل واحد بالآخر إلى غير نهاية
فيقال عن هذا أجوبة :
الأول
أنه إذا كان كل من الجملة ممكنا بنفسه لا يوجد إلا بغيره فكل من الآحاد ليس وجوده بنفسه والجملة ليس وجودها بنفسها فليس هناك شيء وجوده بنفسه فلا يكون وجوده إلا بغيره فتعين أن يكون هناك غير ليس هو جملة مجموع الممكنات ولا شيئا من الممكنات وما ليس كذلك فهو موجود بنفسه وهو الواجب بنفسه ضرورة
وأما قوله : يكون ترجح كل واحد بالآخر أي يكون كل من الممكنات موجودا بممكن آخر على سبيل التسلسل
فيقال له : نفس طبيعة الإمكان شاملة لجميع الآحاد وهي مشتركة فيها فلا يتصور أن يكون شيء من أفراد الممكنات خارجا عن هذه الطبيعة العامة الشاملة ونفس طبيعة الإمكان توجب الافتقار إلى الغير فلو قدر وجود ممكنات بدون واجب بنفسه للزم استغناء طبيعة الإمكان عن الغير فيكون ما هو ممكن مفتقرا إلى غيره ليس ممكنا مفتقرا إلى غيره وذلك جمع بين النقيضين
يبين ذلك أنه مهما قدر من الممكنات التي ليست متناهية فإنه ليس واحد منها موجودا بنفسه بل هو مفتقر إلى ما يبدعه ويفعله فالثاني منها مشارك للأول في هذه الصفة من كل وجه فليس لشيء منها وجود من نفسه ولا للجملة فلا يكون هناك موجود أصلا
بل إذا قال القائل : هذا موجودا بآخر والآخر إلى غير نهاية أو هذا أبدعه آخر والآخر أبداه آخر إلى نهاية كان حقيقة الكلام أنه يقدر معدومات لا نهاية لها فإن قدر فاعلا إذا لم يكن موجودا بنفسه لم يكن له من نفسه إلا العدم وقد قدر فاعله ليس له من نفسه إلا العدم
فكل من هذه الأمور المتسلسلة ليس لشيء منها من نفسه إلا العدم ولا للمجموع من نفسه إلا العدم وليس هناك إلا الأفراد والمجموع وكل من ذلك ليس منه إلا العدم فيكون قد قدر مجموع ليس منه إلا العدم وما كان كذلك امتنع أن يكون منه وجود فإن مالا يكون منه إلا العدم ولا من مجموعه ولا من أفراد يمتنع أن يكون منه وجود
فإذا قدر ممكنات متسلسلة كل منها لا وجود له من نفسه لم يكن هناك إلا العدم والوجود موجود محسوس فعلم أن فيه ما هو موجود بنفسه ليس وجوده من غيره وهو المطلوب
الثاني
أن يقال : الموجود الذي ليس من نفسه يمتنع أن يكون وجود غيره منه فإن وجود نفسه بنفسه واستغناء نفسه بنفسه وقيام نفسه بنفسه أولى من وجود غيره بوجوده واستغناء غيره به وقيام غيره به فإذا قدر ممكنات ليس فيها ما وجوده بنفسه امتنع أن يكون فيها ما وجود غيره به بطريقة الأولى فلا يجوز أن يكون كل ممكن لا يوجد بنفسه وهو مع هذا فاعل لغيره إلى غير نهاية
وهذا مما لا يقبل النزاع بين العقلاء الذين يفهمونه وسواء قيل : إن المؤثر في مجموع الممكنات هو قدرة الله تعالى بدون أسباب أو قيل : أنها مؤثرة فيها بالأسباب التي خلقها أو قيل : إن بعضها مؤثر في بعض بالإيجاب أو الإبداع أو التوليد أو الفعل أو غير ذلك مما قيل فإن كل من قال قولا من هذه الأقوال لا بد أن يجعل للمؤثر وجودا من موجود بنفسه لا يمكن أحد ان يقول : كل منها مؤثر وليس له من نفسه إلا العدم وليس هناك مؤثر له من نفسه وجود فإنه يعلم بصريح العقل أنه إذا قدر أن كل تلك الأمور ليس لشيء منها وجود من نفسه وجود ولا بنفسه لم يكن له تأثير من نفسه ولا بنفسه فإن مالا يكون موجوداص بنفسه ومن نفسه فأولى به إن لا يكون مؤثرا في وجود غيره بنفسه ومن نفسه فإذا لم يكن هناك ما هو موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه بل كل منها غير موجود بنفسه ولا مؤثر بنفسه كان كل معدوما بنفسه معدوم التأثير بنفسه فنكون قد قدرنا أمورا متسلسلة كل منها لا وجود له بنفسه ولا تأثير له بنفسه وليس هناك مغاير لها يكون موجودا مؤثرا فيها فليس هناك لا وجود ولا تأثير قطعا
وإذا قال القائل : كل من هذه الأمور التي لا توجد بنفسها يبدع الآخر الذي لا يوجد بنفسه كان صريح العقل يقول له : فما لا يكون موجودا بنفسه لا يكون مؤثرا بنفسه فكيف تجعله مؤثرا في غيره ولا حقيقة له
فإن قال : بل حقيقته توجد بذلك الغير
قيل له : ليس هناك غير يتحقق به فإن الغير الذي قدرته هو أيضا لا وجود له ولا تأثير أصلا إلا بما تقدره من غير آخر ليس له وجود ولا تأثير
ونكتة هذا الجواب أن تقدير العقل لما لا يوجد بنفسه بعد ولا يحقق له وجود بغيره كونه مؤثرا مبدعا لغيره من أعظم الأمور بطلانا وفسادا فإن إدباعه للغير لا يكون إلا بعد وجوده وهو مع كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم ليس موجود فكل ما قدر إنما هي معدومات
الثالث
يوضح هذا الجواب الثالث : وهو أن نقول : قول القائل : الممكن الذي لم يوجد هو معدوم ليس بموجود أصلا والمعدوم الذي لم يحصل له ما يقتضي وجوده هو باق مستمر على العدم وإذا قال القائل : الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فهذا بين ظاهر في جاب الإثبات فإنه لا يكون موجودا إلا بمقتضي لوجوده إذا كان ليس له من نفسه وجود
وأما في النفي فمن الناس من يقول : علة عدمه عدم علة وجوده ويجعل لعدمه علة كما لوجوده علة وهذا قول ابن سينا وأتباعه
والتحقيق الذي عليه جمهور النظار من المتكلمين والمتفلسفين
وهو الآخر من قولي الرازي أن عدمه لا يفتقر إلى علة تجعله معدوما فالعدم المحض لا يعلل ولا يعلل به إذ العدم المحض المستمر لا يفتقر إلى فاعل ولا علة ولكن عدم علته مستلزم لعدمه ودليل على عدمه فإذا أريد بعلة عدمه ما يستلزم عدمه ويدل على عدمه فهو صحيح وإن أريد بعلة عدمه تحقق العدم الذي يفتقر في تحقق إلى علة موجبة له فليس كذلك فإن العدم المستمر لا يفتقر إلى علة موجبة
فقول القائل : الممكن لا يوجد إلا بمرجح بمنزل قوله : لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بغيره ولا يحتاج أن يقول مالا يوجد بنفسه لا يعدم إلا بغيره فإن مالا يوجد بنفسه فليس له من نفسه وجود
وإذا قلت : له من نفسه العدم فهذا له معينان : إن أردت أن حقيقة مستلزمة للعدم لا تقبل الوجود فليس كذلك بل هي قابلة للوجود وإن أردت أن حقيقته لا تقتضي الوجود بل ليس لها من نفسها غير العدم وأن وجودها لا يكون إلا من غيرها لا من نفسها فهذا صحيح فالفرق بين كونه ليس له من نفسه إلا العدم وبين كون نفسه مستلزمة للعدم فرق بين مع أن قولنا : له من نفسه وليس له من نفسه لا نريد به أنه في الخارج نفس ثابتة ليس لها إلا العدم أو هي مستلزمة للعدم فإن هذا يتخيله من يقول : المعدوم شيء ثابت في الخارج أو يقول الماهيات في الخارج أمور مغايرة للوجود المحقق في الخارج وهذا كله خيال باطل كما قد بسط في موضعه
ولكن الماهية والشيء قد يقدر في الذهن قبل وجوده في الخارج وبعد ذلك فما في الإذهان مغايرة لما في الأعيان
وإذا قلنا : هذا الممكن يقبل الوجود والعدم أو نفسه أو حقيقته لا تقتضي الوجود ولا تستلزم العدم فنعني به أن ما تصوره العقل من هذه الحقائق لا يكون موجودا في الخارج بنفسه وليس له في الخارج وجود من نفسه ولا يجب عدمه في الخارج بل يقبل أن تتحقق حقيقته في الخارج فيصير موجودا ويمكن أن لا تتحقق حقيقته في الخارج فلا يكون موجودا وليس في الخارج حقيقة ثابتة أو موجودة تقبل الإثبات والنفي بل المراد أن ما تصورناه في الأذهان : هل يتحقق في الأعيان أولا يتحقق ؟ وما تحقق في الأعيان هل تحققه بنفسه أو بغيره ؟
فإذا قدر أن المتصورات في الإذهان ليس فيها ما يتحقق بنفسه في الخارج فليس فيها ما هو مبدع بنفسه لغيره في الخارج بطريق الأولى وليس فيها إلا ما هو معدوم في الخارج بل ليس فيها إلا ما هو ممتنع في الخارج فإن الممكن إذا قدر عدم موجود بنفسه يبدعه كان ممتنعا لغيره فإذا قدر انه ليس في الخارج إلا ما ليس له وجود بنفسه لم يكن في الخارج إلا ما هو ممتنع الوجود وإما لنفسه إما لغيره ولا يكون عدم شيء من ذلك مفتقرا إلى علة توجب عدمه بل هو معدوم بنفسه سواء أمكن وجوده أو امتنع وحينئذ فلا يكون في الخارج إلا العدم المستمر
وإذا قيل بعد هذا : الذي لا وجود له من نفسه موجود بهذا الذي لا وجود له من نفسه وهلم جرا كان بمنزلة أن يقال : هذا المعدوم موجود بهذا المعدوم وهلم جرا بل المعدوم أن يقال : هذا الممتنع موجود بهذا الممتنع فيكون هذا تناقضا حيث جعلت المعدوم موجودا بمعدوم وسلسلت ذلك فجمعت بين تسلسل المعدومات وبين جعل كل واحد منها هو الذي أوجد المعدوم الآخر
الرابع
أن يقال : الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر فإن ذلك الممكن الآخر لا يترجح وجوده على عدمه إلا بغيره وإذا كان الممكن الذي قدر انه الفاعل المؤثر المرجح لم يترجح وجوده على عدمه بل يقبل الوجود والعدم فالممكن الذي قدر أنه الأثر المفعول المصنوع المرجح أولى أن لا يترجح وجوده على عدمه بل هو قابل للوجود والعدم بل الممكن لا يكون موجودا إلا عند ما يجب به وجوده فإنه ما دام مترددا بين إمكان الوجود والعدم لا يوجد فإذا حصل ما به يجب وجوده وجد وإذا كان كذلك فنفس الممكن لا يجب به ممكن بل لا يجب الممكن إلا بواجب والواجب غما بنفسه وإما بغيره والواجب بغيره هو الممكن من نفسه الذي لا يوجد إلا بما يجب وجوده وحينئذ فيمتنع تسلسل الممكنات بحيث يكون هذا الممكن هو الذي وجب به الآخر بل إنما يجب الآخر بما هو واجب وما كان ممكنا باقيا على الإمكان لم يكن واجبا : لا بنفسه ولا بغيره فإذا قدر تسلسل الممكنات القابلة للوجود والعدم من غير أن يكون فيها موجود بنفسه كانت باقية على طبيعة الإمكان ليس فيها واجب فلا يكون فيها ما يجب به شيء من الممكنات بطريق الأولى فلا يوجد شيء من الممكنات وقد وجدت الممكنات هذا خلف وإنما لزم هذا لما قدرنا ممكنات توجد بممكنات ليس لها من نفسها وجود من غير أن يكون هناك واجب بنفسه
واعلم أن الناس قد تنازعوا في الممكنات : هل يفتقر وجودها إلى ما به يجب وجودها بحيث تكون إما واجبة الوجود معه وإما ممتنعة العدم أو قد يحصل ما تكون معه بالوجود أولى مع إمكان العدم وتكون موجودة لمرجح الوجود مع إمكان العدم فالأزل قول الجمهور والثاني قول من يقول ذلك من المعتزلة ونحوهم
وكثير من الناس يتناقض في هذا الأصل فإذا ابنينا على القول الصحيح فلا كلام وإن أردنا أن نذكر ما يعم القولين قلنا :
الخامس
أن الممكن لا يتحقق وجوده بمجرد ممكن آخر لم يتحقق وجوده بل لا يتحقق وجوده إلا بما يحقق وجوده وحينئذ فإذا قدرنا الجميع ممكنات ليس فيها ما تحقق وجوده لم يحصل شرط وجود شيء من الممكنات فلا يوجد شيء منها لأن كل ممكن إذا أخذته مفتقرا إلى فاعل يوجده فهو في هذه الحال لم يتحقق وجوده بعده فإنه ما دام مفتقرا إلى أن يصير موجودا فليس بموجود فإنه موجودا ينافي كونه مفتقرا إلى أن يصير موجودا فلا يكون فيها موجود فلا يكون فيها ما يحصل به شرط وجود الممكن فضلا عن أن يكون فيها ما يكون مبدعا لممكن أو فاعلا له فلا يوجد ممكن وقد وجدت الممكنات فتسلسل الممكنات بكون كل منها مؤثرا في الآخر ممتنع وهو المطلوب
واعلم أن تسلسل المؤثرات لما كان ممتنعا ظاهر الامتناع في فطر جميع العقلاء لم يكن متقدمو النظار يطيلون في تقريره لكن المتأخرون أخذو يقرورنه وكان أسباب ذلك اشباه التسلسل في الآثار التي هي الفعال بالتسلسل في المؤثرين الذين هم الفاعلون فإن جهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف ومن اتبعهما من اهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة وسلكه من سلكه من المعتزلة والكلابية والكرامية وغيرهم اعتقدوا بطلان هذا كله وعن هذا امتنعوا أن يقولوا : إن الرب لم يزل متكلما إذا شاء ثم اختلفوا : هل كلامه مخلوق أو حادث النوع أو قديم العين وهو معنى أو قديم العين وهو حروف او حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلا وأبدا ؟ على الأقوال المعروفة في هذا الموضوع
ثم إن جهما وأبا الهذيل العلاف منعا ذلك في الماضي والمستقبل ثم إن جهما كان أشد تعطيلا فقال بفناء الجنة والنار وأما أبو الهذيل فقال بفناء حركات الجنة وجعلوا الرب تعالى فيما لا يزال لا يمكن أن يتكلم ولا يفعل كما قالوا : لم يزل وهو لا يمكن أن يتكلم وأن يفعل ثم صار الكلام والفعل ممكنا بغير حدوث شيء يقتضي إمكانه وأما أكثر أتباعهما ففرقوا بين الماضي والمستقبل كما ذكر في غير هذا الموضع والمقصود هنا انه لما جعل من جعل التسلسل نوعا واحدا كما جعل من جعل الدور نوعا واحدا حصلت شبهة فصار بعض المتأخرين كالآمدي والآبهري يوردون أسولة على تسلسل المؤثرات ويقولون إنه لا جواب عنها فلذلك احتيج إلى بسط الكلام في ذلك
فصل
وما سلكه هؤلاء المتاخرون في إبطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار فهو طريق صحيح أيضا وإن كان منهم من يورد على ذلك شكوكا يعجز بعضهم عن حلها كما قد بسط في غير هذا الموضع
لكنه طريق طويل مشق لا حاجة إليه ولهذا لم يسلكه أحد من النظار المتقدمين من أهل الكلام المحدث فضلا عن السلف والأئمة فشيوخ المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم من أصناف أهل الكلام أثبتوا الصانع الحدوث والإمكان وما يتعلق بذلك من غير احتياج إلى بناء ذلك على إبطال الدور والتسلسل كما هو الموجود في كتبهم فلا يوجد بناء إثبات الصانع على قطع الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار في كلام مثل أبي علي الجبائي وأبي هاشم وعبد الجبار بن أحمد وأبي الحسين البصري وغيرهم ولا في كلام مثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي بكر بن فورك وأبي إسحق الإسفراييني وأبي المعالي الجوني وأمثالهم ولا في كلام محمد كرام ومحمد بن الهيصم وأمثالهم ولا في كتب من يوافق المتلكمين في كثير من طرقهم مثل كلام أبي الحسن التميمي والقاضي أبي يعلي وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم وكذلك غير هؤلاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ولا في كلام متكلمي الشيعة كالموسوي و الطوسي وأمثالهما لا أعلم أحدا من متكلمي طوائف المسلمين جعل إثبات الصانع موقوفا على إبطال الدور والتسلسل في العلل والمعلولات دون الآثار وإن كان هؤلاء يبطلون ما يبطلونه من الدور والتسلسل
فالمقصود أنهم لم يجعلوا إثبات الصانع متوقفا عليه بل من يذكر منهم إبطال التسلسل يذكره في مسائل الصفات والأفعال فإن هذا فيه نزاع مشهور فيذكرون إبطال التسلسل مطلقا في العلل والآثار لإبطال حوداث لا أول لها بدليل التطبيق ونحوه وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة والعلل الغائية دون الاثار فإنهم مع اتفاقهم على بطلانه لا يحتاجون إليه في إثبات الصانع وأما التسلسل في الآثار والشروط فهذا احتاج إليه من احتاج من نفاة ما يقوم به المقدورات والمرادات كالكلابية وأكثر المعتزلة والكرامية ومن وافق هؤلاء
ومن أقدم من رأيته ذكر نفي التسلسل في أثبات واجب الوجود في المؤثراتخاصة دون الآثار ابن سينا وهوبناه على نفي التسلسل في العلل فقط ثم اتبعه من سلك طريقة كالسهوردي المقتول وأمثاله وكذلك الرازي والآمدي والطوسي وغيرهم
لكن هؤلاء زادوا عليه احتياج الطريقة إلى تفي الدور أيضا والدور القبلي مما اتفق العقلاء على نفيه ولوضوح انتفائه لم يحتج المقدمون والجمهور إلى ذكر ذلك لأن المستدل بدليل ليس عليه أن يذكر كل ما قد يخطر بقلوب الجهال من الاحتمالات وينفيه فإن هذا لا نهاية له وإنما عليه أن ينفي من الاحتمالات ما ينقدح ولا ريب أن اتقداح الاحتمالات يختلف باختلاف الأحوال
ولعل هذا هو السبب في أن بعض الناس يذكر في الأدلة من الاحتمالات التي ينفيها مالا يحتاج غيره إلى ذلك ولكن هذا لا ضابط له كما أن الأسولة والمعارضات الفاسدة التي يمكن أن يوردها بعض الناس على الأدلة لا نهاية لها فإن هذا من باب الخواطر الفاسدة وهذا لا يحصيه أحد إلا الله تعالى لكن إذا وقع مثل ذلك لناظر أو مناظر فإن الله ييسر من الهدى ما يبن له فساد ذلك فإن هدايته لخلقه وإرشاده لهم هو بحسب حاجتهم إلى ذلك وبحسب قبولهم الهدى وطلبهم له قصدا وعملا
موقف الرازي من طريقة ابن سينا
ولهذا لما شرح الرازي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وقال إنه لم يذكر فيها إبطال الدور وذكر ما ذكره في إبطال الدور ثم قال والإنصاف أن الدور معلوم البطلان بالضرورة ولعل ابن سينا إنما تركه لذلك والطريقة التي سلكها ابن سينا في إثبات واجب الوجود ليس هي الطريقة أئمة الفلاسفة القدماء كأرسطو وأمثاله وهي عند التحقيق لا تفيد إلا إثبات مجرد واجب وأما كونه مغايرا للأفلاك فهو مبني على نفي الصفات وهو توحيدهم الفاسد الذي قد بينا فساده في غير هذا الموضع ولهذا كان من سلك هذه الطريقة قد يفضى به الأمر إلى إنكار وجود واجب مغاير لوجود الممكنات كما يقوله أهل الوحوة القائلون بوحدة الوجود من متأخري متصوفة هؤلاء الفلاسفة كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما والقول بوجود قول حكاه ارسطو واتباعه عن طائفة من الفلاسفة وأبطلوه
والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون : ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود وهو واجب بنفسه وهو القول الذي أظهره فرعون لكن هؤلاء ينازعون أولئك في الإسم فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله وأولئك يحسبون ان الإله الذي أخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود وأولئك لا يقولون هذا وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق وأولئك ليس لهم توجه إليه
وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه : منها العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر والسحاب والحيوان والنبات والمعدن وغير ذلك من الصور والأعراض فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجبا لكونها كانت معدومة ويمتنع أن تكون ممتنعة لكونها وجدت فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة ليست واجبة ولا ممتنعة
ثم إن الرازي جعل هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا هي العمدة الكبرى في إثبات الصانع كما ذكر ذلك في رسالة إثبات واجب الوجود ونهاية العقول والمطالب العالية وغير ذلك من كتبه وهذا مما لم يسلكه أحد من أئمة النظار المعروفين من أهل الإسلام بل لم يكن في هؤلاء من سلك هذه الطريقة إثبات الصانع فضلا عن أن يجعلها هي العمدة ويجعل مبناها على ما سنذكره من المقدمات
وقد رأيت من أهل عصرنا من يصنف في أصول الدين ويجعلون عمدة جميع الدين على هذا الأصل تبعا لهؤلاء لكن منهم من لا يذكر دليلا بل يجعل عمدته في نفي النهاية امتناع وجود مالا يتانهي من غير حجة أصلا ولا يفرق بين النوعين ويرتب على ذلك جميع أصول الدين ثم من هؤلاء المصنفين من يدخل مع أهل وحدة الوجود المدعين للتحقيق والعرفان ويعتقد صحة قصيدة ابن الفارض لكونه قراها على القونوي وأعان على شرحها لمن شرحها من إخوانه وهم مع هذا يدعون أنهم أعظم العالم توحيدا وتحقيقا ومعرفة
فلينظر العاقل ما هو الرب الذي أثبته هؤلاء وما هو الطريق لهم إلى إثباته وتناقضهم فيه فإن القائلين بوحدة الوجود يقولون بقدم العالم تصريحا أو لزوما وذلك مستلزم للتسلسل ودليله الذي أثبت به واجب الوجود وعمدته فيه نفي كل ما يسمى تسلسلا
وأيضا ففيما صنفه من أصول الدين يذكر حدوث العالم موافقة للمتكلمين المبطلين للتسلسل مطلقا في المؤثرات والآثار ومع هؤلاء يقول بوحدة الوجود المستلزمة لقدمه وللتسلسل موافقة لمتصرفة الفلاسفة الملاحدة كابن العربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم
وإذا كان ما ذكره ابن سينا وأتباعه في إثبات واجب الوجود صحيحا في نفسه وإن كان لا حاجة إليه ولا يحصل المقصود من إثبات الصانع به وكان الرازي ونحوه يزعمون أن هذه الطريقة هي الطريقة الكبرى في إثبات واجب الوجود وهي الطريقة التي سلكها الآمدي مع أنه اعترض عليها باعتراض ذكر أنه لا جواب له عنه فنحن نذكرها على وجهها
كلام ابن سينا في إثبات وجود الله تعالى
قال ابن سينا إشارة كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجودفي نفسه فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال : هو ممتنع بذاته بعد ما فرض موجودا بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل عدم علته صار ممتنعا أو مثل شرط وجود علته صار واجبا 0 وإن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشىء الذي لا يجب ولا يمتنع فكل موجود إما واجب بذاته وغما ممكن الوجود بحسب ذاته
إشارة ماحقة في نفسه الإمكان فليس يصير موجودا من ذاته فإنه ليس وجوده من ذاته أولى من عدمه ومن حيث هو ممكن فإن صار أحدهما أولى فلحضور شىء أو غيبته فوجود كل ممكن الوجود هو من غيره
ثم قال تنبيه : إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية فيكون كل واحد من أحاد السلسلة ممكنا في ذاته والجملة معلقة بها فتكون غير واجبة أيضا وتجب بغيرها 0 ولنرد هذا بيانا شرح : كل جملة كل واحد منها معلول فإنها تقتضي علة خارجة عن آحادها وذلك لأنها إما أن تقتضي علة أصلا فتكون واجبة غير معلولة وكيف يتأتى هذا : وإنما تجب بآحادها ؟ وإما أن تقتضي علة هي الآحاد باسرها فتكون معلولة لذاتها فإن تلك الجملة والكل شىء واحد 0 وأما الكل بمعنى كل واحد فليس تجب به الجملة 0 وإما أن تقتضي علة هي بعض الاحاد أولى بذلك من بعض إن كان كل واحد منها معلولا ولأن علته أولى بذلك وإما أن تقتضي علة خارجة عن الآحاد كلها وهو الثاني
إشارة : كل علة جملة هي غير شىء من آحادها فهي علة :
أولا : للآحاد ثم للجملة وإلا فلتكن الآحاد غير محتاجة إليها 0 فالجملة إذا تمت بآحادها لم تحتج إليها بل ربما كان شىء علة لبعض الآحاد دون بعض ولم يكن علة للجملة على الإطلاق
إشارة كل جملة مترتبة من علل ومعلولات على الولاء وفيها علة غير معلولة فهي طرف لأنها كانت وسطا فهي معلولة
إشارة كل سلسلة مترتبة من علل ومعلولات كانت متناهية أو غير متناهية فقد ظهر أنها لم يكن فيها إلا معلول احتاجت إلى علة خارجة عنها لكنها يتصل بها لا محالة طرف فظهر أنه إن كان فيها ما ليس بمعلول فهو طرف ونهاية فكل سلسلة تنتهي إلى واجب الوجود بذاته
تعليق على كلام ابن سينا
قلت : مضمون هذا الكلام ان الموجود إما واجب بنفسه وإما ممكن لا يوجد إلا بغيره كما قرر ذلك في الإشارتين لكن قد قيل إن في الكلام تكريرا لا يحتاج إليه وإذا كان الممكن لا يوجد إلا بغيره فهو مفعول معلول ويمتنع تسلسل المعلولات لأن كل واحد من تلك الآحاد ممكن والجملة متعلقة بتلك الممكنات فتكون ممكنة غير واجبة أيضا فتجب بغيرها وما كان غير جملة الممكنات وآحادها فهو واجب فهذا معنى قوله : إما أن يتسلسل ذلك إلى غير النهاية فيكون كل واحد من آحاد السلسلة ممكنا في ذاته والجملة معلقة بها فتكون غير واجبة أيضا وتجب بغيرها لكن قوله إما أن يتسلسل يحتاج أن يقال : وإما ان لا يتسلسل فقيل إنه حذف ذلك اختصارا إذ كان هو مقصوده والمعنى : وإن لم تتسلسل الممكنات انتهت إلى واجب الوجود وهو المطلوب
ولو قيل بدل هذا اللفظ : إن تسلسل ذلك كان هو العبارة المناسبة لمطلوبه
ثم ذكر شرح هذا الدليل على وجه تفصيلي بعد ان ذكره محملا فقال : إذا تسلسلت الممكنات وكل منها معلول فغنها تقتضي علة خارجة عن آحادها لأنه إما يكون لها علة وإما أن لا يكون وإذا كان لها علة فالعلة إما المجموع وإما بعضه وإنما خارج عنه والأقسام ممتنعة إلا الأخير
أما الأول وهو أن لا تقتضي علة أصلا فتكون الجملة واجبة غير معلولة فهذا لا يتاتى لأنها إنما تجب بآحادها وما وجب كان معلولا واجبا بغيره
وهذا يقرره بعضهم كالرازي بوجهين : أحدهما : أن الجملة مركبة من الآحاد وىحادها غيرها وما افتقر إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه وهو تقرير ضعيف لأنه لو قدر أن كل واحد من الأجزاء واجب بنفسه لم يمتنع أن تكون الجملة واجبة بنفسها فإن مجموع الأمور الواجبة بنفسها لا يمتنع أن تكون غير محتاجة إلى أمور خارجة عنها وهذا هو المراد بكونه واجبا بنفسه 0 ولكن هذا من جنس حجتهم على نفي الصفات بنفي التركيب وهي حجة داحضة
الوجه الثاني : أن كل واحد من الآحاد ممكن غير واجب والجملة لا تحصل إلا بها فما لا يحصل إلا بالممكن اولى ان يكون ممكنا وهذا التقرير خير من ذاك وهذا التقرير الثاني هو الذي ذكره السهروردي في تلويحاته وهو أحد الوجهين الذين ذكرهما الرازي وهو أحد الآمدي أيضا
قال السهروردي : لما كان كل واحد من الممكنات يحتاج إلى العلة فجميعها محتاج لأنه معلول الآحاد الممكنة فيفتقر إلى علة خارجة عنه وهي ممكنة لأنها لو كانت ممكنة كانت من الجملة فتكون إذا واجبة الوجود
وقد قررها الآمدي بوجه ثالث وهو أنها إن كانت الجملة واجبة بذاتها فهو عين المطلوب فقال الجملة إما ان تكون واجبة لذاتها وإما أن تكون ممكنة لا جائز أن تكون واجبة وإلا لما كانت احادها ممكنة وقد ثيل : إنها ممكنة قال : ثم وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب
وهذا الوجه الثاني الذي ذكره هو وجه ثالث وليس هذا بمحصل للمقصود لأنه حينئذ لا يلزم ثبوت واجب بنفسه خارج عن جملة الممكنات
كلام الآمدي في دقائق الحقائق
وقد أورد بعضهم على هذا سؤلا فقال : إذا كانت الآحاد ممكنة ومعناه افتقار كل واحد إلى علته وكانت الجملة هي مجموع الآحاد فلا مانع من إطلاق الوجوب وعدم الإمكان عليها بمعنى أنها غير مفتقرة إلى امر خارج عنها وإن كانت أبعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض
قال الآمدي : وهذا ساقط لأنه إذا كانت الجملة غير ممكنة كانت واجبة بذاتها وهي مجموع الاحاد 0 وكل واحد من الاحاد ممكن فالجملة أيضا ممكنة بذاتها والواجب بذاته لا يكون ممكنا بذاته
قلت : وهذا السؤال يحتمل ثلاثة اوجه :
احدهما أن يقال : إنها واجبة بالآحاد والأجتماع جميعا ومعلوم ان الجملة هي الآحاد واجتماعها فإذا كان ذلك كان ممكنا كانت الذات ممكنة فيكون السؤال ساقطا كما قال الآمدي :
الثاني : أن يقال : المجموع واجب بآحاده الممكنة ولا يجعل المجموع نفسه ممكنا بل يقال : المجموع واجب بالآحاد الممكنة وهذا هو السؤال الذي يقصده من يفهم ما يقول وحينئذ فسيأتي جوابه بان الاجتماع الذي للممكنات أولى أن يكون ممكنا لكونه عرضا لها والعرض محتاج إلى موارده فإذا كانت ممكنة كان هو اولى بالإمكان وغير ذلك
الاحتمال الثالث : أن يقال : كل واحد من الآحاد يترجح بالآخر والمجموع ممكن أيضا لكنه يترجح بترجح الآحاد المتعاقبة
وهذا السؤال ذكره الآمدي موردا له على هذه الحجة في كتابه المسمى بدقائق الحقائق
قال : ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود وبكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية
قال : وهذا شكال مشكل وربما يكون عنده غيري حله
تعليق ابن تيمية على كلام الآمدي
ولقائل أن يقول : إن أريد بكون الجملة ممكنة انها ممكنة غير واجبة بل مفتقرة إلى أمر خارج عنها فلذلك يوجب افتقارها إلى غيرها وهو المطلوب
وإن أريد أنها ممكنة بنفسها واجبة بالآحاد المتسلسلة فهذا السؤال هو في معنى السؤال الذي قبله وإنما الاختلاف بينهما في أن الأول قال : لم لا تكون واجبة بنفسها بمعنى أنها غير مفتقرة إلى أمر خارج عن آحادها بل المجموع واجب بآحادها الممكنة
والثاني قال : لم لا تكون ممكنة بنفسها واجبة بآحادها على وجه التسلسل
لكن قد يقال : إنه في احد التقديرين ادعى وجوب الهيئة الاجتماعية بنفسها مع إمكان الآحاد وفي الثاني ادعى ان الهيئة الاجتماعية ممكنة بنفسها لكنها واجبة بالآحاد المتسلسلة ومعلوم أن كليهما باطل والأول أظهر بطلانا من الثاني فإنها إذا كانت الآحاد كلها ممكنة والاجتماع نسبة وإضافة بينها غايته أن يكون عرضا قائما بها امتنع ان يكون واجبا بنفسه فإن الموصوف الممكن يمتنع أن تكون صفته واجبة الوجود بنفسها
وأما الثاني فلأن الهيئة الاجتماعية إذا كانت معلول الآحاد الممكنة كانت أولى بالإمكان فإن معلول الممكن أولى أن يكون ممكنا وإن شئت قلت : المفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا والآحاد ليس فيها إلا ما هو ممكن فلا يكون في الاجتماع وأحاده إلا ما هو ممكن لا يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه يمتنع أن يوجد به غيره إذا لم يحصل له ما يوجد به فإن وجوده في نفسه قبل وجود غيره به فإذا لم يكن وجوده إلا بموجد يوجده فلان لا يكون وجود غيره به بدون الموجد الذي يوجده أولى واحرى وكل من الممكنات واجتماعها ليس موجودا بنفسه فيمتنع ان يكون شيء منها موجدا لغيره فامتنع ترجح بعضها ببعض وترجح المجموع بالآحاد
وفي الجملة فكلا السؤالين يتضمن افتقار الاجتماع إلى الآحاد فكلاهما لم يدع فيه إلا وجوبها بالآحاد لم يدع وجوبا بالذات غير الوجوب بالآحاد لكن الآمدي وهي هذا السؤال لما أضافة إلى غيره بعبارة أخرى واعتبار ثم إنه اعترف بعدم قدرته على حله لما أورده من جهة نفسه بعبارة أخرى واعتبار آخر
ومن أجاب عن الآمدي في الفرق بينهما يقول : السؤال الأول قيل فيه : إن المجموع واجب بنفسه بعبارة ممتنع وهذا قيل فيه : إنه ممكن وجب بالآحاد
وهذا الجواب بالفرق ضعيف وذلك لأنه إذا قيل : هو ممكن واجب بالآحاد فقد قيل : إنه واجب بتلك الآحاد وتلك الآحاد كلها ممكنة ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا فيمتنع أن يكون معلول الممكن قبل وجوب الممكن والممكن لا يجب إلا بالواجب بنفسه بل ما كان واحد من الممكنات جزء علة لوجوده فهو ممكن فكيف إذا كان كل من الممكنات التي لا نهاية لها جزء علة وجوده ؟ فإن الاجتماع الذي يحصل للممكنات المتسلسلة التي هي علل ومعلولات يتوقف على كل واحد من تلك الأمور التي كل منها علة معلول فالاجتماع أولى بالإمكان وأبعد عن الوجوب إن قدر أن له حقيقة غير الآحاد
فثبت انه إذا قدر سلسلة العلل والمعلولات كل منها ممكن فلا بد لها من أمر خارج عنها وهذا أمر متفق عليه بين العقلاء وهو من أقوى العلوم اليقينية والمعارف القطعية
ولولا أن طوائف من متأخري النظار طولوا في ذلك وشكك فيه بعضهم كالآمدي والأبهري لما بسطنا فيه الكلام
المجموع مغاير لكل واحد من الآحاد
وأصل هذا السؤال مبناه على أن المجموع ليس هو كل واحد واحد من الآحاد إذا المجموع مغاير لكل واحد من الآحاد فقد يقال : هو واجب بكل واحد واحد من الآحاد وحينئذ فالمجموع ممكن من جهة كونه مجموعا واجبا بالآحاد الممكنة لا سيما وهؤلاء الفلاسفة الذين احتجوا بهذا 0 هم واكثر الناس يقولون : لا يجب في كل جملة ان توصف بما يوصف به آحادها
كلام ابن سينا
قال ابن سينا : ليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل وإلا لكان يصح أن يقال الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود فيحمل الإمكان على الكل كما حمل على كل واحد
كلام السهروردي
وكذلك قال السهروردي الحكم على الكل بما على كل واحد لا يجوز فإن كل ممكن غير الحركة جائز وقوعه دفعة واحدة وليس كذلك الجميع وكل واحد من الضدين ممكن في محل والكل معا غير ممكن
الرد على ذلك من وجوه
الوجه الأول
أن يقال : نفس الاجتماع يمتنع أن يكون واجبا بنفسه بدون الأجزاء فإن فساد هذا معلوم بالضرورة ولم يقله أحد كيف والاجتماع عرض يفتقر إلى محله فإذا كان محل العرض غير واجب بنفسه كان العرض المفتقر إلى الممكن بنفسه أولى أن يكون ممكنا غير واجب بنفسه وإنما يتوهم وجوبه بالأجزاء الممكنة وحينئذ فيكون ذلك الاجتماع ممكنا بنفسه واجبا بالأجزاء وإذا كان ممكنا بنفسه فنفس اجتماع الآحاد من جمله أجزاء المجموع فيقال : المجموع هو الآحاد مع الهيئة الاجتماعية وكل واحد من ذلك ممكن ليس واجبا بنفسه وحينئذ فلا يكون هنا مجموع منفصل عن الأجزاء فلو قيل : وجب المجموع الآحاد لكان قولا بوجوب أحد الجزأين الممكنين بالآخر وهو وجوب الجزء الممكن بنفسه الذي هو الصورة الاجتماعية بسائر الأجزاء التي كل منها ممكن بنفسه
وإذا كان كذلك كان هذا مضمونه حصول أحد الممكنين بالآخر من غير شيء واجب نفسه
ومن المعلوم أن المعلق بالممكن بنفسه أولى أن يكون ممكنا بنفسه والممكن بنفسه لا يوجد إلا بغيره فيلزم أن لا يوجد واحد منهما على هذا التقدير والتقدير أن الممكنات قد وجدت فهناك شيء خارج هن الممكنات وجدت به
الرد على ذلك من وجوه
الوجه الثاني
بأن يقال : المجموع الذي هو هيئة اجتماعية نسبة وإضافة بين آحاد الممكنات ليس هو جوهرا قائما بنفسه فيمتنع أن تكون واجبة بنفسها فإن العرض مفتقر إلى غيره والنسبة من أضعف الأعراض وما كان مفتقرا إلى ممكن من الممكنات امتنع وجوبه بنفسه فالمفتقر إلى كل واحد واحد من الممكنات ممكن بنفسه ولا يوجد شيء مما هو ممكن بنفسه إلا بغيره لم يوجد شيء من ذلك إلا بغيره ويمتنع وجود الممكن بمجرد ممكن فإن الممكن لا يوجد بنفسه فلا يوجد به غيره بطريق الأولى وهو معنى قولهم : المعلق بالممكن أولى أن يكون ممكنا
الوجه الثالث
أن يقال : المجموع إما أن يكون مغايرا لكل واحد واحد وإما أن لا يكون فإن لم يكن مغايرا بطل هذا السؤال ولم يكن هناك مجموع غير الآحاد الممكنة وإن كان مغايرا لها فهو معلول لها ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا
وهذا معنى قول ابن سينا إن الجملة إذا لم تقتض علة أصلا أي لم يستلزم علة تكون موجبة للجملة كانت واجبة غير معلومة وكيف يتأتى هذا وإنما تجب بآحادها يقول : هي لم تجب بنفسها وإنما وجبت بآحادها وما وجب بغيره لم يكن واجبا بنفسه
كلام الآمدي في خطبة أبكار الأفكار
وإيضاح هذا بالكلام على عبارة الآمدي حيث قال هذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله مع أنه يعظم ما يتكلم فيه من الكلام والفلسفة ويقول في خطبة كتابه أبكار الأفكار ما تقوله الفلاسفة من أنه لما كان كمال كل شيء وتمامه بحصول كمالاته الممكنة له كان كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات ولما كانت العلوم متكثرة والمعارف متعددة وكان الزمان لا يتسع لتحصيل جملتها مع تقاصر الهمم وكثرة القواطع كان الواجب السعي في تحصيل أكملها والإحاطة بأفضلها تقديما لما هو الأهم فالأهم وما الفائدة في معرفته أتم ولا يخفى أن أولى ما تترامى إليه بالبصر أبصار البصائر وتمتد نحوه أعناق الهمم والخواطر ما كان موضوعه أجل الموضوعات وغايته أشرف الغايات وإليه مرجع العلوم الدينية ومستند النواميس الشرعية وبه صلاح العالم ونظامه وحله وإبرامه والطرق الموصلة إليه يقينيات والمسالك المرشدة نحوه قطعيات
وذلك هو العلم الملقب بعلم الكلام الباحث في ذات واجب الوجود وصفاته وأفعاله ومتعلقاته ولما كنا مع ذلك قد حققنا أصوله ونقحنا فصوله وأحطنا بمعانيه وأوضحنا مبانيه وأظهرنا أغواره وكشفنا أسراره وفزنا فيه بقصب سبق الأولين وحزنا غايات أفكار المتقدمين والمتأخرين واستنزعنا منه خلاصة الألباب وفصلنا القشر عن اللباب سألني بعض الأصحاب والفضلاء من الطلاب جمع كتاب حاو لمسائل الأصول جامع لأبكار أفكار العقول
وذكر تمام الكلام فهو مع هذا الكلام ومع ما في كلامه من ذكر مباحث أهل الفلسفة والكلام يذكر مثل هذا السؤال المشكل الوارد على طريقة معرفة واجب الوجود الذي لم يذكر طريقا سواه ويذكر أنه مشكل وليس عنده حله ولكن من عدل عن الطرق الصحيحة الجلية القطعية القريبة البينة إلى طرق طويلة بعيدة لم يؤمن عليه مثل هذا الانقطاع كما قد نبه العلماء على ذلك غير مرة وذكروا أن الطرق المبتدعة إما أن تكون مخطرة لطولها ودقتها وإما أن تكون فاسدة ولكن من سلك الطريق المخوقة وكانت طريقا صحيحة فإنه يرجى له الوصول إلى المطلوب
ولكن لما فعل هؤلاء ما فعلوا وصاروا يعارضون بمضمون طرقهم صحيح المنقول وصريح المعقول ويدعون أن لا معرفة إلا من طريقهم أولا يكون عالما كاملا إلا من عرف طريقهم احتيج إلى تبين ما فيها دفعا لمن يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادا وبيانا للطرق النافعة غير طريقهم وبيانا لأن أهل العلم والإيمان عالمون بحقائق ما عندهم ليسوا عاجزين عن ذلك ولكن من كان قادرا على قطع الطريق فترك ذلك إيمانا واحتسابا وطلبا للعدل والحق وجعل قوته في الجهاد في أعداء الله ورسوله كان خيرا ممن جعل ما أوتيه من القوة فيما يشبه قطع الطريق { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين * مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين } البقرة 11 - 19
فإن الهدى الذي بعث الله به رسوله لما كان فيه معنى الماء الذي يحصل به الحياة ومعنى النور الذي يحصل به الإشراق ذكر هذين المثلين كما قال تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } الأنعام 122 وكما ضرب المثل بهذا وهذا في قوله تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } الرعد 17 وقال تعالى { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } النساء 60 - 63
ومن أعظم المصائب أن يصاب الإنسان فيما لا سعادة له ولا نجاة له إلا به ويصاب في الطريق الذي يقول إنه به يعرف ربه ويرد عليه فيه إشكال لا ينحل له مع أنه من أكبر رؤوس طوائف أهل الكلام والفلسفة بل قد يقال : إنه لم يكن فيهم في وقته مثله
والمقصود هنا ذكر عبارته في الإشكال الذي أورده وهو قوله : ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير نهاية
الرد على الآمدي
فيقال له : والأمور التي شملها وجوب أو إمكان أو امتناع أو غير ذلك إن لم يكن هناك إلا مجرد شمول ذلك الوصف لها من غير أمر وجودي زائد على الآحاد فليس اجتماعها زائدا على أفرادها وإن كان هناك اجتماع خاص كالتأليف الخاص فهذا التأليف والاجتماع الخاص زائد على الأفراد وإذا كان كذلك فليس في مجرد تقدير ممكنات شملها الإمكان ما يقتضى أن يكون اشتراكها في ذلك قدرا زائدا على الآحاد كما أن العشرة المطلقة ليست قدرا زائدا على آحاد العشرة
لكن نحن نذكر التقسيمات الممكنة التي تخطر بالبال ليكون الدليل جامعا فنقول : إذا قال القائل في مثل المعلولات الممكنة : الجملة معلولة بالآحاد فيقال له : إما أن لا يكون هنا جملة غيرالآحاد كما ليس للعشرة جملة غير آحاد العشرة وإما أن تكون الجملة غير الآحاد كالشكل المثلث فإن اجتماع الإضلاع الثلاثة غير وجودها مفترقة وكالعشرة المصفوفة فإن اصطفافها غير العشرة المطلقة فإن كان الأول فالجملة هي الآحاد المتعاقبة وكلها ممكن فالجملة كلها ممكنة
وإن كان الثاني فالجملة إما ان يراد بها الهيئة الاجتماعية دون أفرادها وإما أن يراد بها الأفراد دون الاجتماع وإما ان يراد بها الأمران والأول هو الذي أراده بالسؤال
لكن ذكرنا كل ما يمكن أن يقال فإذا قال : الاجتماع ممكن وترجحه بالآحاد المتعاقبة
قيل له : فيكون الاجتماع معلول الآحاد وموجبها ومقتضاها والآحاد ممكنة ومعلول الممكن أولى أن يكون ممكنا فيكون حينئذ كل من الآحاد ممكنا ونفس الجملة ممكنة لكن هذا الممكن معلول تلك الممكنات وقد علم أن الممكن لا يوجد بنفسه فلا يكون شيء من تلك الآحاد موجودا بنفسه ولا الجملة موجودة بنفسها فلا يكون في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه إذا وجد ن فلا بد له من موجد
ومما يبين ذلك أن الجملة إذا قيل : هي ممكنة معلولة الآحاد المتعاقبة كان هاك ممكن زيد على تلك الممكنات فكان الممكنات التي هي معلولات متعاقبة زيدت معلولا آخر ومعلوم أنها بزيادة معلول آخر تكون أحوج إلى الواجب منها لو لم تزد ذلك المعلول
ولو قيل : إنها زيدت علة ممكنة لم يغن عنها شيئا فكيف إذا زيدت معلولا ممكنا
ومما يبين هذا أن الجملة قد تكون مقترنة وقد تكون متعاقبة فالمقترنة مثل اجتماع أعضاء الإنسان واجتماع أبعاض الجسم المركب سواء كان لها ترتيب وضعي كالجسم أو لم يكن كاجتماع الملائكة والناس والجن والبهائم وغير ذلك
وأما المتعاقبة فمثل تعاقب الحوادث كاليوم والأمس والولد مع الولد ونحو ذلك
والجملة المقترنة أحق بالاجتماع مما تعاقبت أفرادها فإن ما تعاقبت أفراده قد يقال : إنه ليس بموجود لأن الماضي معدوم والمستقبل معدوم ولهذا جوز من جوز عدم التناهي في هذا دون ذاك وفرق بين الماضي والمستقبل لأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل وفرق قائل ثالث بين ماله اجتماع وترتيب كالجسم وبين ما فقد أحدهما كالنفوس والحركات
وإذا كان كذلك فإذا قال اقائل : الجملة ممكنة وهي معلولة الآحاد فلو كانت الجملة هنا مقترنة مجتمعة في زمان احد لكان الأمر فيها أظهر من المتعاقبة التي لا اقتران لآحادها ولا أجتماع لها في زمن واحد والعل والمعلولات لا تكون إلا مجتمعة لا تكون متعاقبة لكن المقصود أن ما يذكره يشمل القسمين فلو قدر أنها متعاقبة لكان ذلك يشملها
والآمدي جعل العمدة في نفي تناهي العلل والمعلولات على أنه قال : والأقرب في ذلك أن يقال : لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية وكل واحد منها ممكن على ما وقع به الغرض فهي غما متعاقبة وإما معا فإن قيل بالأول فقد أبطل بثلاثة اوجه ثم زيفها وقال والأقرب في ذلك أن يقال : لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة وعند ذلك فلا يخلو ما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أولا وجود لشيء منها في الأزل فإن كان الأول فهو ممتنع لأن الأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم والحادث مسبوق بالعدم وإن كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ضرورة أن لا شيء منها في الأزل ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية وماله ابتداء ونهاية فهو متوقف على سبق غيره عليه وأما أن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معا
ثم ساق الدليل كما حكيناه عنه وهذه التقاسيم والتطويل لا يحتاج إليها وهي باطلة في نفسها ن فزاد في الدليل مايستغنى عنه ويكون توقف الدليل عليه مبطلا له إذا لم يبطل إلا بما ذكره
وهذا كثيرا ما يقع في كلام أهل الكلام المذموم يطولون في الحدود والأدلة بما لا يحتاج التعريف والبيان إليه ثم يكون ما طولوا به مانعا من التعريف والبيان فيكونون مثل من يريد الحج من الشام فيذهب إلى الهند ليحج من هناك فينقطع عليه الطريق فلم يصل إلى مكة
وجوه الرد على الآمدي
الأول
أن يقال : ما ذكره من الدليل على امتناع علل ومعلولات مجتمعة يتناول العلل والمعلولات مطلقا سواء كانت متعاقبة أو لم تكن وإذا كان دليل الامتناع يعم القسمين فلا حاجة إلى التقسيم ولكن زيادة هذا القسم كزيادة القسم فيما ذكره بعد ذلك حيث قال وإن كانت العلل والمعلولات معا فالنظر إلى الجملة غير النظر إلى كل من الآحاد وحينئذ فالجملة إما أن تكون واجبة وأما أن تكون ممكنة وهذا لا يحتاج إليه أيضا فإن قد ذكر أن الآحاد ممكنة مفتقرة إلى الواجب فبتقدير أن لا تكون الجملة زائدة على الآحاد يكون الأمر أقرب
وهو بعد هذا قد أورد انه لا يلزم من كون الأفراد ممكنة كون الجملة ممكنة وأجاب عن ذلك بأن هذا ساقط وهذا السؤال والجواب كاف عن ذلك التطويل بزيادة قسم لا يحتاج إليه لكن هذا القسم وإن لم يحتج إليه فإنه لم يضره بخلاف ما ذكره من زيادة تعاقب العلل فغنه زيادة أفسد بها دليله مع استغناء الدليل عنها
الثاني
وذلك يظهر بالوجه الثاني : وهو انه قال لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة فيلزم أن تكون الأولى حادثة او تكون كلها حادثة مسبوقة بالعدم وهذا قد استدل به طائفة من أهل الكلام على امتناع حوادث لا تتناهى
وقد تقدم الاعتراض عليه وبين الفرق بين ما هو حادث بالنوع وحادث بالشخص وأن ما كان لم تزل آحاد متعاقبة كان كل منها بمنزلة الآخر وكل منها مسبوق بالعدم وليس النوع مسبوقا بالعدم
وقول القائل الأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم لفظ مجمل فإن أراد به أن الواحد الذي هو بعينه أزلي لا يكون مسبوقا بالعدم فهذا صحيخح وليس الكلام فيه وإن أراد أن النوع الأزلي الذي لم يزل ولا يزال ولا يكون مسبوقا بالعدم فهذا محل النزاع
فقد صادر على المطلوب بتغيير العبارة وكأنه قال لا يمكن دوام الحوادث كما لو قال الأبدي لا يكون منقطعا وكل من أفراد المستقبلات منقطع فلا تكون المستقبلات أبدية
فيقال النوع هو الأبدي ليس كل واحد أبديا كذلك يقال في الماضي وهذا الكلام قد بسط في غير هذا الموضع
الثالث
أن يقال : هذه المقدمة فيها نزاع مشهور بين العقلاء ولعل أكثر الأمم من أهل الملل والفلاسفة ينازع فيها وأما وجود علل ومعلولات لا نهاية لها فلم يتنازع فيها أحد من العقلاء المعروفين
فلو قدر أن تلك المقدمة المتنازع فيها صحيحة لكان تقدير المقدمة المجمع عليها بمقدمة متنازع فيها خلاف ما ينبغي في التعليم والبيان والاستدلال لا سيما وليست أوضح منها ولا لها دليل يخصها فإنه ربما ذكرت المقدمة المتنازع فيها لاختصاصها بدليل أو وضوح ونحو ذلك وأما بدون ذلك فهو خلاف الصواب في الاستدلال
الرباع
أن الغزالي سلك مسلكا في تعجيز الفلاسفة عن إثبات الصانع بان قال دليلكم مبني على نفي التناهي عن العلل والمعلولات قال وأنتم لا يمكنكم ذلك مع إثباتكم حوادث لا تتناهى فإن ما تذكرونه من دليل نفي النهاية في العلل يلزم مثله في الحوادث وما تذكرونه مما يسوغ وجود حوادث لا تتناهى يلزمكم نظيره في العلل
وهذا الذي قاله وإن كان قد استدركه من استدركه عليه لكن هو أجود مما فعله الآمدي فإن مقصوده إلزامهم أحد امرين إما عدم إثبات الواجب وإما الإقرار بحدوث العالم وبين أن إثبات الصانع معلوم بإثبات الحوادث وأن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري فهذا خير من أن يجعل إثبات الصانع موقوفا على تقسيمها إلى التعاقب والاقتران وإن العلل المتعاقبة لا يمكن إبطالها إلا بالتسوية بين امتناع كون الحادث المعين دائما لم يزل وكون نوع الحوادث دائما لم يزل فإن هذا فيه من التطويل ووقف العلم بالصانع على مثل هذه المقدمة ما لا يخفى
الخامس
أن الدليل الذي ذكره غايته أن يثبت ان الحوادث لها ابتداء إذ لو كانت العلل متعاقبة محدثة وللحوادث أول لزم أن يكون للحادث أول وهذا غايته أن يكون بمنزلة إثبات حدوث العالم
وهو وأمثاله مع كونهم يحتجون على حدوث العالم فلم يقولوا : إن المحدث لا بد له من محدث كما هو قول الجمهور ولا أثبتوا ذلك بان الحدوث مخصص بوقت دون وقت فيفتقر إلى مخصص كما فعله كثير من أهل الكلام بل ولا بان الممكن يفتقر إلى المرجح لوجوده بل قالوا المحدث ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ثم أوردوا جواز التسلسل في العل لن وأجابوا عن ذلك
فإذا كان الجواب عن ذلك لا يتم إلا بإثبات حدوث العلل كما كان غايتهم أن يثبتوا افتقار الممكن إلى علة حادثة فهم بعد ذلك إن قالوا : والمحدث لا بد له من محدث كانوا قد قالوا حقا لكن طولوا بذكر تقسيمات لا فائدة فيها بل تضعف الدليل وكانوا مستغنين عنها في الأول وإن لم يقولوا : والمحدث لا بد له من محدث لم يكن ما ذكروه نافعا فإن مجرد حدوث العلة إن لم يستلزم وجود المحدث لم يثبت واجب الوجود
فتبين أن ما سلكوه إما أن لا يفيد أو يكون فيه من التطويل والتعقيد قد يكون فيه منفعة لمن يسفسط ويعاند ولمن لاتنقاد نفسه إلا بمثل ذلك كما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع
ومضمون ما ذكروه دور في الاستدلال فلا يكون استدلالا صحيحا فإنه إذا قدر علل ومعلولات متعاقبة وأثبت امنتناع ذلك لأن الحادث لا يكون أزليا لزم أن هذه العلل محدثة
فيقال له : فلم لا يجوز ان يكون استناد الممكنات إلى العلل محدثة فلا بد أن يقول على طريقته : إن المحدث ممكن والممكن يفتقر إلى علة وعلته لا تكون محدثة فيكون حقيقة كلامه : المحدث يفتقر إلى محدث لأن المحدث يفتقر إلى محدث إذا كان حقيقة ما يقوله : إن المحدث لا بد له من علة لأنه ممكن فيفتقر إلى مرجح ومرجحة لا يكون محدثا لأن المحدث ممكن لا بد له من علة
وإن غير العبارة فقال : هذا الممكن لا بد له من علة والعلة لا تكون ممكنة لأن الممكن لا بد له من علة كان قد قال : الممكن له علة لأن الممكن له علة وكل ذلك إثبات الشيء بنفسه
والمقصود هنا أن ما ذكر من امتناع التسلسل في العل يشمل ما إذا قدرت متعاقبة كما إذا قدرت مقترنة وأنه حينئذ يكون الاجتماع معلولا لها كان أولى أن يكون ممكنا لا يوجد بنفسه ولا يوجد ممكن بممكن لا موجد له فإن مالم يوجد نفسه أولى أن لا يوجد غيره فإذا لم يكن في الآحاد ما يوجد نفسه كان أولى أن لا يوجد غيره لا الجملة ولا غيرها من الآحاد
يبين هذا ان الممكن لا يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بغيره فإذا قدر أن ثم ممكنات موجودة سواء كانت عللا أو لم تكن وسواء كانت متناهية أو غير متناهية لم يكن فيها شيء وجد بنفسه فإذا كان المجموع لا يوجد إلا بها وليس فيها شيء موجود بنفسه لم يكن في جميع ما ذكر ما يوجد بنفسه لا جملة ولا تفصيلا وإذا وجد مالا يوجد بنفسه لم يوجد إلا بغيره
ألا ترى أنه لو قال : الحوادث لا توجد بنفسها لم يكن فرق بين الحوادث التي لها نهاية والتي لا نهاية لها بل كل من الحوادث التي لا تتناهى لا يوجد بنفسه بل لا بد له من محدث
والذهن إذا قدر ممكنات محصورة ومحدثات محصورة ليس لها محدث ولا مبدع علم امتناع ذلك فإذا قدرها لاتتناهى لم تكن هذه الحال توجب استغناءها عن المحدث المبدع وتجعلها غنية عن مبدع خارج عنها بل كلما كثر ذلك كان أولى بالحاجة إلى المبدع فما لا يوجد بنفسه إذا ضم إليه مالا يوجد بنفسه مرات متناهية أو غير متناهية كان ذلك مثل ضم المعدومات بعضها إلى بعض وذلك لا يغنى عنها شيئا بل المعدومات لا تفتقر حال عدمها إلى فاعل وأما هذه التي لا بد لها من فاعل إذا كثرت كان احتياجها إلى الفاعل أوكد وأقوى وتسلسل الممكنات لا يخرجها عن طبيعة الإمكان الموجب لفقرها إلى المبدع كما أن طبيعة الحدوث لا تخرج المحدثات عن طبيعة الحدوث الموجبة لفقرها إلى الفاعل
ومن جوز تسلسل الحوادث وقال : كل منها حادث والنوع ليس بحادث لا يمكنه أن يقول : كل من الممكنات ممكن والجملة ليست ممكنة كما لا يمكنه أن يقول : كل من الموجودات موجود والجملة ليست موجودة ولا يقول : كل من الممتنعات ممتنع والجملة ليست ممتنعة بل الامتناع لجملة الممتنعات إولى منه لآحادها وكذلك الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها والفقر إلى الصانع الذي يستلزمه الإمكان لجملة الممكنات أولى منه لآحادها وأما الوجود لجملة الموجودات فليس هو اولى منه لآحادها
وإن قيل : هو واجب للجملة وذلك أن جملة الموجودات موقوفة على وجود كل منها بخلاف وجود الواحد منها فإنها لا تتوقف على وجود الجملة وأما الممتنعات فامتناع جملتها ليس موقوفا على امتناع كل منها بل كل منها ممتنع لذاته فامتناع الجملة لذاتها أولى وأحرى اللهم إلا ان يكون الامتناع مشروطا بأفرادها كالمتلازمين اللذين يمتنع وجود أحدهما دون الآخر ولا يمتنع اجتماعهما
وكذلك الممكنات إذا كان كل منها ممكنا لذاته بحيث يفتقر إلى الفاعل ولا يوجد بنفسه فليس إمكان كل منها مشروطا بالآخر ولا معلقا به ولا لإمكان هذا تأثير في إمكان هذا كما في الامتناع بخلاف الموجودات فإنه قد يكون وجود أحد الأمرين إما مشروطا وإما علة للآخر بخلاف ما إذا قدر موجودات واجبة بأنفسها فإنه حينئذ لا يكون وجود بعضها موقوفا على وجود البعض وأما ما هو ممكن بنفسه أو ممتنع بنفسه فليس إمكانه وامتناعه مشروطا بغيره بل نفس تصور حقيقتة يوجب العلم بامتناعه وإمكانه
وحينئذ فكلما كثر أفراد هذه الحقيقة كان العلم بامتناعها أو إمكانها أكثر والعلم بامتناع الجملة أو إمكانها أولى وأحرى ولو قدرنا واجبات بأنفسها غنية عن الغير بحيث لا يكون بعضها شرطا في البعض لكانت الجملة واجبة ولم يكن وجوبها بدون وجوب الآحاد وامتنع أن يقال : الجملة ممتنعة أو ممكنة مع وجوب كل من الآحاد بنفسه وجوبا لا يقف فيه على غيره
فتبين أنه إذا كان من الأمور ما هو ممكن في نفسه لا يقف إمكانه على غيره ومعنى إمكانه أنه لا يستحق بنفسه وجودا ويمتنع وجوده بنفسه وهو بالنظر إلى نفسه فقير محض أي الفقر الذاتي الذي يمتنع معه غناه بنفسه وسواء قلنا : إن عدمه لا يفتقر إلى مرجح أو قلنا إن عدمه لعدم المرجح وقدرنا عدم المرجح فهو في الموضعين لا يستحق إلا العدم لا يستحق وجودا أصلا
فكثرة مثل هذا وتقدير مالا يتناهى من هذا الضرب لا يقتضي حصول وجود له أو غني في وجوده عن غيره ولا وجود بعض هذه الأمور ببعض فإن كثرة هذه الأمور التي لا تستحق إلا العدم توجب كثرة استحقاقها للعدم وكثرة افتقارها إلى موجد يكون موجودا بنفسه
فإذا قدر أمور لا نهاية لها ليس فيها شيء يستحق الوجود كان قول القائل : إن بعضها يوجد بعضا في غاية الجهل فإن مالا يستحق في نفسه أن يكون موجودا كيف يستحق أن يكون موجودا لغيره وكيف وكيف يكون وجوده ما هو مساو له في أنه لا يستحق الوجود
يبين هذا أنه إذا كان هذا لا يستحق الوجود وهذا لا يستحق الوجود لم يكن جعل هذا علة والآخر معلولا باولى من العكس فإن شرط الفاعل أن يكون موجودا فإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون فاعلا وكل منهما لا يستحق أن يكون موجودا فلا يكون فاعلا
وإذا قال : إن أحد هذين وجد بالاخر فهذا إنما يعقل إذا كان الآخر موجودا وذاك الآخر لا يكون موجودا بنفسه لا يكون موجودا إلا بغيره وذلك الغير الذي يفتقر إليه الممكن ليس هو أي غير كان بل لا بد من غير يحصل به وجوده ووجوده بحيث يستغنى به عما سواه فلذلك الغير الذي يفتقر إليه الممكن من شرطه أن يكون مستقلا بإبداع الممكن لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه فمتى قدر أنه محتاج إلى غيره كان الممكن محتاجا إلى هذا الغير وإلى هذا الغير فلا يحصل وجوده بأحد الغيرين بل لا بد منهما وكذلك لو قدر من الأغيار ما يقدر فلا بد أن يكون ما يفتقر إليه الممكن غير محتاج إلى غيره بوجه من الوجوه وليس الممكنات ما هو بهذا الشرط بل كل منها يحتاج إلى غيره فلو قدر أن الممكن يوجد بممكن إلى نهاية او غير نهاية والجملة الممكنة توجد بالأفراد لكان الغير الذي يفتقر إليه الممكن محتاجا إلى غيره مع أن كلا من المحتاجين لا يغني عن نفسه شيئا أصلا ألبتة
يزيد هذا إيضاحا أن الممكن مع عدم المقتضى التام يكون ممتنعا لا ممكنا وأعني بالمقتضى التام الذي يلزم من وجوده وجود المقتضى لكن يكون ممتنعا لغيره فإذا كان كل من الممكنات له علة ممكنة والعلة الممكنة ليست مقتضيا تاما فإنها لا توجد إلا بغيرها إذ الممكن مفتقر إلى غيره فوجوده مجردا عن مقتضية تام كان كل منها ممتنعا وتقدير ممتنعات لا نهاية لها يوجب قوة امتناعها ويمتنع مع ذلك ان تكون جملتها ممكنة فضلا عن أن تكون واجبة فتبين بذلك أن جملة العلل الممكنات التي لا تتناهى جملة ممتنعة فامتنع أن يقال : هي موجودة معلولة للأفراد لأن الممتنع لا يكون موجودا لا معلولا ولا غير معلول
يبين ذلك ان تقدير معلول لا علة له ممتنع والممكن الموجود معلول لغيره فإذا قدر علل ممكنة لا تتناهى كان كل منها معلولا فقد قدر معلولات لا تتناهي ومن المعلوم بالضرورة أن وجود معلولات لا تتناهى لا يقتضي استغناءها عن العلة وإذا قيل : إن الجملة معلولة للآحاد فقد ضم معلول إلى معلولات لا تتناهى وذلك لا يقتضي استغناءها عن العلة
فتبين أن من توهم كون العلل الممكنة التي لا تتناهى التي هي معلولات لا تتناهى يمكن أن يكون لها معلول لا يتانهى فإنما قدر ثبوت معلولات لا تتناهى ليس فيها علة وإذا كانت المعلولات المتناهية لا بد لها من علة فالمعلولات التي لا تتناهى أولى بذلك فإن طبيعة المعلول تستلزم الافتقار إلى العلة وهذا يظهر باعتبار المعاني التي يوصف بها الممكن فإنه قدر واحد من هذا النوع كان ذلك مستلزما لعلته وموجبه وصانعه وفاعله ومبدعه وإذاقدر اثنان كان الاستلزام أعظم وإذا قدر مالا يتناهى كان الاستلزام أعظم فإنه إذا كان الواحد منها بدون الواجب ممتنعا فالاثنان ممتنع وممتنع وتقدير مالا يتناهى من هذا تقدير ممتنعات لا تتناهى
وإن قيل : إن وجود الواحد منها يستلزم وجود الواجب فتقدير اثنين أولى أن يستلزم وجود الصانع ولو أمكن وجود مالا يتناهى من العلل الممكنة كان ذلك أعظم في امتناعها فكيف بما يتناهى كما يقدر من يقدر أن العقل أولى أبدع الثاني والثاني أبدع الثالث وفلكه إلى العاشر المبدع لما تحت الفلك وإذا قدر مالا يتناهى كان الاستلزام أعظم
فتبين أنه كلما كثرت الممكنات وتسلسلت كان ذلك أعظم في دلالتها على ثبوب الواجب واستلزامها له والإنسان قد يتوهم إذا فرض علل هي معلولات لا تتنتهى وتوهم أن العلة تكون وحدها مؤثرة في المعلول أو مقتضية له او موجبة فهذا ممتنع فإن العلة إذا كانت معلولة لزم أنها لا تقوم بنفسها بل تفتقر إلى غيرها فالنعلول المفتقر إليها مفتقر إلى علة علتها التي هي مفتقرة إليه فيكون معلولها كما أنه مفتقر إليها مفتقر إلى كل ما هي مفتقرة إليه فإذا قدر من ذلك مالا يتناهى قدر انه محتاج إلى أمور لا تتناهى وليس فيها ما هو موجود بنفسه ولا غنى عن غيره
ومن المعلوم أنه كلما كثرت الأمور المشروطة في وجود الموجود كان وجوده موقوفا عليها كلها وكان أبعد عن الوجود من الموجود الذي لا يتوقف وجوده إلا على بعض تلك الأمور فإذا كان الممكن لا يوجد بعلة واحدة ممكنة بل يمتنع وجوده بها فإذا كثرت العلل الممكنة التي يتوقف وجوده عليها كان وجوده أعظم في الامتناع وأبعد عن الجواز وإذا كانت الممكنات قد وجدت فقد وجد قطعا مقتض لها مستغن عن غيره وكلما تدبر المتدبر هذه المعاني أزداد لها تبينا وعلم ان كل ما يقدر وجوده من الممكنات فإنه دال على الواجب الغني بنفسه عن كل ممكن مباين له
ومن العجب أن هؤلاء يذكرون في إثبات واجب الوجود من الشبهات ما يذكرون وإن كانوا يجيبون عنها ثم إذا أخذوا وجوده إما مبرهنا وإما مسلما وصفوة من الصفات السلبية بأمور لم يدل عليها ما دل على وجوده بل يصفونه بما يمتنع معه وجوده حتى يعلم أن ما وصفوا به واجب الوجود لا يكون إلا ممتنع الوجود كما قد بسط في غير هذا الموضع ولا يذكرون من القوادح المعارضة لتلك الأسلوب بعض ما يذكرونه في إثبات وجوده وإن توهموا بطلانها مع أن تلك المعارضات هي صحيحة قادحة فيما ينفى صفاته بل الشيطان يلقى إليهم من الشبهات القادحة في الحق ما لو حصل لهم نظير من الأمور القادحة في الباطل لما اعتقدوه
فهذا كله إذا أريد بالجملة الاجتماع المغايرة لكل واحد واحد وغن أريد بها كل واحد واحد كان الأمر أظهر وأبين فإن كل واحد واحد ممكن مفتقر إلى الفاعل فإذا لم يكن هناك جملة غير الآحاد امتنع أن يكون هناك غير الآحاد الممكنة مما يوصف بوجوب أو إمكان
وإن أريد بالجملة مجموع الأمرين الآحاد والاجتماع كان الاجتماع جزءا من أجزاء المجموع فيكون هناك اجزاء متعاقبة وجزء هو الاجتماع وهذا الجزء يمتنع أن يكون واجبا بنفسه لأنه مفتقر إلى الممكنات ولأنه عرض قائم بغيره واحسن احواله ان يكون كالتأليف مع المؤلف فإذا كان المؤلف ممكنا بنفسه فتأليفه أولى بل قد يقال : ليس للجملة هنا أمر وجودي مغاير للأفراد المتعاقبة وإنما لها أمر نسبي اعتباري كالنسبة التي بين أفراد العشرة وهذا وغيره مما يبين امتناع وجوبها بنفسها فيبقى هذا الجزء ممكنا بنفسه فقيرا إلى غيره كسائر الأجزاء فيكون حينئذ هناك كل منها محتاج إلى الموجد فيحتاج كل منها إلى الموجد والجملة هنا داخل في قولنا : كل منها فإنه جزء من هذا الكل
فتبين انه كيفما ادبر المر ليس في الممكنات المتعاقبة لا واجب بنفسه ولا بغيره إلا أن يكون هناك واجب بنفسه خارج عن الممكنات إذا كان كل فرد فرد ممكنا والاجتماع أيضا ممكن بطريق الولى والمران ممكنان بطريق الأولى والحرى وكل من الأفراد مستغن عن الهيئة الاجتماعية فإنه موجود بدونها وما احتاج إلى الممكن المستغن عنه كان أحق بالإمكان
وايضاح ذلك أنه إذا قدر كل موجود معلول مفعول مفتقر وليس في الوجود إلا ما هو كذلك كما إذا قدر ان الممكنات ليس لها مقتض واجب بنفسه فإنه يكون المر كذلك وإن لم يجعل بعضها معلولا لبعض فهذا التقدير يقتضي أن لا يوجد شيء منها لأنها لا توجد بانفسها إذ التقدير كذلك وما لم يكن موجودا بنفسه فهو اولى ان لا يوجد غيره فلا يكون شيء منها موجودا بنفسه ولا موجودا بغيره ومعلوم أن الموجود إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره فإذا قدر انها موجودة وقدر مع ذلك انها لا موجودة بأنفسها ولا بموجد أوجدها لزم الجمع بين النقيضين ولو قدر مع ذلك موجدا لغيره والمعدوم لا يوجد غيره فإذا لم يكن فيها ما هو موجود بنفسه لم يكن فيها ما هو موجد لغيره وهذا أعظم امتناعا من تقدير أفعال لا فاعل لها وجوادث لا محدث لها فإن تلك يكون التقدير فيها انها وجدت بلأنفسها والتقدير هنا لم توجد بأنفسها ولا هناك ما هو موجود بنفسه يوجدها ولا هناك غير موجود يوجدها وإنما التقدير معلولات مفتقرات والمعلول من حيث هو معلول والمفتقر من حيث هو مفتقر ليس فيه ما يقتضي وجوده وإذا لم يكن لها وجود ولا لمقتضيها وجود لزم انتفاء الوجود عنها كلها وهذا مع كونها موجودة جمع بين النقيضين
وهذا كلام محقق وتنبيه للإنسان بان يعلم أن مجرد تقدير معلولات ممكنة لا هي موجودة بنفسها ولا فيها علة موجودة بنفسه لا يقتضى وجود ذلك في الخارج فليس كل ما قدرته الذهان امكن وجوده في الأعيان لا سيما مع سلب الوجود عنها من نفسها ومن موجد يوجدها وإذا قدر ان المعلول الممكن له علة ممكنة فهي ايضا معدومة من تلقاء نفسها كما هي معدوم من تلقاء نفسه فليس فيما قدر قط شيء موجود فمن أين يحصل لها الوجود ؟
فصل : اعتراض الأبهري على حجة قطع التسلسل في العلل
وقد أورد الأبهري ومن اتبعه على هذه الحجة المذكورة لقطع التسلسل في العلل اعتراضا زعم انه يبين ضعفها فقال في كلامه على ملخص الرازي وغيره قول القائل : مجموع تلك العلل الممكنة يحتاج إلى كل واحد منها الخ 0 قلنا : لم لا يجوز أن يكون المؤثر في ذلك المجموع واحدا منها أما قوله بأن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله فلا يكون علة للمجموع قلنا لا نسلم وإنما يلزم أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك وهذا لن الشيء جاز ان يكون علة للمجموع من حيث هو مجموع فلا يكون علة لكل واحد من أجزائه فإن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من أجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه لا يقال بأن مجموع تلك العلل المتسلسلة ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجية فذلك المجموع افتقر إلى علة خارجية عنه لنا نقول لا نسلم ان كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجية عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس مفتقرا إلى علة خارجية عنه لا يقال بأن المجموع المركب من ىحاد كل واحد منها محتاج إلى علة خارجية لأنا نقول لا نسلم وإنما يكون كذلك أن لو لم يكن كل واحد منها معولا لآخر إلى غير النهاية لا يقال إن جملة ما يفتقر إليه المجموع إما ان يكون نفس المجموع أو داخلا فيه أو خارجا عنه والأول محال وإلا لكان الشيء علة نفسه والثاني محال وإلا لكان بعض الأجزاء كافيا في المجموع والثالث حق قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الأمور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع والذي يدل عليه أن جملة المور التي يفتقر إليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم إنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع وإذا كان المجموع ممكنا في نفسه فهو مفتقر إلى غيره فما يفتقر إليه المجموع إما ان يكون هو المجموع أو داخلا فيه أو خارجا منه والأول محال وإلا لكان الشيء علة لنفسه والثاني محال وإلا لكان بعض الأجزاء كافيا في المجموع لأن المجموع إذا كان ممكنا وإنما يفتقر إلى البعض لزم أن يكون البعض هو المقتضي للمجموع فيلزم أن يكون مقتضيا لنفسه ولعلته وإن كان ما يفتقر إليه المجموع خارجا عن المجموع فهو المطلوب وهذا التحرير يوجب أن يكون البعض علة فاعلة للمجموع والعلة الفاعلة كافية للمجموع
وقوله إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة المور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع
الرد على الأبهري من وجوه
فيقال له : لأن المجموع إن لم يكن زائدا على تلك الأمور التي كل منها معلول فليس هنا مجموع غير المعلولات والمعلولات التي لا يوجد شيء منها بنفسه بل لا بد له من موجد موجود إذا لم يكن فيها موجد موجود وامتنع ان يكون مجموعها حتصلا بمجموعها وإن كان المجموع معلولا لها فهو اولى بالافتقار وهذا امر معلوم بالضرورة وما قدح فيه كان قدحا في الضروريات فلا يسمع
الوجه الثالث
الجواب عن معارضته وهو قوله إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع وملخص هذا الكلام أن مجموع الموجودات ليس متوقفا على بعض الأجزاء لتوقفه على الجميع ولا متوقفا على ما خرج عن المجموع فالمجموع متوقف على المجموع
فيقال له هذا يناقض ما ذكرته أولا من ان المؤثر في مجموع الموجودات واحد منها وزعمت أن هذا معارضة لقولهم مجموع الممكنات لا يجوز أن يكون المؤثر فيها واحدا وإذا كان هذا يناقض ذاك فإما ان تقول المؤثر في المجموع جزؤه او المؤثر فيه هو المجموع فإن قلت إنه جزؤه بطل هذا الاعتراض وسلم هذا الدليل الدال على امتناع معلولات ممكنة ليس لها علة واجبة وبذلك يحصل المقصود من إثبات واجب الوجود 0 وغن قلت إن المؤثر هو المجموع بطل اعتراضك على ذلك الدليل وسلم ذلك الدليل عن المعارضة فحصل به المقصود
الوجه الرابع
أن يقال قولك جملة الأمور او مجموع المور الذي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع يتضمن أن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر من المور وانت لم تذكر على ذلك دليلا فلم قلت إن مجموع الموجودات يفتقر إلى أمر وأولئك إنما ادعوا ان مجموع الممكنات يفتقر إلى امر من المور وهذا معلوم بادلة متعددة بل بلضرورة وما ذكرته ليس بمعلوم
الوجه الخامس
أن يقال مجموع الموجود المتضمن للواجب لا يقبل العدم وما لا يقبل العدم فليس بممكن وما ليس بممكن فهو واجب فالمجموع حينئذ واجب وما كان واجبا لم يفتقر إلى أمر من الأمور وقولك إن المجموع مفتقر إلى المجموع هو معنى قول القائل إنه واجب بنفسه فإن الواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه بل لا بد له من نفسه وإذا كنت قد أقررت انه واجب بنفسه بطل قولك إنه يفتقر إلى أمر وهذا بخلاف مجموع العلل الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون واجبا بنفسه لأنه ليس فيها ما هو موجود بنفسه وإذا لم يكن في المجموع ما هو موجود بنفسه كان امتناع المجموع أن يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى
وهذا السؤال الذي أورده هذا من جنس السؤال الذي أورده الآمدي بل هو هو ولعل احدهما اخذه من الآخر وهو أن تكون الجملة مترجحة بالآحاد وكل منها مترجح بالآخر إلى غير نهاية واجاب عنه الآمدي في أحد كتابيه وقال في الآخر إنه لا يعرف عنه جوابا وذكر عن قوم أنهم قالوا المجموع واجب بنفسه بهذا الاعتبار واستفسط هذا الاعتراض
ومقصود الجميع أن مجموع المعلولات التي لا تتناهي لا تفتقر إلى شيء غير آحادها المتعاقبة وفساد هذا معلوم بالاضطرار بعد جودة التصور وإنما أشكل على من أشكل لعدم التصور التام فإنه إذا قال القائل علل لا تتناهى أو ممكنات لا تتناهى كل منها مترجح أو معلول بالآخر توهم الذهن أن هذا يتضمن تقدير موجودات في الخارج كل منها معلول الموجود الآخر وان الأمر هكذا إلى غير نهاية
ولهذا أراد طائفة أن يبطلوا هذا التسلسل بجنس ما يبطلون به الآثار التي لا تنتهي كالحركات التي لا تتناهى وهذا غلط فإن المقدر هو أمور ليس فيها ما يوجد بنفسه بل لا يوجد إلا بعلة مباينة له موجودة وكلها بهذه المثابة إلى غير نهاية
وهذا في الحقيقة تقدير معدومات بعضها علة لبعض في وجوده إلى غير نهاية من غير أن يوجد شيء منها وكما أن المعدوم إذا كان باطلا وإن قدر وجوده مع ذلك كان جمعا بين النقيضين وإذا كان تقدير معلول معدوم بعلة معدومة تقتضي وجوده ولم يوجد ممتنع في بديهة العقل من جهة انه لم يوجد ومن جهة أن علته ليست موجودة فكثرة هذه العلل اولى بالامتناع وتسلسلها إلى غير نهاية اعظم في الامتناع فكذلك إذا قدر ما هو معلول ممكن لا يوجد إلا بموجد يوجده وقدر انه ليس هناك موجود يوجده فإن وجوده يكون ممتنعا فإن قدر موجودا كان جمعا بين النقيضين 0 وتسلسل هذه المعلولات من غير أن تنتهي إلى موجودا بنفسه أعظم في الامتناع لكن من توهم أنها موجودات متسلسلة التبس عليه المر وتقدير كونها موجودات متسلسلة ممتنع في نفسه بل هو جمع بين النقيضين لأن التقدير انه ليس فيها ما يوجد بنفسه ولا يوجد إلا بموجد موجود وإذا لم يكن فيها موجود بنفسه ولا موجد موجود امتنع أن يكون فيها إلا معدوم فتقدير وجودها جمع بين النقيضين
وبيان ذلك أن كلا منها هو مفتقر إلى موجد يوجده فلا يوجد بنفسه وعلته لم توجد بنفسها فليس فيها موجود بنفسه وليس هنا علة موجودة بنفسها 0 فإذا قدر في كل منها أنه موجود بغيره فذلك الغير هو بمنزلته أيضا لا وجود له من نفسه فليس هناك موجود يوجدها إلا ما يقدر منها وكل منها إذا لم يكن له من نفسه وجود فأن لا يكون موجدا لغيره بطريق الأولى والأحرى فلا له من نفسه وجود ولا إيجاد وغيره من جنسه ليس له من نفسه وجود ولا إيجاد فمن أين يكون لشيء منها وجود بلا وجود لنفسه ولا إيجاد ؟ إذ الإيجاد فرع الوجود
اعتراض الأبهري فاسد من وجوه
قلت وهذا الاعتراض فاسد جدا وبيان فساده من وجوه :
الوجه الأول : أن يقال : هو اعتراض على قولهم مجموع العلل الممكنة ممكن لافتقار المجموع إلى الآحاد الممكنة ولا يجوز أن يكون المؤثر في المجموع واحدا من العل الممكنة لن ذلك لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل فامتنع أن يكون مؤثرا في المجموع فقال المعترض : إنما يلزم هذا أن لو كان علة المجموع علة لكل واحد من أجزائه فلم قلتم إنه كذلك ؟
فيقال له أولا : نحن لا نعني بالمجموع مجرد الهيئة الاجتماعية بل نعني به كل واحد من الأفراد والهيئة الاجتماعية وحينئذ فتكون علة المجموع علة كل واحد من أجزائه وهذا معلوم بالضرورة فإن المؤثر إذا كان مؤثرا في مجموع الآحاد مع الهيئة الاجتماعية فقد أثر في كل جزء من أجزائه فإنه لو لم يؤثر في كل جزء من الجزاء لجاز انتفاء ذلك الجزء وإذا انتفى المجموع والتقدير أنه في المجموع بحيث جعل المجموع موجودا والمجموع هو الأفراد والهيئة الاجتماعية فلو قدر انه غير موجود لزم الجمع بين النقيضين وهو الممتنع وهذا الممتنع لزم من تقدير كونه مؤثرا في المجموع بحيث جعل المجموع موجودا مع تقدير عدم بعض أجزاء المجموع فعلم أنه يستلزم من كونه أثر في المجموع وجود المجموع ويلزم من وجود المجموع انه لا ينتفى شيء من أجزائه فعلم أن ما استلزم ثبوت المجوع استلزم ثبوت كل من أجزائه وإن لم يكن المستلزم علة فاعلة فكيف إذا كان المستلزم على فاعلة ؟ فتبين أن ثبوت العلة الفاعلة للمجوع يتضمن أن يكون علة لكل من أجزائه ولو تخيل متخيل أن الواحد من الجملة علة لسائر الأجزاء والأجزاء علة للمجموع أو أنه علة للمجموع والمجموع علة للآحاد فيكون ذلك الواحد علة العلة قلنا هذا لا يضر لأن العلة علة وكما يمتنع في الواحد أن يكون علة علة نفسه فيمتنع أن يكون علة نفسه بطريق الأولى فلو كان بعض الأجزاء علة للمجموع والمجموع علة لكل من الأجزاء أو بالعكس لزم أن يكون ذلك الجزء علة علة نفسه وعلة علل نفسه وهو ما قبل ذلك الجزء من العلل التي قدر أنه لا نهاية لها وهذا بين لا يتصوره أحد إلا يعلم امتناعه بالبديهة ومن نازع فيه كان إما لعدم تصوره له وإما لعنادة وحينئذ فيكفي أن يقال : هذا معلوم بالبديهة فالشبهة الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية فلا يستحق جوابا
الوجه الثاني
أن يحل ما ذكره من المعارضة وهي قوله : وهذا لأن الشيء جاز أن يكون علة للمجموع من حيث هو علة للمجموع من حيث هو مجموع ولا يكون علة لكل واحد من أجزائه فغن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وليس علة لكل واحد من أجزائه لاستحالة كونه علة لنفسه
قلنا : لا نسلم أن الواجب لذاته علة لمجموع الموجودات وإنما هو علة لبعض الموجودات وهي الممكنات وأما الموجود الواجب بنفسه فلا علة له وهو من الموجودات وإذا كانت الموجودات وإذا كانت الموجودات منقسمة إلى واجب وممكن والواجب علة للمكن لم يكن الواجب علة لمجموع الموجودات بل علة لبعضها وبعضها لا علة له
فإن قيل : إنما قلنا الواجب للمجموع من حيث هو مجموع لا لكل واحد فهو علة للهيئة الاجتماعية
قيل : أولا : لا نسلم أن المجموع له وجود يزيد على الآحاد ويقال : ثانيا إذا قدر أن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية أمر مغاير للأفراد فالواحد من تلك الأفراد إذا كان علة للهيئة الاجتماعية فالعلة مغايرة للمعلول ليست العلة بعض المعلول
وهذا بين إذا تصوره المتصور معلوم بالبديهة ولكن لفظ المجموع فيه إجمال قد يعنى به الأفراد المجتمعة وقد يعنى به اجتماعها وقد يعنى به الأمران ومعلوم انه يمتنع أن يكون بعض الأفراد المجتمعة علة لكل من الأفراد المجتمعة وهذا هو المطلوب
وأما الاجتماع إذا قدر انه مغاير للأفراد فالواحد منها يكون علة لذلك الاجتماع المغاير لذلك المفرد وغيره وإن أريد الأفراد والاجتماع كان الاجتماع جزءا من أجزاء المجموع فيكون الواحد من ذلك المجموع علة لسائر الأجزاء وهذا ممكن فالواجب سبحانه وتعالى هو المبدع لسائر الموجودات ومبدع للاجتماع الحاصل منها ومنه إذا قدر ذلك الاجتماع مغايرا للأفراد لكن ذلك الاجتماع هو من جملة سائر الموجودات
فإذا قيل : إنه مبدع لسائر الموجودات دخل في ذلك كل ما سواه من الموجودات أعيانها وأعراضها ودخل في ذلك الاجتماع الحاصل منه ومنها وهو الهيئة الاجتماعية إذا قدر أنها موجودة فإن ذلك الاجتماع أمر مغاير للواجب بنفسه فهو داخل في سائر الموجودات سواه فهو من جملة مصنوعاته
ومما يوضح ذلك أن الاجتماع إذا قدر أمرا مغايرا للأفراد : أمرا يحدث بحدوث ما يحدث من الممكنات فكلما حدث ممكن كان له مع سائر الممكنات اجتماع وذلك الاجتماع حادث بحدوثه فإذا قدر أن ما سوى الله حادث فاجتماع وجود الحوادث مع وجود الله وهو أيضا حادث وهو كمعية المخلوقات مع خالقها وهذه المعية ونحوها هو مما يجوز حدوثه باتفاق العقلاء بل هو متفقون على جواز حدوث النسب والإضافات بين الخالق والمخلوق سواء قيل : إنها وجودية أو عدمية ولو قدر أن من الممكنات ما هو قديم أزلي كما يقوله من يقول بقدم شيء من العالم فاجتماع ذلك الممكن مع ذلك الواجب معلول للواجب والواجب ليس هو بعض ذلك الاجتماع بل هو بعض الأمور المجتمعة وبعض الأمور المجتمعة إذا كان علة لسائر الأبعاض كان هذا ممكنا وذلك الاجتماع هو بعض آخر فالواجب الذي هو بعض الأمور المجتمعة التي منها الاجتماع علة لسائر الأبعاض والاجتماع واحد منها فليس في ذلك امتناع كون بعض الجملة علة لجميع أبعاض الجملة وهذا هو المطلوب انتقاؤه فتبين أن امتناع كون بعض الممكنات فإن الأول يقتضى كونه علة لنفسه وكون الممكن المفعول المصنوع مبدع نفسه ويخلقها أظهر امتناعا من كونه يخلق غيره بعد وجوده ولهذا قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } الطور 35 فإنه من المعلوم في بدائه الفطر امتناع كونهم حدثوا من غير محدث وامتناع كونهم أحدثوا أنفسهم فعلم أن لهم محدثا أحدثهم
الوجه الثالث
لا نسلم أن المجموع المركب من الواجب والممكن يكون الواجب وحجه علة له بل علته الأجزاء جميعها وذلك لأن المجموع متوقف على كل من الأجزاء : الواجب والممكنات فالمجموع من حيث هو مجموع توقفه على كل جزء كتوقفه على الجزء الآخر إذ كان لا يوجد إلا بوجود كل من الأجزاء ثم إذا كان بعض الأجزاء علة لبعض كان المجموع مفتقرا إلى الجزء الواجب وإلى الجزء المفتقر إلى الجزء الواجب ولا يلزم من ذلك أن يكون مجرد الواجب مقتضيا للمجموع بلا واسطة بل لولا الجزء الآخر الممكن لما حصل المجموع ن فتبين أن الواجب لا يكون وحده علة للمجموع من حيث هو مجموع وإنما يكون علة لسائر الأجزاء وهو وسائر الأجزاء علة للمجموع
نعم يلزم أن يكون علة بنفسه للممكنات وهو بتوسط الممكنات أو مع الممكنات علة للمجموع من حيث هو مجموع ومثل هذا منتف في الأجزاء الممكنة فإنه لا يمكن أن يكون للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط غيره
أما الأول فلأن الجزء الواجب إذا لم يكن وحده علة للمجموع فالجزء الممكن أولى ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء فلا يستقل به واحد منها
وأما الثاني فلأن الممكن لا يكون علة لنفسه ولا لما قبله من العلل ولأن المجموع متوقف على جميع الأجزاء بالضرورة فإن المعلول لا يكون علة علته وإذا امتنع كونه علة لنفسه ولسائر الأجزاء المتقدمة عليه لم يحصل به وحده هذه الأجزاء والمجموع متوقف على هذه الأجزاء فلا يكون شيء من الأجزاء الممكنة علة للمجموع لا بنفسه ولا بتوسط معلولاته بخلاف الجزء الواجب فإنه إذا قيل عنه إنه علة لمجموع بنفسه وبتوسط معلولاته كان هذا المعنى ممتنعا في الممكن فالمعنى الذي يمكن أن يجعل فيه الواجب علة للمجموع الذي هو واحد منه يمتنع مثله في الممكنات فلا يتصور أن يكون علة للمجموع الذي هو واحد منه وهذا يكشف ما في الاعتراض من التلبيس والغلط :
الوجه الرابع
أن يقال : لا نسلم أن الواجب علة للمجموع من حيث هو مجموع بل الواجب علة للمكنات من الأجزاء والآحاد علة للمجموع ومثل هذا لا يمكن أن يقال في مجموع العلل الممكنة ولا في مجموع الممكنات فإنه لا يمكن أن يكون شيء منها علة لسائر الأجزاء إذ كل منها معلول لا يكون علة لنفسه ولا لعلله وإذا كان كل من الأجزاء معلولا والمجموع معلول الآحاد كان المجموع أولى بأن يكون معلولا
الوجه الخامس
أن يقال في إبطال هذا الاعتراض : نحن ذكرنا الحجة لإثبات أن يكون في الوجود واجب بنفسه فإما أن يكون في الموجودات واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يكن فيها واجب بنفسه بطل الاعتراض
الوجه السادس
أن يقال : الاعتراض مبناه على أن مجموع الموجودات له علة هو بعضهوهو الواجب فإن لم يكن في المجموع بعض واجب بطل الاعتراض وهذا الاعتراض مذكور على سبيل المعارضة لأنا قد ذكرنا انا نعلم بالضرورة أن مجموع العلل الممكنة إذا كان له علة كان علة لكل منها وأن العلم بذلك ضروري وبيناه بيانا لا ريب فيه وإذا تبين أن صحة الاعتراض مستلزمة لثبوت واجب الوجود كان واجب الوجود ثابتا على تقدير صحة الاعتراض وعلى تقدير فساده وإذا كان ثابتا على التقديرين تقدير النفي وتقدير الإثبات ثبت أنه ثابت فينفس الأمر وهو المطلوب وهذا بين لمن تأمله ولله الحمد
يمكن إيراد الجواب على وجوه
الوجه الأول : أن يقال : أما أن يقدر ثبوت الواجب في نفسه وإما أن يقدر انتفاؤه فغن قدر ثبوته في نفس الأمر حصل المقصود وامتنع أن يكون في نفس الأمر ما ينفي وجوده وإن قدر انتقاؤه لزم بطلان الاعتراض المذكور على دليل ثبوته وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على ثبوتهه سليما عما يعارضه فيجب ثبوته مدلوله وهو الواجب الوجود فلزم ثبوت وجود سواء قدر المعترض ثبوته أو قدر انتفاءه وما لزم ثبوته على تقدير ثبوته وتقدير انتفائه كان ثابتا في نفس الأمر قطعا وهو المطلوب
فإن قيل : كيف يمكن تقدير ثبوته مع تقدير انتفائه وفي ذلك جمع بين النقيضين
قيل : نعم هذا لأن تقدير انتفائه لما كان ممتنعا في نفس الأمر جاز أن يلزمه ما هو ممتنع في نفس الأمر وهذا مما يقرر ثبوته
وأيضا فإذا كان تقدير انتفائه يستلزم الجمع بين النقيضين كان تقديرا ممتنعا في نفس الأمر ويكون تقدير انتفائه ممتنعا في نفس الأمر وإذا كان انتفاؤه ممتنعا كان ثبوته واجبا وهو المطلوب
فإن قيل : إذا كان انتفاؤه ف ينفس الأمر ممتنعا قطعا وكان بطلان الاعرتاض معلقا بانتفائه لم يلزمه بطلان الاعتراض وإذا صح الاعتراض بطل الدليل المذكور
قلنا تقدير انتفائه هو جزء الدليل على بطلان الاعتراض ليس هو بطلان الاعتراض ومن المعلوم أن انتفاء الدليل لا يوجب انتفاء يدل عليه في نفس الأمر فغن الدليل لا يجب عكسه فلو كان انتفاؤه بس الأمر وحده دليل على بطلان الاعتراض لم يلزم صحة الاعتراض بتقدير نقيض هذا الدليل فكيف إذا كان جزء دليل
فإن قيل بطلان جزء الدليل يوجب بطلان الدليل فيبطل ما ذكر من الدليل على فساد الاعتراض
قيل لفظ جزء الدليل مجمل فإن أريد بالجزء قسم من القسام المقدرة كان هذا باطلا فإنه لا يلزم من بطلان قسم في الأقسام المقدرة بطلان الدليل إذا كان غيره من الأقسام صحيحا وإن أريد بجزء الدليل مقدمة من مدماته فهذا صحيح فإنه إذا بطلت مقدمة الدليل بطل لكن مقدمة الدليل هنا صحيحة فإنها تقسيم دائر بين النفي والإثبات ومن المعلوم أن التقسيم الدائر بين النقيضين يستلزم بطلان أحد القسمين في نفس الأمر ومقدمة الدليل ليست اجتماع النقيضين فإن هذا ممتنع وإنما هي صحة التقسيم إلى النفي والإثبات
والمقدمة الثانية حصول المطلوب على كل من التقديرين فإذا كان التقسيم دائرا بين النفي والإثبات والمطلوب حاصل على كل منهما ثبت حصوله في نفس الأمر وغن كان احد القسمين منتفيا في نفس الأمر فغن المطلوب حاصل على التقدير الآخر فلا يضر انتفاء هذا التقدير وإنما ذكرت هذه التقديرات ليتبين أن ما ذكره المعترض لا يقدح في صحة الدليل المذكور على واجب الوجود بل الدليل صحيح على تقدير النقيضين وهذا من أحسن الدورات في النظر والمناظر لإبطال الاعتراضات الفاسدة بمنزلة عدو قدم يريد محاربة الحجيج وهناك عدة طرق يمكن أن ياتي من كل منها فإذا وكل بكل طريق طائفة ياخذونه كان من المعلوم أن الذي يصادفه طائفة ولكن إرسال تلك الطوائف ليعلم انه منع المحذور على كل تقدير إذ كان من الناس من هو خائف ان ياتي من طريقة فيرسل من يزيل خوفه ويوجب أمنه
الوجه الثاني
ويمكن إيراد الجواب على وجه آخر وهو ان يقال : إما أن يقدر فساد هذا الاعتراض في نفس الأمر وإما أن يقدر صحته فإنه لا يخلو من أحدهما وذلك أنه إما أن يكون مفسدا للدليل المذكور على بطلان تسلسل المؤثرات وإما أن لا يكون مبطلا مفسدا فغن لم يكن مفسدا للدليل لفساده في نفسه ثبت صحة الدليل وهو المطلوب وإن كان مفسدا للدليل فلا يفسده إلا إذا كان متوجها صحيحا وإلا فالاعتراض الفاسد لا يفسد الدليل وإذا كان متوجها صحيحا لزم ثبوت واجب الوجود فإنه لا يصح إن لم يكن مجموع الموجودات فيها واجب وإذا صح أن فيها واجبا حصل المقصود فيلزم ثبوت الموجود الواجب على تقدير صحته وفساده
الوجه الثالث
ويمكن إيراد الجواب على صورة ثالثة وهو أن يقال : إما أن يقدر أن في الموجودات ما هو واجب بنفسه وإما أن لا يكون فإن كان فيها واجب بنفسه حصل المقصود وإن لم يقدر أن فيها ما هو واجب لم يكن لها مجموع يكون جزء علة له فبطل الاعتراض
وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على واجب الوجود مستلزما لمدلوله وهو الموجود الواجب فيلزم ثبوت واجب الوجود
وأصل الغلط في هذا الاعتراض الذي يظهر به الفرق أن التقدير المستدل به قدر فيه أمور ليس فيها موجود بنفسه بل كل منها مفتقر إلى غيره واجتماعها أيضا مفتقر فليس هناك إلا فقير محتاج والتقدير المعترض به قدر أن موجودا واجبا بنفسه معه ممكنات موجودة به ولكن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية يفتقر إلى بعض الجملة وذلك البعض هو واجب بنفسه فهنا في الجملة واحد واجب بنفسه هو علة لسائر الأجزاء وللمجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية وتلك ليس فيها واجب بنفسه بل كل من الأجزاء والمجموع ممكن بنفسه فكيف يجعل افتقار هذا إلى خارج عنه كافتقار ذاك إلى خارج عنه والهندي لم يجب عنه
فإن قيل : فقد قدرتم عدم وجوب الوجود فكيف يكون موجودا بتقدير عدمه لما ذكرتم من الدليل ؟
قلنا : لأن التقدير الممتنع قد يستلزم أمرا موجودا واجبا وجائزا كما قد يستلزم أمرا ممتنعا لأن التقدير هو شرط مستلزم للجزاء والملزوم يلزم من تحققه تحقق اللازم ولا يلزم من انتقائه انتفاء اللازم
وهذا كما لو قيل : لو جاز أن يحث اجتماع الضدين لافتقر إلى محدث بل قد يكون اللازم ثابتا على تقدير النقيضين كوجود الخالق مع كل واحد من الملخوقات فإنه موجود سواء كان موجودا أو لم يكن
وحينئذ فيجوز أن يكون التقدير الممتنع وهو تقدير عدم الواجب يستلزم وجوده كما يكون التقدير الممكن فإذا قدر عدمه لزم بطلان الاعتراض المذكور وذلك يستلزم سلامة الدليل عن المعارض والدليل يستلزم وجوده
وأيضا فإن تقدير عدمه تقدير ممتنع في نفس الأمر والتقدير الممتنع قد يستلزم أمرا ممتنعا فاستلزم تقدير عدمه الجمع بين النقيضين وهو ثبوت وجوده مع ثبوت عدمه ن وهذا ممتنع فعلم أن تقدير عدمه ممتنع وه المطلوب وعلم أنه لا بد من وجوده وإن قدر في الأذهان عدم وجوده فتقدير عدمه في الأذهان لا يناقض وجوده في الخارج وقد ثبت وجوده فلا بد من وجوده على كل تقدير وبهذا وغيره يظهر الجواب عن اعتراضه على سائر ما ذكروه من التقديرات في احتياج مجموع الممكنات إلى واجب خارج عنها
ونحن نبين ذلك :
قوله : لا يقال بان مجموع تلك السلسة ممكن ن وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه وذلك المجموع مفتقر إلى علة خارجة عنه لأنا نقول : لا تسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة عنه
والجواب عن هذا أن يقال : هو القائل : كل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه قضية بديهية ضرورية بعد تصورها فإن المعنى بالممكن مالا يوجد بنفسه بل لا بد له من موجد مقتض سواء سمي فاعلا أو علة فاعلة أو مؤثرا وإذا كان كذلك فإذا كان المجموع ممكنا لا يوجد بنفسه لم يكن له بد من موجد يوجده وقد علم أن المجموع لا يوجد بنفسه بنفسه إذ لو كان كذلك لكان واجبا بنفسه
ومن المعلوم بالضرورة أن المجموع الذي هو الأفراد واجتماعها إذا لم يكن موجدا مقتضيا فبعض المجموع أولى أن لا يكون مقتضيا موجدا فإنه من المعلوم ببدائه العقول أن المجموع إذا لم يجز أن يكون موجدا ولا مقتضيا ولا فاعلا ولا علة فاعلة فبعضه إولى أن لا يكون كذلك فإن المجموع يدخل فيه بعضه فإذا كان بجميع أبعاضه لا يكفي في الاقتضاء والفعل والإيجاد فكيف يكفي بعضه في ذلك ؟
وهذا دليل مستقل في هذا المقام وهو أن المجموع إذا لم يكن علة فاعلة بل هو معلول مفتقر فيعضه إولى أن لا يكون علة فاعلة بل معلول مفتقر فعلم أن مجموع الممكنات إذا كان مفتقرا إلى المؤثر فكل من أبعاض المجموع إولى بالافتقار إلى المؤثر فتبين أن كل ممكن ومجموع الممكنات مفتقر إلى المؤثر وهو المطلوب ولله الحمد والمنة
الرد على باقي الاعتراض
وأما قول المعترض : لانسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه إن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة عنه
الوجه الأول
فيقال له : اولا : منشأ هذه الشبهة أنلفظ المجموع فيه إجمال يراد به نفس الهيئة الاجتماعية ن ويراد به جميع الأفراد ويراد به المجموع والمجموع المركب الذي هو كل واحد واحد من الأفراد لا يفتقر إلى الممكن فإن منها الواجب وهو لا يفتقر إلى الممكن ولكن الهيئة الاجتماعية إذا قدر أن لها تحققا في الخارج فهي التي يقال : أنها متوقفة على الممكن وحينئذ فيظهر الفرق بين مجموع الممكنات ومجموع الموجودات فإن مجموع الممكنات هو نفس الهيئة الممكنة وكل من الأفراد ممكن والمجموع المتوقف على الممكن أولى بالإمكان وأما مجموع الموجودات فليس كل منها ممكنا بل منه الواجب فليس المجموع ممكنا بمعنى ان كل واحد منها ممكن فظهر الفرق وحينئذ فيقال له : هذا باطل من وجوه :
أحدها : أن يقال : أنت قد قلت في الاعتراض على الدليل الأول : إن الواجب بذاته علة لمجموع الموجودات وقلت هنا إن المجموع مفتقر إلى الممكن فإن كان معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات بطل اعتراضك الأول وصح الدليل الأول لأنه حينئذ لا يكون المجموع مستغنيا بالواجب بل هو محتاج إلى الممكنات فلا يكون الواجب علة للمجموع إلا مع اقتضائه لجميع الممكنات ثم هو مع الممكنات إما المجموع وإما علة المجموع ومثل هذا منتف في مجموع الممكنات فإن الواحد منها لا يجوز أن يكون علة لسائرها إذ ليس علة لنفسه ولا لعلته وعلة علته وإذا لم يكن في الممكنات إلا ما هو معلول لم يكن فيها ما يوجب سائرها فلم يكن فيها ما يصلح أن يكون علة للمجموع بوجه من الوجوه
وإن قلت : إن معلول الواجب يجب استغناؤه عن الممكنات سواء اقتضاه بوسط أو بغير وسط وإنه لما كان الواجب مقتضيا للوسط كانت الحاجة في الحقيقة إلى الواجب والغنى به إذ كان هو مبدع الممكنات التي هي لغيرها شروط أو وسائط أو علل أو ما قيل من الأمور
فيقال لك : على هذا التقدير فمجموع الموجودات التي فيها الواجب بنفسه ليس مفتقرا إلى شيء من الممكنات بل افتقاره إلى الواجب وحده فبطل اعتراضك على هذا الدليل الثاني وأي الدليلين صح حصل المقصود
وتلخيص هذا الجواب : أن مجموع الموجودات من حيث هو مجموع إن قال هو معلول الواجب وحده او بوسط بحيث لا يقال مفتقر إلى غيره بطل هذا الاعتراض وهو كونه مفتقرا إلى الممكن
وإن قال : هو معلول الواجب لكون الممكن من معلول الواجب وهو معلول الممكن والواجب كان هذا مفسدا لاعتراضه على الدليل الأول لكون مجموع الممكنات لا يكون معلولا لواحد منها بوجه من الوجوه
الوجه الثاني
الوجه الثاني : أن يقال : قولك : لا نسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة لأن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن وليس محتاجا إلى علة خارجة غلط
وذلك أن لفظ الممكن فيه إجمال
قد يراد بالممكن ما ليس بممتنع فيكون الواجب بنفسه ممكنا
ويراد بالممكن ما ليس بموجود مع إمكان وجوده فيكون ما وجد ليس بممكن بل واجب بغيره ثم ما يقبل الوجود والعدم هو المحدث عند جمهور العقلاء بل جميعهم وبعضهم تناقض فجعله يعم المحدث والقديم الذي زعم أنه واجب بغيره
ويراد بالممكن ما ليس له من نفسه وجود بل يكون قابلا للعدم هو وكل جزء من أجزائه
وأنت قد سميت مجموع الموجود ممكنا ومرادك أن المجموع يقبل العدم ولا يقبله كل جزء من أجزائه
وهؤلاء الذين قالوا : إن مجموع الممكنات أو مجموع العلل الممكنة ممكن مرادهم أن كل ما كان لا يقبل الوجود بنفسه بل يكون قابلا للعدم بنفسه وكل جزء من أجزائه قابل للعدم يفتقر إلى علة خارجة عنه وهذا هو المفهوم عند إطلاقهم من الممكن بنفسه المفتقر إلى علة خارجة فإن الممكن بنفسه مالا يوجد بنفسه أي نفسه قابلة للعدم
وهذا لا يكون عند وجوب بعضها فإن القابل للعدم حينئذ إنما هو بعض نفسه جملة نفسه فغلطك أو تغليطك حصل مما في لفظ الممكن بنفسه من الإجمال
والأدلة العقلية إنما يعترض على معانيها فإن كنت أوردت هذا سؤالا لفظيا كان قليل الفائدة وإن كان سؤالا معنويا كان باطلا في نفسه والقوم لما قالوا : الموجود إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا بنفسه جعلوا الوجود منحصرا في هذين القسمين أي جعلوا كل واحد واحد من الموجودات منحصرا في هذين القسمين
وأما الجملة الجامعة لهذا وهذا فهي جامعة للقسمين ومرادهم بالممكن في أحد القسمين : ما يكون كل شيء منه لا يوجد إلا بشيء منفصل عنه ومرادهم بالواجب بنفسه مالا يفتقر إلى مباين له بوجه من الوجوه
ومن المعلوم أن الأول مفتقر إلى مقتض خارج عنه وأن مجموع تلك الممكنات ممكن مفتقر إلى ما هو مفتقر إلى مقتض مباين له والمفتقر إلى المفتقر المباين له اولى أن يكون مفتقرا إلى البماين وأما الثاني فلا يجوز أن يكون مفتقرا إلى مباين له وأما افتقاره إلى نفسه أو جزئه فهذا لا ينافي كونه غنيا عما يباينه
وحينئذ فمجموع الموجودات التي بعضها واجب وبعضها ممكن ليس هو من الممكن بهذا التفسير بل هو من الواجب لعدم افتقاره إلى مباين له
وإذا قيل : إن المجموع واجب بنفسه لكونه واجبا بما هو واجب بنفسه أو قيل : هو واجب بنفسه وأريد بذلك أن فيه ما هو واجب بنفسه وسائره مستغن بذلك الواجب بنفسه فالمجموع واجب ببعضه والواجب ببعضه يدخل بهذا الاعتبار في الواجب بنفسه تبين مغلطة المعترض وقيل له : قولك : المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن أتعني به انه مفتقر إلى أمر مباين أم تعني به أنه مفتقر إلى بعضه
أما الأول فباطل وأما الثاني فحق ولكن إذا قيل : إن مجموع الممكنات التي كل منها مفتقر إلى مباين للمجموع هو أيضا ممكن مفتقر إلى مباين لهذا المجموع لم يعارض هذا المجموع الموجودات فإن مجموع الموجودات لا يصح أن يكون ممكنا بمعنى أنه مفتقر إلى مباين له إذ ليس في أجزائه ما هو مفتقر إلى مباين للمجموع فإذا كان هو متوقفا على آحاده وليس في آحاده ما هو متوقف على أمر مباين له لم يجب أن يكون هو متوقفا على أمر مباين له
وأيضا فمن المعلوم بالضرورة أن مجموع الموجودات لا يتوقف على أمر مباين له إذ المباين لمجموع الموجودات ليس بموجود ومجموع الموجودات لا يكون معلولا لأمر غير موجود بخلاف مجموع الممكنات فإنه يكون معلولا لأمر غير ممكن فكيف يقاس أحدهما بالآخر ؟ أم كيف يعارض هذا بهذا ؟ إذا كان مجموع الموجودات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بموجود فكذلك يجوز أن يكون مجموع الممكنات لا يفتقر إلى أمر خارج عنها ليس بممكن ؟
وهل هذا الإ بمنزلة من قال : إذا كان الموجودات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بموجود فمجموع المعدومات لا تفتقر في وجودها إلى ما ليس بمعدوم وهل هذا إلا مجرد مقايسة لفظية مع فرط التباين في المعنى ؟
وهل يقول عاقل : إن الموجود الواجب بنفسه والموجود الذي وجب بغيره إذا لم يحتج إلى معدوم فالمعدوم الذي لم يجب بنفسه ولا بغيره يكون موجودا بأمر معدوم والممكن ليس به من نفسه وجود بل لا وجود له إلا من غيره سواء قيل : إن عدمه لا يفتقر إلى علة أو قيل : إن عدمه لعدم مقتضيه فمجموع الممكنات التي ليس فيها ما وجوده بنفسه لا تكون إلا معدومة وكل منها لا يكون موجودا إلا إذا كان وجوده بغيره سواء سمي هو معلولا لغيره أو مفعولا لغيره كيف تكون موجودة بغيرها ؟
ونكتة هذا الجواب أن لفظ الممكن يراد به الممكن بالإمكان الذي توصف به الممكنات المفتقرة إلى مقتض مباين فيلزم أن لا يكون لها ولا لشيء منها وجود بوجه من الوجوه إلا من المباين وأما الإمكان الذي وصف به مجموع الموجودات فمعناه أن ذلك المجموع لم يجب إلا بوجوب ما هو داخل فيه فبعض ذلك المجموع واجب بنفسه فلا يكون ذلك المجموع مفتقرا إلى مباين له
الوجه الثالث
ويتضح هذا بالوجه الثالث : وهو أنا نقول ابتداء : كل موجود فإما أن يكون وجوده بامر مباين له وإما أن لا يكون وجوده بأمر مباين له وكل ما كان وجوده بامر مباين له لا يكون موجودا إلا بوجود ما يباينه ومجموع الممكنات لا توجد إلا بمباين لها فلا يوجد شيء منها إلا بمباين لها وبعضها ليس بمباين لها فلا يوجد ببعضها بخلاف مجموع الموجودات فإنها لا تفتقر إلى مباين لها وإنما تفتقر إلى بعضها
وحينئذ فإذا صيغت الحجة هذه على هذا الوجه تبين أنه لا بد من موجود مباين للممكنات خارج عنها وهو المطلوب وأن مجموع الموجودات لا بد لها من موجود هو بعهضا فوجد به مجموعها وحينئذ فيلزم ثبوت واجب الوجود على التقديرين فكان ما ذكروه من الاعتراض دليلا على إثبات واجب الوجود لا على نفيه
فصل غلط المبتدعة في الله سبحانه على طرفي نقيض
واعلم أن هؤلاء غلطوا في مسمى واجب الوجود وفيما يقتضيه الدليل من ذلك حتى صاروا في طرفي نقيض فتارة يثبتونه ويجزدونه عن الصفات حتى يجعلوه وجودا مطلقا ثم يقولون : هو الوجود الذي في الموجودات فيجعلون وجود كل ممكن وحادث هو الوجود الواجب بنفسه كما يفعل ذلك محققة صوفيتهم كابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأمثالهم
وتارة يشككون في نفس الوجود الواجب ويقدرون أن يكون كل موجود ممكنا بنفسه لا فاعل له وأن مجموع الوجود ليس فيه واجب بنفسه بل هذا معلول مفعول وهذا معلول مفعلول وليس في الوجود إلا ما هو معلول مفعول فلا يكون في الوجود ما هو فاعل مستغن عن غيره فتارة يجعلون كل موجود واجبا بنفسه وتارة يجعلون كل موجوزد ممكنا بنفسه
ومعلوم بضرورة العقل بطلان كل من القسمين وأن من الموجودات ما هو حادث كان تارة موجودا وتارة معدوما وهذا لا يكون واجبا بنفسه وهذا لا بد له من موجود واجب بنفسه
ومن غلطهم في مسمى واجب الوجود أنهم لم يعرفوا ما هو الذي قام عليه الدليل وجوده مستفادا من أمر مباين له بل وجوده بنفسه وكون وجوده بنفسه لا ينفي أن يكون موجودا بنفسه وأن يكون ما دخل في مسمى نفسه من صفاته لازما له فالدليل دل على أنه لا بد للممكنات من أمر خارج عنها يكون موجودا بنفسه فلا يكون وجوده بامر خارج عنه وحينئذ فاتصافه بصفاته سواء سمي ذلك تركيبا او لم يسم لا يمنعه ان يكون واجبا بنفسه ر يفتقر إلى أمر خارج عنه ولهذا كانت صفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار وإن لزم من ذلك تعدد مسمى واجب الوجود بهذا المعنى بخلاف ما إذا عنى به أنه الموجود الفاعل للممكنات فإن هذا واحد سبحانه لا شريك له
وأما إذا عني به الموجود بنفسه القائم بنفسه فالصفات اللازمة تكون ممكنة لكن هذا يقتضي أن يكون في الممكنات ما هو قديم أزلي وهذا باطل كما قد بسطناه في موضع آخر
الوجه الثالث
أن يقال : قولك : المجموع المركب من لاواجب والممكن ممكن ممنوع بان يقال ليس المجموع إلا الأفراد الموجودة في الخارج والمجموع هو جميع تلك الأفراد وتلك الأفراد بعضها واجب وبعضها ممكن والجميع ليس هوصفة ثبوته قائمة بالأفراد وإنما هو امر نسبي إضافي كالعدد والموجود في الخارج فليست جملته غير آحاد المعنية ومعلوم أن الجملة ليست هي كل واحد من الآحاد بعينه لكن هي الآحاد جميعها فالآحاد
جميعها هي الجملة والمجموع وهذا لا حقيقة له غير الآحاد والآحاد بعهضا واجب وبعضها ممكن
يبين ذلك أنه قد قال بعد هذا : إن جملة الأمور التي يتوقف عليها الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منها ولا خارجا عنه فهي نفس المجموع
فإن قال : بل المجموع هو الهيئة الاجتماعية الحاصلة باجتماع الواجب والممكن وتلك ممكنة لتوقفها على غيرها
قيل : تلك النسبة ليست أعيانا قائمة بانفسها ولا صفات ثبوتية بالأعيان بل أمر نسبي إضافي سواء كانت نسبة عدمية أو ثبوتيه إذا قيل : هي ممكنة لم يضر فإن الواجب الذي هو واحد من المجموع موجب لسائر الممكنات وتلك النسبة من الممكنات ولا يكون جزء المجموع موجبا للمجموع بمعنى انه موجب لكل واحد من الأفراد فإن هذا يقتضي أن يكون موجبا لنفسه وهو ممتنع بل بمعنى انه موجب لما سواه وللهيئة الاجتماعية وهذا صحيح أو يقال : هو موجب لماسواه والهيئة الاجتماعية إن كانت ثبوتية فهي ممكنة من جملة الممكنات التي هي سواه وإن كانت عدمية فالأمر ظاهر
الوجه الرابع
أن يقال : مجموع الموجودات إما أن يكون فيها واجب بنفسه وإما أن لا يكون أي إما أن يقدر ذلك وإما أن لا يقدر فإن قدر فيها واجب بنفسه وجوب الواجب بنفسه وهو المطلوب وإن لم يقدر ذلك هذه الحجة وقد تقدم تقرير هذا الكلام
الدليل الثالث على إبطال التسلسل
وأما الدليل الثالث على إبطال التسلسل وهو قولهم : إن جملة ما يفتقر إليه المجموع : إما أن يكون نفس المجموع أو داخلا فيه أو خارجا عنه
والأول محال وإلا لكان الشيء علة نفسه والثاني محال وإلا لكان بعض أجزائه كافيا في المجموع والثالث حق
اعتراض الأبهري عليه
فقد اعترض عليه بقوله : قلنا إن أردتم بجملة ما يفتقر إليه المجموع جملة الأمور التي يصدق على كل واحد منها انه مفتقر إليه فلم قلتم بانه لا يجوز أن يكون هو نفس المجموع والذي يدل عليه أن جملة الأمور التي يفتقر إليه الواجب والممكن ليس داخلا في المجموع لتوقفه على كل جزء منه ولا خارجا عنه فهو نفس المجموع
وإن أردتم العلة الفاعلية فلم قلتم أنه يلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع ؟
الجواب عن هذا الاعتراض من وجوه
الوجه الأول
أن نقول : العلم بكون مجموع المعلولات الممكنة معلولا ممكنا أمر معلوم بالأضطرار فإن المجموع مفتقر إلى المعلولات الممكنة والمفتقر إلى المعلول أولى أن يكون معلولا وحينئذ فما أورده من القدح في تلك الحجة لا يضر إذ كان قدحا في الضروريات فهو من جنس شبه السوفسطائية
الوجه الثاني
أن مجموع المعلولات الممكنة إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فالمقتضى له غما نفسه أو جزؤه أو أمر خارج عنه
أما كون مجموع المعلولات الممكنات واجبا بنفسه فهو معلوم الفساد بالضرورة لأن المجموع غما كل واحد واحد من الأفراد وغما الهيئة الاجتماعية وإما مجموعهما وكل من ذلك ممكن
فإذا ليس الأفراد ممكنة وكل منها معلولولو قدر مالا غاية له والمعلول من حيث هو معلول لا بد له من علة فكل منها لا بد له من علة وتعاقب معلولات لا تتناهى لا يمنع ان يكون كل منها محتاجا إلى العلة فإذا لم يكن ثم مجموع إلا هذه الآحاد التي كل منها معلول محتاج لزم أن لا يكون في الوجود إلا ما هو معلول محتاج ومن المعلول بالضرورة أن المعلول المحتاج لا يوجد بنفسه
فعلى هذا التقدير لا يكون في الوجود ما يوجد بنفسه وما لا يوجد بنفسه لا يوجد إلا بموحد والموجد إذا لم يكن موجودا بنفسه كان مما لا يوجد بنفسه فلا يوجد فيلزم أن لا يوجد شيء وقد وجدت الموجودات فيلزم الجمع بين النقيضين : وهو أن لا يكون شيء من الموجودات موجودا إذا قدر انه ليس فيها شيء موجود بنفسه وهي كلها موجودة فلا بد من غير موجود بنفسه فيكون الموجود موجودا بنفسه غير موجود بنفسه وهو جمع بين النقيضين
الوجه الثالث
أن يقال : أردنا بجملة ما يفتقر إليه المجموع العلة الفاعلة فغن الكلام إنما هو في إثبات الفاعل لمجموع الممكنات ليس هو فيما هو أعم من ذلك قوله : إن أردتم العلة الفاعلة التامة فلم قلتم : إنه يستلزم أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع ؟
فيقال : قلنا ذلك لأنه إذا وجدت العلة الفاعلة التامة لزم وجود المعلول فإنه إنما نعني بالعلة مجموع ما يلزم من وجوده وجود المعلول فغن الممكن لا يوجد حتى يحصل المرجح التام المستلزم لوجوده فإذا كان الفاعل فاعلا باختياره فلا بد من القدرة التامة والإرادة الجازمة فلا يحصل الممكن بدون ذلك ومتى وجد ذلك وجب حصول المفعول الممكن فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ الله امتنع وجوده فإن حصل للمكن المؤثر التام وجب وجوده بغيره وإن لم يحصل امتنع وجوده لانتفاء المؤثر التام فوجوده لا يحصل إلا بغيره وأما عدمه فقد قيل : إنه أيضا لا بد له من علة وهو قول ابن سينا وأتباعه المتأخرين الذين يقولون : إن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وقيل : لا يحتاج عدمه إلى علة وهو قول نظار السنة المشهورين كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وهو آخر قول الرازي فإنه يقول بقول هؤلاء تارة وهؤلاء تارة لكن هذا آخر قوليه فإن العدم عندهم لا يفتقر إلى علة وإذا قيل : عدم لعدم علته فمعناه أن عدم علته مستلزم لعدمه لا أنه هو الذي أوجب عدمه بل إذا عدمت علته علمنا أنه معدوم فكان ذلك دليلا على عدمه لا أن أحد العدمين أوجب الآخر فإن العدم لا تأثير له في شيء أصلا بل عدمه يستلزم عدمه علته وعدم علته يستلزم عدمه من غير أن يكون أحد العدمين مؤثرا في الآخر
وأما وجوده فلا بد له من المؤثر التام وإذا حصل المؤثر التام وجب وجوده وإلا امتنع وجوده
ولهذا تنازع الناس في الممكن : هل من شرطه أن يكون معدوما ؟ فالذي عليه قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين كأبن رشد وغيره حتى الفارابي معلمهم الثاني فإن أرسطو معلمهم الأول وحتى ابن سينا وأتباعه وافقوا هؤلاء أيضا لكن تناقضوا وعليه جمهور نظار أهل الملل من المسلمين وغيرهم : أن من شرطه أن يكون معدوما وأنه لا يعقل إلامكان فيما لم يكن معدوما
وذهب ابن سينا وأتباعه إلى أن القديم الموجود بغيره يوصف بالإمكان وإن كان قديما أزليا لم يزل واجبا بغيره لكنه قد صرح هو وأصحابه في غير موضع بنقيض ذلك كما قاله الجمهور وقد ذكرت بعض ألفاظه في كتابه المسمى بالشفاء في غير هذا الموضع وأصحابه الفلاسفة المتبعين لأرسطو وأصحابه مع الجمهور أنكروا ذلك عليه وقالوا إنه خالف به سلفهم كما خالف به جمهور النظار وخالف به ما ذكره هو مصرحا به في غير موضع
وذلك لأن الممكن بنفسه هو الذي يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وذلك أنما يعقل فيما يكون معدوما ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد بل يستمر عدمه فأما ما لم يزل موجودا بغيره فكيف يقال فيه إنه يمكن وجوده وعدمه ؟ أو يقال فيه إنه يقبل الوجود والعدم ؟
ومما يوضح ذلك أن القابل للموجود والعدم غما أن يكون هو الموجود في الخارج أو الماهية الموجودة في الخارج عند من يقول : الوجود زائد على الماهية أو ما ليس موجودا في الخارج
فإن قيل بالأول فهو ممتنع لأن ما كان موجودا في الخارج أزلا وأبدا : واجبا بغيره فإنه لا يقبل العدم أصلا فكيف يقال : إنه يقبل الوجود والعدم ؟
وإن قيل أمر آخر فذلك لا حقيقة له حتى يقبل وجودا أو عدما لأن وجود كل شيء عين ماهيته في الخارج ولكن الذهن قد يتصور ماهية غير الوجود الخارجي فإذا اعتبرت الماهية في الذهن والوجود في الخارج أو بالعكس فاحدهما غير الآخر وأما إذا اعتبر ما في الخارج فقط أو ما في الذهن فقط فليس هناك وجود وماهية زائدة ومن تصور هذا تصورا تاما لم ينازع فيه وإنما ينازع من لم يميز بين الذهني والخارجي واشتبه عليه أحدهما بالآخر وأيضا فلو قدر أن في الخارج ماهية ووجودا لواجب قديم أزلي فهذه كما يقوله كثير من المتكلمين : إن لواجب الوجود ماهية غير زائدة على وجوده وحينئذ فمثل وجود هذه الماهية لا يقبل العدم كما أن وجود الماهية الواجبة بنفسها لا تقبل العدم
وإن قيل : نحن نريد بذلك أن ماهية الممكن الزائدة على وجوده القديم الأزلي كماهية الفلك هي من حيث هي هي مع قطع النظر عن وجودها وعدمها تقبل الوجود والعدم
قيل : إثبات هذه الماهية زائدة على الوجود باطل كما قد بين في موضع آخر وبتقدير التسليم فهذا كما يقدر أن وجود واجب الوجود زائد على ماهيته ومعلوم أنه لا يستلزم ذلك كون ماهيته قابلة للعدم
ثم يقال : قول القائل : الماهية من حيث هي هي تقدير للماهية مجردة عن الوجو \ د والعدم وهذا تقدير ممتنع في نفسه فإن الماهية لو قدر تحققها فإما أن تكون موجودة أو معدومة فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال : إن تلك الماهية تقبل الوجود معدومة فلا يمكن تقديرها مجردة في الخارج حتى يقال : إن تلك الماهية تقبل الوجود والعدم
وأيضا فلو قيل : إنه يمكن تقديرها مجردة فهذا إنما يمكن في الماهية إذا كانت يمكن أن تكون موجودة ويمكن أن تكون معدومة وأما ما كان الوجود لازما لها قديما ازليا يمتنع عدمه فكيف يتصور ان يقال : إن هذه الماهية تقبل العدم وهي لم تزل واجبة الوجود فليس لها وقت من الأوقات تقبل فيه العدم وإذا قدرت مجردة في الذهن فليست هذه المقدرة في الذهن هي الموجودة في الخارج المستلزمة للوجود القديم الأزلي
فإن قيل : هذا كما نقول في ماهية المحدث أنه يقبل الوجود والعدم
قيل : إن سلم لكم أن ماهية المحدث زائدة على وجودهما موافقتكم لسائر العقلاء على أنه يمتنع تحققها في الخارج إلا إذا كانت موجودة وحين وجودها لا تكون معدومة بمعنى كونها تقبل الوجود والعدم قيل أحد إمرين : إما ان يقال : الماهية المقدرة في الذهن يمكن أن تكون موجودة في الخارج ويمكن أن تكون معدومة وإما أن يقال : هذه الحقيقة يمكن أن تكون في الخارج معدومة فإذا اخترنا من ذلك حال عدمها قيل : يمكن وجودها بعد العدم وإن كان حين وجودها : قيل : يمكن عدمها بعد الوجود ومثل هذا ممتنع في الماهية القديمة الازلية التي يجب وجودها ويمتنع عدمها سواء قدر ان وجوبها بنفسها أو بغيرها كما أن صفات الرب عند من قال : ممكنة مع كونها قديمة أزلية واجبة بالذات فإنها عندهم لا يمكن عدمها ولا تقبله فإن ما وجب قدمه من الأمور الوجودية امتنع عدمه باتفاق العقلاء فإن ما يجب قدمه لا يكون إلا واجبا بنفسه ولا بغيره ليس قديما باتفاق العقلاء
فإنه إذا قدر أنه ليس واجبا بنفسه فلا بد أن يكون من لوازم الواجب بنفسه فإنه إذا لم يكن من لوازمه بل جاز وجوده تارة وعدمه أخرى
لم يكن هناك موجب لذاته ولا ذاته واجبة بنفسها فامتنع قدمه وإذا كان من لوازم الواجب بنفسه امتنع عدمه إلا إذا عدم الملزوم فإن اللازم لا ينتفي إلا إذا انتفى الملزوم والملزوم الواجب بنفسه يمتنع عدمه فيمتنع عدم لازمه وما امتنع عدمه لا يكون ممكن العدم
فإن قيل : فالممكنات التي هي محدثة هي واجبة بغيرها إذا وجدت تجب بوجوب سببها فما شاء الله كان وجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وهي ممتنعة حال عدمها ومع هذا فهي تقبل الوجود والعدم ولا يلزم من عدمها عدم الواجب
قيل : الفرق بينهما من وجهين : أحدهما أن تلك كانت معدومة تارة وموجودة أخرى فثبت قبولها للوجود والعدم فلا يمكن أن يقال : إنها لا تقبل العدم بخلاف ما هو لم يعدم قط ولم يكن عدمه في وقت من الأوقات
الثاني : أن هذه لا يوجبها نفس الواجب إذا لو كان كذلك لكانت لازمة لذاته قديمة أزلية بل إنما توجبها الذات مع ما يحدث من الشروط التي بها تم حصول المقتضى التام فحينئذ ليست من لوازم الواجب بنفسه بل من لوازم مؤثرها التام ومن جملة ذلك الأمور الحادثة التي هي شرط في حدوثها وإذا عدمت فأنها تعدم لانتفاء بعض هذه الشروط الشروط الحادثة أو لحدوث مانع ضاد وجودها ومنع تمام علتها التامة فعدمت لعدم بعض الحوادث أو وجود بعض الحوادث كما وجدت لحدوث بعض الحوادث وفدم بعضها أيضا فلهذا لم تكن من لوازم ذاته المجدة في الأزل بخلاف ما كان من لوازم ذاته في الأزلية الواجبة الوجود وعدمها ممتنع تحقق ذاته في الأزل بدونها فمتى قدر عدمه لزم عدم الذات الأزلية الواجبة الوجود ن وعدمها ممتنع فعدم لازمها الأزلي ممتنع فلا يكون لازمه الأزلي ممكنا البتة بل لا يكون إلا واجبا قديما أزليا لا تقبل ذاته العدم وهذا هو المطلوب فقد تبين أن ما كان أزليا فإنه واجب الوجود يمتنع عدمه لا يكون ممكنا البتة وهذا مما اتفق عليه العقلاء أولوهم وأخرون حتى أرسطو وجميع أتباعه الفلاسفة إلى الفارابي وغيره وكذلك ابن سينا وأتباعه
لكن هؤلاء تناقضوا فوافقوا سلفهم والجمهور في موضع وخالفوا العقلاء قاطبة مع مخالفتهم لأنفسهم في هذا الموضع حيث قضوا بوجود موجود ممكن يقبل الوجود والعدم مع كونه قديما أزليا وأجبا وإن قيل : هو واجب بغيره
ولهذا لا يوجد هذا القول عن أحد من عقلاء قبل هؤلاء ولا نقله أهل المقالات عن احد من الطوائف وإنما يوجد في كلام هؤلاء وأتباعهم وإذا عرف هذا فإن قال هؤلاء : نحن نريد به العدم الاستقبالي أي يقبل ان يعدم في المستقبل قيل فهذا يبطل قولكم لأن ما كان واجبا بغيره أزليا لم يقبل العدم لا في الماضي ولا في المستقبل وكذلك هو عندكم أزليا كان أبديا يمتنع عندكم عدمه
وإن قيل : نريد به أن ما تصور في الذهن يمكن وجوده في الخارج ويمكن أن لا يوجد
قيل : إذا كان أزليا واجبا بغيره لم يمكن أن يقبل العدم بحال فلا يكون ممكنا فالممكن لا يكون ممكنا إن لم يكن معدوما في الماضي أو المستقبل
وإذا قيل : إن من الممكن يقبل الوجود والعدم لم نرد به انه يقبلهما على سبيل الجمع فإن هذا جمع بين النقيضين بل المراد به أنه يقبل الوجود بدلا عن العدم والعدم بدلا عن الوجود فإذا كان معدوما كان قابلا لدوام العدم وقابلا لحدوث الوجود وإذا كان موجودا قبل دوام الوجود فإذا كان معدوما كان قابلا لدوام العدم وقابلا لحدوث الوجود وإذا كان موجودا قبل دوام الوجود وقبل حدوث العدم هذا إذا اعتبر حاله في الخارج وإن اعتبر حاله في الذهن فالمراد أن ما يتصوره في الذهن يمكن أن يوجد في الخارج ويمكن ان لا يوجد فبكل حال إذا اعتبر الممكن ذهنيا أو خارجيا لا يتحقق فيه الإمكان إلا مع إمكان العدم تارة ووجود أخرى فما كان ضروري العدم كالجمع بين النقيضين لا يكون ممكنا ن وما كان ضروري الوجود وهو القديم الأزلي لا يكون ممكنا وقد وافق على هذا جميع الفلاسفة : ارسطو وجميع أصحابه المتقدمين والمتأخرين والعقلاء أما مع وجوب وجوده بنفسه أو بغيره دايما فليس هناك ممكن يحكم عليه بقبول الوجود والعدم
ولما سلك الرازي ونحوه مسلك ابن سينا في إثبات إمكان مثل هذا اضطربوا في الممكن وورد عليهم فيه إشكالات كثيرة كما هو موجود في كتبهم كما أوردوه الرازي في محصله من الحجج الدالة على نفي هذا الممكن ولم يكن عنها جواب إلا دعواه أن ما كان متغيرا فإنه يعلم إمكانة بالضرورة
وهذه الدعوى يخالفه فيها جمهور العقلاء حتى ارسطو واصحابه ن وهذا الذي نبهنا عليه هو أحد ما يستدل به على أن كل ممكن فهو مسبوق بالعدم ن وكل ما سوى الله ممكن فكل ما سوى الله حادث عن عدم ن كما قد بسط في موضعه
والمقصود هنا ان الدين بهذه الأدلة على افتقار الممكنات إلى واجب خارج عنها فإن مرادهم بقولهم : جملة ما يفتقر إليه مجموع الممكنات هو المؤثر التام وهو المرجح التام الذي يلزم من وجوده بتأثيره التام وجودها كما ذكرناه من أن الفاعل باختياره إذا وجدت قدرته التامة وإرادته التامة وجب وجود المقدور وهي الممكنات
وأما قوله : فلم قلتم : إنه يلزم أن يكون بعض الجزاء كافيا في المجموع فلما ذكرناه من أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره فإذا قدر أن المؤثر التام في المجموع هو بعض المجموع لزم أن يكون بعض أجزاء المجموع هو المؤثر في المجموع فيكون مؤثرا في نفسه وفي غيره
وهذا ظاهر فإنه إذا قدر مجموع الممكنات وقدرنا أن واحدا منها مؤثر في نفسه وفي غيره فيكون بعض أجزاء المجموع موجبا لحصول المجموع المذكور ومن المجموع نفسه وهذا ممتنع وأما المجموع المركب من الواجب والممكن فهناك ليس بعضه مؤثرا في كل واحد واحد وفي الهيئة الإجتماعية 0 فإن من المجموع الواجب بنفسه لم يؤثر فيه شيء فظهر الفرق
وأيضا فالواجب مؤثر في الممكن وفي الهيئة الاجتماعية ليس مؤثرا في نفسه بخلاف مجموع الممكنات فإن كل واحد منها لا بد من مؤثر والاجتماع لا بد له من مؤثر فالمجموع مفتقر إلى المؤثر بأي تفسير فسر فإن فسر بالهيئة الاجتماعية فهي متوقفة على الأفراد الممكنة والمتوقف على الممكن أولى أن يكون ممكنا مع أن الهيئة الاجتماعية نسبة وإضافة متوقفة على غيرها فهي ادخل في الإمكان والافتقار من غيرها وهي من أضعف الأعراض المفتقرة إلى الأعيان إن قدر لها ثبوتا وجوديا وإلا فلا وجود لها وإن فسر المجموع بكل واحد واحد أو فسر بالأمرين بكل واحد بالاجتماع أو بغير ذلك بأي شيء فسر لم يكن إلا ممكنا مفتقرا إلى غيره وكلما كثرت الإمكانات كثر الافتقار والحاجة
فإذا قيل : المؤثر في ذلك واحد منها وهو ممكن لزم أن يكون الممكن الذي لم يوجد بعد فاعلا لجميع الممكنات ونفسه من الممكنات فإن نفسه لا بد له من فاعل أيضا
وهذا المعترض اخذ المجموع المركب من الواجب والممكن فعارض به المجموع من الممكنات 0 ولفظ المجموع فيه إجمال يراد به الاجتماع ويراد به جميع الأفراد ويراد به الأمران فكانت معارضته في غاية الفساد 0 فإن ذلك المجموع فيه واجب بنفسه لا يحتاج إلى غيره وما سواه من الأفراد والهيئة الإجتماعية مفعول له فهذا معقول
فالله تعالى هو الموجود الواجب بنفسه خالق لكل ما سواه وأما الهيئة الاجتماعية إن قدر لها وجود في الخارج فهي حاصلة به أيضا سبحانه وتعالى 0 وأما المجموع الذي كل منه مفتقر إلى من يبدعه وليس فيه موجود بنفسه فيمتنع أن يكون فاعلهم واحدا منهم لأنه لا بد له من فاعل فلو كان فاعلهم ما كان فاعل نفسه وغيره من الممكنات ولزم أن يكون بعض أجزاء الممكنات كافيا في مجموع الممكنات وإذا كان مجموع الممكنات يمتنع أن يكون فاعلها فلأن يمتنع أن يكون بعضها فاعلا لها بطريق الأولى فإن ما يتعذر على المجموع يتعذر على بعضه بطريق الأولى وما يفتقر إليه المجموع يفتقر إليه بعضه بطريق الأولى0 وهذا المعترض أخذ ما يفتقر إليه المجموع لفظا مجملا فالافتقار قد يكون افتقار المشروط إلى شرطه وقد يكون افتقار المفعول إلى فاعله0 ثم أخذ يورد على هذا وعلى هذا ونحن نجيب على كل تقدير
الوجه الرابع
أن يقال أتعني بجملة ما يفتقر إليه المجموع ما إذا وجد وجد المجموع وما لا يوجد المجموع إلا بوجوده كله مع قطع النظر عن كونه شرطا أو فاعلا فإن جملة ما يفتقر إليه الشيء هو الجملة التي تشتمل على كل ما يفتقر إليه الشيء فكل ما كان الشيء مفتقرا إليه فهو داخل في هذه الجملة وإذا حصل كل ما يحتاج إليه الشيء لم يبق الشيء محتجا إلى شيء أصلا فيلزم وجوده حينئذ فإنه ما دام مفتقرا إلى شيء لم يوجد وإذا حصل كل ما يتوقف وجوده عليه ولم يبق وجوده موقوفا على شيء أصلا لزم وجوده فينبغي بجملة ما يتوقف وجود الشيء عليه الأمور التي إذا وجدت وجد المجموع وإن لم توجد جميعها لم يوجد المجموع
ومعلوم أنه إذا عنى به ذلك لم يمكن أن يكون ذلك بعضها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعض الأجزاء كافيا في المجموع فإنه قد فسر الجملة بما إذا حصل وجب حصول المجموع وإن لم يحصل لم يجز حصوله فلو كان بعض الأجزاء هو تلك الجملة لوجب أن يكون ذلك البعض كافيا في حصول المجموع سواء قدر فاعلا لنفسه ولباقي الجملة أو قدر أن حصوله هو حصول المجموع أو قدر غير ذلك من التقديرات الممتنعة فأي تقدير قدر كان ممتنعا فإن جملة ما يفتقر إليه المجموع لا يكون بعض المجموع بأي تفسير فسر وهو المطلوب
ولكن لفظ المجموع فيه إجمال فإنه قد يعني به مجرد الهيئة الاجتماعية وقد يعنى به كل من الأفراد أو كل من الأفراد مع الهيئة الاجتماعية فإن عني به الأول فلا ريب أن هذا قد يكون بعض الأفراد موجبا له كما في المجموع المركب من الواجب والممكن فإن الواجب هو الموجب للممكنات وهو الموجب أيضا للهيئة الاجتماعية والهيئة الاجتماعية أمر ممكن خارج عن الواجب ليس هو بعض الهيئة الاجتماعية لكنه بعض الأفراد والهيئة نسبة وإضافة وليس هو بعض النسبة والإضافة ولكن هو بعض الأفراد المنسوب بعضها إلى بعض والنسبة وسائر الأفراد غير له وهو الموجب لكل ما هو غير له
وأما المجموع الذي هو الأفراد فلا يكون بعضه هو الموجب لكل من الأفراد فإن هذا يقتضي أن يكون ذلك البعض موجبا لنفسه فاعلا لذاته وهذا ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء بل هو من أبلغ الأمور امتناعا والعلم بذلك من أوضح المعارف وأجلاها ولهذا لم يقل هذا أحد من العقلاء
وإذا المجموع كلا من الأفراد مع الهيئة فهو أبعد عن أن يكون واحد من الأفراد موجبا لنفسه ولسائر الأفراد ومع الهيئة الاجتماعية وهذا بين ولله الحمد والمنة
واعلم أن مثل هذه الاعتراضات مع صحة الفطرة وحسن النظر يعلم فسادها ومثل هذه الخواطر الفاسدة التي تقدح في المعلومات لا نهاية لها ولا يمكن استقصاء ما يرد علي النفوس من وساوس الشيطان ولولا أن هذين الرجلين اللذين كان يقال إنهما من أفضل أهل زمانهما في المباحث العقلية : كلاميها وفلسفيها أورد كل منها ما ذكرت وصار ذلك عنده مانعا من صحة الطريق المذكور في إثبات واجب الوجود لما ذكرت ذلك لظهور فساده عند من له تصور صحيح لما ذكروه فضلا عمن نور الله قلبه
ثم إن هؤلاء الفلاسفة يقولون كما زعم الآمدي إن كمال النفس الإنسانية هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وهم مع هذا لم يعرفوا الموجود الواجب فأي شيء عرفوه ؟
جهل المبتدعته وحيرتهم
وقد بلغني بإسناد متصل عن بعض رؤوسهم وهو الخونجي صاحب كشف الأسرار في المنطق وهو عند كثير منهم غاية ف يهذا الفن أنه قال عند الموت أموت وما علمت شيئا إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف عدمي أموت وما علمت شيئا
وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام أو كلاما هذا معناه
وذلك أن هذا الآمدي لم يقرر في كتبه لا التوحيد ولا حدوث العالم ولا إثبات واجب الوجود بل ذكر في التوحيد طرقا زيفها وذكر طريقة زعم انه ابتكرها وهي أضعف من غيرها
وكان ابن عربي صاحب الفصوص و الفتوحات وغيرهما يعظم طريقته ويقول : إن الطريقة التي ابتكرها في التوحيد طريقة عظيمة أو ما هو نحو هذا حتى أفضى الأمر ببعض أعيان القضاة الذين نظروا في كلامه إلى أن قال التوحيد لا يقوم عليه دليل عقلي وإنما يعلم بالسمع فقام عليه أهل بلده وسعوا في عقوبته وجرت له قصة
وكذلك الأصبهاني اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما فقال له بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم عن المعارض فما وجدته
وكذلك حدثني من قرا على ابن واصل الحموي أنه قال أبيت باليليل واستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس وأصبح وما ترجح عندي شيء كأنه يعني أدلة المتكلمين والفلاسفة
وقد بسطنا في التوحيد وأدلته في غير هذا الموضع وذكرنا أن الناس قبلنا قد ذكروا له من الأدلة العقلية اليقينية ما شاء الله ولكن الإنسان يريد ان يرعف ما قاله الناس وما سبقوا إليه وبينا أن القرآن ذكر من ذلك ما هو خلاصة ما ذكروه الناس وفيه من بيان توحيد الإلهية ما لم يهتد إليه كثير من النظار ولا العباد بل هو الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه
الطرق المختلفة لإثبات الخالق تعالى
وهؤلاء كما ذكرت انقسموا إلى أصحاب نظر وفكر وبحث واستدلال وأصحاب إرادة وعبادة وتأله وزهد فكان منتهى أولئك الشك ومنتهى هؤلاء الشطح فأولئك يشكون في ثبوت واجب الوجود او يعجزون عن إقامة الدلالة عليه
وإذا لم يكن في الوجود واجب لم يوجد شيء فتكون الموجودات كلها معدومات فيفضى بهم سوء النظر إلى جعل الموجودات معدومات أو تجويز كونها معدومات وجعل الموجود الواجب ممكنا وجعل الواجب ممكنا غاية التعطيل
والآخرون يجعلون كل موجود واجب الوجود ويجعلون وجود كل موجود هو نفس وجود واجب الوجود فلا يكون في الوجود وجود هو عندهم مخلوق ولا مصنوع ولا مفتقر إلى غيره ولا محتاج إلى سواه ن فلا يكون في الوجود ما وجد بعد عدمه ولا ما عدم بعد وجوده وهذا فيه من جعل المعدوم موجودا ومن جعل الممكن واجبا وجعل العبد ربا وجعل المحدث قديما ما هو غاية الكفر والشرك والضلال
الطريقة الصحيحة الموافقة للفطرة في إثبات وجود الله تعالى
هذا مع أن إثبات الموجود الواجب الغني الخالق وإثبات الموجود الممكن المحدث الفقير المخلوق هو من أظهر المعارف وأبين العلوم
أما ثبوت الموجود المفتقر المحدث الفقير فيما نشاهده من كون بعض الموجودات يوجد بعد عدمه ويعدم بعد وجوده من الحيوانات والنباتات والمعدن وما بين السماء والأرض من السحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك وما نشاهده من حركات الكواكب وحدوث الليل بعد النهار والنهار بعد الليل فهذا كله فيه من حدوث موجود بعد عدمه ومعدوم بعد وجوده وما هو مشهود لبني أدم يرونه بأبصارهم
ثم إذا شهدوا ذلك فنقول : معلوم أن المحدثات لا بد لها من محدث والعلم بذلك ضروري كما قد بين ولا بد من محدث لا يكون محدثا وكل محدث ممكن والممكنات لا بد لها من واجب وكل محدث وممكن فقير مربوب مصنوع والمفتقرات لا بد لها من غني والمربوبات لا بد لها من رب والمخلوقات لا بد لها من خالق
وأيضا فإنه يقال : هذا الموجود إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن لا يكون واجبا بنفسه بل ممكنا بنفسه فهو واجبا بغيره والممكن بنفسه الواجب بغيره لا بد له من واجب بنفسه فلزم ثبوت الواجب بنفسه على التقديرين
وأيضا فالموجود : إما أن يكون محدثا وإما أن يكون قديما والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود القديم على التقديرين
وأيضا فالموجود إما أن يكون محدثا وإما أن يكون والمحدث لا بد له من قديم فلزم وجود على التقديرين
وأيضا فإما إن يكون خالقا وإما أن لا يكون وقد علم فيما ليس بخالق كالموجودات التي علم حدوثها أنها مخلوقة والمخلوق لا بد له من خالق فعلم ثبوت الخالق على التقديرين
وأيضا فالموجود إما غني عن كل ما سواه وغما مفتقر إلى غيره والفقير إلى غيره لا بد له من غنى بنفسه فعلم ثبوت الغني بنفسه على التقديرين
فهذه البراهين وأمثالها كل منها يوجب العلم بوجود الرب سبحانه وتعالى الغني القديم الواجب بنفسه
طريقة ابن سينا وأتباعه في إثبات وجود الله تعالى
وابن سينا وأتباعه كالرازي والآمدي والسهروردي المقتول وأتباعهم سلكوا في إثبات واجب الوجود طريقة الاستدلال بالوجود وعظموها وظن من ظن منهم انها أشرف الطرق وأنه لا طريق إلا وهو يفتقر إليها حتى ظنوا أن طريقة الحدوث مفتقرة إليها
وكل ذلك غلط بل هي طريقة توجب إثبات واجب الوجود بلا ريب لو كانوا يفسرون الممكن بالممكن الذي هو ممكن عند العقلاء سلفهم وغير سلفهم وهو الذي يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى
فأما إذا فسر الممكن بالممكن الذي ينقسم إلى قديم واجب بغيره وإلى محدث مسبوق بالعدم كما هو قول ابن سينا وأتباعه فلا يصح لهم على هذا الأصل الفاسد لاإثبات واجب بنفسه ولا إثبات ممكن يدل على الواجب بنفسه
وهذه الطريقة هي في الحقيقة مأخوذة من طريقة الحدوث وطريقة الحدوث أكمل وأبين فغن الممكن الذي يعلم انه ممن هو ما علم أنه وجد بعد عدمه أو عدم بعد وجوده
هذا الذي اتفق العقلاء على أنه ممكن وهو الذي يستحق أن يسمى ممكنا بلا ريب وهذا محدث فإذا كل ممكن محدث
وأما تقدير ممكن لم يزل واجبا بغيره فأكثر العقلاء دفعوا ذلك حتى القائلون بقدم العالم كأرسطو وأتباعه المتقدمين وحتى هؤلاء الذين قالوا ذلك ابن سينا وأتباعه لا يجعلون هذا من الممكن بل الممكن عندهم ما أمكن وجوده وعدمه فكان موجودا تارة ومعدوما أخرى
وإنما جعل هذا من الممكن ابن سينا وأتباعه مع تناقضه وتصريحه بخلاف ذلك لما سلكوا في إثبات واجب الوجود الاستدلال بالموجود على الواجب فقالوا كل ما سواه يكون ممكنا بنفسه واجبا بغيره وجعلوا العلم قديما أزليا مع كونه ممكنا بنفسه
وهذا خلاف قول سلفهم وقول أئمة الطوائف سواهم وخلاف ما صرحوا أيضا به وهذا مما أنكره ابن رشد وغيره على ابن سينا وبسط الكلام فيه له موضع آخر
والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعونان كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات هذا اظطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة تورطوا معهم في محاراتهم وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا
والفلسفة هي باطن الباطنية ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء ف ينوع من الإلحاد في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه
بطلان قول الفلاسفة حول كمال النفس
ونفس المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم وهو أن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات مقدمة باطلة قد بسطنا الكلام عليها في الكلام على معجزات الأنبياء لم تكلمنا عن قولهم انها قوى نفسانية وذكرنا قطعة من كلامهم على ذلك وبينا أن قولهم إن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات خطأ وضلال ومن هنا جعلوا الشرائع مقصودها إما إصلاح الدنيا وإما تهذيب النفس لتستعد للعلم أو لتكون الشريعة أمثالا لتفهيم المعاد في العقليات كما يقوله الملاحدة الباطنية مثل أبي يعقوب السجستاني وأمثاله ولهذا لا يوجبون العمل بالشرائع على من وصل إلى حقيقة العلم ويقولون إنه لم يجب على الأنبياء ذلك وإنما كانوا يفعلونه لأنه من تمام تبليغهم الأمم ليقتدوا بهم في ذلك لا لأنه واجب على الأنبياء وكذلك لا يجب عندهم على الواصلين البالغين من الأمة والعلماء
ودخل في ذلك طائفة من ضلال المتصوفة ظنوا أن غاية العبادات هو حصول المعرفة فإذا حصلت سقطت العبادات وقد يحتج بعضهم بقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } الحجر 99 ويزعمون أن اليقين هو المعرفة وهذا خطأ بإجماع المسلمين أهل التفسير وغيرهم فإن المسلمين متفقون على أن وجوب العبادات كالصلوات الخمس ونحوها وتحريم المرحمات كالفواحش والمظالم لا يزال واجبا على كل أحد ما دام عقله حاضرا ولو بلغ وأن الصلوات لا تسقط عن أحد قط إلا عن الحائض والنفساء أو من زال عقله مع أن من زال عقله بالنوم فانه يقضيها بالسنة المستفيضة المتلقاه واتفاق العلماء وأما من زال عقله بالإغماء ونحوه مما يعذر فيه ففيه نزاع مشهور : منهم من يوجب قضاءها مطلقا كأحمد ومنهم من لا يوجبه كالشافعي ومنهم من يوجب قضاء ما قل وهو ما دون اليوم والليلة أو صلوات اليوم والليلية كما مذهب أبي حنيفة ومالك والمجنون لا يقضي عند عامتهم وفيه نزاع شاذ
فالمقصود من هذا أن الصلوات الخمس لا تسقط عن أحد له عقل سواء كان كبيرا أو صالحا أو عالما وما يظنه طوائف من جهال العباد وأتباعهم وجهال النظار وأتباعهم وجهال الإسماعيلية والنصيرية وإن كانوا كلهم جهالا من سقوطها عن العارفين أو الواصلين او أهل الحضرة أو عمن خرقت لهم العادات أو عن الأئمة الإسماعيلية أو بعض أتباعهم أو عمن عرف العلوم العقلية أو عن المتكلم الماهر في النظر أو الفيلسوف الكامل في الفلسفة فكل ذلك باطل باتفاق المسلمين وبما علم بالاضطرار من دين الإسلام
واتفق علماء المسلمين على أن الواحد من هؤلاء يستتاب فإن تاب وأقر بوجوبها وإلا قتل فإنه لا نزاع بينهم في قتل الجاحد لوجوبها وإنما تنازعوا في قتل من أقر بوجوبها وامتنع من فعلها مع أن أكثرهم يوجب قتله
ثم الواحد من هؤلاء إذا عاد واعتراف بالوجوب فهل عليه قضاء ما تركه فهذا على ثلاثة أنواع أحدها أن يكون قد صار مرتدا ممتنعا عن الإقرار بما فرضه الرسول فهذا حكمه حكم المرتدين وفيه للعلماء ثلاثة أقوال : إحدهما : أنه لا يقضي ما تركه في الردة ولا قبلها لا من صلاة ولا صيام ولا زكاة بناء على أن الردة أحبطت عمله وأنه إذا عاد عاد بإسلام جديد فيستأنف العمل كما هو معروف في مذهب أبي حنيفة ومالك وقول في مذهب أحمد والثاني : أنه يقضي ما تركه في الردة وقبلها وهذا قول الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد والثالث : أنه لا يقضي ما تركه في الردة ويقضي ما تركه قبلها كالرواية المشهورة عن أحمد
وإن كان الواحد من هؤلاء جاهلا وهو مصدق للرسول لكن ظن أن من دينه سقوط هذه الواجبات عن بعض البالغين كما يضن ذلك طوائف ممن صحب الشيوخ الجهال وكما يظنه طائفة من الشيوخ الجهال ولهم مع ذلك أحوال نفسانية وشيطانية
فهؤلاء مبني أمرهم على أن من ترك الصلاة قبل العلم بوجوبها فهل يقضي ؟ وفيه ثلاثة أقوال : منها وجهان في مذهب أحمد : أحدهما : أنه لا قضاء عليه بحال بناء على أن حكم الخطاب لا يثبت في حق العبد إلا من بعد بلوغ الخطاب إليه والثاني : عليه القضاء بكل حال كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وغيره والثالث : يفرق بين من أسلم في دار الحرب ومن أسلم في غيرها كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة والأول أظهر الأقوال
وأيضا فقد تنازع الناس فيمن فوت الصلاة عمدا بغير عذر والصوم هل يصح منه القضاء أم قد استقر عليه الذنب فلا يقبل منه القضاء ؟ على قولين معروفين وليس هذا موضع هذا
وإنما المقصود هنا أنه ليس في علماء المسلمين من يقول بسقوط الصلاة عمن هو عاقل على أي حال كان
فمن تأول قوله تعالى { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } الحجر : 99 على سقوط العبادة بحصول المعرفة فإنه يستتاب ن فإن تاب وإلا قتل والمراد بالآية : اعبد ربك حتى تموت كما قال الحسن البصري : لم يجعل الله لعبادة المؤمن أجلا دون الموت وقرأ الآية واليقين هو ما يعانيه الميت فيوقن به كما قال الله تعالى عن أهل النار { وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين } المدثر : 46 47 وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مات عثمان بن مظعون قال أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة ومن شركهم في نوع من إلحادهم لما ظنوا أن كمال النفس في مجرد العلم وظنوا أن ذلك إذا حصل فلا حاجة إلى العمل ن وظنوا أن ذلك حصل لهم ظنوا سقوط الواجبات العامة عنهم وحل المحرمات العامة لهم
بطلان هذا القول من وجوه والرد عليهم في ذلك
وضلالهم من وجوه
منها : ظنهم أن الكمال في مجرد العلم
والثاني : ظنهم أن ما حصل لهم علم
والثالث : ظنهم أن ذلك العلم هو الذي يكمل النفس
الوجه الأول
وكل من هذه المقدمات كاذبة فليس كمال النفس في مجرد العلم ولا في أن تصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود بل لا بد لها من العمل وهو حب الله وعبادته فإن النفس لها قوتان : علمية وعملية فلا تصلح إلا بصلاح الأمرين ن وهو أن تعرف الله وتعبده
والجهمية هم خير من هؤلاء بكثير ومع هذا فلما قال جهم ومن واقفه : إن الإيمان مجرد المعرفة أنكر ذلك أئمة الإسلام ن حتى كفر من قال بهذا القول وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما
وهذا القول : وإن كان قد تابعه عليه الصالحي والأشعري في كثير من واكثر أصحابه فهو من أفسد الاقوال وابعدها عن الصحة كما قد بيناه في غير هذا الموضع لما بينا الكلام في مسمى الأيمان وقبوله للزيادة والنقصان وما للناس في ذلك من النزاع
الوجه الثاني
وأما المقدمة الثانية : فلو كان كمال النفس في مجرد العلم فليس هو أي علم كان بأي معلوم كان بل هو الذي لا بد منه : العلم بالله وهؤلاء ظنوا أنه العلم بالوجود بما هوموجود وظنوا أن العالم أبدي ازلي فإذا حصل له العلم بالوجود الازلي الأبدي كملت نفسه
وعلى هذا بنى أبو يعقوب السجستاني وغيره من شيوخ الفلسفة والباطنية أقوالهم وكذلك أمثالهم من الفلاسفة كالفارابي وغيره وابن سينا وإن كان أقرب إلى الإسلام منهم ففيه من الإلحاد بحسبه وأبو حامد وإن سلك أحيانا مسلكهم لكنه لا يجعل العلم بمجرد الوجود موجبا للسعادة بل يجعل ذلك في العلم بالله وقد يقول في بعض كتبه : إنه العلم بالأمور الباقية وهذا كلامهم
فمن قال : إن العالم أزلي أبدي قال بقولهم ومن قال : إن كل ما سوى الله كان معدوما ثم وجد لم يلزمه ذلك وابن عربي وابن سبعين ونحوهما جمعوا بين المسلكين فصاروا يجعلون كمال النفس هو العلم بالوجود المطلق إن الله هو الوجود المطلق فأخذوا من طريقة الصوفية : أنه العلم بالله واخذوا من كلام هؤلاء : أنه العلم بالوجود المطلق وجمعوا بينهما فقالوا : إن الله هو الوجود المطلق
الوجه الثالث
وأما المقدمة الثالثة : فزعمهم أنهم حصل لهم العلم بالوجود وهذا باطل فغن كلامهم في الإلهيات مع قلته فالضلال أغلب عليه من الهدى ن والجهل أكثر فيه من العلم وهي العلوم التي تبقى معلوماتها وتكمل النفوس بها عندهم
وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع ولكن نبهنا عليه هنا لأن مثل هذا الآمدي وأمثاله الذين عضموا طريقهم وصدروا كتبهم التي صنفوها في أصول دين الإسلام بزعمهم بما هو أصل هؤلاء الجهال : من أن كمال النفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات وهي الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات وسلكوا طرقهم وقعوا في الجهل والحيرة والشك بما لا تحصل النجاة إلا به ولا تنال السعادة إلا بمعرفته فضلا عن نيل الكمال الذي هو فوق ذلك فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كمل من الرجال كثير ] فالكاملون من الرجال كثير ولكن الذين سلكوا طريق هؤلاء من أبعد الناس عن الكمال
تقرير الآمدي لطريقة المتأخرين في إثبات واجب الوجود
والمقصود هنا الكلام على مسلكه هؤلاء المتأخرين في تقرير واجب الوجود والآمدي قد قررها في أبكار الأفكار وأورد سؤالا على بعض مقدماتها في رموز الكنوز قد ذكرنا سؤاله وجوابه
وأما تقريره لها فقال في تقرير هذه الحجة : النظر إلى الجملة غير إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد وعند ذلك فالجملة موجودة فإما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة كما تقدم وإن كانت ممكنه فلا بد لها من مرجح والمرجح إما داخل فيها وإما خارج عنها فإن كان داخلا فيها فالمرجح للجملة مرجح لآحادها فيلزم أن يكون مرجحا لنفسه لكونه من الآحاد فيلزم أن يكون علة لنفسه معلولا لها وإن كان خارجا عنها لم يكن ممكنا لأنه من الجملة فيكون واجبا
ثم أورد على ذلك قول السائل لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي مع إشعاره بالحصر صحته في غير المتناهي سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهي وانه ممكن لكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وحينئذ فلا يلزم أن يكون معللا بغير علة الآحاد سلمنا انه زائد على الآحاد ولكن ما المانع أن يكون مترجحا بآحاده الداخلة فيه لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجيحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير النهاية وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ولا أن يكون المرجح للجملة مرجحا لنفسه ولا لعلته
ثم قال في الجواب قولهم لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي قلنا مسمى الجملة هو ما وصفتموه بكونه غير متناه ولا شك أنه غير كل واحد من الآحاد إذ كل واحد من الآحاد متناه الموصوف بما لا يتناهي هو الأعداد المفروضة بحيث لا يخرج عنها واحد قولهم لا نسلم ان مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية
قلنا إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب
ولقائل أن يقول يريدون بالجملة كل الآحاد لا كل واحد منها زلا يسلمون أن كل الآحاد أمر مغاير للآحاد المتعاقبة
قولهم ما المانع من أن تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه
قلنا إما ان يقال تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها أو بواحد منها فإن كان يوجد منها فالمحال الذي ألزمناه حاصل وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول الحجة المذكورة لا تحتاج إلى إثبات كون الجملة غير الآحاد وإن كان ذلك حقا فإنه يقال لمن قال لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناه لا يخلو إما أن يكون هنا جملة غير الآحاد وإما أن لا يكون 0 فإن كان بطل سؤال وإن لم يكن كان ذلك أبلغ في الحجة فإن كل واحد من الآحاد ممكن وليس هنا جملة يمكن أن تكون واجبة فكل من الممكنات يمتنع أن يوجد بنفسه أو بممكن آخر كامتناع وجود الجملة الممكنة بكل من الممكنات
وقد أورد هو هذا السؤال فكان فيه كفاية من ان يقرر أمورا إذا حذفها كان أبلغ في الحجة وأقوى لها
وكذلك السؤال الثاني وهو قوله سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وانه ممكن لكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة فلا يكون معللا بغير علة الآحاد فإن هذا السؤال هو نظير الأول بل هو هو مع تغير العبارة فإن من نفي وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي لم ينازع في وجود كل واحد واحد من الآحاد المتعاقبة فإذا سلم مفهوم الجملة فيما لا يتناهي وفسر ذلك بالآحاد المتعاقبة كان باقيا على منعه الأول 0 لكن من الناس من يقول الجملة لا تعقل إلا في المتناهي ومنهم من قد ينازع في الجملة هل لها حقيقة غير كل واحد من الآحاد فلهذا جعلهما سؤالين
وبكل حال فالسؤال إن كان متوجها كان ذلك أقوى في الحجة وغن لم يكن متوجها لم يرد بحال وذلك انه لم يكن للجملة حقيقة غير كل واحد واحد لم يكن هنا مجموع نحتاج أن نصفه بوجوب أو إمكان غير كل واحد واحد وتلك كلها ممكنة فتكون الحجة على هذا التقدير أقل مقدمات فإنه إذا كانت الجملة غير الآحاد احتيج إلى نفي وجوبها بنفسها أو بالآحاد أما إذا قدر انتفاء ذلك لم يحتج إلى ذلك فلا يحتاج إلى نفي الوجوب عنها لا بنفسها ولا بالآحاد
ولهذا قال في الاعتراض إذا لم تكن الجملة غير الآحاد لم يلزم ان تكون معللة بغير علة الآحاد
وهذا مما يقوي الحجة فإنها إذا لم تكن معللة بغير علة الآحاد ومعلوم أنه لا بد من إثبات علة الآحاد فذلك وحده كاف بخلاف ما إذا كانت غير الآحاد فإنه يحتاج إلى نفي وجوبها بنفسها أو الآحاد
وهذا هو السؤال الثالث وهو قوله ما المانع أن يكون المجموع وهو الجملة مترجحا بآحاده الداخلة فيه لا بواحد منها بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه بترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير نهاية
وقد أجاب عن هذا بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه وهو محال
وهذا السؤال هو الذي ذكره في كتابه الآخر وذكر أنه لا يعرف له جوابا حيث قال ما المانع من ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير نهاية
قال وهذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله
والجواب الذي ذكر عنه إنما يستقيم إذا أرادوا بالجملة كل واحد واحد من الأجزاء ولم يجعلوا للاجتماع قدرا زائدا وجعلوا الاجتماع جزءا فإنه حينئذ يقال الجملة هي الآحاد فأما إذا أريد بالجملة الاجتماع وهو الهيئة الاجتماعية وأن ترجحها بالآحاد المتعاقبة لم يكن الجواب صحيحا
وهذا هو الذي استشكله في كتابه الآخر وحينئذ يكون السؤال لم لا يجوز ترجح الاجتماع بالآحاد المجتمعة وترجح كل واحد بالآخر وليس الجملة هو الآحاد المتعاقبة كما تقدم بل هو الهيئة الاجتماعية ولكن يمكن تقرير هذا الجواب إذا جعلت الهيئة الاجتماعية جزءا من أجزاء الجملة وهذا أمر اصطلاحي فإن المجموع المركب من أجزاء قد يجعل نفس الاجتماع ليس جزءا من المجموع وقد يجعل جزءا من المجموع فإذا جعل الاجتماع جزءا من المجموع كان تقرير السؤال أن هذا الجزء معلل بسائر الأجزاء وترجح كل جزء بالآخر وترجح جزء ممكن بجزء ممكن كترجح جزء ممكن بأجزاء ممكنة وحينئذ فإجابته بقوله مجموع الآحاد نفس الجملة المفروضة وفيه ترجح الشيء بنفسه ليس بجواب مطابق فإنهم لم يدعوا ترجح المجموع بالمجموع بل ترجح الاجتماع بكل واحد واحد من الأجزاء المتعاقبة والاجتماع وإن كان جزءا فليس هو من الأجزاء المتعاقبة لكن هذا فيه ترجيح بعض الأجزاء ببعض فهو كتعليل بعض الممكنات ببعض فيعود الأمر ويقال فالجموع هو واجب بنفسه أو ممكن معلول لنفسه أو معلول ببعضه أو بخارج عنه كما تقدم تقرير ابن سينا لحجته
وقد تقدم أن المجموع إما أن لا يكون له علة بل هو واجب بنفسه وهذا باطل كما تقدم وإما أن يكون له علة وهو المجموع أو بعضه أو ما هو خارج عنه كما يقال نظير ذلك في دلالة المطابقة والتضمن والالتزام
فلهذا قال في القسم الثاني وأما أن يقتضي المجموع علة هي الآحاد باسرها فتكون معلولة لذاتها فإن تلك الجملة والكل شيء واحد واما الكل بمعنى كل واحد فليس تجب به الجملة
يقول إن كان المقتضي للمجموع هي الآحاد بأسرها بحيث تدخل فيها الهيئة الاجتماعية لزم أن تكون الجملة الممكنة معلولة لذاتها فإن الجملة والكل والمجموع شيء واحد بخلاف ما إذا أريد باكل كل واحد واحد فإن الجملة لا تجب بكل واحد واحد إنما تجب بمجموع الآحاد كالعشرة لا تحصل بكل فرد فرد من أفرادها وكذلك سائر المركبات وإنما يحصل المركب بمجموع اجزائه التي من جملتها الهيئة الاجتماعية إن جعلت الهيئة الاجتماعية امرا وجوديا وإن لم تجعل كذلك لم يحتج إلى هذا بل يقال المجموع هو الآحاد بأسرها وليس هنا غير الآحاد
ولعل ابن سينا أراد هذا ولهذا أوردوا عليه تلك الأسولة وهو أن المجموع مغاير للآحاد وأنه يجوز أن يجب المجموع بالآحاد المتعاقبة ونحو ذلك مما تقدم
وأما القسم الثالث وهو أن يكون للمجموع علة هي بعضه فهذا قد أبطله بقول ليس بعض الآحاد أولى بذلك من بعض إن كان كل واحد منها معلولا ولأن علته اولى بذلك
وهذان وجهان في تقرير ذلك أحدهما أن كل جزء من الأجزاء إذا كان ممكنا ومن ذلك الهيئة الاجتماعية فليس وجوب المجموع بهذا الجزء بأولى من هذا لأنه متوقف على كل جزء جزء منها
والثاني أن كل واحد من تلك الأجزاء معلول لغيره فعلته أولى أن تكون هي الموجبة للجميع منه سواء قيل : إن علة المجموع واحد معين أو واحد منها غير معين واما إذا قيل : كل واحد واحد فذلك أبعد لأنه يقتضي اجتماع مؤثرين مستقلين على أثر واحد وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء
فإن قيل : إذا كان المجموع هو الأجزاء ونفس الاجتماع فهذا لا يفتقر إلى شيء منفصل
قيل : هذا هو القول بوجوب ذلك بنفسه وقد تقدم إبطاله فإنه يكون كل جزء ممكنا بنفسه والاجتماع ممكن بنفسه ولم يكن هنا ما يغاير ذلك حتى يقال : هو واجب بنفسه فلا يمكن أن يكون هنا ما هو واجب بنفسه
وقد أبطل غيره هذا القسم بوجهين : أحدهما ذكره الرازي والآمدي : أن ما كان سبب المجموع كان سبب كل واحد من أجزاء ذلك المجموع فلو قدر جزء من أجزاء المجموع سببا لزم كزن الجزء سببا لنفسه فيلزم كون الممكن علة معلولا وأيضا فذلك الجزء معلول فإذا كان هو مرجحا للمجموع كان مرجحا لعلته فيكون علة لعلته
فصل
ولم يذكر أن سينا ولا غيره في إثبات واجب الوجود قطع الدور كما لم يذكر الجمهور قطع التسلسل لظهور فساده وقد ذكرنا غير مرة أن المقدمة إذا كانت معلومة مثل علمنا بأن المحدث لا بد له من محدث بل مثل علمنا أن هذا المحدث له محدث كان العلم بها كافيا في المطلوب وأن ما يرد على الأمور المعلومة هو من جنس شبه السوفسطائية التي لا نهاية لها فيجب الفرق بين ما يكون من المقدمات خفيا على أكثر الناس يحتاج إلى بيان وما يكون معلوما لأكثر والشبة الواردة عليه من جنس شبه السوفسطائية
ولما كان أهل الكلام كثيرا ما يوردون يورد عليهم ما هو من جنس شبه السوفسطائية كما يورده الكفار الذين يجادلون بالباطل ليد حضوا به الحق لم يكن لهذا حد محدود ولا عد معدود بل هو بحسب ما يخطر للقلوب فلهذا صار كلما طال الزمان أورد المتأخرون أسولة سوفسطائية لم يذكره المتقدمون
وزاد المتأخرون مقدمة في الدليل لدفع ذلك السؤال فزادوا أولا : أن المحدث لا يختص بوقت دون وقت إلا بمخصص والأوقات متماثلة والأمور المتماثلة يمتنع اختصاص بعضها دون بعض إلا بمخصص منفصل
ثم زادوا بعد هذا : ان التخصيص ممكن والممكن لا يترجح ودوده على عدمه إذ لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وزادوا أن المرجحات يمتنع تسلسلها كما تقدم ثم زادوا بعد هذا قطع الدور
وكذلك ابن سينا لم يذكر في برهانه أن الممكن لا يوجد من نفسه فلا بد أن يوجد بغيره فقال الرازي لا يلزم من صحة قولنا ليس الممكن موجودا من ذاته صحة قولنا : إنه موجود بغيره لأن بين القسمين واسطة وهي أن لا يكون وجوده من شيء أصلا لا من ذاته ولا من غيره وإذا كان كذلك لم يتم البرهان إلا بذكر هذا القسم وإبطاله : إما بادعاء الضرورة في فساده أو بذكر البرهان على فساده
قال وهو لم يفعل شيئا من ذلك
فيقال له كون وجود الشيء لا من نفسه ولا من غيره هو مما يعلم فساده بالضرورة والأمور المعلومة الفساد بالضرورة لا يجب على كل مستدل تقديرها ونفيها فإن هذا لا غاية له وإنما يذكر الإنسان من ذلك ما قد قيل أو خطر بالبال فأما الذهن والصحيح الذي يعلم بالضرورة فساد مثل هذا التقدير فهو لا يورده على نفسه ولا يورده عليه غيره وإنما يقع الإيراد عند الشك والاشتباه فإن قدر من الناس من يشك ف يهذا احتاج مثل هذا إلى البيان وقد قلنا إن الأسولة السوفسطائية ليس لها حد محدود ولا عد معدود
وهذا نظير قول القائل : إن المحدث الذي كان بعد أن لم يكن لم يحدث نفسه وهذا كله من العلوم البديهية الضرورية الفطرية التي هي من أبين الأمور عند العقلاء
ولو احتاج المستدل أن يذكر من الأقسام ما يخطر ببال كل أحد وإن كان فساده معلوما بالضرورة لقال : الممكن إذا لم يوجد بنفسه فإما أن يوجد بموجد او بغير موجد وإذا وجد بموجد فلذلك الموجد إما أن يوجده وهو معدوم أو يوجده وهو موجود
ثم يريد أن يبطل الثاني بأن الموجد لا يوجد وهو معدوم كما فعل ذلك طائفة من أهل الكلام وإذا أراد أن يبطل ذلك قال : والمعدوم لا يكون موجدا لأن العدم لا يتميز فيه شيء عن شيء والموجد لا بد أن يتميز عن غيره وإذا قيل : المعدوم يتميز فيه شيء عن شيء على قول من يقول : المعدوم شيء تبين أن المعدم ليس بشيء فيكون إثبات وجود الصانع موقوفا على إبطال قول هؤلاء كما فعل ذلك طائفة من أهل الكلام
ومن المعلوم ان إبطال هذا أدق من إبطال كون الشيء الذي لا يكون وجوده من نفسه يكون موجودا لا بنفسه ولا بغيره إذ كان من المعلوم البين لكل أحد أن ما لم يوجد بنفسه فلا بد ان يكون وجوده بغيره وأما تقدير موجود لم يوجد بنفسه ولا بغيره فهو ممتنع فإنه لا يعني بكونه موجودا بنفسه أن نفسه أوجدته إذ كان هذا معلوم الامتناع بل يعني أنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره بل وجوده واجب بنفسه فهو موجودا أزلا وأبدا فظهور صحة هذا الكلام وبطلان نقيضه أبين مما يستدل به عليه بل يمكن هنا إيراد أسولة أخرى يطول بها الكلام
وقال الرازي أيضا : قد كان الواجب على ابن سينا أن يتكلم قبل هذا الفصل في بيان أن سبب الممكن لا يكون مقدما عليه تقدما زمانيا فإنه لو جاز ذلك لما امتنع إسناد كل ممكن إلى آخر قبله لا إلى أول وذلك عنده غير ممتنع فكيف يمكن إبطاله لإثبات واجب الوجود وأما إذا قامت الدلالة على أن السبب لا بد من وجوده مع المسبب فحينئذ لو حصل التسلسل لكانت تلك الأسباب والمسببات بأسرها حاضرة معا وذلك عنده محال
والبرهان الذي ذكره في إبطال التسلسل أيضا مختص بهذه الصورة فكان الأولى تقديم الكلام في هذه المسألة لكن لما كان في عزمه أن يذكره في موضع آخر وهو النمط الخامس من هذا الكتاب لا جرم تساهل فيه ههنا
قلت : مثل هذا الكلام هو الذي أوجب أن يدخل هذا القسم من أدخله ف يهذا الدليل كالآمدي وغيره ولا حاجة إليه بل ما ذكره ابن سينا كاف
والدليل الذي ذكره على إبطال التسلسل في العلل يوجب إبطال علل متسلسلة سواء قدرت مجتمعة أولا كما قد تبين من كلامه وهو لا يجوز عللا متسلسلة لا متعاقبة ولا غير متعاقبة وإنما يجوز حوادث متسلسة وتلك عنده شروط لحدوث الحوادث لا علل ولا أساب بمعنى العلل ولا يجوز عنده إسناد كل ممكن إلى ممكن قبله أصلا ولكن يجوز ان يكون وجوده مشروطا بوجود ممكن قبله وبين العلة والشرط فرق معروف
ومن هنا دخل الغلط على الرازي ف يهذا الاعتراض ولهذا كان سائر من تكلم في إبطال العلل المتسلسلة لم يحتج إلى ذكر هذا القسم أصلا ولا يقولون إن الممكن أو الحادث الذي يوجد قبل الممكن أو الحادث هو علة أيضا ولا هو مستند وجوده وإنما يقولون هو شرط فيه
وأيضا فإسناد كل ممكن إلى آخر قبله إما أن يراد به أنه يستند إلى أخر موجود قبله فيستمر الوجود إلى حين وجود الممكن المفعول وإما أن يراد به إلى آخر يكون موجودا قبله ويعدم قبله
فإن أريد الأول فمعلوم أنه بطل إسناده إلى ممكن موجود مع وجوده كان هذا متناولا لما يوجد مع ذلك قبل وجوده ولما لم يوجد إلا عند وجوده فلا حاجة إلى تخصيص ما وجد قبل وجوده بالذكر كما لا يحتاج إلى تخصيص ما يبقى بعد وجوده بالذكر إذ الدليل يتناول كل ما كان موجودا عند وجوده سواء وجد قبل ذلك أيضا أو بعد ذلك أيضا أو لم يكن موجودا حين وجوده
وأما إن أريد أستناده إلى الآخر يكون موجودا قبله ويعدم أيضا قبله وهذا هو الذي أراده الرازي لم يحتج أيضا إلى هذا لوجوه :
أحدهما : أنه إذا بطل إسناده إلى ممكن موجود حال وجوده فبطلان إسناده إلى ممكن يعدم حين وجوده أولى وأحرى فإذا قام الدليل على بطلان تسلسل العلل الممكنة مع كونها معا في الوجود فبطلان التسلسل مع تعاقبها أظهر وأجلى
الثاني : أن الدليل الدال على بطلان التسلسل في العلل هو دليل مطلق عام سواء قدرت متقارنة أو متعاقبة فإن جميع ما ذكر من الأدلة الدالة على أن مجموع الممكنات مفتقرة إلى أمر خارج عنها يتناول جميع الأنواع التي يقدرها سواء قدر أنها متسلسلة على سبيل الاقتران أو على سبيل التعاقب وسواء قدرت مع التعاقب بعدم الأول عند وجود الثاني أو يبقى بعد وجوده إلا مع وجوده لا سابقا ولا لاحقا وكذلك إذا قدرت مع الاقتران لا يكون بعضها قبل بعض ولا بعده و يوجد بعضها قبل بعض أو بعده فمهما قدر من التقديرات التي تخطر بالبال في تسلسل المؤثرات فما ذكر من الأدلة يبطل ذلك كله ويبين امتناعه فتبين أن ما ذكره ابن سينا كاف في ذلك لا يحتاج إلى الزيادة التي زادها الرازي و الآمدي
الثالث : أنه إذ كانت الممكنات محتاجة إلى خارج عنها ليس بممكن بل هو واجب الوجود بنفسه فذلك يمتنع عدمه ويجب وجوده فكان نفسه إثبات واجب الوجود كافيا في أنه يستمر الوجود حال وجود الممكن لا يحتاج إلى ذلك الواجب
الرابع : أن ما ذكروه من الممكن يفتقر إلى الواجب وإنما لا يكون افتقاره إليه مختصا ببعض الأزمنة أن الواجب
وقال الرازي أيضا لما شرح طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود وأبطل التسلسل قد بقي هنا كلام آخر وهو إبطال الدور وهو أن يكون هذا يترجح بذاك وذاك يترجح بهذا
قال واعلم أن الدور باطل والمعتمد في إبطاله أن يقال العلة متقدمة على المعلول ولو كان كل منهما علة للآخر لكان كل منهما متقدما على الآخر فيكون كل منهما متقدما على المتقدم على نفسه فيلزم تقدم كل منهم على نفسه وهو محال
وأورد على هذا ما مضمونه أن التقدم أن كان غير كون أحدهما علة للآخر فلا نسلم الأولى وإن كان هو كون أحدهما علة للآخر كان اللازم هو الملزوم فيكون المعنى لو كان أحدهما علة للآخر لكان للآخر
ثم قال والإنصاف أن الدور معلوم البطلان بالضرورة ولعل الشيخ إنما تركه لذلك
قلت : هذا هو الصواب فإن بطلان الدور معلوم بالضرورة ولأجل هذا لا يخطر لأكثر العقلاء حتى يحتاجوا إلى نفيه عن قلوبهم كما لا يخطر لهم أن الفاعل للموجودات يكون معدوما ولا يخطر لهم أن الشيء يحدث أو يكون لا بنفسه ولا بغيره بل ولا يخطر لهم أنه يمكن أن يكون مفعولات متعاقبة لا فاعل لها وهو تسلسل العلل فيكون معلول مفعول لمعلول مفعول والمعلول معلول لمفعول آخر لا إلى نهاية فأكثر الذهان الصحيحة لا يخطر لها إمكان هذا حتى تحتاج إلى نفيه وكذلك لا يخطر لها أنه يمكن وجود شيئين كل منهما فعل الآخر بل هم يعلمون أن الشيء لا يفعل نفسه فكيف يفعل فاعل نفسه ؟
وقول القائل إنه لو كان كل منهما فاعلا للآخر أو مؤثرا في الآخر أو علة في الآخر لكان كل منهما قبل الآخر كلام صحيح
وأما قول المعترض : إن أريد بالتقدم تقدم العلة على المعلول فاللازم هو الملزوم وأن أريد غيره فإنه ممنوع
فهذا عنه جوابان أحدهما ان يراد به التقدم المعقول في فطر الناس من تقدم الفاعل على المفعول وهو كونه قبله بالزمان أو تقدير الزمان وعلى هذا جمهور العقلاء
بل قد يقولون هذا معلوم بالضرورة وهو كون الفاعل سابقا متقدما على مفعوله وإنه يمتنع أن يكون متساويين في زمان الوجود
وهذا مما يستدل به على أن كل ما سوى الله حادث ليس في الموجودات ما يقارن الخالق ويكون معه بالزمان ولا يعرف ف يالوجود مفعول معين قارن فاعله في زمانه أصلا وإنما يعرف هذا في الشرط والمشروط فإن الشرط قد يقارن المشروط فلا يوجد قبله وقد يوجد قبله لكن لا بد من وجوده معه كما أن الحياة إذا كانت شرطا في العلم والإرادة أمكن أن تكون متقارنة في صفات الله تعالى فإن حياته وعلمه معا لم يسبق أحدهما الآخر والعلم مشروط بالحياة وكذلك الذات مع الصفات اللازمة : لا يوجد أحدهما قبل الآخر بل هما متلازمان ولا يوجد أحدهما إلا مع الآخر
وقد يكون الشرط سابقا للمشروط كالأعراض التي لا توجد إلا بمحل وقد يكون المحل موجودا قبل وجود الأعراض وكما في أفعال الله الحادثة فإنها مشروطة بوجود ذاته وذاته متقدمة عليها
وما ذكره من ذكره من أهل الفلسفة والكلام في مسألة حدوث العالم وغيرها من أن التقدم ينقسم إلى تقدم بالذات والعلية وقد يسمى الأول تقدما بالعلية والثاني تقدما بالذات كتقدم العلة على المعلول وتقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين
وفرقوا بينهما بأنه في الأول يكون المتقدم فاعلا للمتأخر وفي الثاني يكون شرطا فيه ومثلوا الأول بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم والكم فإنك تقول : تحركت يدي فتحرك الخاتم فيها فزمانهما واحد مع العلم بأن الأول متقدم على الثاني وينقسم إلى التقدم بالزمان وبالرتبة الحسية أو العقلية
وزاد طائفة منهم الشهرستاني والرازي ومت اتبعهما تقدما آخر يمطلق الوجود وجعلوا التقدم بعض أجزاء الزمان على بعض منه فيجيب عنه من يوافق جمهور العقلاء بأن التقدم المعقول إنما هو التقدم بالزمان أو تقدير الزمان على النزاع المعروف في هذا الموضع
وأما التقدم بالمكان والمرتبة فهو تابع لهذا لما كان المتقدم في المكان يتحرك قبل حركة المتأخر كتحرك الإمام قبل المأموم والأمير قبل المأمور
وأما التقدم بالعلية فإن عني به هذا وإلا فلا حقيقة له فلا تعقل علة تامة تكون هي بسائر أجزائها مقارنة لمعلولها أصلا
وقول القائل : تحركت يدي فتحرك الخاتم ليس هو من تقدم الفاعل على المفعول فإن حركة اليد ليست هي الفاعل لحركة الخاتم لكن هي شرط قيها فلا ترجد حركة الخاتم التابعة لحركة اليد إلا بشرط وجود حركة اليد التي هي متبوعة كما أن حركة الأصابع لا توجد إلا بحركة الكف
فإن قيل : الحركتان معا في الزمان فالفاعل لهذه هو الفاعل للأخرى وهو متقدم عليهما جميعا
وإن قيل : بل إحداهما عقب الآخرى في الزمان كأجزاء الزمان المتلاحقة بطل قول القائل : إنهما معا في الزمان
وكثيرا ما يشتبه على الناس الوجود مع الشيء بالوجود عقبه بل يطلقون لفظ المع على المعاقب له ويقولون : جاءا معا وإن كان مجيء أحدهما معاقبا للآخر إذا لم يكن بينهما فصل بل يطلقون ذلك مع قرب الآخر فالحادثات إذا كان زمانهما واحدا أو حدث أحدهما عقب حدوث الآخر بلا فصل كأجزاء الحركة والزمان لم يميز أكثر الناس بين هذا وهذا بالحس
وحينئذ فقول القائل : تحركت يدي فتحرك كمي
يقال له : لم لا يجوز ان يكون هذا مع هذا كاجزاء الحركة والزمان بعضها مع بعض والحركة تحدث شيئا فشيئا من الفاعل والقابل فمن حرك سلسلة أو حبلا معلق الطرفين فإنه إذا حرك أحد الطرفين تحرك شيئا فشيئا حتى تنتهي الحركة إلى الطرف الآخر وهي متعاقبة كتعاقب زمان تلك الحركة في أحدهما أسبق من الآخر مثل البدن إذا تحرك منتقلا فإن أجزاء البدن تتحرك في آن واحد لا يسبق بعهضا بعضا إلا ما تقدم من الحركة كما تتقدم إحدى الرجلين على الآخرى بخلاف خرزات الظهر المتصلة تتصل حركتها فإذا حركت يده تحركت جميع أجزائها وما فيها كالخاتم وما يتصل بها كالكم فيكون حكمها حكم الجسم المتصل إذا تحرك والحركة المنفصلة عن أخرى كحركة الرجل قبل الرجل يشهد فيها التقدم بالزمان لوجود المنفصل وأما مع الأتصال فقد يشتبه المتصل بالمقارن وحينئذ فأي حركة كانت من قبل المتصل فهي متصلة بما قبلها كاتصال أجزاء زمان الحركة فليس هناك اقتران في الزمان
وإذا قيل في حركة الكم : إن زمانها حركة اليد كما يقال مثل ذلك في سائر المتحركات معا بالزمان فهنا لا نسلم أن إحدى الحركتين فاعلة للآخرى بل غايتها أن تكون شرطا فيها والشرط يجوز أن يقارن المشروط بخلاف الفاعل فإنه لا بد أن يتقدم على الفعل المفعول المعين وإن قدر أن نوع الفعل لازم له كما ؟ إذا قدر قديم أزلي متحرك لم يزل متحركا فإنه سيتقدم على كل جزء من أجزاء الحركة لم يقارن وجود ذاته شيء من أجزاء الحركة وإن كان نوع الحركة لازما له فمن حوز وجود جسم قديم لم يزل متحركا لا يقول : إن شيئا معينا من الحركة قديم أزلي بل يقول : نوع الحركة أزلي وإن كان كل منها حادثا كائنا بعد ان لم يكن مسبوقا بالعدم
والمتفلسفة القائلون بقدم شيء من العالم لا دليل لهم على ذلك أصلا بل غاية ما عندهم إثبات قدم نوع الفعل وقدم نوع الفعل لا يستلزم قدم فعل معين ولا مفعول معين بل ذلك ممتنع
الرد على قولهم
وقول القائل : العلة متقدمة على المعلول وإن قارنته بالزمان وجعله الباري مع العالم بهذه المنزلة
الوجه الأول
يقال له إن أردت بالعلة ما هو شرط في وجود المعلول لا مبدعا له كان حقيقة قولك : إن واجب الوجود ليس هو مبدعا للمكنات ولا ربا لها بل وجوده شرط في وجودها وهذا حقيقة قول هؤلاء فالرب على أصلهم والعالم متلازمان كل منهما شرط في الآخر والرب محتاج إلى العالم كما أن العالم محتاج إلى الرب وهم يبالغون في إثبات غناه عن غيره وعلى أصلهم فقره إلى غيره كفقر بعض المخلوقات
وغاية المتخذلق منهم كأرسطو أن يجعل الفلك واجب الوجود لا يقبل العدم مع كونه مفتقرا إلى المبدأ الأول لأجل التشبيه به ويجعل المبدأ الأول غنيا عما سواه لكن من التناقض أن يقول : إن واجب الوجود مفتقر إلى غيره وأيضا فالأزلي الذي يثبته لا حقيقة له كما قد بسط في موضع آخر
وإن أراد بالعلة ما هو مبدع للمعلول له فهذا لا يعقل مع كون زمانه المعلول لم يتقدم على المعلول تقدما حقيقا وهو التقدم المعقول
وإذا شبهوا وجود الفلك مع الرب بالصوت مع الحركة والضوء مع الشمس كان هذا ونحوه تشبيها باطلا لا يفيد إمكان صحة قولهم فضلا عن إثبات صحته فإن هذه الأمور وأمثالها إما أن يقال فيها : إن الثاني موجود متصل بالأول كأجزاء الزمان والحركة لا أنه معه في الزمان وإما أن يقال الثاني مشروط بالأول لا أن الأول مبدع للثاني فاعل له فلا يمكنهم ان يذكروا وجود فاعل لغيره مع أن زمانهما معا أصلا
ونحن ذكرنا هذا التقسيم لئلا يكون الجواب مبنيا على أمور دقيقة يختص بفهمها بعض الناس فإن الجواب كلما كان أظهر واتفاق العقلاء عليه أكثر كان أولى بالذكر من غيره إذ المقصود بيان الحق وإبطال الباطل وألا فيمكن بسط الكلام في هذا وأن يقال السبب لا بد أن يتقدم على مسببه بالزمان وأن الفاء المستعلمة في هذا هي فاء التعقيب
فقول القائل : تحركت يدي فتحرك كمي يدل على أن الثاني عقب الأول ويقال إن فاء التسبب تتضمن التعقيب من غير عكس فكل مسبب فإنه يكون بعد سببه فليس كل ما كان عقب غيره يكون مسببا عنه بل قد يكونان مسببين لسبب آخر وإن كان شرطا فيه
ثم الكلام في هذا ينجر إلى الفرق بين السبب وجزئه والشرط وليس هذا موضع استقصائه فإن المقصود حاصل بدون ذلك وإنما المقصود هنا أن تقدم العلة الفاعلة على المعلول المفعول أمر معقول عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين وإنما يجوز كون المفعول المعلول مقارنا لفاعله طائفة قليلة من الناس كابن سينا والرازي ونحوهما
وقد زعم الرازي في محصله وغيره أن المتكلمين والفلاسفة يجوزون وجود الممكن القديم عن موجب بالذات وهي العلة القديمة لكن المتكلمون يقولون إنه فاعل بالاختيار فلهذا يمنعون قدم شيء من الممكنات والمتفلسفة يقولون إنه غير فاعل بالاختيار فلهذا قالوا بقدم معلوله وهذا الذي قاله غلط على الطائفتين جميعا كما قد بسطناه في موضع آخر
فالمتكلمون الذين يقولون بامتناع مفعول قديم يقولون إن ذلك ممتنع على أي وجه قدر فاعله ويقولون : كون الرب فاعلا بغير الاختيار ممتنع أيضا وليس امتناع أحدهما مشروطا بالعلم بامتناع الآخر
والفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك لهم قولان في العلة الأولى : هل هي فاعلة بالاختيار أو موجبة بلا اختيار ؟
وقد ذكر القولين عنهم أبو البركات صاحب المعتبر وغيره وهو يختار أنه فاعل بالاختيار مع قوله بقدم الفعل وليست مسألة القدم ملازمة لمسألة الفاعل بالاختيار لا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء كما ادعاه الرازي على الطائفتين وكذلك القول بإمكان معلول مفعول مقارن لفاعله هو قول بعض القائلين بقدم العالم لا قولهم كلهم ولا قول واحد من أتباع الرسل ولا ممن يقول بان اله خالق لما برأه محدث له وحينئذ فالقول بتقدم الفاعل على مفعوله تقدما مفعولا زمانيا وإما مقدرا تقدير الزمان قول جمهور العقلاء فهذا أحد الجوابين
الوجه الثاني
أن يقال : هب أنهم أرادوا بالتقدم تقدم العلة على المعلول من غير تقدم بالزمان ولا تقدير الزمان وكان اللازم هو الملزوم لكن الشيء الواحد إذا عبر عنه بعبارتين تدل كل منهما على وصف غير الوصف الآخر كان تعدد المعاني نافعا وإن كانت الذات واحدة ولهذا قد تعلم الذات بوصف ولا تعلم بوصف آخر فإذا كان ذات التقدم ذات العلة فليس المفهوم من نفس العلة هو المفهوم من نفس التقدم وإن كان متلازمين بل معنى العلة أنه اقتضاه وأوجبه ومعنى التقدم أنه قبله
وقد يفهم السبق والقبلية من لا يعلم أنه علة بعد فإذا قيل : لو كان علة قبله كان هذا صحيحا ثم العقل يجزم بأن الشيء لا يكون قبل نفسه فضلا عن أن يكون قبل ما هو قبل نفسه بأي وجه فسر معنى السبق والقبلية
وحينئذ فيستدل بهذا على ذلك من لم يفهم الامتناع من لفظ العلة وأما من فهم الامتناع من لفظ العلة كما عليه جمهور الفطر السليمة فلا يحتاج إلى هذا
ولكن كون الشيء دليلا على الشيء معناه أنه يلزم من ثبوته ثبوته والشيئان المتلازمان كل منهما يصلح أن يكون دليلا على الآخر ثم من شأن الإنسان أن يستدل بالظاهر على الخفي لكن الظهور والخفاء من الأمور النسبية فقد يظهر لهذا ما لا يظهر لهذا وقد ظهر للإنسان في وقت ما يخفي عليه في وقت آخر فلهذا أمكن أن يستدل بهذا على ذاك وبذاك على هذا إذا قدر إن هذا أظهر من ذاك تارة وذاك أظهر من هذا أخرى وإما بحسب شخصين وإما بحسب حالين
وهذه المعاني من تفطن لها انجلت عنه شبه كثيرة فيما يورده الناس على الحدود والأدلة التي قد يقال إنه لا فائدة فيها ولا حاجة إليها وذاك صحيح وقد يقال : بل ينتفع بها وهذا أيضا صحيح
لكن من حصر العلم بطريق عينه هو مثل واحد معين ودليل معين أخطأ كثيرا كما أن من قال : إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيرا وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر وقالوا : لا يحصل العلم إلا به مطلقا أخطأوا والذين قالوا : لا حاجة إليه بحال بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال أخطأوا بل المعرفة وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر والإنسان قد يستغني عنه في حال ويحتاج إليه ف يحال وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويتغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية والترجمة قد يحتاج إليها تارة وقد يستغنى عنها أخرى وهذا له نظائر
وكذلك كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى
وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم فهو الحق الذي لا يقبل النقيض ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا
ومن هنا يتبين لك أن الذين بنوا أمورهم على مقدمات إما ضرورية أو نظرية أو قطعية أو ظنية بنوها على أمور تقبل التغير والاستحالة فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وأما ما جاء به الرسول فهو حق لا يقبل النقيض بحال فهو صلى الله عليه و سلم يخبر بالحق كما قال أهل الجنة لما دخلوها : { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق } الأعراف 43 وقد قال تعالى : { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } البقرة 119 { وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } الأحزاب 46 وقال تعالى { أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون } المؤمنون 69 - 7 1
وقال تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم * والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم * ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } محمد 1 - 2 ومثل هذا كثير
فالرسول صلى الله عليه و سلم يخبر بالحق ويقيم عليه الأدلة العقلية البرهانية الموصلة إلى معرفته كالأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة
قال تعالى { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا } الإسراء 89 وقال تعالى { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } الكهف 54 إلى قوله تعالى { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا * ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا } الكهف 56 - 57
وقال تعالى : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } الزمر : 27
وهو سبحانه يجيب عن المعارضات كما قال تعالى { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } الفرقان 23 وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن الطريقة الشرعية تتضمن الخبر بالحق والتعريف بالطرق الموصلة إليه النافعة للخلق وأما الكلام على كل ما يخطر ببال كل أحد من الناس من الشبهات السوفسطائية فهذا لا يمكن أن يبينه خطاب على وجه التفصيل
والعلوم الفطرية الضرورية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها وقد يعرض للفطرة يفسدها ويمرضها فترى الحق باطلا كما في البدن إذا فسد أو مرض فإنه يجد الحلو مرا ويرى الواحد اثنين فهذا يعالج بما يزيل مرضه
والقرآن فيه شفاء لما في الصدور من الأمراض والنبي صلى اله عليه وسلم علم أن وسواس التسلسل في الفاعل يقع في النفوس وأنه معلوم الفساد بالضرورة فأمر عند وروده بالاستعاذة بالله منه والانتهاء عنه كما في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا الله خلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله ]
وفي لفظ آخر [ يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق السماء ؟ من خلق الأرض ؟ فيقول اله وزاد فليقل : آمنت بالله ورسله ] وفي لفظ آخر يقول : [ من خلق كذا ؟ من خلق كذا حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ] هذا لفظ البخاري أو نحوه
وفي مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ قال الله عز و جل : إن أمتك لا يزالون يقولون : ما كذا ؟ ما كذا ؟ حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله سبحانه ]
وفي البخاري عن أنس قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لن يبرح الناس يتساءلون : هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله ] وقد سئل بعض السالكين طريقة هؤلاء كالرازي ونحوه فقيل له : لم لم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم عند هذا الوسواس بالبرهان المبين لفساد التسلسل والدور بل أمر الاستعاذة ؟ فاجاب بأن مثل هذا مثل من عرض له كلب ينبح عليه ليؤذيه ويقطع طريقة فتارة يضربه بعصا وتارة يطلب من صاحب الكلب أن يزجره قال فالبرهان هو الطريق الأول وفيه صعوبة والاستعاذة بالله هو الثاني وهو أسهل
واعترض بعضهم على هذا الجواب بأن هذا يقتضي أن طريقة البرهان أقوى وأكمل وليس الأمر كذلك بل طريقة الاستعاذة أكمل وأقوى فإن دفع الله للوسواس عن القلب أكمل من دفع الإنسان ذلك عن نفسه
فيقال : السؤال باطل وكل من جوابيه مبني على الباطل فهو باطل وذلك أن هذا الكلام مبناه على أن هذه الأسئلة الواردة على النفس تندفع بطريقين أحدهما البرهان والآخر الاستعاذة وأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالاستعاذة وأن المبين لفساد الدور والتسلسل قطعه بطريق البرهان وأن طريقة البرهان تقطع الأسولة الواردة على النفس بدون ما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم وأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بطريقة البرهان
الطريقة النبوية إيمانية وبرهانية
وهذا خطأ من وجوه بل النبي صلى الله عليه و سلم أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها ودل على مجاميع البراهين التي يرجع إليها غاية نظر النظار ودل من البراهين على ما هو فوق استنباط النظار والذي أمر به في دفع هذا الوسواس هو الاستعاذة فقط بل أمر بالإيمان وأمر بالاستعاذة وأمر بالانتهاء ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به لا طريق غير ذلك
بيان ذلك من وجوه : الوجه الأول
أن يقال : البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية فإن كل علم ليس بضروري لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري إذ المقدمات النظرية لو أثبت بمقدمات نظرية دائما لزم الدور القبلي أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء وكلاهما باطل بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه فإن العلم النظري الكسبي هو ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر إذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية لتوقف على يغرها فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن والعلم الحاصل في قلبه حادث فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله للزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء فلا بد من علوم بديهية أوليه يبتدؤها الله في قلبه وغاية البرهان أن ينتهي إليها
ثم تلك العلوم الضرورية قد يعرض فيها شبهات ووساوس كالشبهات السوفسطائية مثل الشبهات التي يوردونها على العلوم الحسية ولا بديهية كالشبهات التي أوردها الرازي في أول محصلة وقد تكلمنا في غير هذا الموضع
والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث ولهذا كان من أنكرم العلوم الحسية والضرورية لم يناظر بل إذا كان جاحدا معاندا عوقب حتى يعترف بالحق وإن كان غالطا إما لفساد عرض لحسه او عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم وإما لنحو ذلك فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه فإن عجز عن ذلك لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية أو بالدعاء والرقي والتوجه ونحو ذلك وإلا ترك
ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادرا على النظر لم تمكن مخاطبتة بالنظر والاستدلال
وإذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تزال بالبرهان بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية
وهذا يزول بالاستعاذة بالله فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات المضلة والشهوات والمغوية ولهذا أمر العبد أن يستهدي ربه في كل صلاة فيقول { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } الفاتحة 6 - 7
وفي الحديث الإلهي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى [ يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ]
وقال تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } النحل 97
وقال تعالى { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } فصلت 36
وفي الصحيحين عن سليمان بن صردج قال ك استب رجلان عند النبي صلى الله عليه و سلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فأمر الله تعالى العبد أن يستعيذ من الشيطان عند القراءة وعند الغضب ليصرف عنه شره عند وجود سبب الخير وهو القراءة ليصرف عنه ما يمنع الخير وعند وجود سبب الشر ليمنع ذلك السبب الذي يحدثه عند ذلك ]
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامة وإن شاء أن يزيغه أزاغه
وكانت يمين النبي صلى الله عليه و سلم : لا ومقلب القلوب
وكان كثيرا ما يقول : والذي نفس محمد بيده
وفي الحديث : [ للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمع غليانا ]
وشواهد هذا الأصل كثيرة مع ما يعرفه كل أحد من حال نفسه من كثرة تقلب قلبه من الخواطر التي هي من جنس الاعتقادات ومن جنس الإرادات وفيها المحمود والمذموم والله هو القادر على صرف ذلك عنه فالاستعاذة بالله طريق مفضية إلى المقصود الذي لا يحصل بالنظر والاستدلال
الوجه الثاني
والوجه الثاني : ان يقال النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر بالاستعاذة وحدها بل أمر العبد أن ينتهي عن ذلك مع الاستعاذة إعلاما منه بان هذا السؤال هو نهاية الوسواس فيجب الانتهاء عنه
ليس هو من البدايات التي يزيلها ما بعده فإن النفس تطلب سبب كل حادث وأول كل شيء حتى تنتهي إلى الغاية والمنتهى
وقد قال الله تعالى { وأن إلى ربك المنتهى } النجن 42 وفي الدعاء المأثور الذي ذكره مالك في الموطأ حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وؤاء الله مرمى
وفي رواية : ليس وراء الله منتهى
فإذا وصل العبد إلى غاية الغايات ونهاية النهايات وجب وقوفه فإذا طلب بعد ذلك شيئا آخر وجب أن ينتهي فأمر النبي صلى الله عليه و سلم العبد أن ينتهي مع استجارته بالله من وسواس التسلسل كما يؤمر كل من حصل نهاية المطلوب وغاية المارد أن ينتهي إذ كل طالب ومريد فلا بد له من مطلوب ومراد ينتهي إليه وإنما وجب انتهاؤه لأنه من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل من سلمت فطرته من بني آدم أنه سؤال فاسد وأنه يمتنع أن يكون لخالق كل مخلوق خالق فغنه لو كان له خالق لكان مخلوقا ولم يكن خالقا لكل مخلوق بل كان يكون من جملة الملخوقات والمخلوقات كلها لا بد لها من خالق وهذا معلوم بالضرورة والفطرة وإن لم يخطر ببال العبد قطع الدور والتسلسل فإن وجود المخلوقات كلها بدون خالق معلوم الامتناع بالضرورة
وإذا قلنا : يمتنع وجود المحدثات كلها بدون محدث كان هذا متضمنا لذاك فإن كل مخلوق محدث فإذا كان كل محدث لا بد له من محدث فكل مخلوق لا بد له من خالق أولى وكذلك إذا قلنا : كل ممكن لا بد له من واجب
فلما كان بطلان هذا السؤال معلوما بالفطرة والضرورة أنر النبي صلى الله عليه و سلم أن ينتهي عنه كما يؤمر أن ينتهي عن كل ما يعلم فساده من الأسولة الفاسدة التي يعلم فسادها كما لو قيل : متى حدث الله ؟ او متى يموت ؟ ونحو ذلك
وهذا مما يبين أن سؤال السائل : أين كان بنا ؟ في حديث أبي رزين لم يكن هذا السؤال فاسدا عنده صلى الله عليه و سلم كسؤال السائل : من خلق الله ؟ فإنه لم ينه السائل عن ذلك ولا أمره بالاستعاذة بل النبي صلى الله عليه و سلم سأل بذلك لغير واحد فقال له : أين الله ؟ وهو منزه أن يسأل سؤالا فاسدا وسمع الجواب عن ذلك وهو منزه أن يقر على جواب فاسد ولما سئل عن ذلك أجاب فكان سائلا به تارة ومجيبا عنه أخرى
ولو كان المقصود مجرد التمييز بين الرب والصنم مع علم الرسول أن السؤال والجواب فاسدان لكان ف يالأسولة الصحيحة ما يغني غير الرسول عن الأسولة الفاسدة فكيف يكون الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه كان يمكن أن يقول : من ربك ؟ من تعبدين ؟ كما قال لحصين الخزاي : يا حصين كم تعبد اليوم ؟ قال أعبد سبعة ألهة ستة في الأرض وواحدا في السماء قال : فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال الذي في السماء فقال أسلم حتى اعلمك كلمة ينفعك الله بها فلما أسلم سأله عن الدعوة فقال قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي رواه أحمد في المسند وغير أحمد
الوجه الثالث
أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر العبد أن يقول آمنت بالله وفي رواية ورسوله فهذا من باب دفع الضد الضار بالضد النافع فإن قوله : آمنت بالله يدفع عن قلبه الوسواس الفاسد
ولهذا كان الشيطان يخنس عند ذكر الله ويوسوس عند الغفلة عن ذكر الله ولهذا سمي الوسواس الخناس فإنه جاثم على فؤاد ابن آدم فإن ذكر الله خنس والخنوس الاختفاء بنخفاض ن ولهذا سميت الكواكب الخنس
وقال أبو هريرة : لقيت النبي صلى الله عليه و سلم في بعض طرق المدينة وانا جنب فانخنست منه
ويقال : انخنست من فلان وهو اختفاء بنوع من الانخفاض والذل له فالمختفى من عدو يقالته لا يقال : انخنس منه وإنما ينخنس الإنسان ممن يهابه ويعظمه فيذل له وينخفض منه في اختفائه فهكذاالشيطان في حال ذكر يذل ويخضع ويختفي وإذا غفل العبد عن ذكر الله وسوس
فأمر النبي صلى الله عليه و سلم العبد أن يقول : آمنت بالله أو آمنت بالله ورسوله فإن هذا القول إيمان وذكر الله يدفع به ما يضاده من الوسوسة القادحة في العلوم الضرورية الفطرية ويشبه هذا الوسواس الذي يعرض لكثير من الناس في العبادات حتى يشككه هل كبر أو لم يكبر ؟ وهل قرا الفاتحة أم لا ؟ وهو نوى العبادة أم لم ينوها ؟ وهل غسل عضوه في الطهارة او لم يغسله فيشككه في علومه الحسية الضرورية
وكونه غسل عضوا أمر يشهده ببصره وكونه تكلم بالتكبير أو الفاتحة أمر يعلمه بقلبه ويسمعه بأذنه وكذلك كونه يقصد الصلاة مثل كونه يقصد الأكل والشرب والركوب والمشي وعلمه بذلك كله علم ضروري يقيني اولى لا يتوقف على النظر والاستدلال ولا يتوقف على البرهان بل هو مقدمات البرهان وأصوله التي يبنى عليها البرهان أعني البرهان النظري المؤلف من المقدمات
وهذا الوسواس يزل بالاستعاذة وانتهاء العبد وأن يقول إذا قال : لم تغسل وجهك ؟ بلى قد غسلت وجهي وإذا خطر له أنه لم ينو ولم يكبر يقول بقلبه : بلى قد نويت وكبرت فيثبت على الحق ويدفع ما يعارضه من الوسواس فيرى الشيطان قوته وثباته على الحق فيندفع عنه وإلا فمتى رآه قابلا للشكوك والشبهات مستجيبا إلى الوسواس والخطرات أورد عليه من ذلك ما يعجز عن دفعه وصار قلبه موردا لما توحيه شياطين الإنس والجن من زخرف القول ونتقل من ذلك إلى غيره إلى أن يسوقه الشيطان إلى الهلكة
{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } البقرة 257 { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون } الأعراف 201 - 202
فصل
ومما ينبغي أن يعرف في هذا المقام وإن كنا قد نبهنا عليه في مواضع أن كثيرا من العلوم تكون ضرورية فطرية فإذا طلب المستدل أن يستدل عليها خفيت ورقع فيها شك إما لما في ذلك من تطويل المقدمات وإما لما في ذلك من خفائها وإما لما في ذلك من كلا الأمرين
والمستدل قد يعجز عن نظم دليل على ذلك إما لعجزه عن تصوره وإما لعجزه عن التعبير عنه فإنه ليس كل ما تصوره الإنسان أمكن كل أحد أن يعبر عنه باللسان وقد يعجز المستمع عن فهمه ذلك الدليل وإن أمكن نظم الدليل وفهمه ففد يحصل العجز عن إزالة الشبهات المعارضة إما من هذا وإما من هذا وإما منهما
كلام لابن تيمية في مبحث التصورات
وهذا يقع في التصورات أكثر مما يقع في التصديقات فكثير من الأمور المعروفة إذا حدث بحدود تميز بينها وبين المحدودات زادت خفاء بعد الوضوح لكونها أظهر عند العقل بدون ذلك الحد منها بذلك الحد
حقيقة الحدود
ولكن قد يكون في الأدلة والحدود من المنفعة ما قد نبه عليه غير مرة ولهذا تنوعت طرق الناس في الحدود والأدلة وتجد كثيرا من الناس يقدح في حدود غيره وأدلته ثم يذكر هو حدودا وأدلة يرد عليها إيرادات من جنس ما يرد على تلك أو من جنس آخر وذلك لأن المقصود بالحدود : إن كان التمييز بين المحدود وبين غيره كانت الحدود الجامعة المانعة على أي صورة كانت مشتركة في حصول التمييز بها وإن لم تكن جامعة مانعة كانت مشتركة في عدم حصول التمييز وإن كان المطلوب بها تعريف المحدود فهذا لا يحصل بها مطلقا ولا يمتنع بها مطلقا بل يحصل لبعض الناس وفي بعض الأوقات دون بعض كما يحصل بالأسماء فإن الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال فلا يمكن أن يقال الاسم لا يعرف المسمى بحال ولا يمكن أن يقال يعرف به كل أحد كذلك الحد
وإن قيل إن المطلوب بالحد أن مجرد الحد يوجب أن المستمع له يتصور حقيقة المحدود التي لم يتصورها إلا بلفظ الحاد وأنه يتصورها بمجرد قول الحاد كما يظنه من يظنه من الناس بعض أهل المنطق وغيرهم فهذا خطأ كخطأ من يظن أن الأسماء توجب معرفة المسمى لمن تلك الأسماء بمجرد ذلك اللفظ
وقد بسط الكلام على هذا في موضعه وبينا ما لعيه جمهور النظار من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين والمشركين من أن الحدود مقصودها : التمييز بين المحدود وغيره وأن ذلك يحصل بالوصف الملازم للمحدود طردا وعكسا الذي يلزم من ثبوته ثبوت المحدود ومن انتقائه انتقاؤه كما هو طريقة نظار المسلمين من جميع الطوائف مثل أبي علي هاشم وأمثالهما ومثل أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر و أبي المعالي الجويني والقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء ابن عقيل وأمثالهم
وأما طريقة أهل المنطق ودعواهم : أن الحد التام مقصوده التعريف بالحقيقة وأن الحقيقة مؤلفة من الصفات الذاتية الداخلة في المحدود وهي : الجنس والفصل وتقسيمهم الصفات اللازمة للموصوف إلى : داخل في الحقيقة وخارج عنها عرضي وجعل العرضي الخارج عنها اللازم على نوعين : لازم للماهية ولازم لوجود الماهية وبناءهم ذلك على أن ماهيات الأشياء التي هي حقائقها ثابتة في الخارج وهي مغايرة للموجودات المعينة الثابتة في الخارج وأن الصفات الذاتية تكون متقدمة على الموصوف في الذهن والخارج وتكون أجزاء سابقة لحقيقة الموصوف في الوجودين : الذهني والخارجي
فهذا ونحوه خطأ عند جماهير العقلاء من نظار الإسلام وغيرهم بل الذي عليه نظار الإسلام أن الصفات تنقسم إلى : لازمة للموصوف لا تفارقه إلا بعدم ذاته وإلى عارضة له يمكن مفارقتها له مع بقاء ذاته وهذه اللازمة منها : ما هو لازم للشخص دون نوعه وجنسه ومنها ما هو لازم لنوعه أو جنسه
وأما تقسيم اللازمة إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية ولازم للوجود وغير لازم بل عارض فهذا خطأ عند نظار الإسلام وغيرهم
بل طائفة من نظار الإسلام قسموا اللازم إلى : ذاتي ومعنوي وعنوا بالصفات الذاتية : ما لا يمكن تصور الذات مع عدمه وعنوا بالمعوي : ما يمكن تصور الذات بدون تصوره وإن كان لازما للذات فلا يلزمها إلا إذا تصور معينا يقوم بالذات
فالأول عندهم مثل كوب قائما بنفسه وموجودا بل وكذلك كونه قديما عند أكثرهم فإن ابن كلاب يقول : القديم يقدم والأشعري له قولان أشهرهما عند أصحابه : أنه قديم بغير قدم لكنه باق ببقاء وقد وافقه على ذلك ابن أبي موسى وغيره وأما القاضي أبو بكر فإنه يقول : باق بغير بقاء ووافقه على ذلك أبو يعلى وأبو المعالي وغيرهما
والثاني عندهم : مثل كونه حيا وعليما وقديرا ونحو ذلك
وتقسيم هؤلاء اللازمة إلى ذاتي ومعنوي كلام ليس هذا موضع بسطه فإنهم لم يعنوا بالذاتي ما يلزم الذات إذ الجميع لازم للذات ولا عنوا بالذاتي : المقوم للذات كاصطلاح المنطقيين : فإن هؤلاء ليس عندهم في الذوات ما هو مركب من الصفات : كالجنس والفصل ولا يقسمون الصفات إلى مقوم داخل في الماهية هو جزء منها وإلى عرضي خارج عنها ليس مقوما بل هذا التقسيم عندهم وعند جمهور العقلاء خطأ كما هو خطأ في نفس الأمر إذ التفريق بين الذاتي المقوم واللازم الخارج تفريق باطل لا يعود إلا إلى مجرد تحكم يتضمن التفريق بين المتامثلين كما قد بسط في موضعه
ولهذا يعترف حذاق أئمة أهل المنطق كابن سينا وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما بانه لا يمكن ذكر فرق مطرد بين هذا وهذا وذكر ابن سينا ثلاثة فروق مع اعترافه بانه ليس واحد منها صحيحا واعترض أبو البركات على ما ذكره ابن سينا بما يبين فساد الفرق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم
وأبو البركات لما كان معتبرا لما ذكره أئمة المشائين لا يقلدهم ولا يتعصب لهم كما يفعله غيره مثل ابن سينا وأمثاله نبه على أن ما ذكره أرسطو وأصحابه في هذا الموضع مما لم تعرف صحته ولا منفعته
وغير أبي البركات بين فساده وتناقضه وصنف مصنفات في الرد على أهل المنطق كما صنف أبو هاشم و ابن النوبختي والقاضي أبو بكر بن الطيب وغيرهم
وهؤلاء الكلابية الذين يفرقون بين الصفات الذاتية والمعنوية هم أصح نظرا من هؤلاء المنطقيين وهم ينكرون ما ذكر المنطقيون من الفرق فلا يعود تفريقهم إلى تفريق المنطقيين بل تفريقهم يعود إلى ما ذكروه هم من أن الصفات الذاتية عندهم مالا يمكن تصور الذات مع تصور عدمها والصفات المعنوية ما يمكن تصور الذات مع تصور عدمها كالحياة والعلم والقدرة فإنه يمكن تصور الذات مع نفي هذه الصفات ولا يمكن تصور الذات مع نفي كونها قائمة بالنفس وموجودة وكذلك لا يمكن ذلك مع نفي كونها قديمة عند أكثرهم
وابن كلاب والأشعري في أحد قوليه جعل القدم كالعلم والقدرة والبقاء فيه نزاع بين الأشعري ومن أتبعه كأبي علي بن أبي موسى وأمثاله وبين القاضي أبي بكر ومن أتبعه كالقاضي أبي يعلي وأمثاله
وهؤلاء أيضا تفريقهم باطل فإن قولهم : لا يمكن تصور الذات مع نفي تلك الصفة
يقال لهم : لفظ التصور مجمل يراد به تصور ما وهو الشعور بالمتصور من طريق الوجود ويراد به التصور التام وما من متصور إلا وفوقه تصور أتم منه
ومن هذا دخل الداخل على هؤلاء المنطقيين الغالطين وعلى هؤلاء فإن عنوا به التصور التام للذات الثابتة في الخارج التي لها صفات لازمة لها فهذه لا يمكن تصورها كما هي عليه مع نفي الصفات فإذا عني بالماهية ما يتصوره المتصور في ذهنه فهذا يزيد وينقص بحسب تصور الأذهان
وإن عنوا به ما في الخارج فلا يوجد بدون جميع لوازمه وإن عني بذلك أنه لا يمكن تصورها بوجه من الوجوده مع نفي هذه الصفات فهذا يرد عليهم فيما جعلوه ذاتيا مثل كونه قائما بنفسه وكونه قديما ونحو ذلك
فإنه قد يتصور الذات تصورا ما من لا يخطر بقلبه هذه المعاني بل من ينفي هذه المعاني أيضا وإن كان ضالا في نفيها كما أن من نفي الحياة والعلم والقدرة كان ضالا في نفيها
وإذا قيل : لا يمكن وجود الفعل إلا من ذات قائمة بنفسها قديمة
قيل : ولا يمكن إلا من ذات حية عالمية قادرة
فإذا قيل : هذه يمكن بعض العقلاء أن يتصور كونها فاعلا مع انتفاء هذه الصفات قيل : هذا تصور باطل والتصورات الباطلة لا ضابط لها فقد يمكن ضال آخر أن يتصور كونها فاعلة مع عدم القيام بالنفس فإن الفرق إذا عاد إلى اعتقاد المعتقدين لا إلى حقائق موجودة في الخارج كان فرقا ذهنيا اعتباريا لا فرقا حقيقا من جنس فرق أهل المنطق بين الذاتي المقوم والعرضي اللازم فإنه يعود إلى ذلك حيث جعلوا الذاتي مالا تتصور الماهية بدون تصوره والعرضي ما يمكن تصورها بدون تصوره وليس هذا بفرق في نفس الأمر وإنما يعود إلى ما تقدره الأذهان فإنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه فإن أريد بالتصور مطلق الشعور بالشيء فيمكن الشعور به بدون الصفات التي جعلوها ذاتيه فإنه قد يشعر بالإنسان من لا يخطر بباله انه حيوان ناطق أو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق
وإن أرادوا التصور التام فقول القائل : حيوان ناطق لا يوجب التصور التام للموصوف بل ما من تصور إلا وفوقه تصور أكمل منه فغن صفات الموصوف ليست منحصرة فيما ذكروه
وإن قالوا : نريد به التصور التام للصفات الذاتية عادت المطالبة بالفرق فيبقى الكلام دورا
وهذا كما انهم يقولون : ماهية الشيء هي المركبة من الصفات الذاتية ثم يقولون : الصفات الذاتية هي التي يتوقف تحقق الماهية عليها أو يقف تصور الماهية عليها فلا تعقل الصفة الذاتية حتى تعقل الماهية ولا تعقل الماهية حتى تعقل الصفة الذاتية لها فيبقى الكلام دورا
كما يجعلون الصفات الذاتية أجزاء للماهية مقومة لها سابقة لها في الحقيقة في الوجودين الذهني والخارجي مع العلم بان الذات أحق بأن تكون سابقة من الصفات إن قدر أن هناك سبقا وإلا فهما متلازمان
وإذا قيل هي أجزاء
قيل إن كانت جواهر كان الوهر الواحد جواهر كثيرة وإن كانت اعراضا فهي صفات
فإذا قيل الإنسان حيوان ناطق
قيل : إن كانت الحيوانية والناطقية أعراضا فهي صفات الإنسان وإن كانت جواهر هو حساس وجوهر هو نام ومعلوم فساد هذا
وحقيقة الأمر أنها صفات لما يتصور في الإذهان وصفات لما هو موجود في الأعيان وأن الذات هي أحق بتقويم الصفات من الصفات بتقويم الذات
وأيضا فإن أرادوا تصور الصفات مفصلة فمعلوم أن قولهم حيوان ناطق لا يوجب تصور سائر الذاتيات مفصلا فإن كونه جسما ناميا وحساسا ومتحركا بالإرادة لا يدل عليه اسم الحيوان دلالة مفصلة بل مجملة وإن أرادوا بالتصور التصور سواء كان مجملا أو مفصلا فمعلوم أن لفظ الإنسان يدل على الحيوان والناطق كما يدل لفظ الحيوان على الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة فيكون اسم الإنسان كافيا في تعريف صفات الإنسان مثل ما أن لفظ الحيوان كاف في تعريف صفات الحيوان
فإذا كانوا في تعريف الإنسان لا يأتون إلا بلفظ يدل على صفاته الذاتية دلالة مجملة وهذا القدر حاصل بلفظ الإنسان كان تعريفهم من جنس التعريف بالأسماء وكان ما جعلوه حدا من جنس ما جعلوه اسما
فإن كان أحدهما دالا على الذات فكذلك الآخر وإلا فلا فلا يجوز جعل أحدهما مصورا للحقيقة دون الآخر غاية ما يقال إن في هذا الكلام من تفصيل بعض الصفات ما ليس في الآخر
فإن قول القائل : حيوان ناطق فيه من الدلالة على معنى النطق باللفظ الخاص ما ليس في لفظ الإنسان
فيقال : وكذلك في لفظ النامي من الدلالة على النمو باللفظ الخاص ما ليس في لفظ الحيوان وأنتم لا توجبون ذلك
وكذلك لفظ الحساس والمتحرك بالإرادة فعلم أن كلامهم لا يرجع إلى حقيقة موجوده معقولة وإنما يرجع إلى مجرد وضع واصطلاح وتحكم واعتبارات ذهنية وهذا مبسوط في موضعه
وكذلك الذين فرقوا بين الصفات الذاتية وبين المعنوية اللازمة للذات من الكلابية وأتباعهم يعود تفريقهم إلى وضع واصطلاح وتحكم واعتبارات ذهنية لا إلى حقيقة ثابتة في الخارج ولهذا يضطربون في الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية
فهذا يقول إنه قديم بقدم باق ببقاء وهذا ينازع في هذا أو في هذا
والنافي يقول : هو عالم بذاته قادر بذاته كما يقول هؤلاء إنه باق بذاته قديم بذاته
وإذا أراد بذلك أن علمه من لوازم ذاته لا يفتقر إلى شيء آخر فقد أصاب وإن أراد أنه يمكن كونه حيا عالما قادرا بدون حياة وعلم وقدرة فقد أخطأ وذاته حقيقتها هي الذات المتسلزمة لهذه المعاني فتقدير وجودها بدون هذه المعاني تقدير باطل لا حقيقة له ووجود ذات منفكه عن جميع الصفات إنما يمكن تقديره في الأذهان لا في الأعيان وهذه الأمور مبسوطة في موضعها
والمقصود هنا أن التعريف بالحدود والتعريف بالأدلة قد يتضمن إيضاح الشيء بما هو اخفى منه وقد يكون الخفاء والظهور من الأمور النسبية الإضافية فقد يتضح لبعض الناس أو للإنسان في بعض الأحوال ما لا يتضح لغيره أو له في وقت آخر فينتفع حينئذ بشيء من الحدو والأدلة لا ينتفع بها في وقت آخر
وكلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشيء وذكره أشد وأكثر كانت معرفتهم به وذكرهم له أعظم وأكثر وكانت طرق معرفته أكثر وأظهر وكانت الأسماء المعرفة له أكثر وكانت على معانيه أدل
فالمخلوق الذي يتصوره الناس ويعبرون عنه اكثر من غيره تجد له من الأسماء والصفات عندهم ما ليس لغيره كالأسد والداهية والمخمر والسيف ونحو ذلك فلكل من هذه المسميات في اللغة من الأسماء أسماء كثيرة وهذا الاسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر كما يقولون في السيف : صارم ومهند وأبيض وبتار ومن ذلك أسماء الرسول صلى الله عليه و سلم وأسماء القرآن قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب ] وقال أنا الضحوك القتال انا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة ومن أسمائه المزمل والمدثر والرسول النبي
ومن أسماء القرآن : الفرقان والتنزيل والكتاب والهدى والنور والشفاء والبيان وغير ذلك
ولما كانت حاجة النفوس إلى معرفة ربها أعظم الحاجات كانت طرق معرفتهم له أعظم من طرق معرفة ما سواه وكان ذكرهم لأسمائه أعظم من ذكرهم لأسماء ما سواه وله سبحانه في كل لغة أسماء واه في اللغة العربية أسماء كثيرة
والصواب الذي عليه جمهور العلماء أن قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إن لله تسعة وتسعين أسما من أحصاها دخل الجنة ] معناه أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون أسما فإنه في الحديث الآخر الذي رواه أحمد وأبو حاتم في صحيحه [ أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب غمي وهمي ]
وثبت في الصحيح ان النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجوده 5 اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت صفاته فأخبر أنه صلى الله عليه و سلم لا يحصى ثناء عليه ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها فكان يحصي الثناء عليه لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه
فصل طرق معرفة الله كثيرة ومتنوعة
ولما كانت طرق معرفة الله والإقرار به كثيرة متنوعه صار كل طائفة من النظار تسلك طريقا إلى إثبات معرفته ويظن من يظن أنه لا طريق إلا تلك وهذا غلط محض وهو قول بلا علم
فإنه من أين للإنسان انه لا يمكن المعرفة إلا بهذا الطريق ؟ فإن هذا نفي عام لا يعلم بالضرورة فلا بد من دليل يدل عليه وليس مع النافي دليل يدل على هذا النفي بل الموجود يدل على ان للمعرفة طرقا أخرى وأن غالب العارفين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء بل من عموم الخلق عرفوه بدون تلك الطريق المعينة
وقد نبهنا في هذا الكتاب على ما نبهنا عليه من طرق أهل النظر وتنوعها على ما يأتي وأن الطرق تتنوع تارة بتنوع أصل الدليل وتارة بزيادة مقدمات فيه يستغني عنها آخرون فهذا يستدل بالإمكان وهذا بالحدوث وهذا بالآيات وهذا يستدل بحدوث الذوات وهذا بحدوث الصفات وهذا بحدوث المعين كالإنسان وهذا بحدوثه وحدوث غيره وآخرون غلطوا فظنوا أنه لا بد من العلم بحدوث كل موصوف تقوم به الصفات وقد يعبرون عنه بلفظ الجسم والجوهر والمحدود والمركب وغير ذلك من العبارت وآخرون يستدلون بحدوث ما قام به الحوادث ويقولون كل ما قامت به الصفات محدثا
والفلاسفة لم يسلكوا هذه الطريق لاعتقادهم أن من الأجسام ما هو قديم تحله الحوادث والصفات فكونه جسما ومتميزا وقديما وتحله الصفات والحوادث ليس هو عندهم مستلزما لكونه محدثا بل وليس ذلك مستلزما عند أرسطو كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم وكذلك لم يسلكها كثير من اهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم بل ولا سلكها سلف الأمة وأئمتها كما قد بسط في موضعه
ولم يسلكها متأخرو أهل الكلام الذين ركبوا طريقا من قول الفلاسفة وقول أسلافهم المتكلمين كالرازي والآمدي والطوسي ونحوهم بل سلكوا طريقة ابن سينا التي ذكرها في إثبات واجب الوجود
طريقة ابن سينا
وطريقة ابن سينا لم يسلكها سلفه الفلاسفة كأرسطو وأصحابه بل ولا سلكها جماهير الفلاسفة بل كثير من الفلاسفة ينازعونه في نفيه لقيام الحوادث والصفات بذات واجب الوجود ويقولولن إنه تقوم به الصفات والإرادات وأن كونه واجبا بنفسه لا ينافي ذلك كما لا ينافي عندهم جميعا كونه قديما
ولكن ابن سينا وأتباعه لما شاركوا الجهمية في نفي الصفات وشاركوا سلفهم الدهرية في القول بقدوم العالم سلكوا في إثبات رب العالمين طريقا غير طريقة سلفه المشائين كأرسطو وأتباعه الذين أثبتوا العلة الأولى بحركة الفلك الإرادية وأن لها محركا يحركها كحركة المعشوق لعاشقه وهو يحرك الفلك للتشبه بالعلة الأولى فعدل ابن سينا عن تلك الطريقة إلى هذه الطريقة التي سلخها من طريقة أهل الكلام الذين يحتجون بالمحدث على المحدث وهو لا يقول بحدوث العالم فجعل طريقته الاستدلال بالممكن على الواجب ورأى أولئك المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث فقسمه هو إلى واجب وممكن وأثبت الواجب بهذا الطريق ولكن هذا بناء على أن القديم ممكن وله ماهية تقبل الوجود والعدم
وهذا مما خالفه فيه جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم حتى أنه هو تناقض في ذلك فوافق سلفه وجميع العقلاء وصرح بأن الممكن لا يكون إلا ما يقبل الوجود والعدم ثم تناقض هنا كما قد بسط في غير هذا الموضع
عودة إلى كلام ابن سينا
ونحن ننبه عليه هنا فقوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون فإن وجب فهو الحق بذاته الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم وإن لم يجب لم يجز أن يقال هو ممتنع بذاته بعد ما فرض موجودا بل إن قرن باعتبار ذاته شرط مثل شرط عدم علته صار ممتنعا أو قرن شرط وجود علته صار واجبا واما إن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع فكل موجود غما واجب الوجود بذاته وغماممكن الوجود بحسب ذاته
التعليق على كلام ابن سينا
فيقال اما كون الموجود ينقسم إلى واجب وهو الواجب بنفسه ن وإلى ممكن وموجود بغيره وأن الموجود بغيره لا بد له من موجود بنفسه فهذا كله حق وهي قضايا صادقة
وأما كون الممكن بنفسه له ذات يعتقب عليها الوجود والعدم وأنها مع ذلك قد تكون أزلية واجبة بغيرها كما يقوله ابن سينا وموافقوه فهذا باطل عند العقلاء قاطبة من الأولين والآخرين حتى عند ابن سينا مع تناقضه
الاعتراض على ما سبق من وجوه
الوجه الأول
قوله إن قرن باعتبار ذاته شرط صار ممتنعا أو واجبا وإن لم يقرن بها شرط بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان يقتضي إثبات ذات لهذا الممكن تكون تارة واجبة وتارة ممتنعة وهذا يقتضي أن الكل ممكن ذاتا مغايرة لوجوده وأن تلك الذات يمكن اتصافها بالوجود تارة والعدم أخرى وهذا باطل سواء أريد به قول من يجعل المعدوم شيئا من المعتزلة ونحوهم أو قول من يجعل الماهيات النوعية في الخارج مغايرة للوجود في الخارج كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والكلام على فساد هذين مبسوط في غير هذا الموضع
وهو لم يذكر هنا دليلا على صحة ذلك ومجرد ما ذكره من التقسيم لا يدل على وجود الإقسام الثلاثة في الخارج فيبقى دليله غير مقدر المقدمات
وهذا مما يسلكه أمثال هؤلاء يذكرون أقساما مقدرة تقديرا ذهنيا ولا يقيمون الدليل على إمكان كل من الأقسام ولا وجوده وإنما يذكرون مجرد تقدير ذلك ويبنون على ذلك التقدير بناء من قد أثبته في الخارج وهو لم يثبتوه في الخارج كما ذكرنا نظائر ذلك في مواضع
والمقصود هنا أن قول القائل : كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فإما واجب وإما ممكن إنما يصح إذا علم أن الموجود في الخارج له ذات يمكن أن لا يلتفت معها إلى غيرها ليقال إن تلك الذات إما واجبة وإما أن يجب لها الوجود وإما أن لا يجب
وأما إذا كان لا شيء في الخارج إلا الموجود : إما بنفسه وإما بغيره فالموجود بغيره إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيره فلا ذات له يمكن الالتفات إليها حتى يقال : إنها ممكنة قابلة للوجود والعدم بل هذا الذي قدر انه موجود بغيره إذا لم يلتفت إلى غيره فلا حقيقة له أصلا : لا وجود ولا غيره ولا هناك ما يكون ممكن الوجود أصلا
فهذا التفسير لا يصح الاستدلال به إلا بعد إثبات ذات محققة في الخارج مغايرة لما هو في الخارج من الوجود ولما لم يثبت هذا القسم كان الاستدلال باطلا
وإذا قيل : قد قرر هذا في غير هذا الموضع
قيل الجواب من وجهين :
أحدهما أنه قد بين أيضا في غير هذا الموضع فساد ما ذكره
الثاني : أنه بتقدير أن يقرره فلا ريب أن هذه المقدمة ما ينازع فيه كثير من العقلاء بل أكثرهم وهي مقدمة خفية تحتاج إلى بيان
ومتفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي حائرون فيها فالرازي له فيها قولان والآمدي متوقف فيها وأهل الإثبات قاطبة كالأشعري وغيره متفقون على بطلانها فكيف تكون مثل هذه المقدمة في إثبات واجب الوجود الذي وجوده أظهر وأعرف من هذه المقدمة وهل الاستدلال على القوي بالضعيف إلا كتحديد الجلي بالخفي وهذا إذا كان في الحدود مردودا فهو في الأدلة أولى بالرد
الوجه الثاني
أن هذا باطل على كل قول أما على قول نظار السنة يقولون : وجود كل شيء في الخارج عين حقيقته فظاهر وأما على قول القائلين بأن المعدوم شيء المفرقين بين الوجود والثبوت فإنهم لا يقولون ذلك إلا في المعدوم لا يقولون إن الموجود القديم ثبوته يقبل الوجود والعدم بل قد يقولون إن ماهية القديم مغايرة لوجوده لكن لا يقولون إنها تقبل الوجود والعدم ففي الجملة لا يتصور عندهم ماهية متسلزمة للوجود تقبل الوجود والعدم
وأما على قول متأخري الفلاسفة الذين يجعلون وجود الممكنات زائداص على ماهياتها فتلك الماهيات إنما تتحقق في حال الوجود لا يمكن تجردها عن الوجود إلا يتصور أن يكون عندهم ماهية هي نفسها تقبل الوجود والعدم فإثبات ماهية تقبل الوجود والعدم وهي مع ذلك مستلزمة للوجود ليس قول أحد من الطوائف
الوجه الثالث
أن هذا باطل فإنها إذا كانت مستلزمة للوجود امتنع أن تقبل العدم وإن كان عدمها ممكنا امتنع أن تستلزم الوجود فدعوى المدعي أنها يمكن وجودها وعدمها وأنها مع ذلك تستلزم الوجود لا يمكن عدمها جمع بين المتناقضين
وإذا قيل : هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها وأما باعتبار سببها فإنه يجب وجودها
قيل : قول القائل : هي باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها ليس معناه أنه يجب وجودها أو عدمها بل معناه باعتبار أنها ذاتها لا تستحق وجودا ولا عدما بل لا بد لها من أحدهما باعتبار غيرها والتقدير أنها موجودة فيكون الوجود لها من غيرها واجبا والوجود الواجب ولو بغيره لا يمكن عدمه فهذه الذات الواجبة بغيرها لا يمكن عدمها بوجه من الوجوه
وهب انه لولا السبب الموجب لها لعدمت لكن هذا تقدير ممتنع فإن السبب واجب الوجود بذاته وهي من لوازمه ولازم الواجب بذاته يمتنع عدمه لأن عدم اللازم يوجب عدم الملزوم فلو عدم لازم الواجب لعدم الواجب وعدمه ممتنع فعدم لازمه ممتنع فكان عدم هذه الذات ممتنعا فلا يكون عدمها ممكنا فإن الممكن نقيض الممتنع وإذا كان عدمها ممتنعا لم يكن ممكنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق