الخميس، 3 ديسمبر 2020

درأ تعارض العقل والنقل لابن تيمية ج1/ 2









وقد ثبت في الصحيح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ] فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة فهذه الثلاثة هي أصول معصومة وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه و سلم وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون علي ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون
ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعون لهم بإحسان ـ وإن تنازعوا فيما تنازعوا فيه من الأحكام ـ فالعصمة بينهم ثابتة وهم يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فبعضهم يصيب الحق فيعظم الله أجره ويرفع درجته وبعظهم يخطئ بعد إجتهاده في طلب الحق فيغفر الله له خطأه تحقيقا لقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] سواء كان خطؤهم في حكم علمي أو حكم خبري نظري كتنازعهم في الميت هل يعذب ببكاء أهله عليه ؟ وهل يسمع الميت قرع نعالهم ؟ وهل رأي محمد ربه ؟
وأبلغ من ذلك أن شريحا أنكر قراءة من قرأ { بل عجبت ويسخرون } [ الصافات : 12 ] وقال : إن الله لا يعجب فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال : إنما شريح شاعر يعجبه علمه كان عبد الله أعلم منه أو قال : أفقه منه ـ وكان يقرأ ) بل عجبت ) فأنكر على شريح إنكاره مع أن شريحا من أعظم الناس قدرا عند المسلمين ونظائر هذا متعددة
والأقوال إذا حكيت عن قائلها أو نسبت الطوائف إلى متبوعها فإنما ذاك على سبيل التعريف والبيان وأما المدح والذم والموالاة والمعاداة فعلى الأسماء المذكورة في القرآن العزيز كاسم المسلم والكافر والمؤمن والمنافق والبر والفاجر والصادق والكاذب والمصلح والمفسد وأمثال ذلك وكون القول صوابا أو خطأ يعرف بالأدلة الدالة على ذلك المعلومة بالعقل والسمع والأدلة الدالة على العلم لا تتناقض كما تقدم
والتناقض هو أن يكون أحد الدليلين يناقض مدلول الآخر : إما بأن ينفي أحدهما عين ما يثبته الآخر وهذا هو التناقض الخاص الذي بذكره أهل الكلام والمنطق وهو اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق إحداهما كذب الأخرى وأما التناقض لمطلق فهو أن يكون موجب أحد الدليلين ينافي موجب الآخر : إما بنفسه وإما بلازمه مثل أن ينفي أحدهما لازم الآخر أو يثبت ملزومه فإن انتقاء لازم الشيء يقتضي انتفاءه وثبوت ملزومه يقتضي ثبوته
ومن هذا الباب الحكم على الشيئين المتماثلين من كل وجه مؤثر في الحكم بحكمين مختلفين فإن هذا تناقض أيضا إذ حكم الشيء حكم مثله فإذا حكم على مثله بنقيض حكمه كان كما لو حكم عليه بنقيض حكمه
وهذا التناقض العام هو الاختلاف الذي نفا الله تعالى عن كتابه بقوله عز و جل : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [ النساء : 82 ] وهو الاختلاف الذي وصف الله به قول الكفار في قوله تعالى { إنكم لفي قول مختلف * يؤفك عنه من أفك } [ الذاريات : 8 - 9 ]
وضد هذا هو التشابه العام الذي وصف الله به القرآن في قوله { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } [ الزمر : 23 ] وهذا ليس هو التشابه الخاص الذي وصف الله تعالى به القرآن في قوله { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] فإن ذلك التشابه العام يراد به التناسب والتصادق والائتلاف
وضده : الاختلاف الذي هو التناقض والتعارض فالأدلة الدالة على العلم لا يجوز أن تكون متناقضة متعارضة وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء ومن صار من أخل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة والحيرة فإنما ذلك لفساد استدلاله إما لتقصيره وإما لفساد دليله ومن أعظم أسباب ذلك الألفاظ المجملة التي تشتبه معانيها
وهؤلاء الذين يعارضون الكتاب والسنة بأقوالهم بنوا أمرهم على اصل فاسد وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها هي الأقوال المحكمة التي جعلوها أصول دينهم وجعلوا قول الله ورسوله من المجمل الذي لا يستفاد منه علم ولا هدى فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه كما يجعل الجهمية من المتفلسفة والمعتزلة ونحوهم ما أحدثوه من الأقوال التي نفوا به صفات الله ونفوا بها رؤيته في الآخرة وعلوه على خلقه وكون القرآن كلامه ونحو ذلك جعلوا تلك الأقوال محكمة وجعلوا قول الله ورسوله مؤولا عليها أو مردودا أو غير ملتفت إليه ولا متلقى للهدى منه فتجد أحدهم يقول : ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا له كم ولا كيف ولا تحله الأعراض والحوادث ونحو ذلك وليس بمباين للعالم ولا خارج عنه
فإذا قيل : إن الله أخبر أن له علما وقدرة قالوا لو كان له علم وقدرة للزم أن تحله الأعراض وأن يكون جسما وأن يكون له كيفية وكمية وذلك منتف عن الله لما تقدم
ثم قد تقول : إن الرسول قصد بما ذكره من أسماء الله وصفاته أمورا لا نعرفها وقد تقول : إنه قصد خطاب الجمهور فإفهامهم الأمر على غير حقيقته لأن مصلحتهم في ذلك قد يفسر صفة بصفة كما يفسر الحب والرضا والغضب بالإرادة أو السمع والبصر بالعلم والكلام والإرادة والقدرة بالعلم ويكون القول في الثانية كالقول في الأولى يلزمها من اللوازم في النفي والإثبات ما يلزم التي نفاها فيكون مع جمعه في كلامه أنواعا من السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات قد فرق بين المتماثلين : بأن جعل حكم أحدهما مخالفا لحكم الآخر ويكون قد عطل النصوص عن مقتضاها ونفى بعض ما يستحق الله من صفات الكمال ويكون النافي لما أثبته هو قد تسلط عليه وأورد عليه فيما أثبته هو نظير ما أورده هو على من أثبت ما نفاه وإن كان النافي لما أثبته أكثر تناقضا منه
ثم هؤلاء يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المجملة دينا يوالون عليه ويعادون بل يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه ويقول : مسائل أصول الدين : المخطئ فيها يكفر وتكون تلك المسائل مما ابتدعوه
معلوم أن الخوارج هم مبتدعة مارقون كما ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه و سلم وإجماع الصحابة ذمهم والطعن عليهم وهم إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه وجعلوا من خالف ذلك كافرا لاعتقادهم أنه خالف القرآن فمن ابتدع أقوالا ليس له أصل في القرآن وجعل من خالفها كافرا كان قوله شرا من قول الخوارج ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن قول الجهمية شر من قول الخوارج
وأصل قول الجهمية هو نفي الصفات بما يزعمون من دعوى العقليات التي عارضوا بها النصوص إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه عقليات موافقا للنصوص لا مخالفا لها ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على النفي صار الشعراء ينظمون هذا المعنى كقول أبي تمام :
( جهمية الأوصاف إلا أنهم ... قد لقبوها جوهر الأشياء )
فهؤلاء ارتكبوا أربع عظائم : أحدها : ردهم لنصوص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والثاني : ردهم ما يوافق ذلك من معقول العقلاء والثالث : جعل ما خالف ذلك من أقوالهم المجملة أو الباطلة هي أصول الدين والرابع : تكفيرهم أو تفسيقهم أو تخطئتهم لمن خالف هذه الأقوال المبتدعة المخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول
وأما أهل العلم والإيمان : فهم على نقيض هذه الحال يجعلون كلام الله وكلام رسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه وإليه يرد ما تنازع الناس فيه فما وافقه كان حقا وما خالفه كان باطلا ومن كان قصده متابعته من المؤمنين وأخطأ بعد اجتهاده الذي أستفرغ به وسعه غفر الله له خطأه سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الحبرية او المسائل العلمية فإنه ليس كل ما كان معلوما متيقنا لبعض الناس يجب أن يكون معلوما متيقنا لغيره
وليس كل ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يعلمه كل الناس ويفهمونه بل كثير منهم لم يسمع كثيرا منه وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده وإن كان كلامه في نفسه محكما مقرونا بما يبين مراده لكن أهل العلم يعلمون ما قاله ويميزون بين النقل الذي يصدق به والنقل الذي يكذب به ويعرفون ما يعلم به معاني كلامه صلى الله عليه و سلم فإن الله تعالي أمر الرسول بالبلاغ المبين وهو أطوع الناس لربه فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين ومع البلاغ المبين لا يكون بيانه ملتبسا مدلسا


معنى الاستواء على العرش
والآيات التي ذكر الله فيها أنها متشابهات لا يعلم تأوليها إلا الله إنما نفى عن غيره علم تأويلها لا علم تفسيرها ومعناها كما أنه لما سئل مالك رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] كيف استوى ؟ قال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ـ وكذلك ربيعة قبله ـ فبين مالك أن معنى الاستواء معلوم وأن كيفيته مجهولة فالكيف المجهول هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وأما ما يعلم من الاستواء وغيره فهو من التفسير الذي بينه الله ورسوله
والله تعالى قد أمرنا أن نتدبر القرآن وأخبر أنه أنزله لتعقله ولا يكون التدبر والعقل إلا لكلام بين المتكلم مراده به فأما من تكلم بلفظ يحتمل معاني كثيرة ولم يبين مراده منها فهذا لا يمكن أن يتدبر كلامه ولا يعقل ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أن كلام الله يحتمل وجوها كثيرة وأنه لم يبين مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات وإن كانوا لم يتعمدوا الكذب كالمحدث الذي يغلط في حديثه خطأ بل منتهى أمرهم : القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات وهذان النوعان مجمع الكذب والبهتان
فإذ قال القائل : استوى يحتمل خمسة عشر وجها أو أكثر أو أقل كان غالطا فإن قول القائل : استوى على كذا له معنى وقوله : استوى إلى كذا له معنى وقوله : استوى وكذا له معنى وقوله : استوى بلا حرف يتصل به له معنى فمعانيه تنوعت بتنوع ما يتصل به من الصلات كحرف الاستعلاء والغاية وواو الجمع أو ترك تلك الصلات
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن كلام الله مبين غاية البيان موفى حق التوفية في الكشف والإيضاح وقد بسط الكلام على هذا النص وغيره وبين نحو من عشرين دليلا على أن هذه الآية نص في معنى واحد لا يحتمل معنى آخر وكذلك ذكر هذا في غير هذا النص
فإن الكلام هنا أربعة أنواع : أحدهما : أن نبين أن ما جاء به الكتاب والسنة فيه الهدى والبيان
والثاني : أن نبين أن ما يقدر من الاحتمالات فهي باطلة قد دل الدليل الذي به يعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها
الثالث : أن نبين أن ما يدعى أنه معارض لها من العقل فهو باطل
الرابع : أن نبين أن العقل موافق لها معاضد لا مناقض لها معارض


ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات فاسد متناقض الوجه الثامن عشر
أن يقال : ما يعارضون به الأدلة الشرعية من العقليات في أمر التوحيد والنبوة والمعاد قد بينا فساده في غير هذا الموضع وتناقضه وأن معتقد صحته من أجهل الناس وأضلهم في العقل كما بينا انتهاءهم في نفي الصفات والأفعال إلى حجة التركيب والتشبيه والاختصاص وانتهاءهم في جحد القدر إلى تعارض الأمر والمشيئة وانتهاءهم في مسألة حدوث العالم والمعاد إلى إنكار الأفعال
وبينا أن ما يذكرونه على النفي ألفاظ مجملة مشتبهة تتناول حقا وباطلا كقولهم : : إن الرب تعالى لو كان موصوفا بالصفات من العلم والقدرة وغيرها مباينا للمخلوقات لكان مركبا من ذات وصفات ولكان مشاركا لغيره في الوجود وغيره ومفارقا له في الوجوب وغيره فيكون مركبا مما به الاشتراك والامتياز ولكان له حقيقة غير مطلق الوجود فيكون مركبا من وجود وماهية ولكان جيما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى جزئه لا يكون واجبا بنفسه


معنى المركب
وقد بينا فساد هذا الكلام بوجوه كثيرة يضيق عنها هذا الموضع فإن مدار هذه الحجة على ألفاظ مجملة فإن المركب يراد به ما ركبه غيره وما كان مفترقا فاجتمع كأجزاء الثوب والطعام والأدوية من السكنجبين وغيره وهذا هو المركب في لغة العرب وسائر الأمم
وقد يراد بالمركب ما يمكن تفريق بعضه عن بعض ومعلوم أن الله تعالى منزه عن جميع هذه التركيبات
ويراد بالمركب في عرفهم الخاص ما تميز منه شيء كتميز العلم عن القدرة وتميز ما يرى ونحو ذلك وتسمية هذا المعنى تركيبا وضع وضعوه ليس وافقا للغة العرب ولا لغة أحد من الأمم وإن كان هذا مركبا فكل ما في الوجود مركب فإنه ما من موجود إلا ولا بد أن يعلم منه شيء دون شيء والمعلوم ليس الذي هو غير معلوم
وقولهم : إنه مفتقر إلى جزئه تلبيس فإن الموصوف بالصفات اللازمة له يمتنع أن تفارقه أو يفاقها وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال : إن تلك الحقيقة مفتقرة إلى غيرها والصفة اللازمة يسميها بعض الناس غير الموصوف وبعض الناس يقول : ليست غير الموصوف ومن الناس من لا يطلق عليها لفظ المغايرة بنفي ولا إثبات حتى يفصل ويقول إن أريد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فهي غير وإن أريد بهما ما جاز مفارقة أحدهما للآخر بزمان أو مكان أو فليست بغير فإن لم يقل : هي غير الموصوف لم يكن هناك غير لازم للذات فضلا عن أن تكون مفتقرة إله وإن قيل : هي غيره فهي والذات متلازمان لا توجد إحداهما إلا مع الأخرى ومثل هذا التلازم بين الشيئين يقتضي كون وجود أحدهما مشروطا بالآخر وهذا ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون يقتضي كون وجود أحدهما إلا مع الأخر وهذا ليس بممتنع وإنما الممتنع أن يكون كل من الشيئين موجبا للآخر فالدور في العلل ممتنع والدور في الشروط جائز
ولفظالافتقار هنا : إن أريد به افتقار المعلول إلى علته كان باطلا وإن أريد به أفتقار المشروط إلى شرطه ـ فهذا هو تلازم من الجانبين وليس ذلك ممتنعا والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه فأما ما كان صفة لازمة لذاته وهو داخل في مسمى أسمه فقول القائل : إنه مفتقر إليها كقوله : إنه مفتقر إلى نفسه فإن القائل إذا قال : دعوت الله أو عبدت الله كان اسم الله متناولا للذات المتصفة بصفاتها ليس أسم الله أسما للذات مجردة عن صفاتها اللازمة لها


مذهب النفاة في الصفات والرد عليه
وحقيقة ذلك أنه لا تكون نفسه إلا بنفسه ولا تكون ذاته إلا بصفاته ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى أسمها وهذا نحق ولكن قول القائل إن هذا افتقار إلى غيره تلبيس فإن ذلك يشعر أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه وهذا باطل لأنه قد تقدم أن لفظ الغير يراد به ما كان مفارقا له بوجود أو زمان أو مكان ويراد يه ما أمكن العلم به دونه والصفة لا تسمى غيرا له بهذا المعنى وأما بالمعنى الثاني فلا يمتنع أن يكون وجوده مشروطا بصفات وأن يكون مستلزما لصفات وإن سميت تلك الصفات غيرا فليس في إطلاق اللفظ ما يمنع صحة المعاني العقلية سواء جاز إطلاق اللفظ أو لم يجز
وهؤلاء عمدوا إلى المعاني كالصحيحة العقلية وأطلقوا عليها ألفاظا مجملة تتناول الباطل الممتنع كالرافض الذي يسمى أهل السنة ناصبة فيوهم أنهم نصبوا العداوة لأهل البيت رضي الله عنهم
وقد بينا في غير هذا الموضع أن إثبات المعاني القائمة التي توصف بها الذات لا بد منه لكل عاقل وأنه لا خروج عن ذلك : إلا بجحد وجود الإرادة فقود هذه المقالة يستلزم أن يكون وجود كل شيء هو عين وجود الخالق تعالى وهذا منتهي الإلحاد وهو مما يعلم بالحس والعقل والشرع أنه في غاية الفساد ولا مخلص من هذا إلا بإثبات الصفات مع نفي مماثلة المخلوقات وهو دين الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وذلك أن نفاة الصفات من المتفلسفة ونحوهم يقولون : إن العاقل والمعقول والعقل والعاشق والمعشوق والعشق واللذة واللذيذ والملتذ : هو شيء واحد وإنه موجود واجب له عناية ويفسرون عنايته بعلمه أو عقله ثم يقولون : وعلمه أو عقله هو ذاته وقد يقولون : إنه حي عليم قدير مريد متكلم سميع بصير ويقولون : إن ذلك كله شيء واحد فإرادته عين قدرته وقدرته عين علمه وعلمه عين ذاته
وذلك أن من أصلهم : أنه ليس له صفة ثبوتية بل صفاته : إما سلب كقولهم : ليس بجسم ولا متحيز وإما إضافة كقولهم : مبدأ وعلة وإما مؤلف منهما كقولهم : عاقل ومعقول وعقل ويعبرون عن هذه المعاني بعبارات هائلة كقولهم : إنه ليس فيه كثرة كم ولا كثرة كيف أو إنه ليس له أجزاء حد ولا أجزاء كم أو أنه لا بد من إثباته موحدا توحيدا منزها مقدسا عن المقولات العشر : عن الكم والكيف والأين والوضع والإضافة ونحو ذلك
ومضمون هذه العبارات وأمثالها نفي صفاته وهم يسمون نفي الصفات توحيدا وكذلك المعتزلة ومن ضاهاهم من الجهمية يسمون ذلك توحيدا
وهم ابتدعوا هذا التعطيل الذي يسمونه توحيدا وجعلوا اسم التوحيد واقعا على غير ما هو واقع عليه في دين المسلمين فإن التوحيد الذي بعث الله له رسله وأنزل به كتبه هو أن يعبد الله لا يشرك به شيئا ولا يجعل له ندا كما قال تعالى { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 1 - 6 ]
ومن تمام التوحيد أن يوصف الله تعالى يما وصف به نفسه وبما وصفه رسوله ويصان ذلك عن التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل كما قال تعالى { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : 1 - 4 ]
ومن هنا ابتدع من ابتدع لمن اتبعه على نفي الصفات اسم الموحدين وهؤلاء منتهاهم أن يقولوا : هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة منهم أو بشرط نفي الأمور الثبوتية كما قاله ابن سينا وأتباعه أو يقولون : هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله القونوي وأمثاله
ومعلوم بصريح العقل الذي لم يكذب قط أن هذه الأقوال باطلة متناقضة من وجوه :


الرد على نفاة الصفات من وجوه الأول
أحدهما : أن جعل عين العلم عين القدرة ونفس القدرة هي نفس الإدارة والعناية ونفس الحياة هي نفس العلم والقدرة ونفس العلم نفس الفعل والإبداع ونحو ذلك معلوم الفساد بالضرورة فإن هذه حقائق متنوعة ن فإن جعلت هذه الحقيقة هي تلك كان بمنزلة من يقول : إن حقيقة السواد هي حقيقة الطعم هي حقيقة اللون وأمثال ذلك مما يجعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة


الثاني
الوجه الثاني : أنه من المعلوم أن القائم بنفسه ليس هو القائم بغيره والجسم ليس هو العرض والموصوف ليس هو الصفة والذات ليست هي النعوت فمن قال : إن العالم هو العلم والعلم هو العالم فضلاله بين وكذلك معلوم أن العلم ليس هو المعلوم فمن قال : إن العلم هو المعلوم والمعلوم هو العلم فضلاله بين أيضا
ولفظ العقل إذا أريد به المصدر فليس المصدر هو العاقل الذي هو اسم الفاعل ولا المعقول الذي هو اسم مفعول وإذا أريد بالعقل جوهر قائم بنفسه فهو العاقل فإذا كان يعقل نفسه أو غيره فليس عين عقله لنفسه أو غيره هو عين ذاته وكذلك إذا سمى عاشقا ومعشوقا بلغتهم أو قيل : محبوب ومحب بلغة المسلمين فليس الحب والعشق هو نفس العاشق ولا المحب ولا العشق ولا الحب هو المعشوق ولا المحبوب بل التمييز بين مسمى المصدر ومسمى اسم الفاعل واسم المفعول والتفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطر العقول ولغات الأمم فمن جعل أحدهما هو الآخر كان قد أتى من السفسطة بما لا يخفى على من يتصور ما يقول : ولهذا كان منتهى هؤلاء السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات


الثالث
الوجه الثالث : أن يقال : الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق جسم مطلق بشر الإطلاق ووجود مطلق بشرط الإطلاق : لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان
ولما اثبت قدماؤهم الكليات المجردة ع الأعيان التي يسمونها المثل الأفاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا : هذه لا تكون إلا في الذهن ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا : إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة ن ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان بل يمتنع أن تكون شرطا في وجود الأعيان فإنها إما أن تكون صفة للأعيان أو جزءا منها
وصفة الشيء لا تكون خالقة للموصوف وجزء الشيء لا يكون خالقا للجملة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعا لغيره من الموجودات بل امتنع أن يكون شرطا في وجود غيره فإذن تكون المحدثات والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق إن قيل : إن له وجودا في الخارج فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكارا على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجا عن الذهن
وهم قد قرروا ا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وقديم ومحدث
ومورج التقسيم مشترك بين الأقسام فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق أو بشرط سلب الأمور الثبةتية ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضا لشيء من الماهيات والحقائق
وهذا التعبير مبني على أصلهم تالفاسد وهو ا الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة ويفارقها أخرى
ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان والوجود بما يكون في الأعيان لكان هذا صحيحا لا ينازع فيه عاقلن وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن هي بعينها الموجود الذي في الخارج فظنوا أن في هذا الإنسان المعين جواهر عقلية قائمة بأنفسها مغيرة لهذا المعين مثل كونه حيوانا ناطقا وحساسا ومتحركا بالإرادة ونحو ذلك
والصواب أن هذه كلها أسماء لهذا المعين كل اسم يتضمن صفة ليست هي الصفة التي يتضمنها الاسم الآخر فالعين في الخارج هو هو ليس هناك جوهران اثنان حتى يكون أحدهم عارضا للآخر أو معروضا بل هناك ذات وصفات وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنه لم يمكن ابن سينا وأمثاله أن يجعلوه الوجود المنقسم إلى واجب وممكن فجعلوه الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كما بين ذلك في شفائه وغيره من كتبه
وهذا مما قد بين هو ـ ومما يعلم كل عاقل ـ أنه يمتنع وجوده في الخارج ثم إذا جعل مطلقا بشرط الإطلاق لم يجز أن ينعت بنعت يوجب امتيازه فلا يقال : هو واجب بنفسه ولا ليس بواجب بنفسه فلا يوصف بنفي ولا إثبات لن هذا نوع من التمييز والتقييد
وهذا حقيقة قول القرامطة الباطنية الذين يمتنعون عن وصفه بالنفي والإثبات ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع كما أن الجمع بين النقيضين ممتنع
وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية دون العدمية فهو أسوأ جالا من المقيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية فإنه يشارك غيره في مسمى الوجود ويمتاز عنه بأمور وجودية وهو يمتاز عنها بأمور عدمية فيكون كل من الموجودات أكمل منه
وأما إذا قيد بسلب الأمور الثبوتية والعدمية معا كان أقرب إلى الوجود من أن يمتاز بسلب الوجود دون العدم وإن كان هذا ممتنعا فذاك ممتنع أيضا وهو أقرب إلى العدم فلزمهم أن يكون الوجود الواجب الذي لا يقبل العد هو الممتنع الذي لا يتصور وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن تقديرا كما يقدر كون الشيء موجودا معدوما أو لا موجودا ولا معدوما فلزم الجمع بين النقيضين والخلو عن النقيضين
وهذا من أعظم الممتنعات بإتفاق العقلاء ن بل قد يقال : إن جميع الممتنعات ترجع إلى الجمع بين النقيضين فلهذا كان ابن سينا وأمثاله من أهل دعوة القرامطة الباطنية من أتباع الحاكم الذي كان بمصر وهؤلاء وأمثالهم من رؤوس الملاحدة الباطنيةن وقد ذكر ذلك عن نفسه وأنه كان هو وأهل بيته من أهل دعوة هؤلاء المصريين الذين يسميهم المسلمون الملاحدة لإلحادهم في أسماء الله وآياته إلحادا أعظم من إلحاد اليهود والنصاري
وأما ملاحدة المتصوفة : كابن عربي الكائي وصاحبه الصدر القونوي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم فقد يقولون : هو الوجود المطلق كما قاله القونوي وجعله هو الوجود من حيث هو هو مع قطع النظر عن كونه واجبا وممكنا وواحدا وكثيرا وهذا معنى قول ابن سبعين وأمثاله القائلين بالإحاطة
ومعلوم أن المطلق لا بشرط ـ كالإنسان المطلق لا بشرط ـ يصدق على هذا الإنسان وهذا الإنسان وعلى الذهني والخارجي فالوجود المطلق لا بشرط يصدق على الواجب والممكن والواحد والكثير والذهني والخارجي وحينئذ فهذا الوجود المطلق ليس موجودا في الخارج مطلقا بلا ريب
ومن قال : إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فقد يريد به حقا وباطلا فإن أراد بذلك أن ما هو كلي في الذهن موجود في الخارج معينا : أي تلك الصورة الذهنية مطابقة للأعيان الموجودة في الخارج كما يطابق الاسم لمسماه والمعني الذهني الموجود الخارجي فهذا صحيح وإن أراد بذلك أن نفس الموجود في الخارج كلي حين وجوده في الخارج فهذا باطل مخالف للحس والعقل فإن الكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
وكل موجود في الخارج معين متميز بنفسه عن غيره يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه أعني هذه الشركة التي يذكرونها في هذا الموضع وهي اشتراك الأعيان في النوع واشتراك الأنواع في الجنس وهي اشتراك الكليات في الجزئيات
والقسمة المقابلة لهذه الشركة هي قسمة الكلي إلى جزئياته كقسمة الجنس إلى أنواع والنوع إلى أعيانه
وأما الشركة التي يذكرها الفقهاء في كتاب الشركة والقسمة المقابلة لها التي يذكرها الفقهاء في باب القسمة وهي المذكورة في قوله تعالى { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم } [ القمر : 28 ] وقوله { لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجرات : 44 ] فتلك شركة في الأعيان الموجودة في الخارج وقسمتها قسمة للكل إلى أجزاءه كقسمة الكلام إلى الاسم والفعل والحرف والأول كقسمة الكلمة الاصطلاحية إلى اسم وفعل وحرف
وإذا عرف أن المقصود الشركة في الكليات لا في الكل فمعلوم أنه لا شركة في المعينات فهذا الإنسان المعين ليس فيه شيء من هذا المعين ولا في هذا شيء من هذا ومعلوم أن الكلي الذي يصلح لاشتراك الجزئيات فيه لا يكون هو جزءا من الجزئي الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
فمن قال : إن الإنسان الكلي جزء من هذا الإنسان المعين أو إن الإنسان المطلق جزء من هذا المعين بمعني أن هذا المعين فيه شيء مطلق أو شيء كلي فكلامه ظاهر الفساد
وبهذا تنحل شبه كثيرة توجد في كلام الرازي وأمثاله من أهل المنطق ونحوهم ممن التبس عليهم هذا المقام


وجود الله هل هو ماهيته أو زائد على ماهيته ؟
وبسبب التباس هذا عليهم حاروا في وجود الله تعالى : هل هو ماهيته أم هو زائد على ماهيته ؟ وهل لفظ الوجود ن \ مقول بالتواطؤ والتشكيك أو مقول بالاشتراك اللفظي ؟
فقالوا : إن قلنا : إن لفظ الوجود مشترك اشتراكا لفظيا لزم ألا يكون الوجود منقسما إلى واجب وممكن وهذا خاف ما اتفق عليه العقلاء وما يعلم بصريح العقل
وإن قلنا : إنه متواطئ أو مشكك لزم أن تكون الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فيكون الوجود مشتركا بين الواجب والممكن فيحتاج الوجود المشترك إلى ما يميز وجود هذا عن وجود هذا والامتياز يكون بالحقائق المختصة فيكون وجود هذا زائدا على ماهيته فيكون الوجود الواجب مفتقرا إلى غيره
ويذكرون ما يذكره الرازي وأتباعه : أن للناس في وجود الرب تعالى ثلاثة أقوال فقط : أحدها أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي فقط
والثاني : أن وجود الواجب زائد على ماهيته
والثالث : أنه وجود مطلق ليس له حقيقة غير الوجود المشروط بسلب كل ماهية ثبوتية عنه


رأي ابن تيمية
فيقال لهم : الأقوال الثلاثة باطلة والقول الحق ليس واحدا من الثلاثة
وإنما أصل الغلط هو توهمهم أنا إذا قلنا : إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لزم أن يكون في الخارج وجود هو نفسه الواجب وهو نفسه في الممكن وهذا غلط فليس في الخارج بين الموجودين شيء هو نفسه فيهما ولكن لفظالوجود ومعناه الذي في الذهن والخط الذي يدل على اللفظ يتناول الموجودين ويعمهما وهما يشتركان فيه فشمول معنى الوجود الذي في الذهن لهما كشمول لفظ الوجود والخط الذي يكتب به هذا اللفظ لهما فهما مشتركان في هذا وأما نفس ما يوجد في الخارج فإنما يشتبهان فيه من بعض الوجوه فأما أن تكون نفس ذات هذا وصفته فيها شيء من ذات هذا وصفته فهذا مما يعلم فساده كل من تصوره ومن توقف فيه فلعدم تصوره له
وحينئذ فالقول في اسم الوجود كالقول في اسم الذات والعين والنفس والماهيةوالحقيقة وكما أن الحقيقة تنقسم إلى : حقيقة واجبة وحقيقة ممكنة وكذلك لفظ الماهية ولفظ الذات ونحو ذلك فكذلك لفظ الوجود فإذا قلنا : إن الحقيقة أو الماهية تنقسم إلى واجبة وممكنة لم يلزم أن تكون ماهية الواجب فيها شيء من ماهية الممكن فذلك إذا قيل : الوجود ينقسم إلى واجب وممكن لم يلزم أن يكون الوجود الواجب فيه شيء من وجود غيره بل ليس فيه وجود مطلق ولا ماهية مطلقة بل ماهيته هي حقيقية وهي وجوده
وإذا كان المخلوق المعين وجوده الذي في الخارج هو نفس ذاته وحقيقته وماهيته التي في الخارج ليس في الخارج شيئان فالخالق تعالى أولى أن تكون حقيقته هي وجوده الثابت الذي لا يشركه فيه أحد وهو نفس ماهيته التي هي حقيقته الثابتة في نفس الأمر
ولو قدر أن الوجود المشترك بين الواجب والممكن موجود فيهما في الخارج وأن الحيوانية المشتركة هي بعينها في الناطق والأعجم : كان تميز أحدهما عن الآخر بوجود خاص كما يتميز الإنسان بحيوانية تخصه وكما أن السواد والبياض إذا اشتركا في مسمى اللون تميز أحدهما بلونه الخاص عن الآخر
وهؤلاء الضالون يجعلون الواحد اثنين والأثنين واحد فيجعلون هذه الصفة هي هذه الصفة ويجعلون الصفة هي الموصوف فيجعلون الاثنين واحدا كما قالوا : إن العلم هو القدرة وهو الإرادة والعلم هو العالم ويجعلون الواحد اثنين كما يجعلون الشيء المعين الذي هو هذا الإنسان هو عدتة جواهر : : إنسان وحيوان وناطق وناطق وحساس ومتحرك بالإرادة ويجعلون كلا من هذه الجواهر غير الآخر ومعلوم أنه جوهر واحد له صفات متعددة وكما يفرقون بين المادة والصورة ويجعلونهما جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما وإنما المعقول هو قيام الصفات بالموصوفات والاعراض بالجواهر كالصورة الصناعية : مثل صورة الخاتم والدرهم والسرير والثوب فإنه عرض قائم بجوهر هو الفضة والخشب والغزل وكذلك الاتصال والانفصال قائمان بمحل هو الجسم
وهكذا يجعلون الصورة الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات للمادة وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلا النفس الناطقة إذا فارقت البدن بالموت والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها ويجعلون الموجد في الخارج هو الموجود في الذهن كما يجعلون الوجود الواجب هو الوجود المطلق
فهذه الأمور من أصول ضلالهم : حيث جعلوا الواحد متعددا والمتعدد وحدا وجعلوا من في الذهن في الخارج وجعلوا ما في الذهن ولزم من ذلك أن يجعلوا الثبت منتفيا والمنتفي ثابتا فهذه الأمور من أجناس ضلالهم وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أنا ننبه على بعض ما نبين به تناقضهم وضلالهم في عقلياتهم التي نفوا بها صفات الله عز و جل وعارضوا بها نصوص الرسول الثابتة بصحيح المنقول الموافقة لصريح المعقول وكلما أمعن الفاضل الذكي في معرفة أقوال هؤلاء الملاحدة ومن وافقهم في بعض أقوالهم من أهل البدع كنفاة بعض الصفات الذين يزعمون أن المعقول عارض كلام الرسول وأنه يجب تقديمه عليه فإنه يتبين له انه يعلم بالعقل الصريح ما يصدق ما أخبر به الرسول وما به يتبين فساد ما يعارض ذلك
ولكن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وصاروا يدخلون فيها من المعاني ماليس هو المفهوم منها في لغات الأمم ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض وعظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المشتركة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وخاطبوه بما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض علهم قالوا له : أنت لا تفهم هذا وهذا لا يصلح لك فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية يحملها على أن تسلم تلك الأمور قبل تحقيقها عنده وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل ونقلوا الناس في مخاطبتهم درجات كما ينقل إخوانهم القرامطة المستجيبين لهم درجة حتى يوصلوهم إلى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي مضمونه جحد الصانع وتكذيب رسله وجحد شرائعه وفساد العقل والدين والدخول في غاية الإلحاد ن المشتمل على غاية الفساد في المبدأ والمعاد


كيف نعرف الضلال ونتجنبه
وهذا القدر الذي وقع فيه ضلال المتفلسفة لم يقصده عقلاؤهم في الأصل بل كان غرضهم تحقيق الأمور والمعارف لكن وقعت لهم شبهات ضلوا بها كما ضل من ضل ابتداء من المشركين منهم ومن غيرهم من الكفار ممن ضل ببعض الشبهات ولهذا يجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وأمثالهم : أن يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين معناه ويعرف مقصوده ويكون الكلام في المعاني العقلية المبينة لا في معان مشتبهة بألفاظ مجملة
واعلم أن هذا نافع في الشرع والعقل :
أما الشرع : فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله ورسوله فكل ما ثبت أن الرسول صلى الله عليه و سلم قاله فعلينا أن نصدق به وإن لم نفهم معناه لأنا قد علمنا أنه الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق وما تنازع فيه الأمة من الألفاظ المجملة كلفظ المتحيز والجهة والجسم والجوهر والعرض وأمثال ذلك فليس على أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء لا في النفي ولا في الإثبات حتى يتبين له معناه فإن كان المتكلم بذلك أراد معنى صحيحا وافقا لقول المعصوم كان ما أراده حقا وإن كان أراد به معنى مخالفا لقول المعصوم كان ما أراده باطلا
ثم يبقى النظر في إطلاق ذلك اللفظ ونفيه وهي مسألة فقهية فقد يكون المعنى صحيحا ويمتنع من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة وقد يكون اللفظ مشروعا ولكن المعنى الذي أراده المتكلم باطل كما قال علي رضي الله عنه ـ لمن قال من الخوارج المارقين لا حكم إلا لله : كلمة حق أريد بها باطل
وقد يفرق بين اللفظ الذي يدعى به الرب فإنه لا يدعى إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر به عنه لإثبات حق أو نفي باطل
وإذا كان في باب العبارة عن النبي صلى الله عليه و سلم علينا أن نفرق بين مخاطبته وبين الإخبار عنه فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب الله تعالى حيث قال { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } [ النور : 63 ] فلا نقول : يا محمد يا أحمد كما يدعو بعضنا بعضا بل نقول : يا رسول الله يا نبي الله
والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم فقال { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة : 35 ] { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } [ هود : 48 ] { يا موسى * إني أنا ربك } [ طه : 11 - 12 ] { يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } [ آل عمران : 55 ] ولما خاطبه صلى الله عليه و سلم قال { يا أيها النبي } [ التحريم : 1 ] { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه
وأما إذا كان في مقام الإخبار عنه قلنا : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وقلنا : محمد رسول الله وخاتم النبيين فنخبر عنه باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه صلى الله عليه و سلم { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [ الحزاب : 40 ] وقال { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا } [ الفتح : 29 ] وقال { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } [ آل عمران : 144 ] وقال { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } [ محمد : 2 ]
فالفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل وبه يظهر الفرق بين ما يدعى الله به من الأسماء الحسنى وبين ما يخبر به عنه وجل مما هو حق ثابت لإثبات ما يستحقه سبحانه من صفات الكمال ونفي ما تنزه عنه عز و جل من العيوب والنقائص فإنه الملك القدوس السلام سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وقال تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } [ الأعراف : 180 ] مع قوله { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام : 19 ] ولا يقال في الدعاء : يا شيء
وأما نفع هذا الاستفسار في العقل : فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني لم يقبل قوله ولم يرد حنى نستفسره ونستفصله حتى يتبين المعنى المراد ويبقى الكلام في المعاني العقلية لا في المنازعات اللفظية فقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء ومن كان متكلما بالمعقول الصرف لم يتقيد بلفظ بل يجرد بأي عبارة دلت عليه
أرباب المقالات تلقوا عن أسلافهم مقالات بألفاظ لهم : منها ما كان أعجميا فعربت كما عربت ألفاظ اليونان والهند والفرس وغيرهم وقد يكون المترجم عنهم صحيح الترجمة وقد لا يكون صحيح الترجمة ومنها ما هو عربي
ونحن إنما نخاطب المم بلغتنا العربية فإذا نقلوا عن أسلافهم لفظ الهيولى والصورة والمادة والعقل والنفس والصفات الذاتية والعرضية والمجرد والتركيب والتأليف والجسم والجوهر والعرض والماهية والجزءونحو ذلك بين ما تحتمل هذه الألفاظ من المعاني كما إذا قال قائلهم : النوع مركب من الجنس والفصل كتركيب الإنسان من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية وإن هذه أجزاء الإنسان وأجزاء الحد والواجب سبحانه إذا كان له صفات لزم أن يكون مركبا ولمركب مفتقر إلى أجزائه والمفتقر إلى أجزائه لا يكون واجبا ـ استفسروا عن لفظ التركيب والجزء والافتقار والغير فإن جميع هذه الألفاظ فيها اشتراك والتباس وإجمال
فإذا قال القائل : الإنسان مركب من الحيوان والناطق أو من الحيوانية والناطقية
قيل له : أتعني بذلك الإنسان الموجود في الخارج وهو هذا الشخص وهذا الشخص أو تعني الإنسان المطلق من حيث هو هو ؟
فإن أراد الأول قيل له : هذا الإنسان وهذا الإنسان وغيرهما إذا قلت ك هو مركب من هذين الجزأين
فيقال لك : الحيوان والناطق جوهران قائمان بأنفسهما
فإذا قلت : هما جزءان للإنسان الموجود في الخارج لزم أن يكون الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران : أحدهما حيوان والآخر ناطق غير الإنسان المعين وهذا مكابرة للحس والعقل
وإن قال : أنا أريد بذلك أن الإنسان يوصف بأنه حيوان وأنه ناطق
قيل له : هذا معنى صحيح لكن تسمية الصفات أجزاء ودعوى أن الموصوف مركب منها وأنها متقدمة عليه ومقومة له في الوجودين الذهني والخارجي كتقدم الجزء على الكل والبسيط على المركب ونحو ذلك مما يقولونه في هذا الباب : هو مما يعلم فساده بصريح العقل
وإن قال : هو مركب من الحيوانية والناطقية
قيل له : إن أردت بالحيوانية والناطقية : الحيوان والناطقن كان الكلام واحدا وإن أردت العرضين القائمين بالحي الناطق وهما : صفتاه كان مضمونه أن الموصوف مركب من صفاته وأنها أجزاء له ومقومة له وسابقة عليه ومعلوم أن الجوهر لا يتركب من الأعراض وأن صفات الموصوف لا تكون سابقة له في الوجود الخارجي
وإن قال : أنا أريد بذلك أن الإنسان من حيث هو هو مركب من ذلك
قيل له : إن الإنسان من حيث هو هو لا وجود له في الخارج بل هذا هو الإنسان المطلق والمطلقات لا تكون مطلقة إلا في الأذهان فقد جعلت المركب هو ما يتصوره الذهن وما يتصوره الذهن هو مركب من الأمور التي يقدرها الذهن فإذا قدرت في النفس جسما حساسا متحركا بالإرادة ناطقا كان هذا المتصور في الذهن مركبا من هذه الأمور وإن قدرت في النفس حيوانا ناطقا كان مركبا من هذا وهذا وإن قدرت حيوانا صاهلا كان مركبا من هذا وهذا
وإن قلت : إن الحقائق الموجودة في الخارج مركبة من هذه الصور الذهنية كان هذا معلوم الفساد بالضرورة
وإن قلت : إن هذه مطابقة لها وصادقة عليها فهذا يكون صحيحا إذا كان ما في النفس علما لا جهلا
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن سوغ جعل الحقائق المتنوعة حقيقة واحدة بالعين كان كلامه مستلزما أن يجعل وجود الحقائق المتنوعة وجودا واحدا بالعين بل هذا أولى لأن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فمن اشتبه عليه أن العلم هو القدرة وأنهما نفس الذات العالمة القادرة : كان أن يشتبه عليه أن الوجود واحد أولى وأحرى
وهذه الحجة المبينة على التركيب هي أصل قول الجهمية نفاة الصفات والأفعال وهم الجهمية من المتفلسفة ونحوهم ويسمون ذلك التوحيد


حجة الأعراض عند المتكلمين
وأما المعتزلة وأتباعهم فقد يحتجون بذلك لكن عمدتهم الكبرى حجتهم التي زعموا أنهم أثبتوا بها حدوث العالم وهي حجة الأعراض فإنهم استدلوا على حدوث العالم بحدوث الأجسام واستدلوا على حدوث الأجسام بأنها مستلزمة للأعراض كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق ثم قالوا : إن الأعراض أو بعض الأعراض حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا ثم إثبات لزومها للجسم
فادعى قوم أن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض وأن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده وادعوا أن كل جسم له طعم ولون وريح وأن العرض لا يبقى زمانين كما زعم ذلك من سلكه من أهل الكلام الصفاتية نفاه الفعل الاختياري القائم بذاته كالقاضي أبو بكر و أبي المعالي ونحوهما ومن يوافقهم أحيانا كالقاضي أبي يعلى وغيره ولما ادعوا أن الأعراض جميعها لا تبقى زمانين لزم أن تكون حادثة شيئا بعد شيء والجسم لا يخلو منها فيكون حادثا بناء على امتناع حوادث لا أول لها
وعلى هذه الطريق اعتمد كثير منهم في حدوث العالم ومن متأخريهم أبو الحسن الآمدي وغيره
وأما جمهور العقلاء فأنكروا ذلك وقالوا : من المعلوم أن الجسم يكون متحركا تارة وساكنا أخرى
وهل السكون أمر وجودي أو عدمي ؟ على قولين
وأما الاجتماع والافتراق فمبني على إثبات الجوهر الفرد
فمن قال بإثباته قال : إن الجسم لا يخلو عن الأكوان الأربعة وهي : الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ومن لم يقل بإثباته لم يجعل الاجتماع من الأعراض الزائدة على ذات الجسم
ونفاة الجوهر الفرد كثير من طوائف أهل الكلام وأهل الفلسفة كالهشامية والنجارية والضرارية والكلابية وكثير من الكرامية
وأما من قال : إن نفيه هو قول أهل الإلحاد وإن القول بعدم تماثل الأجسام ونحو ذلك هو من أقوال أهل الإلحاد : فهذا من أقوال المتكلمين كصاحب الإرشاد ونحوه ممن يظن أن هذا الدليل الذي سلكوه في إثبات العالم هو أصل الدين فما يفضي إلى إبطال هذا الدليل لا يكون إلا من أقوال الملحدين
ومن لم يقل بأن الجسم يستلزم جميع أنواع الأعراض قال : إنه يستلزم بعضها كالأكوان أو الحركة والسكون وإن ذلك حادث وهذه الطريقة هي التي يسلكها أكثر المعتزلة وغيرهم ممن قد يوافقهم أحيانا في بعض الأمور ك أبي الوفاء بن عقيل وغيره
ثم هؤلاء بعد أن أثبتوا لزوم الأعراض أو بعضها للجسم وأثبتوا حدوث ما يلزم الجسم أو حدوث بعضه احتاجوا إلى أن يقولوا : ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فمنهم من اكتفى بذلك ظنا منهم أن ذلك ظاهر ومنهم من تفطن لكون ذلك مفتقرا إلى إبطال حوادث لا أول لها إذ يمكن أن يقال : إن الحادث بعد أن لم يكن هو كل شخص شخص من أعيان الحوادث وأما النوع فلم يزل فتكلموا هنا في إبطال وجود ما لا نهاية له بطريق التطبيق والموازاة والمسامتة
وملخص ذلك أن ما لا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان وفرض حد بعد ذلك كزمن الهجرة وقدر امتداد هذين إلى ما لا نهاية له فإن لزم كون الزائد مثل الناقص وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى
وهذه نكتة الدليل فإن منازعيهم جوزوا مثل هذا التفاضل إذا كان ما لا يتناهى ليس هو موجودا له أول وآخر وألزموهم بالأبد وذلك إذا أخذ ما لا يتناهى في أحد الطرفين قدر متناهيا من الطرف الآخر كما إذا قدرت الحوادث المتناهية إلى زمن الطوفان وقدرت إلى زمن الهجرة فإنها كانت لا تتناهى من الطرف المتقدم فإنها متناهية من الطرف الذي يلينا
فإذا قال القائل : إذا طبقنا بين هذه وهذه فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص أو أن يكون وجود الزيادة كعدمها وإن تفاضلا لزم وجود التفاضل فيما لا يتناهى
كان لهم عنه جوابان :
أحدهما : أنا لا نسلم إمكان التطبيق مع التفاضل وإنما يمكن التطبيق بين المتماثلين لا بين المتفاضلين
والجواب الثاني : أن هذا يستلزم التفاضل بين الجانب التناهي لا بين الجانب الذي لا يتناهى وهذا لا محذور فيه
ولبعض الناس جواب ثالث وهو أن التطبيق إنما يمكن في الموجود لا في المعدوم
وقد وافق هؤلاء على إمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل طوائف كثيرة ممن يقول بحدوث الأفلاك من المعتزلة والأشعرية والفلاسفة وأهل الحديث وغيرهم فإن هؤلاء جوزوا حوادث لا أول لها مع قولهم بأن الله أحدث السماوات والأرض بعد أن لم يكونا وألزموهم بالأبد ونشأ عن هذا البحث كلامهم في الحوادث المستقبلة فطرد إماما هذا الطريق الجهم بن صفوان إمام الجهمية الجبرية وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة القدرية فنفيا ثبوت ما لا يتناهى في المستقبل فقال الجهم بفناء الجنة والنار وأبو الهذيل اقتصر على القول بفناء حركات أهل الجنة والنار
وعن ذلك قال أبو المعالي بمسألة الاسترسال : وهو أن علم الرب تعالى يتناول الأجسام بأعيانها ويتناول أنواع الأعراض بأعيانها وأما آحاد الأعراض فيسترسل العلم عليها لامتناع ما لا يتناهى علما وعينا
وأنكر الناس ذلك عليه وقالوا فيه أقوالا غليظة حتى يقال : إن أبا القاسم القشيري هجره لأجل ذلك
وصار طوائف المسلمين في جواز حوادث لا تتناهى على ثلاثة أقوال :
قيل : لا يجوز في الماضي ولا في المستقبل
وقيل : يجوز فيهما
وقيل : يجوز في المستقبل دون الماضي
ثم إن المعتزلة والجهمية نفت أن يقوم بالله تعالى صفات وأفعال بناء على هذه الحجة
قولوا : لأن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وبذلك استدلوا على حدوث الجسم
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه فوافقوهم على إنتفاء قيام الأفعال به وخالفوهم في قيام الصفات فأثبتوا قيام الصفات به وقالوا : لا نسميها أعراضا لأنها باقية والأعراض لا تبقى
وأما ابن كرام وأتباعه : فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضا كما لم يمتنعوا من تسميته جسما
وعن هذا الحجة ونحوها نشأ القول بأن القرآن مخلوق وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش ونحو ذلك من مقالات الجهمية النفاة لأن القرآن كلام وهو صفة من الصفات والصفات عندهم لا تقوم به وأيضا فالكلام يستلزم فعل المتكلم وعندهم لا يجوز قيام فعل به ولأن الرؤية تقتضي مقابلة ومعاينة والعلو يقتضي مباينة ومسامته وذلك من صفات الأجسام
وبالجملة فقد صاروا ينفون ما ينفونه من صفات الله تعالى لأن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما وذلك ممتنع لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام فلو كان جسما لبطل دليل إثبات الصانع
ومن هنا قال هؤلاء : إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول
وقالوا إنه لا يمكن تصديق الرسول لو قدر أنه يخبر بذلك لأن صدقه لا يعلم بعد أن يثبت العلم بالصانع ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحودث الأجسام
قالوا : وإثبات الصفات له يقتضي أنه جسم قديم فلا يكون كل جسم حادثا فيبطل دليل إثبات العلم به
وقالت المعتزلة ك أبي الحسين وغيره : إن صدق الرسول معلوم بالمعجزة والمعجزة معلومة بكون الله تعالى لا يظهرها على يد كاذب وذلك معلوم بكون إظهارها على يد الكذاب قبيحا والله منزه عن فعل القبيح وتنزيهه عن فعل القبيح معلوم بأنه غني عنه عالم بقبحه والغني عن الشيء العالم بقبحه لا يفعله وغناه معلوم بكونه ليس بجسم وكونه ليس بجسم معلوم بنفي الصفات فلو قامت به الصفات لكان جسما ولو كان جسما لم يكن غنيا وإذا لم يكن غنيا لم يمتنع عليه فعل القبيح فلا يؤمن أن يظهر المعجزة على يد كذاب فلا يبقى لنا طريق إلى العلم بصدق الرسول
فهذا الكلام ونحوه أصل دين المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة
وكذلك أبو عبدالله بن الخطيب وأمثاله : أثبتوا وجود الصانع بأربع طرق منها ثلاثة مبنية على أصلين وربما قالوا بست طرق منها خمسة مبنية على الأصلين المتقدمين في توحيد الفلاسفة وتوحيد المعتزلة
فإنه قال : الاستدلال على الصانع إما أن يكون : بالإمكان أو الحدوث وكلاهما : إما في الذات وإما في الصفات وربما قالوا : وإما فيهما
فالأول : إثبات إمكان الجسم بناء على حجة التركيب التي هي أصل الفلاسفة
والثاني : بيان حدوثه بناء على حجة حدوث الحركات والأعراض التي هي أصل المعتزلة
والثالث : إمكان الصفات بناء على تماثل الأجسام
والرابع : إمكانهما جميعا
والخامس : حدوث الصفات وهذا هو الطريق المذكور في القرآن
والسادس : حدوث الأجسام وصفاتها وهو مبني على ما تقدم
وهذه الطرق الست كلها مبنية على الجسم إلا الطريق الذي سماه حدوث الصفات يعني بذلك ما يحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب والمطر وغير ذلك وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعة لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد ويقول بتماثل الأجسام وإن ما يحدثه الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها وهؤلاء ينكرون الاستحالة
وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم وأن الله تعالى يحدث الأعيان ويبدعها وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر فلا يقولون : إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان ولا جرم النواة باق في النخلة
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع فإن هذه الجمل هي من جوامع الكلام المحدث الذي كان السلف والأئمة يذمونه وينكرون على أهله
والمقصود هنا أن هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية والنصوص النبوية وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها
فيقال لهم : أنتم وكل مسلم عالم تعلمون بالاضطرار أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكن مبنيا على هذه الحجج المبنية على الجسم ولا أمر النبي صلى الله عليه و سلم أحدا أن يستدل بذلك على إثبات الصانع ولا ذكر الله تعالى في كتابه وفي آياته الدالة عليه وعلى وحدانيته شيئا من هذه الحجج المبنية على الجسم والعرض وتركيب الجسم وحدوثه وما يتبع ذلك
فمن قال : إن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ومن قال : إن سلوك هذه الطريق واجب في معرفة الصانع تعالى كان قوله من البدع الباطلة المخالفة لما علم بالاضطرار من دين الإسلام
ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا : وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم
ثم القائلون بان هذه الطريق ليست واجبة قد يقولون : إنها في نفسها صحيحة بل ينهى عن سلوكها لما فيها من الأخطار كما يذكر ذلك طائفة : منهم الأشعري و الخطابي وغيرهما
وأما السلف والأئمة فينكرون صحتها في نفسها ويعيبونها لاشتمالها على كلام باطل ولهذا تكلموا في ذم هذا الكلام لأنه باطل في نفسه لا يوصل إلى الحق بل إلى باطل كقول من قال : الكلام الباطل لا يدل إلا على باطل وقول من قال : لو أوصى بكتب العلم لم يدخل فيها كتب علم الكلام وقول من قال : من طلب الدين بالكلام تزندق ونحو ذلك
ونحن الآن في هذا المقام نذكر ما لا يمكن مسلما أن ينازع فيه وهو أنا نعلم بالضرورة أن هذه الطريق لم يذكرها الله تعالى في كتابه ولا أمر بها رسوله صلى الله عليه و سلم ولا جعل إيمان المتبعين له موقوفا عليها فلو كان الإيمان بالله لا يحصل إلا بها لكان بيان ذلك من أهم مهمات الدين بل كان ذلك أصل أصول الدين لا سيما وكان يكون فيها أصلان عظيمان : إثبات الصانع وتنزيهه عن صفات الأجسام كما يجعلون هم ذلك أصل دينهم فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن الإيمان يحصل بدونها بل إيمان أفضل هذه الأمة وأعلمهم بالله كان حاصلا بدونها
فمن قال بعد هذا : إن العلم بصحة الشرع لا يحصل إلا بهذا الطريق ونحوها من الطرق المحدثة كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام وعلم أن القدح في مدلول هذه الطرق ومقتضاها وأن تقديم الشرع المعارض لها لا يكون قدحا في العقليات التي هي أصل الشرع بل يكون قدحا في أمور لا يفتقر الشرع إليها ولا يتوقف عليها وهو المطلوب
فتبين أن الشرع المعارض لمثل هذه الطرق التي إنها عقليات إذا قدم عليها لم يكن في ذلك محذور


بطلان استدلال المتكلمين بقصة الخليل على رأيهم
ومن عجائب الأمور : أن كثيرا من الجهمية نفاة الصفات والأفعال ن ومن اتبعهم على نفي الأفعال : يستدلون على ذلك بقصة الخليل صلى الله عليه و سلم كما ذكر ذلك بشر المريسي وكثير من المعتزلة ومن أخذ ذلك عنهم أ و عمن أخذ ذلك عنهم كأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد والرازي وغيرهم وذكروا في كاتبهم أن هذه الطريقة هي طريقة إبراهيم الخليل عليه صلوات الله وسلامه وهو قوله { لا أحب الأفلين } [ الأنعام : 76 ]
قالوا : فاستدل بالأفول الذي هو الحركة والانتقال على حدوث ما قام به ذلك كالكوكب والقمر والشمس
وظن هؤلاء أن قول إبراهيم عليه السلام { هذا ربي } [ الأنعام : 77 ] أراد به : هذا خالق السماوات والأرض القديم الأزلي وأنه استدل على حدوثه بالحركة
وهذا خطأ من وجوه :


الوجه الأول
أحدهما : أن قول الخليل { هذا ربي } ـ سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي : أو غير ذلك ـ ليس المراد به : هذا رب العالمين القديم الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا كان قومه يقولون : إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه ولا قال هذا أحد من اهل المقالات المعروفة التي ذكره الناس : لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب ولا من مقالات غيرهم بل قوم إبراهيم صلى الله عليه و سلم كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون إليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين وغير ذلك وهو دين المشركين الذين صنف الرازي كتابه على طريقتهم وسماه السر المكتوم في دعوة الكواكب والنجوم والسحر والطلاسم والعزائم
وهذا دين المشركين من الصبئين كالكشدانيين والكنعانيين واليونانيين وأرسطوا وأمثاله من أهل هذا الدين وكلامه معروف في السحر الطبيعي والسحر الروحاني والكتب المعروفة بذخيرة الإسكندر بن فليبس الذي يؤرخون به وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة
وكانت اليونان مشركين يعبدون الأوثان كما كان قوم إبراهيم مشركين يعبدون الأوثان ولهذا قال الخليل { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } [ الزخرف : 26 - 27 ] وقال { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 75 - 77 ] وأمثال ذلك مما يبين تبرؤه مما يعبدونه غير الله
وهؤلاء القوم عامتهم من نفاة صفات الله وأفعاله القائمة به كما هو مذهب الفلاسفة المشائين فإنهم يقولون : إن ليس له صفة ثبوتية بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وهو مذهب القرامطة الباطنية القائلين بدعوة الكواكب والشمس والقمر والسجود لها كما كان على ذلك من كان عليه من بني عبيد ملوك القاهرة وأمثالهم
فالشرك الذي نهي عنه الخليل وعادى أهله عليه كان أصحابه هم أئمة هؤلاء النفاة للصفات والأفعال وأول من أظهر هذا النفي في الإسلام : الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد
قال الإمام أحمد : وكان يقال إنه من أهل حران وعنه أخذ الجهم بن صفوان مذهب نفاة الصفات وكان بحران أئمة هؤلاء الصابئة الفلاسفة بقايا أهل هذا الدين أهل الشرك ونفي الصفات والأفعال ولهم مصنفات في دعوة الكواكب كما صنفه ثابت بن قرة وأمثاله من الصابئة الفلاسفة أهل حران وكما صنفه أبو معشر البلخي وأمثاله وكان لهم بها هيكل العلة الأولى ن وهيكل العقل الفعال وهيكل النفس الكلية وهيكل زحل وهيكل المشتري وهيكل المريخ وهيكل الشمس وهيكل الزهرة وهيكل عطارد وهيكل القمر وقد بسط هذا في غير هذا الموضع


الوجه الثاني
أنه لو كان المراد بقوله : { هذا ربي } أنه رب العالمين لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم لأن الكوكب والقمر والشمس ما زال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه وهو جسم متحرك متحيز صغير فلو كان مراده هذا للزم أن يقال : إن : إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين بل ولا كونه صغيرا بقدر الكوكب والشمس والقمر وهذا ـ مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ـ فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم


الوجه الثالث
أن الأفول هو المغيب والاحتجاب ليس هو مجرد الحركة والانتقال ولا يقول أحد ـ لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير ـ إن الشمس والقمر في حال مسيرهما في السماء : إنهما آفلان ولا يقول للكواكب المرئية في السماء في حال ظهورها وجريانها : إنها آفلة ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وسار وطار : إنه آفل


الوجه الرابع
أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف أهل التفسير ولا من أهل اللغة بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع
وبسبب هذا الابتداع أخذ ابن سينا وأمثاله لفظ الأفول بمعني الإمكان كما قال في إشاراته :
قال قوم إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكن إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى { لا أحب الأفلين } [ الأنعام : 76 ] فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما فهذا قوله
ومن المعلوم بالضرورة من لغة العرب : أنهم لا يسمون كل مخلوق موجود آفلا ولا كل موجود بغيره آفلا ولو كان الخليل أراد بقوله { لا أحب الأفلين } [ الأنعام : 76 ] هذا المعنى لم ينتظر مغيب الكوكب والشمس والقمر ففساد قول هؤلاء المتفلسفة في الاستدلال بالآية أظهر من فساد قول أولئك
وأعجب من هذا قول من قال في تفسيره : إن هذا قول المحققين
واستعارته لفظ : الهوي والحظيرة لا يوجب تبديل اللغة المعروفة في معنى الأفول فإن وضع هو لنفسه وضعا آخر فليس له أن يتلو عليه كتاب الله تعالى فيبدله أو يحرفه
وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار وغيرها : أن الكواكب والشمس والقمر : هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك
وشبهتهم في ذلك : أن إبراهيم صلى الله عليه و سلم أجل من أن يقول لمثل هذه الكواكب : إنه رب العالمين بخلاف ما ادعوه من النفس ومن العقل والفعال الذي يزعمون أنه رب كل ما تحت فلك القمر والعقل الأول الذي يزعمون أنه مبدع العالم كله
وقول هؤلاء ـ إن كان معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام ـ فابتداع أولئك طرق مثل هؤلاء على هذا الإلحاد
ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب : أن هذه المعاني ليست هي المفهوم من لفظ الكوكب والقمر والشمس
وأيضا فلو قدر أن ذلك كوكبا وقمرا وشمسا بنوع من التجوز : فهذا غايته أن يسوغ للإنسان أن يستعمل اللفظ في ذلك لكنه لا يمكنه أن يدعي أن أهل اللغة التي نزل بها القرآن كانوا يريدون هذا بهذا القرآن نزل بلغة الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه و سلم فليس لأحد أن يستعمل ألفاظه في معان بنوع من التشبه والاستعارة ثم يحمل كلام من تقدمه على هذا الوضع الذي أحدثه هو
وأيضا فإنه قال تعالى { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } [ الأنعام : 76 ] فذكره منكرا : لأن الكواكب كثيرة ثم قال : { فلما رأى القمر } [ الأنعام : 77 ] { فلما رأى الشمس } [ الأنعام : 78 ] ] بصيغة التعريف لكي يبين أن المراد القمر والمعروف والشمس المعروفة وهذا صريح بأن الكواكب متعددة وأن المراد واحد منها وأن الشمس والقمر هما هذان المعروفان
وأيضا فإنه قال { لا أحب الأفلين } والأفول هو المغيب والاحتجاب فإن أريد بذلك المغيب عن الأبصار الظاهرة فما يدعونه من العقل والنفس لا يزال محتجا عن الأبصار لا يرى بحال بل وكذلك واجب الوجود فالأفول أمر يعود إلى حال العارف بها لا يكسبها صفة نقص ولا كمال ولا فرق في ذلك بينها وبين غيرها
وأيضا فالعقول عندهم عشرة والنفوس تسعة بعدد الأفلاك
فلو ذك القمر والشمس فقط لكانت شبهتهم أقوى حيث يقولون : نور القمر مستفاد من نور الشمس كما أن النفس متولدة عن العقل مع ما في ذلك ـ لو ذكروه ـ من الفساد أما مع ذكر كوكب من الكواكب فقولهم هذا من أظهر الأقوال للقرامطة الباطنية فسادا لما في ذلك من عدم الشبه والمناسبة التي تسوغ في اللغة إرادة مثل هذا
والكم على فساد هذا طويل ليس هذا موضعه ولولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كير من الداخلين في العلم والعبادو إذ صاحب كتاب مشكاة الأنوار إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز و جل لموسى ين عمران النبي صلي الله عليه وسلم كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة وجعل خلع النعلين الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي
وهو من جنس قول من يقول : إن النبوة مكتسبة ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة فكن السهروردي المقتول يقول : لا أموت حتى يقال في : قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول : لقد زرب ابن آمنة حيث قال : لا نبي بعدي ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك أخذ ذلك ابن قسي ونحوه ووضع كتابه ففي خلع النعلين واقتباس النور من موضع القدمين من مثل هذا الكلام
ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد حنى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى كما فعل صاحب الفصوصابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصرف والتحقيق
وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع فإن نفور الجمهور عن مذهب الرافضبة مما الجمهور عن مثل هؤلاء بخلاف جنس أهل الفقر والزهد ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصرف وفقير وناسك وغير هؤلاء فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم ما لا يخفي من إلحاد ملاحدة الشيعة وإن كان إلحاد الملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال لعفيف التلمساني : أنت نصيري فقال : نصير جزء مني والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا
فإن قيل : فهب أن تقديم الشرع عليها لا يكون قدحا في أصله لكنه تقديما له على أدلة عقلية فلا بد من بيان الموجب لتقديم الشرع
قيل : الجواب من وجوه :
أحدهما : أن المقصود هنا بيان أن تقديم الشرع على ما عارضه من مثل هذه العقليات المحدثة في الإسلام ليس تقديما له على أصله الذي يتوقف العلم بصحة الشرع عليه وقد حصل فإنا إنما ذكرنا في هذا المقام بيان بطلان من يزعم أنه يقدم العقل على الشرع المعارض له وذكرنا أن الواجب تقديم ما قام الدليل على صحته مطلقا
الجواب الثاني : أن نقول : الشرع قول المعصوم الذي قام الدليل على صحته وهذه الطرق لم يقم دليل على صحتها فلا يعارض ما علمت صحته بما لم تعلم صحته
الجواب الثالث : أن نقول : بل هذه الطرق المعارضة للشرع كلها باطلة في العقل وصحة الشرع مبنية على إبطالها لا على صحتها فهي باطلة بالعقل وبالشرع والقائل بها مخالف للعقل والشرع من جنس أهل النار الذين قالوا { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } [ الملك : 10 ] وهكذا شأن جميع البدع المخالفة لنصوص الأنبياء فإنها مخالفة للسمع والعقل فكيف ببدع الجهمية المعطلة التي هي الأصل من كلام المكذبين للرسل
والكلام على إبطال هذه الوجوه على التفصيل وأن الشرع لا يتم إلا بإبطالها مبسوط في غير هذا الموضع لكن نحن نشير إلى ذلك في تمام هذا الكلام فنقول :


بطلان الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض الوجه التاسع عشر
أن هذه المعارضات مبنية على التركيب وقد تقدمت الإشارة إلى بطلانه وأما الاستدلال بحدوث الحركات والأعراض فنقول : قد أورد عليهم الفلاسفة سؤالهم المشهور وجوابهم عنه على أصلهم مما يقول جمهور العقلاء إنه معلوم الفساد بالضرورة
وذلك إما أن يكون صدر عنه بسبب حادث يقتضي الحدوث وإما أن لا يكون فإن لم يكن صدر عنه سبب حادث يقتضي الحدوث لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وهو ممتنع في البديهة وإن حدث عنه سبب فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في حدوث غيره ويلزم التسلسل الممتنع فإتفاق العقلاء بخلاف التسلسل المتنازع فيه مع أن كلا النوعين باطل عند هؤلاء المتكلمين فهم مضطرون في هذا الدليل إلى الترجيح بلا مرجح تام أو إلى القول بالتسلسل والدور وكلاهما ممتنع عندهم
ومما ينبغي أن يعرف أن التسلسل الممتنع في هذا المكان ليس هو التسلسل المتنازع في جوازه بل هو مما اتفق العقلاء على امتناعه فإنه إذا قيل : إنه قدر أنه لم يكن يحدث شيئا قط ثم حدث حادث فإما أن يحدث بسبب حادث أو بلا سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح فالناس كلهم متفقون على أنه إذا قدر أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن لم يحدث إلا بسبب حادث وأن القول في كل ما يحدث قول واحد
وإذا قال القائل : فلم يحدث الحادث إلا بسبب حادث ثم زعم أن الحادث الأول يحدث بغير سبب حادث فقد تناقض فإن قوله : لا يحدث حادثقول عام فإذا جوز أن يحدث حادث بلا بسبب فقد تناقض ويسمى تسلسلا
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في العلل والفاعلين والمؤثرات : بأن يكون للفاعل فاعل وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له وهذا متفق على امتناعه بين العقلاء
والثاني : التسلسل في الآثار : بأن يكون الحدث الثاني موقوفا على حادث قبله وذلك الحادث موقوف على حادث قبل ذلك وهلم جرا فهذا في جوازه قولان مشهوران للعقلاء وأئمة السنة والحديث ـ مع كثير من النظار أهل الكلام والفلاسفة ـ يجوزون ذلك وكثير من النظار وغيرهم يحيلون ذلك
وأما إذا قيل : لا يحدث حادث قط حتى يحدث حادث فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وصريح العقل وقد يسمى هذا دورا فإنه إذا قيل : لا يحدث شيء حتى يحدث شيء كان هذا دورا فإن وجود جنس الحادث موقوف على وجود جنس الحادث وكونه سبحانه لم يزل مؤثرا يراد به مؤثرا في كل شيء وهذا لا يقوله عاقل لكنه لازم حجة الفلاسفة ويراد به لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء وهو موجب الأدلة العقلية التي توافق الأدلة السمعية
ولما أجاب بعضهم بأن المرجح هو القدرة أو الإرادة القديمة أو العلم القديم أو إمكان الحدوث ونحو ذلك قالوا لهم في الجواب : هذه الأمور إن لم يحدث بسببها سبب حادث لزم الترجيح بلا مرجح وإن حدث سبب حادث فالكلام في حدوثه كالكلام في حدوث ما حدث به
وعدل آخرون إلى الإلزام فقالوا : هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث والحس يكذبه فقالوا لهم : إنما يلزم هذا إذا كان التسلسل باطلا وأنتم تقولون بإبطاله وأما نحن فلا نقول بإبطاله وإذا كان الحدوث موقوفا على حوادث متجددة زال هذا المحذور
والتسلسل نوعان : تسلسل في العلل وقد اتفق العلماء على إبطاله وأما التسلسل في الشروط ففيه قولان مشهوران للعقلاء
وتنازع هؤلاء : هل الإلزام لهم صحيح أم لا ؟ وبتقدير كون الإلزام صحيحا ليس فيه حل للشبهة وإذا لم تنحل كانت حجة على الفريقين وكان القول بموجبها لازما واعتبر ذلك بما ذكره أبو عبد الله الرازي في أشهر كتبه وهو كتاب الأربعين وما اعترض عليه به صاحب لباب الأربعين أبو الثناء محمود الأرموي وجوابه هو عنها فإنه الرازي ذكرها وذكر أجوبة الناس عنها وبين فسادها ثم أجاب هو بالإلزام مع أنه في مواضع أخر بجيب عنها بالأجوبة التي بين فسادها الموضع
قال حجتهم : جميع الممكنات مستندة إلى واجب الوجود فكل ما لا بد منه في مؤثريته إن لم يكن حاصلا في الأزل فحدوثه إن لم يتوقف على مؤثر وجد الممكن لا عن مؤثر وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل وإن كان حاصلا : فإن وجب حصول الأثر معه لزم دوامه لدوامه وإن لم يجب أمكن حصول الأثر معه تارة وعدمه أخرى فيرجح أحدهما على الآخر وأن لم يتوقف على أمر وقع الممكن بلا مرجح وإن توقف لزم خلاف الفرض
ثم قال أجاب المتكلمون بوجه : الأول : أنه إنما أحدث العالم في ذلك الوقت لأن الإرادة لذاتها اقتضت التعلق بإيجاده في ذلك الوقت
قلت : هذا جواب جمهور الصفاتية الكلامية كابن كلاب والأشعري وأصحابهما ونه يجيب القاضي أبو بكر وأبو المعالي والتميميون من أصحاب أحمد والقاضي أبو يعلي وابن عقيل وابن الزاغوني وأمثالهم وبه أجاب الغزالي في تهافت الفلاسفة وزريفه عليه ابن رشد الحفيد وبه أجاب الأمدي وبه أجاب الرازي في بعض الموضع
قال : الجواب الثاني للمتكلمين : أنها اقتضت التعلق به في ذلك الوقت لتعلق العلم به
قلت : هذا الجواب ذكره طائفة من الأشعرية ومن الناس من يجعل المرجح مجموع العلم والإرادة والقدرة كما ذكره الشهرستاني ويمكن أن يجعل هذا جوابا آخر
قال : الجواب الثالث : لعل هناك حكمة خفية لأجلها أحدث في ذلك الوقت
قلت : هذا الجواب يجيب به من قد يعلل الأفعال كما هو مذهب المعتزلة والكرامية وغيرهم وقد يوافق المعتزلة ابن عقيل ونحوه كما قد يوافق الكرامية في تعليلهم القاضي أبو حازم ابن القاضي أبي بعلي وغيره
قال : الجواب الرابع : أن الأزلية مانعة من الإحداث لم سبق
الجواب الخامس : أنه لم يكن ممكنا قبله ثم صار ممكنا فيه
قلت : هذان الجوابان أو تاحدهما ذكرهما غير واحد من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية وغيرهم كالشهرستاني وغيره وهذا جواب الرازي في بعض المواضع
قال : الجواب السادس : أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالهارب من السبع إذا عرض له طريقتان متساويان والعطشان إذا وجد قدحين متساويين
قلت : هذا جواب أكثر الجهمية المعتزلة وبه أجاب الرازي في نهاية العقول فإنه قال في كتابه المعروف بنهاية العقول وهو عنده أجل ما صنفه الكلام ـ قال : قوله في المعارضة الأولى جميع جهات مؤثرية الباري عز و جل لا بد وأن يكون حاصلا في الأزل ويلزم من ذلك امتناع تخلف العالم عن الباري عز و جل
قلنا : هذا إنما يلزم إذا كان موجبا بالذات أما إذا كان قادرا فلا
قوله : القادر لما أمكنه أن يفعل في وقت وأن يفعل قبله وبعده توقفت فاعليته على مرجح
قلنا : المعتمد في دفع ذلك ليس إلا أن يقال : القادر لا يتوقف في فعله لأحد مقدوريه دون الآخر على مرجح
قوله : إذا جاز استغناء الممكن هنا عن المرجح فليجز في سائر المواضع ويلزم منه نفي الصانع
قلنا : قد ذكرنا أن بديهة العقل فرقت في ذلك بين القادر وبين غيره وما اقتضت البديهة الفرق بينهما لا يمكن دفعه
قلت وهذا الجواب هو جواب معروف عن المعتزلة وهو وأمثاله دائما في كتبهم يضعون هذا الجواب ويحتجون على المعتزلة في مسألة خلق الأفعال وغيرها بهذه الحجة هو أنه لا يتصور ترجيح الممكن لا من قادر ولا من غيره إلا بمرجح يجب عنده وجود الأثر
فهؤلاء إذا ناطروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لم يجيبوهم إلا بجواب المعتزلة هم دائما إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر عليهم بهذه الحجة التي احتجت بها الفلاسفة فإن كانت هذه الحجة صحيحة بطل احتجاجهم على المعتزلة وإن كانت باطلة بطل جوابهم للفلاسفة
وهذا غلب على المتفلسفة والمتكلمين المخالفين للكتاب والسنة تجدهم دائما بتناقضون فيحتجون بالمحجة التي يزعمون أنها برهان باهر ثم في موضع آخر يقولون : إن بديهة العقل يعلم به فساد هذه الحجة


آراء المتكلمين في إرادة الله تعالى
وهو لما احتج في المحصول على إثبات الجبر وأن إثباته يمنع القول بالتحسين والتقبيح العقلي ذكر هذه الحجة وقال : فثبت بهذا البرهان الباهر أن هذه الحوادث إما أن تحدث ـ يعني من العبد القادر ـ على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق
وقال أيضا في تقريرها ههنا : العمدة في إثبات الصانع احتياج الممكن إلى المؤثر فلو جوزنا ممكنا يترجح أحد طرفيه على الآخر بلا مرجح لم يمكنا أن نحكم لشيء من الممكنات باحتياجه إلى المؤثر وذلك يسد باب إثبات الصانع
قال : وأما الهارب من السبع إذا عن له طريقان فإنا نمنع تساويهما من كل الوجوه وإن ساعدنا عليه ولكن الهارب من السبع يعتقد ترجح أحدهما على الآخر من بعض الوجوه أو يصير غافلا عن أحدهما فأما لو اعتقد الهارب تسويهما من كل الوجوه فإنه يستحيل منه والحال هذه أن يسلك أحدهما والدليل على أن الأمر كذلك أن الإنسان إذا تعرضت دواعيه إلى الحركات المتضادة فإنه يتوقف في كل موضع لا يمكنه أن يترك إلا عند حصول المرجح
وكما قال من جعل المرجح هو الإرادة : إن الإرادة اقتضت ترجيح ذلك المقدور على غيره ولا يمكن أن يقال : الإرادة لماذا رجحت ذلك الشيء على غيره ؟ لأنه لو رجحت غيره عليه كان هذا السؤال عائدا وعلى هذا التقدير يلزم أن كون الإرادة مرجحة معلل بعلة أخرى وذلك محال لأن كون الإرادة مرجحة صفة نفسية لها كما أن كون العلم بحيث يعلم به المعلوم صفة نفسية له وذلك أمر ذاتي له ولما استحال تعليل الصفات الذاتية استحال تعليل كون الإرادة مرجحة
قال : وهذا الجواب باطل أيضا لأنا لا نعلل أصل كون الإرادة مرجحة وإنما نعلل كونها مرجحة لهذا الشيء على ضده ولا يلزم من تعليل خصوص المرجحية تعليل أصل المرجحية ألا ترى أن الممكن لما دار بين الوجود والعدم فإنا نحكم أنه لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح ولا يكون تعليل ذلك تعليلا لأصل كونه ممكنا فكذلك ههنا
قلت : نظير هذا قول من يقول من القدرية المعتزلة الشيعة ونحوهم : إن الله تعالى جعل العبد مختارا وخلقه مختارا إن شاء اختار هذا الفعل وإن شاء اختار هذا الفعل فهو يختار أحدهما باختياره
فيقال لهم : هو جعله أهلا للاختيار وقابلا للاختيار وجائزا منه الاختيار وممكنا منه الاختيار ونحو ذلك أو جعله مختارا لهذا الفعل على هذا ؟
فإن قالوا بالأول قيل لهم : فوجود اختيار هذا الفعل دون هذا لا بد له من سبب وإذا كان العبد قابلا لهذا ولهذا فوجود أحد الاختيارين دون الآخر لا بد له من سبب أوجبه
وإن قالوا بالثاني أعترفوا بالحق وأن ما فيه من أختيار الفعل المعين هو من الله تعالى كما قال سبحانه { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } [ التكوير : 28 - 29 ]
ولهذا إذا حقق القول عليهم وقيل لهم : فهذا الاختيار الحادث الذي كان به هذا الفعل وهو إرادة العبد الحادثة من المحدث لها ؟
قالوا : الإرادة لا تعلل
فقلت لمن قال لي ذلك منهم : تعني بقولك : لا تعلل بالعله الغائية أي لا تعلم غايتها أو لا تعلل بالعلة الفاعلية فلا يكون لها محدث أحدثها ؟
أما الأول فليس الكلام فيه هنا مع أنه هو يقول بتعليلها بذلك وأما الثاني فإنه معلوم الفساد بالضرورة فإنه من جوز في بعض الحوادث ان تحدث بلا فاعل أحدثها لزمه ذلك في غيره من الحوادث وهذا المقام حار فيه هؤلاء المتكلمون
فالمعتزلة القدرية : إما أن ينفوا إرادة الرب تعالى : وإما أن يقولوا بإرادة أحدثها في غير محل بلا إرادة كما يقوله البصريون منهم وهم أقرب إلى الحق من البغداديين منهم وهم في هذا كما قيل فيهم : طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب ـ فإنهم التزموا عرضا يحدث لا في محل وحادثا يتحدث بلا إرادة كما التزموا في إرادة العبد أنها تحدث بلا فاعل فنفوا السبب الفاعل للإرادة مع أنهم يثبتون لها العلة الغائية ويقولون : إنما أراد الإحسان إلى الخلق ونحو ذلك
والذين قابلوهم من الأشعرية ونحوهم أثبتوا السبب الفاعل لإرادة العبد وأثبتوا لله إرادة قديمة تتناول جميع الحوادث لكن لم يثبتوا لها الحكمة المطلوبة والعاقبة المحمودة فكان هؤلاء بمنزلة من أثبت العلة الفاعلية دون الغائية وأولئك بمنزلة من أثبت العلة الغائية دون الفاعلية


آراء الفلاسفة
والمتفلسفة المشاؤون يدعون إثبات العلة الفاعلية والغائية ويعللون ما في العالم من الحوادث بأسباب وحكم وهم عند التحقيق أعظم تناقضا من أولئك المتكلمين لا يثبتون لا علة فاعلية ولا غائية بل حقيقة قولهم : أن الحوادث التي تحدث لا محدث لها لن العلة التامة القديمة مستلزمة لمعلومها لا يمكن أن يحدث عنها شيء
وحقيقة قولهم : أن أفعال الرب تعالى ليس فيها حكمة ولا عاقبة محمودة لأنهم ينفون الإرادة ويقولون : ليس فاعلا مختارا ومن نفى الإرادة كان نفيه للمراد المطلوب بها الذي هو الحكمة الغائية أ ولى وأخرى ولهذا كان لهم من الاضطراب والتناقض في هذا الباب أعظم مما لطوائف أهل الملل كما قد بسط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على مجامع أقوال الطوائف الكبار وما فيها من التناقض وأن من عارض النصوص الإلهية بما يسميه عقليات إنما يعارضها بمثل هذا الكلام الذي هو نهاية إقدامهم وغاية مرامهم وهو نهاية عقولهم في دراية أصولهم
قال الرازي : قالت الفلاسفة : حاصل الكل اختيار أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم لم يكن حاصلا في الأزل لأنه جعل شرط الإيجاد أولا : الوقت الذي تعلقت الإرادة بإيجاده فيه وثانيا : الوقت الذي تعلق العلم به فيه وثالثا : الوقت المشتمل على الحكمة الخفية ورابعا : انقضاء الأزل وخامسا : الوقت الذي يمكن فيه وسادسا : ترجيح القادر وشيء منها لم يوجد في الأزل وقد أبطلنا هذا القسم
ثم قال عن الفلاسفة : والجواب المفصل عن الأول من وجهين :
أحدهما : أن إرادته لم تكن صالحة لتعلق إيجاده في سائر الاوقات كان موجبا بالذات ولزم قدم العالم وإن كانت صالحة فترجيح بعض الأوقات بالتعلق إن لم يتوقف على مرجح وقع الممكن لا لمرجح وإن توقف عاد الكلام فيه وتسلسل
والثاني : أن تعلق إرادته بإيجاده أن لم يكن مشروطا بوقت ما ملزم قدم المراد وإن كان مشروطا به كان ذلك الوقت حاضرا في الأزل وإلا عاد الكلام في كيفية إحداثه وتسلسل
وعن الثاني من وجهين :
الأول : أن العلم تابع للمعلوم التابع للإراداة فامتنع كون الإرادة تابعة للعلم
الثاني : أن تعين المعلوم محال فيمتنع عقلا إحداثه في وقت علم عدم حدوثه فيه وعدم إحداثه في وقت علم حدوثه فيه وذلك يوجب كونه موجبا بالذات
وعن الثالث من وجهين :
أحدهما : أن حدوث وقت تلك المصلحة إن كان لا لمحدث لزم نفي الصانع وأن كان لمحدث عاد الكلام فيه
وأيضا فتلك المصلحة إن كانت حاصلة قبل الوقت لزم حدوثها قبله وإلا فإن وجب حدوثها في ذلك الوقت جاز في غير ذلك ولزم نفي الصانع وإن لم يجب عاد الكلام في اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة وتسلسل
الثاني : أنه مع العلم باشتمال ذلك الوقت على تلك المصلحة إن لم يمكنه الترك كان موجبا بالذات وإن أمكنه وتوقف الفعل على مرجح تسلسل وإلا وقع الممكن لا لمرجح
وعن الرابع من وجهين :
أحدهما : أن مسمى الأزل إن كان واجبا لذاته امتنع زواله وإلا استند إلى واجب لذاته ولزم المحذور
والثاني : أن الأزل نفي محض فامتنع كونه مانعا م الإيجاد
وعن الخامس : أن انقلاب الممتنع لذاته ممكنا لذاته محال
الثاني : أن الماهية لا يختلف قبولها للوجود أو لا قبولها لكونه شاملا للأوقات
وعن السادس من وجهين : الأول : أنه لما استويا بالنسبة إليه كان وقوع أحدهما من غير مرجح اتفاقيا وحينئذ يجوز في سائر الحوادث ذلك ولزم نفي الصانع
الثاني : أنه لما استويا بالنسبة إليه فترجح أحدهما إن لم يتوقف على نوع ترجيح منه كان وقوعه لا بإيقاعه بل من غير سبب ولزم نفي الصانع وإن توقف عاد التقسيم فيه : أنه هل كان حاصلا في الأزل أم لا ؟
وأما فصل الهارب والعطشان فإنا نعلم أنه ما لم يحصل لهما ميل إلى أحدهما لم يرجح
قلت : هذه الوجوه بعضها حق لا حيلة فيه وبعضها فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا ذكر جواب الناس عن تلك الشبهة
ثم قال الرازي : والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود ودوام الثاني لدوام الأول وهلم جرا وإن ينفي الحدوث أصلا
قال : فإن قلت : واجب الوجود علم الفيض يتوقف حدوث الأثر عنه على حدوث استعدادت القوابل بسبب الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول
قلت : حدوث العرض المعين لا بد له من سبب فذلك السبب : إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثه ولزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر فكذلك في كلية العالم


اعتراض الأرموي على الرازي
وقد اعترض الأرموي على هذا الجواب فقال :
والقائل أن يقول : إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث المسبب الفاعل بل يدل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه وإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه بل إما حدوثه أو حدوث بعض الشرائط وحدوث الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندكم
قال : بل الجواب الباهر عنه : أنه لا يلزم من ذلك قدم العالم الجسماني لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنهما تصورات متعاقبة كل واحد منها بعد ما يليه حتى ينتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم


رد ابن تيمة على الأرموي
قلت : الإلزام الذي ألزمهم إياه الرازي صحيح متوجه وهو الجواب الثاني الذي أجابهم به الغزالي في كتاب التهافت
وأما اعتراض الأرموي فجوبه : أنه كان التقدير أن العلة التامة مستلزمة لمعلولها ومعلولها لازم لعلته : امتنع أن يحدث عنها شيء فما حدث لا بد له من سبب تام وحدوث السبب التام يستلزم حدوث سبب تام له فيلزم جود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال
وأما قوله : إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه
فيقال له : هذا التقسيم صحيح إذا نظر إلى الحادث من حيث الجملة وأما إذا نظر إلى حادث يمتنع حدوثه عن العل التامة فلا بد له من حدوث سبب تام
وإذا قال القائل : الفاعل القديم أحدثه لما حدث شرط حدوثه
قيل : الكلام في حدوث ذلك الشرط كالكلام في حدوث المشروط فلا بد من حدوث أمر لا يكون حادثا عن العلة التامة لأن العلة التامة القديمة يمتنع أن يحدث عنها شيء فإنه يجب مقارنة معلولها لها في الأزل والحادث ليس بمقارن لها في الأزل
وإذا قيل : حدث عنها بحدوث الاستعداد والشرائط
قيل : الكلام في كل ما يقدر حدوثه عن علة تامة مستلزمة لمعلولها فإن حدوث حادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها محال وهذا الإلزام صحيح لا محيد للفلاسفة عنه
وإذا قالوا : حدث عنها أمور متسلسلة واحد بعد واحد
قيل لهم : الأمور المتسلسلة يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة لأن العلة التامة القديم تستلزم معلولها فتكون معها في الأزل والحوادث المتسلسلة ليس معها في الأزل
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أن قولهم بحدوث الحوادث عن موجب تام أزلي لازم لهم في صريح العقل سواء حدثت عنه بواسائط لازمة له أو بغير وسائط وسواء سميت تلك الوسائط عقولا ونفوسا أو غير ذلك وسواء قيل : إن الصادر الأول عنه : العنصر كما يقول بعضهم أو قيل : بل هو العقل كما هو قول آخرين فإن الوسائط اللازمة ل قديمة معه لا يحدث فيها شيء إذ القول في حدوث ما يحدث فيها كالقول في غيره من الحوادث
وقولهم : إن حركات الفلك بسبب حدوث تصورات النفس وإرادتها المتعاقبة مع حدوث تلك عن الواجب بنفسه بواسطة العقل اللازم له أو بغير واسطة العقل أو القول بحدوثها عن العقل أو ما قالوا من هذا الجنس الذي يسندون فيه حدوث الحوادث إلى مؤثر قديم تام لم يحدث فيه شيء ـ هو قول يتضمن أن الحوادث حدثت عن علة تامة لا يحدث فيها شيء فإذا كان المؤثر التام الأزلي سواء جعل ذلك شرطا في حدوث غيره أو لم يجعل ومتي امتنع حدوث حادث عنه كان حدوث ما يدعونه من الاستعدادات والشرائط مفتقرا إلى سبب تام فيلزم وجود علل ومعلومات لا تتناهى دفعة كما ذكره الرازي وهذا من جيد كلامه
وأما الجواب الذي أجاب به الأرموي وذكر أنه باهر : فهو منقول من كلام الرازي في المطالب العالية وغيرها وهو منقوض بهذه المعارضة مع أنه جواب غاب بعضه موافق لقول أهل الملل وبعضه موافق لقول الفلاسفة الدهرية فإنه مبني على إثبات العقول والنفوس وأنها ليست أجساما وكونها قديمة أزلية لازمة لذات الله تعالى وهذه الأقوال ليست من أقوال أهل الملل بل هي أقوال باطلة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن ما يدعونه من المجردات إنما ثبوتها في الأذهان في الأعيان
وإنما أجاب الأرموي بهذا الجواب لأن هؤلاء المتأخرين ـ الكشهرستاني الرازي واللآمدي ـ زعموا أن ما ادعاه هؤلاء المتفلسفة من إثبات عقول ونفوس مجردة لا دليل للمتكلمين على نفيه وأن دليلهم على حدوث الأجسام لا يتضمن الدلالة على حدوث هذه المجردات
وهذا قول باطل بل أئمة الكلام صرحوا بأن انتفاء هذه المجردات وبطلان دعوى وجود ممكن ليس جسما ولا قائما بجسم : مما يعلم انتفاؤه بضرورة العقل كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي وغيره بل قال طوائف من أهل النظر : إن الموجود منحصر في هذين النوعين وإن ذلك معلوم بضرورة العقل وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
والمقصود هنا : أن هذا الجواب الذي ذكره الأرموي مبني على هذا الأصل
ومضمونه : أن الرب تعالى موجب بالذات للعقول والنفوس الأزلية اللازمة لذاته لا فاعل لها بمشيئته وقدرته وهم يفسرون العقول بالملائكة فتكون الملائكة قديمة أ دخل فيه الخلق والإبداع هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي ؟ وهل الخلق هو المخلوق أو غير المخلوق ؟
وفيها قولان مشهوران للناس والجمهور على أن الخلق ليس هو المخلوق هو قول أكثر العلماء من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي و مالك و أحمد وهو قول أكثر أهل الكلام مثل طوائف من المعتزلة والرمجئة والشيعة وهو قول الكرامية وغيرهم وهو مذهب الصوفية ذكره صاحب التعرف في مذاهب التصوف المعروف ب الكلاباذي هو قول أكثر قمدماء الفلاسفة وطائفة من مأخريهم
وطائفة قالت : الخلق هو المخلوق وهو قول كثير من المعتزلة وقول الكلابية كالأشعري وأصحابه ومن وافقهم من أصحاب الشافعي و أحمد و مالك وغيرهم
والمقصود هنا أنهم لما احتجوا على قدم العالم بأن كون الواجب مؤثرا في العالم غير ذاتيتهما لإمكان تعقلهما مع الذهول عنه ولأن كونه مؤثرا معلوم دون حقيقته ولأن المؤثرية نسبة بينهما فهي متأخرة ومغايرة
قال : وليس التأثير أمرا سلبيا لأنه نقيض قولنا : ليس بمؤثر فذلك الوجودي إن كان حادثا فتقر إلى مؤثر وكانت مؤثريته زائدة ولزم التسلسل وإن كان قديما ـ وهو صفة إضافية لا يعقل تحققها مع المضافين ـ فلزم قدمها
أجاب الرازي : بأن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر فتكون مؤثريته زائدة ويتسلسل
قلت : وهذا الجواب هو على قول من يقول : إن الخلق هو المخلوق وإنه ليس الفعل والإبداع والخلق إلا مجرد وقوع المفعول المنفصل عنه من غير زيادة أمر وجودي أصلا
فقال الأرموي : ولقائل أن يقول : التسلسل هاهنا واقع في الآثار لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر فتكون متأخرة على الأثر فاقتضت مؤثرية أخرى بعد الأثر حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية
قال : والمنكر هو التسلسل في المؤثرات
قال : بل الجواب عنه : أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى المتأخر عنه ولو بأزمنه كثيرة مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر
قلت : وقول الأرموي : لقائل أن يقول : التسلسل هاهنا واقع في الآثار لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعلقها على المؤثر والأثر فتكون متأخرة عن الأثر فاقتضت مؤثرية أخري بعد الأثر حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية :
يعترض عليه : بأن هذا يناقض قوله بعد هذا : بل الجواب عنه : أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإنه إن كان هذا القول صحيحا لم يلزم عن المؤثر وإن كانت الصفة العارضة للشيء لا تتوقف بل يكفي فيها تحقق المؤثرية فقط
ولكنه يجيب عن هذا بأن مقصودي أن ألزم غيري إذا قال : تتوقف المؤثرية على المؤثر والأثر بأن هذا تسلسل في الآثار لا في المؤثرات وهذا إلزام صحيح
لكن يقال له ك كان من تمام هذا الإلزام أن تقول : المؤثرية إذا كانت عندكم صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر كانت مستلزم لوجود الأثر فإن كونه مؤثرا بدون الأثر ممتنع وحينئذ فمعلوم أن الأثر يكون عقب التأثير الذي هو المؤثرية فإنه إذا خلق وجد المخلوق وإذا أثر في غيره حصل الأثر فالأثر يكون عقب التأثير وهو جعل المؤثرية متأخرة عن الأثر 


وليس الأمر كذلك بل هي متقدمة على الأثر أو مقارنة له عند بعضهم ولم يقل أحد من العقلاء : إن المؤثرية متأخرة عن الأثر بل قال بعضهم : إن الأثر متأخر منفصل عنها وقال بعضهم : هو مقارن لها وقال بعضهم : هو متصل بها لا منفصل عنها ولا مقارن لها وهذا أصح الأقوال
ولكن على التقديرين : تكون المؤثرية حادثة بحدوث تمامها فيلزم أن يكون لها مؤثرية وتكون المؤثرية الثانية عقب الؤثرية الأولى وهذا مستقيم لا محذور فيه فتكون المؤثرية الأولى أوجبت كونه مؤثرا في الأثر المنفصل عنه وكونه مؤثرا في ذلك الأثر أوجب ذلك الأثر
وهذا على قول الجمهور الذين يقولون : الموجب يحصل عقب الموجب التام والأثر يحصل عقب المؤثر التام والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية والمعلول يحصل عقب كمال العلية
وأما من جعل الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان كما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم ـ فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله فإنه يلزم عند وجود المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة وهلم جرا وهذا تسلسل في تمام المؤثرية وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار فإن التسلسل في تمام المؤثرية وهو من جنس التسلسل في المؤثرات أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه وإنما يفعل في حال وجوده فعند وجود التأثير لا بد من وجود المؤثر فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير بل لا يكون إلا مع وجوده لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر فإن جعل تمام المؤثرية مقارنا للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار
وقد يقول القائل : هذا الذي أراده الرازي بقوله : إن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر فتكون مؤثريته زائدة ويتسلسل فإنه قد يريد التسلسل المقارن لا المتعاقب فإنها إذا كانت زائدة افتقرت إلى مؤثر يقارنها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والمتكلمين 

 

والرازي قد يقول بهذا وحينئذ فهذا التسلسل باطل باتفاق العقلاء
فيقول القائل : هذا هو الإلزام الذي ألزم به الرازي الفلاسفة حيث قال : والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول لوجوب دوام واجب الوجود ودوام الثاني لدوام الأول وهلم جرا وإنه ينفي الحوادث أصلا
قال : فإن قلت : واجب الوجود عام الفيض يتوقف حدوث الأثر عنه على استعدادات القوابل فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول
قلت : حدوث العرض المعين لا بد له من سبب فذلك السبب إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثة ويلزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة وهو محال وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر فكذلك في كلية العالم
فيقال : هذا الكلام الذي ذكره الرازي جيد مستقيم وهو إلزامهم الحوادث المشهودة التي قد يعبر عنها بالحوادث اليومية فإنه لا بد لها من مؤثر تام فإن كان قديما أمكن وجود الحادث عن القديم وبطل قولهم وإن كان حادثا فلا بد على قولهم أن يكون حادثا مع حدوث الأثر لا قبله لأنهم قد قرروا أن المؤثر التام يجب أن يكون أثره معه في الزمان لا يتأخر عنه فعلى قولهم هذا : يجب أن يكون المؤثر التام معه أثره والأثر معه مؤثره لا يتقدم زمان أحدهما على زمان الآخر وحينئذ فالحادث المعين يجب أن يكون مؤثره معه حادثا ويكون مؤثر ذلك المؤثر معه حادثا فيلزم وجود أسباب ومسببات هي علل ومعلومات لا نهاية لها في زمن واحد معلوم الفساد بضرورة العقل وقد اتفق العقلاء على امتناعه
واعتراض الأرموي عليه ساقط حينئذ
فإن ملخص قوله : إن اللازم حدوث المؤثر أو حدوث بعض شرائطه وهم يجوزون حدوث الشرائط والمعدات على سبيل التعاقب
فيقال لهم : هم يجوزون أن يكون بعد كل حادث حادث فيقولون : حدوث الحادث الأول شرط في حدوث الحادث الثاني والشرط موجود قبل المشروط
ولكن هذا يناقض قولهم : إن العلة التامة تستلزم أن يكون معلومها معها في الزمان وأن المعلوم يجب أن يكون موجودا مع تمام العلة لا يتأخر عن ذلك فإن موجب هذا أنه إذا حصل شرط تمام العلة حصل معه المعلول لا يتأخر عنه وكلما حدث حادث كان الشرط الحادث الذي به تمت عليه العلة حادثا معه لا قبله ثم ذلك الحادث أيضا يحدث الشرط الذي هو تمام علته معه لا قبله وهلم جرا فيلزم تسلسل تمام العلل في آن واحد وهو أن تمام علة هذا الحادث حدث في هذا الوقت وتمام علة هذا التمام حدث في هذا الوقت وهلم جرا
والتسلسل ممتنع في العلة وفي تمام العلة فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة وللعلة علة إلى غير غاية فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام ولتمام العلة تمام إلى غير غاية والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء معلوم فساده بضرورة العقل سواء قيل : إن المعلول يقارن العلة في الزمان أو قيل إنه يتعقب العلة
ولكن هؤلاء لا يتم قولهم بقدم شيء من العالم إلا إذا كان المعلول مقارنا للعلة التامة لا يتأخر عنها وحينئذ فيلزم أن يكون كل حادث تمام علته حادث معه وتمام علة ذلك التمام حادث معه وهلم جرا فيلزم وجود حوادث لا نهاية لها في آن واحد ليست متعاقبة وهذا مما يسلمون أنه ممتنع ويعلم بضرورة العقل أنه ممتنع وهو يشبه قول أهل المعاني أصحاب معمر
وإذ كان هذا لازما لقولهم لا محيد لهم عنه : لزم أن أحد أمرين : إما بطلان حجتهم وإما القول بأنه لا يحدث في العالم شيء والثاني باطل بالمشاهدة فتعين بطلان حجتهم
فتبين أن الذي ألزمهم إياه أبو عبد الله الرازي لا محيد عنه وأن الأرموي لم يفهم حقيقة الإلزام فأعترض عليه بما لا يقدح فيه
ولكن مثاب الغلط والاشتباه هنا : أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر بمعني أنه يحدث شيء ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلا وهذا عند من يقول : إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان كما يقوله هؤلاء الدهرية فيقضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارنا للأثر لا يتقدم عليه فتبين به فساد حجتهم
وأما من قال : إن الأثر إنما يحصل عقب تمام المؤثر فيمكنه أن يقول بما ذكره الأرموي وهو أن كونه مؤثرا في الأثر المعين يكون مشروطا بحادث يحدث يكون الأثر عقبه ولا يكون الأثر مقارنا له
ولكن هذا يبطل قولهم بقدم شيء من العالم ويوافق أصل السنة وأهل الحديث الذين يقولون : لم يزل متكلما إذا شاء
فإنه على قول هؤلاء يقال : فعله لما يحدث من الحوادث مشروط بحدوث حادث به تتم مؤثرية المؤثر ولكن عقب حدوث ذلك التمام يحدث ذلك الحادث وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي إذ الأزلي لا يكون إلا مع تمام مؤثره ومقارنة الأثر للمؤثر زمانا ممتنعة
وحينئذ فإذا قيل : هو نفسه كاف في إبداع ما ابتدعه لا يتوقف فعله على شرط قيل : نعم كل ما يفعله لا يتوقف على غيره بل فعله لكل مفعول حادث يتوقف على فعل يقوم بذاته يكون المفعول عقبه وذلك الفعل أيضا مشروط بأثر حادث قبله
فقد تبين أن هذه المعقولات التي اضطرب فيها أكابر النظار وهي عندهم أصول العلم الإلهي إذا حققت غاية التحقيق : تبين أنها موافقة لما قاله أئمة السنة والحديث العارفون بما جاءت به الرسل وتبين أن خاصة المعقول خادمة ومعينة وشاهدة لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم
قلت : المقصود هنا أن الأرموي ضعف الجواب بأن التسلسل المنكر هو تسلسل المؤثرات التي هي العلل وأما تسلسل الآثار فليس بمنكر وإذا كانت المؤثرية مسبوقة بمؤثرية لم يلزم إلا التسلسل في الآثار
وقوله : إن هذا يقتضي التسلسل في الآثار لا في المؤثرات كلام صحيح على قول من يقول : إن الأثر لا يجب أن يقارن المؤثر في زمان بل يتعقبه لأن المؤثرية المسبوقة بمؤثرية إنما حدث بالأولى كونها مؤثرة لا نفس المؤثر والفرق بين نفس المؤثر ونفس تأثيره هو الفرق بين الفاعل وفعله والمبدع وإبداعه والمقتضي واقتضائه والموجب وإيجابه وهو كالفرق بين الضارب وضربه والعادل وعدله والمحسن وإحسانه وهو فرق ظاهر
لكن احتجاجه بأن المؤثرية إذا كانت صفة إضافية يتوقف تحققها على المؤثر والأثر جاز أن تكون متقدمة على الأثر كما لزم أن تكون متأخرة عن الأثر :
ليس بمستقيم فإن كون الشيء مؤثرا في غيره لا يكون متأخرا عن أثره بل إما أن يكون مقارنا له أو سابقا عليه وإلا فوجود الأثر قبل التأثير ممتنع ولا يحتاج إلى هذا التقدير فإن كون التسلسل ها هنا واقعا في الآثار : أبين من أن يدل عليه بدليل صحيح من هذا الجنس فضلا عن أن يدل عليه بهذا الدليل
والجواب الذي ذكره ـ من أن الصفة العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها ـ هو جواب من يقول بأن التأثير قديم والأثر حادث
وهذا قول من يقبت لله تعالى صفة التخليق والتكوين في الأزل وإن كان المخلوق حادثا
وهو قول طوائف من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي و أحمد وأهل الكلام والصوفية وهو مبني على أن الخلق غير المخلوق وهذا قول أكثر الطوائف لكن منهم من صرح بأن الخلق قديم والمخلوق حادث ومنهم من صرح بتجدد الأفعال ومنهم من لا يعرف مذهبه في ذلك
فالذي ذكره البغي عن أهل السنة : إثبات صفة الخلق لله تعالى وأنه لم يزل خالقا وكذلك ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذهب التصوف أنه مذهب الصوفية وكذلك ذكره الطحاوي وسائر أصحاب أبي حنيفة وهو قول جمهور أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وغيرهم وكذلك ذكره غير واحد من المالكية وذكر أنه قول أهل السنة والجماعة ومن هؤلاء من صرح بمعني الحركة لا بلفظها
وهؤلاء الذين يقولون بإثبات تأثير قديم هو الخلق والإبداع مع حدوث الأثر يجعلون ذلك بمنزلة وجود الإرادة القديمة مع حدوث المراد كما يقول بذلك الكلام وغيرهم من الصفاتية
فجواب أبي الثناء الأرموي موافق لقول هؤلاء الطوائف وهو قوله : الصفة المعارضة للشيء لا تتوقف إلا على وجود معروضها كما أن الإرادة القديمة لا تتوقف إلا على وجود المريد دون المراد عند من يقول بذلك وكذلك القدرة المتعلقة بالمستقبلات تتوقف على وجود القادر دون المقدور فكذلك قولهم في الخلق الذي هو الفعل وهو التأثير
ولكن هذا الجواب ضعيف فإن قوله : الصفة الإضافية العراضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى ا لتأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر يعترض عليه بأنك ادعيت دعوى كلية وأثبتها بمثال جزئي فادعيت أن كل صفة عارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها وهذه دعوى كلية ثم احتججت على ذلك بالتقدم العارض للمتقدم وهذا المثال لا يثبت القضية الكلية
ونظير هذا قولهم : ليس لمتعلق القول من القول صفة وجودية فإنه ليس لكون الشيء مذكورا أو مخبرا عنه صفة ثبوتية بذلك فإن المعدوم يقال : إنه مذكور ومخبر عنه فإن هذه دعوى والمثال جزئي
والتحقيق أن متعلق القول قد يكون له منه صفة وجودية كمتعلق التكوين والتحريم والإيجاب وقد يكون كمتعلق الإخبار
ثم يقال : الصفة العرضة للشيء بالنسبة إلى غيره : سواء كانت من الصفات الحقيقية المستلزمة للنسبة والإضافة كالإرادة والقدرة والعلم أو كانت من الصفات الإضافية عند من يجوز جواز إضافة محضة لا يستلزم صفة حقيقية قد تكون مستلزمة لوجود الاثنين المتضايفين المتباينين كالأبوة والنبوة فأن وجود أحدهما مستلزم لوجود الآخر وكذلك الفوقية والتحتية والتيامن والتياسر وكذلك العلة التامة مع معلومها فإنه ليس بينهما برزخ زمان وإن كان المعلوم لا يكون إلا متعقبا للعلة في الزمان لا يكون زمنه زمنها عند جمهور العقلاء كما قد بسط في موضع آخر
وأنتم احتججتم في غير موضع بأن القبول نسبة بين القابل والمقبول فلا يتحقق إلا مع تحققهما وجعلتم هذا مما احتججتم به على الكرامية في مسألة حلول الحوادث وقلتم : كونه قابلا للحدوث يجب أن يكون من لوازم ذاته وذلك إنما يمكن مع تحقق الحوادث في الأزل مع امتناع تحقق الحادث في الأزل :
فهذا التناقض من جنس قولكم إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقلتم : إذا كان قابلا للحوادث في الأزل لزم إمكان وجود الحوادث في الأزل فأي فرق بين إمكان القبول وإمكان المقدور وإمكان المفعول ؟ وما تقدم الشيء على غيره وكونه مثل هذا قبل زمن هذا ولكن لا يلزم إذا لم يكن المتأخر مع المتقدم ألا يكون المقبول المقدور والأثر ممكنا مع وجود التأثير والقدرة والقبول حتى يقال : إنه خالق مع امتناع المخلوق وقادر مع امتناع المقدور وقابل مع امتناع المقبول
وأيضا فإن هذا الجواب بمنزلة جواب من يقول : إن الحوادث توجد بإرادة قديمة والمنازعون لهم ألزموهم بأن هذا ترجيح بلا مرجح كما تقدم
فهؤلاء يعترضون على جواب الأرموي وهؤلاء يعترضون عليه بأنه عند وجود الأثر الحادث : إما أن يتجدد تمام التأثير وإما أن لا يتجدد شيء لزم التسلسل كما تقدم وإن لم يتجدد لزم حدوث الحادث بدون سبب حادث وقد تقدم إبطاله بأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره
وكان الأرموي يمكنه أن يجيب ـ على أصله ـ بأن حدوث الأجسام موقوف على حدوث التصورات المتعاقبة في العقل أو النفس كما أجاب به عن الحجة الأولي


المقصود مما تقدم
قلت : المقصود هنا أن يعرف نهاية ما ذكره هؤلاء في جواب الدهرية عن المعضلة الزباء والداهية الدهاء وما يخفي على العاقل الفاضل ما في هذه الأجوبة
ونحن ولله الحمد قد بينا الجواب عن جميع حجج الفلاسفة في غير هذا الموضع وبسطنا الكلام في ذلك وبينا كيف يمكن فساد استدلالهم من وجوه كثيرة وكيف تتمكن كل طائفة من المسلمين من قطعهم بجواب مركب من قولهم وقول طائفة أخرى من المسلمين حتى إذا احتاجوا إلى موافقة الدهرية على قدم الأفلاك وأن الله لم يخلق السماوات والأرض في ستة أيام ونحو ذلك مما فيه تكذيب للرسول صلى الله عليه و سلم أو إلى موافقة طائفة أخري من طوائف المسلمين على بعض أقوالهم التي ليس فيها تبليغ للرسول بل ولا مخالفة لصريح العقل كان موافقتهم لطائفة من طوائف المسلمين على ما لا يكذبون به الرسول ولا يخالفون به المعقول أولى بهم من موافقة الدهرية على ما فيه تكذيب للرسل ومخالفة لصريح العقل وهذا مما تبين به أنه ليس في العقل الصريح ما يخالف النصوص الثابتة عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وهو المقصود في هذا المقام


مثال في الإجابة على الفلاسفة الرد على قولهم بقدم العالم الكلام على امتناع التسلسل
مثال الأجوبة التي يجاب بها هؤلاء الفلاسفة أن يقال : حجتكم الأولى على قدم العالم مبنية على مقدمتين : إحداهما : أن الممكن لا بد له من مرجح تام وامتناع التسلسل ولفظ التسلسل فيه إجمال قد تقدم الكلام عليه فإن التسلسل هنا : هو توقف جنس الحادث على الحادث وهذا متفق على امتناعه والتسلسل في غير هذا الموضع يراد به التسلسل في الفاعلين وفي الآثار والتسلسل في تمام الفاعلين هو من التسلسل في الفاعلين
فيقال لكم : التسلسل الممتنع هو التسلسل في العلل وفي تمامها أما تسلسل في الشروط أو الآثار : ففيه قولان للمسلمين وأنتم قائلون بجوازاه
فنقول : إما أن يكون هذا التسلسل جائزا أو ممتنعا فإن كان ممتنعا امتنع تسلسل الحوادث ولزم أن يكون لها أول وبطل قولكم بحوادث لا أول لها وأمتنع كون حركات الأفلاك أزلية وهذا يبطل قولكم
ثم نقول : العالم لو كان أزليا فإما أن يكون لا يزال مشتملا على حوادث : سواء قيل إنها حادثة في جسم أو عقل أو يقال : بل كان في الأزل ليس فيه حادث كما يقال : إنه كان جسما ساكنا فإن كان الأول لزم تسلسل الحوادث ونحن نتكلم على تقدير امتناع تسلسلها فبطل هذا التقدير وإن كانت الحوادث حدثت فيه بعد أن لم تكن لزم جواز صدور الحوادث عن قديم لم يتغير وهذا يبطل حجتكم ويجوب جواز حدوث الحوادث بلا حدوث سبب
وإن قلتم : إن التسلسل في الآثار جائز ـ وهو قولكم ـ بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم وإنما تدل على وجود دوام كون الرب فاعلا
فيقال لكم حينئذ : لم لا يجوز أن تكون الأفلاك أو كل ما يقدر موجودا في العالم أو كل ما يحدثه الله : موقوفا على حادث بعد حادث ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة ؟
فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل سواء كان تسلسل الحوادث جائزا أو لم يكن بل إذا لم يكن جائزا بطلت الحجة وبطل المذهب المعروف عندكم وهو أن حركات الأفلاك أزلية فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزا فإذا كان تسلسلها ممتنعا لزم أن يكون لحركة الفلك أول وإن كان تسلسل الحوادث جائزا لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفا على حوادث قبله وهلم جرا
فإن قلتم : هذا يستلزم قيام الحوادث المتسلسلة بالقديم
كان الجواب من وجوه : أحدها : أن هذا هو قولكم ليس هذا ممتنعا عندكم فإن الفلك قديم أزلي عندكم مع أنه جسم تقوم به الحوادث
الثاني : أنه يجوز أن تكون تلك الحوادث ـ إذا امتنع قيامها بواجب الوجود ـ قائمة بمحدث بعد محدث فإن كان صدور هذه الحوادث المتسلسلة عن الواجب القديم ممكنا بطلت حجتكم وإن كان ممتنعا بطل مذهبكم وحجتكم أيضا فإن قولكم : إن الحوادث الفلكية المتسلسلة صادرة عن قديم أزلي
الثالث : أنا نتكلم على تقدير إمكان تسلسل الحوادث وعلى هذا التقدير فلا بد من التزام أحد أمرين : إما قيام الحوادث بالواجب وإما تسلسل الحوادث عنه بدون قيام حادث به
الرابع أن يقال : قيام الحوادث بالقديم : إما أن يكون ممتنعا وإما أن يكون ممكنا فإن كان ممتنعا لزم حدوث الأفلاك وهو المطلوب وإن كان جائزا بطلت هذه الحجة
الخامس : أن من قال أهل الكلام بأن : القديم لا تحله الحوادث إنما قاله لأن تسلسل الحوادث في المحل يستلزم حدوثه عندهم فإن كان قولهم هذا صحيحا لزم حدوث الأفلاك والنفوس وكل ما يقوم به حوادث متسلسلة وهو يستلزم بطلان حجتكم لأنه حينئذ يمكن صدور العالم م تكن أو ما زال يحدث شيء بعد شيء والأول يستلزم حدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا باطل كما ذكرتموه في الحجة لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح والثاني : يمتنع أن يكون في الممكنات شيء قديم وهو نقيض مذهبكم
فإذا قالوا : نحن ما أحلنا قيام الحوادث بالواجب لكون القديم لا تحله الحوادث ـ فإن ذلك جائز عندنا ـ بل لأنه لا تقوم به الصفات
قيل لهم : فحينئذ سهلت القضية فإن جماهير أهل الملل من المسلمين وغيرهم بل ـ وجمهور الفلاسفة ـ يخالفونكم في هذا الأصل وقولكم في نفي الصفات أضعف بكثير من قول من قال : القديم لا تحله الحوادث
ولهذا كان كثير من المسلمين ـ كالكلابية ومن وافقهم ـ يقولون بإثبات الصفات للواجب دون قيام الحوادث به فإذا لم يكن لكم حجة على نفي قيام الحوادث به إلا ما هو حجة لكم على نفي الصفات كانت الأدلة على بطلان قولكم كثيرة جدا
وتبين حينئذ فساد قولكم بنفي الصفات وجعل المعاني المتعددة شيئا واحدا وأن قولكم : إن العاشق والمعشوق والعشق والعاقل والمعقول والعقل : شيء واحد وإن العالم هو العلم والقدرة هي الإرادة من أفسد الأقوال كما قد بين فيما تقدم لما نبهنا على تلبيسكم على المسلمين وتكلمنا على ما تسمونه تركيبا وأنه ـ بتقدير موافقتكم على أصطلاحكم الفاسد ـ لا حجة لكم على نفيه وهكذا تجابون على حجة التأثير
وقولهم : إن كان التأثير قديما لزم قدم الأثر وأن كان محدثا فإن كان المحدث جنس التأثير ـ وقيل بجواز ذلك ـ كان للحوادث ابتداء وبطل مذهبكم وإن قيل بامتناعه ـ وهو أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء ـ فهذا ممتنع باتفاق العقلاء وقد يسمى تسلسلا ودوارا وإن كان المحدث التأثير في شيء معين بعد حدوث معين قبله لزم التسلسل وقيام الحوادث بالقديم
فإنه يقال لهم : إما أن يكون التأثير أمرا وجوديا وإما أن لا يكون وجوديا فإن لم يكن وجوديا بطلت الحجة وهو جواب الرازي وهو جواب من يقول : الخلق نفس المخلوق وإن كان وجوديا فإما أن يكون قائما بذات المؤثر أو بغيره فإن كان قائما بذاته لزم جواز قيام الأمور الوجودية بواجب الوجود وهذا قول مثبتة الصفات
وعلى هذا التقدير فالتسلسل في الآثار والشروط إن كان ممكنا بطلت هذه الحجة وأمكن تسلسل التأثيرات القائمة بالقديم وإن كان ممتنعا لزم جواز حدوث الحوادث عن تأثر قديم ن فتبطل حجتكم
وإن كان التأثير ـ أو تمامه ـ قائما بغيره لزم جواز التسلسل في الشروط وأن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا أمكن تسلسل التأثير فبطلت الحجة
وذلك لأن التقدير أن تمام التأثير قائم بغير المؤثر وعلى هذا التقدير فإن لم يكن التسلسل ممكنا كان هناك تأثير قديم بغير ذات الله تعالى وهذا باطل لم يقل له أحد وإن قدر إمكانه أمكن حدوث الأفلاك عنه وهو المطلوب
ومما يجابون به عن حجة التأثير أن يقال أيضا : التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوث الأفلاك عن تأثير مسبوق بتأثير آخر وإن كان ممتنعا لزم إما حدوث الحوادث عن تأثير قديم أو كون التأثير عدميا وعلى التقديرين يبطل قولكم
وذلك لأن الحوادث مشهودة لا بد لها من إحداث محدث وذلك الإحداث هو التأثير فإن كان عديما بطلت الحجة وإن كان موجودا فإن كان قديما لزم حدوث الحوادث عن تأثير قديم فتبطل الحجة وإن كان التأثير محدثا ـ والتقدير أن التسلسل ممتنع ـ فيلزم أن يكون حدث بتأثير محدث فتبطل الحجة أيضا وهو جواب لا مخلص لهم عنه به ينقطع شغبهم
وأما أن يجابوا بقول يخالف فيه أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ويجعل خلق الله عز و جل للسماوات والأرض مبنيا على مثل هذا القول الذي هو جواب المعارضة : فهذا لا يرضى به عقل ولا ذو دين
بل يحب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يبينون العلم واليقين بالأدلة والبراهين وإنما يستفيد الناظر في كلامهم كثرة الشكوك والشبهات وهم في أنفسهم عندهم شك وشبهة فيما يقولون : إنه برهان قاطع ولهذا يقول أحدهم في هذا الموضع : إنه برهان قاطع وفي موضع آخر يفسد ذلك البرهان
والذين يعارضون الثابت في الكتاب والسنة بما يزعمون أنه من العقليات القاطعة إنما يعارضونه يمثل هذه الحجج الداحضة
فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه ولا وفي بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس ولا أفاد كلامه العلم واليقين
ولولا أنا قد بسطنا الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع ـ وهذا موضع تنبيه وإشارة لا موضع بسط ـ لكنا نبسط الكلام في ذلك ولكن نبهنا على ذلك


ملخص الرد على حجة التأثير
وملخص ذلك في حجة التأثير الذي يسمى الخلق والإبداع والتكوين والإيجاب والاقتضاء والعلية والمؤثرية ونحو ذلك ـ أن يقال : التأثير في الحوادث : إما أن يكون وجوديا أو عدميا وإذا كان وجوديا : فإما إن يكون قديما أو حادثا وعلى كل تقدير فحجة الفلاسفة باطلة
أما إن كان عدميا فظاهر لأنه لا يستلزم حينئذ قدم الأثر إذ العدم لا يستلزم شيئا موجودا ولأنه إذ جاز أن يفعل الفاعل للمحدثات بعد أن لم يفعلها من غير تأثير وجودي أمكن حدوث العالم بلا تأثير وجودي كما هو قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وكثير من المعتزلة
وإن كان وجوديا فإما أن يكون قديما أو محدثا فإن كان التأثير قديما فإما أن يقال بوجوب كون الأثر متصلا بالتأثير والمكون متصلا بالتكوين وإما أن لا يقال بوجوب ذلك وإما أن يقال بوجوب المقارنة وإما أن يقال بإمكان انفصال الأثر عن التأثير
فإن قيل بوجوب ذلك فمعلوم حينئذ بالضرورة أن في العالم حوادث فيمتنع أن يكون التأثير في كل منها قديما بل لا بد من تأثيرات حادثة ويمتنع حينئذ أن يكون في العالم قديم لأن الأثر إنما يكون عقب التأثير والقديم لا يكون مسبوقا بغيره
وإن قيل : إن الأثر يقارن المؤثر فيكون زمانهما واحدا لزم أن لا يكون في العالم شيء حادث وهو خلاف المشاهدة
فإذا قيل بأن : التأثير لم يزل في شيء بعد شيء كان كل من الآثار حادثا ولزم حدوث كل ما سوى الله وإن كان كل حادث مسبوقا بحادث
وإن قيل : بل يتأخر الأثر عن التأثير القديم لزم إمكان حدوث الحوادث عن تأثير قديم كما هو قول كثير من أهل النظر وهو قول من يقول بإثبات الصفات الفعلية لله تعالى وهي صفة التخليق ويقول : إنها قديمة وهو قول طوائف من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي و أحمد والصوفية وأهل الكلام وغيرهم
وإن كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث فإن قيل بجواز حدوث الحوادث بإرادة قديمة أو إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح : جاز أن يحدث التأثير قائما بالمؤثر بقدرته أو بقدرته ومشيئته القديمة كما يجوز من يجوز وجود المخلوقات البائنة عنه بمجرد قدرته أو لمجرد قدرته ومشيئته القديمة
وإن قيل : لا يمكن حدوث الحوادث إلا بسبب حادث كان التأثير القائم بالمؤثر محدثا وإن كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث وإحداث هذا التأثير تأثير وحينئذ فيكون تسلسل التأثيرات ممكنا وإذا كان ممكنا بطلت الحجة فظهر بطلانها على كل تقدير
وصاحب الأربعين وأمثاله من أهل الكلام إنما لم يجيبوا عنها بجواب قاطع لأن من جملة مقدماتها أن التسلسل ممتنع وهم يقولون بذلك والمحتج بها لا يقول بامتناع التسلسل فإن الدهرية يقولون بتسلسل الحوادث فإذا أجيبوا عنها بجواب مستقيم على كل قول كأن خيرا من أن يجابوا عنها بجواب لا يقول به إلا بعض طوائف أهل النظر وجمهور العقلاء يقولون : إنه معلوم الفساد بالضرورة
وقد ذكر الرازي هذه الحجة في غير هذا الموضع وذكر فيها أن القول بكون التأثر أمرا وجوديا أمر معلوم بالضرورية ثم أخذ يجيب عن ذلك بمنع كونها وجودية لئلا يلزم التسلسل
ومن المعلوم أن المقدمات التي يقول المنازع إنها ضرورية لا يجاب عنها بأمر نظري بل إن كان المدعي لكونها ضرورية أهل مذهب معين يمكن أنهم تواطأوا على ذلك القول وتلقاه بعضهم عن بعض أمكن فساد دعواهم وتبين أنها ليست ضرورية وإن كن مما تقر به الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا موافقة من بعضهم لبعض كالموافقة التي تحصل في المقالات الموروثة التي تقولها الطائفة تبعا لكبيرها لم يمكن دفع مثل هذه فإنه لو دفعت الضروريات التي يقر بها أهل الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا تشاعر لم يمكن إقامة الحجة على مبطل وهذا هو السفسطة التي لا يناظر أهلها إلا بالفعل فكل من جحد القاضايا الضرورية المستقرة في عقول بني آدم التي لم ينقلها بعضهم عن بعض كان سوفسطائيا
فإن ادعى المدعي أن التأثير أمر وجودي وذلك معلوم بالضرورة لم يقل له : بل هو عدمي لئلا يلزم التسلسل فإن التسلسل في الآثار فيه قولان مشهوران لمنظار المسلمين وغيرهم
والقول بجوازه هو قول طوائف : كطائفة من المعتزلة يسمون أصحاب المعاني من أصحاب معمر بن عباد الذين يقولون : للخلق إلى ما لا نهاية له لكن هؤلاء يثبتون تسلسلا في آن واحد وهو تسلسل في تمام التأثير وهو باطل وقول طوائف من أهل السنة والحديث كالذين يقولون : إن الحركة من لوازم الحياة وكل حي متحرك والذين يقولون : إنه لم يزل متكلما إذا شاء وغير هؤلاء
فإذا كان فيه قولان فإما أن يكون جائزا أو يكون العلم بامتناعه نظيرا خفيا
بل الجواب القاطع يكون بوجوه قد بسطناها في غير الموضع
منها ما ذكرناه وهو أن يقال : التأثير سواء كان وجوديا أو عديما وسواء كان التسلسل ممكنا أو ممتنعا فاحتجاجهم به على قدم العالم احتجاج باطل
أو يقال : إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه بتأثير حادث وإن لزم التسلسل وإن كان ممتنعا لزم حدوث الحوادث بدون تسلسل التأثير وهو يبطل الحجة فالحجة باطلة على التقديرين وهذا جواب مختصر جامع
فإن الحجة مبناها على أنه لا بد للحوادث من تأثير وجودي فإن كان محدثا لزم التسلسل وهو ممتنع وإن كان قديما لزم قدم الأثر
فيقال له : إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة لإمكان حدوثه عن تأثير حادث وذلك عن تأثير حادث وهلم جرا وامتناع التسلسل مقدمة من مقدمات الدليل فإذا بطلت مقدماته بطل إن كان التسلسل ممتنعا لزم أن تكون الحوادث حدثت عن تأثير وجودي قديم وحينئذ فيمكن حدوث العالم بدون تسلسل الحوادث عن تأثير قديم وهو المطلوب
وإن شئت أدخلت المقدمة الأولى في التقدير أيضا كما تقدم التنبيه عليه ن حتى يظهر الجواب على كل تقدير وعلى قول كل طائفة من نظار المسلمين إذ كان منهم من يقول : التأثير في المحدثات وجودي قديم ومنهم من يقول هو أمر عدمي ومنهم من يقول بتسلسل الآثار الحادثة
والدهري بنى حجته عل أنه لا بد من تأثير وجودي قديم وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر
فيجاب على كل تقدير فيقال : التأثير إن كان عدميا بطلت المقدمة الأولى وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي وإن كان وجوديا ـ وتسلسل الحوادث ممكن ـ أمكن حدوثه بآثار متسلسلة وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار وإن كان تسلسل الآثار ممتنعا لزم : إما التأثير القديم وإما التأثير الحادث بالقدرة أو بالقدرة والمشيئة القديمة وحينئذ فالحوادث مشهودة فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة
وأصل هذا الكلام : أنا نشهد حدوث الحوادث فلا بد لها من محدث هو المؤثر وإحداثه هو التأثير فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها كالقول في إحداث العالم والتأثر فيه
وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث فيفتقر إلى تأثير حادث كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث فمأخذ الحجتين من مشكاة التسلسل في الآثار : القائلون بقدم العالم والقائلون بحدوثه كما يجوزه طوائف من أهل الملل أو أكثر أهل الملل
فإذا أجيبوا على التقديرين وقيل لهم : إن كان التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وتلك وإن لم يكن جائزا بطلت أيضا هذه وتلك كان هذا جوابا قاطعا
ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه كما في لفظ الدور فإن الدور يراد به : الدور القبلي وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء ويراد به الدور المعي الاقتراني وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول أو هو غالط في الإطلاق
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا هو التسلسل الذي أمر التبي صلى الله عليه و سلم بأن يستعاذ بالله منه وأمر بالانتهاء عنه وأن يقول القائل : آمنت بالله ورسله
كما في الصحيحين [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ حتى يقول له : من خلق ربك ؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ] وفي رواية : [ لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق من خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله ] ورواية : [ ورسوله ] وفي رواية : [ لا يزالون بك يا أبا هريرة حتى يقولوا : هذا الله فمن خلق الله ؟ قال : فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا : يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ قال : فأخذ حصى بكفه فرماهم به ثم قال : قوموا قوموا صدق خليلي ]
وفي الصحيح أيضا [ عن أنس بن مالك عن رسول صلى الله عليه و سلم قال قال الله : إن أمتك لا يزالون يسألون : ما كذا ؟ وما كذا ؟ حتى يقولوا : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ ]
وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترن به تسلسل آخر وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير وهو نوعان : تسلسل في جنس الفعل وتسلسل في الفعل المعين
فالأول ـ مثل أن يقال : لا يفعل الفاعل شيئا أصلا حتى يفعل شيئا معينا أو لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء فهذا أيضا بالطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية بأن يقال : كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلا : إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن حدث فيها شيء فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث : إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء
وهذا جمع بين النقيضين وقد يسمى هذا دورا ويسمى تسلسلا وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة
وجوابه أن يقال : أتعني بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلا أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين ؟ أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم وأما الثاني : فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثا ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث وقبل ذلك الحادث حادث وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثا مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه
وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث العين أو في جنس الحوادث : أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره وحدث مع حدوث تمام المؤثر وهلم جرا
وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير
فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه يكون تما تأثيره مع الآخر حادث وهلم جرا فهذا ممتنع من جنس قول معمر في المعاني التسلسلة وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جرا فهذا فيه قولان وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه
وكما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير يراد به التسلسل المتعاقب شيئا بعد شيء ويراد به التسلسل المقارن شيئا مع شيء فقولنها أيضا : إن المؤثر يستلزم أثره يراد به أن يكون عقبه فهذا هو الاستلزام المعروف عند جمهور العقلاء وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم
والناس لهم في أستلزام المؤثر أثره قولان :
فمن قال : إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث فإنه يقول : المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه بل يجوز تراخيه ويقول : أن القادر المختار يرجع أحد مقدوريه بمجرد قدرته التي لم تزل أو بمجرد مشيئته التي لم تزل وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب
والقول الثاني : أن المؤثر التام يستلزم أثره لكن في معنى هذا الاستلزام قولين : أحدهما : أن يكون معه بحيث يكون زمان الأثر زمان المؤثر فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء
والثاني : أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه فهو محدث
وإن قيل : إنه لم يزل فعالا وإن قيل بدوام فاعليته فذلك لا يناقض حدوث كل ما سواه بل هو مستلزم لحدوث كل ما سواه فإن كل مفعول فهو محدث فكل ما سواه مفعول فهو محدث مسبوق بالعدم فإن المسبوق بغيره سبقا زمانيا لا يكون قديما والأثر المتعقب لمؤثره الذي زمانه عقب زمان تمام مؤثره ليس مقارنا له في الزمان بل زمنه متعقب لزمان تمام التأثير كتقدم بعض أجزاء الزمان على بحض وليس في أجزاء الزمان شيء قديم وإن كان جنسه قديما بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم كما ليس من أجزاء الزمان جزء قديم
فمن تدبر هذه الحقائق وتبين له ما فيها من الاشتباه والالتباس : تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامه التي تحار فيها الأبصار والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم


عمدة الفلاسفة في قدم العالم على مقدمتين
وحقيقة الأمر : أن هؤلاء الفلاسفة بنوا عمدتهم في قدم العالم على مقدمتين : إحداهما : أن الترجيح لا بد له من مرجح تام يجب به
والثانية أنه لو حدث الترجيح للزم التسلسل وهو باطل
وهم متناقضون قائلون بنقيض هاتين المقدمتين


جواز التسلسل
أما جواز التسلسل فإن أرادوا به التسلسل المتعاقب في الآثار شيئا بعد شيء فهم يقولون بجواز ذلك وحينئذ فلا يمتنع أن يكون كل ما سوى الله محدثا كائنا بعد أن لم يكن كالفلك وغيره وإن كان حدوثه مؤقوفا على سبب حادث قبله وحدوث ذلك السبب موقوف على سبب حادث قبله
وإن أرادوا التسلسل المقترن ـ وهو أنه لو حدث حادث للزم أن يحدث معه تأثيره ومع حدوث تمام تأثيره يحدث تأثير المؤثرـ فهذا باطل بصريح العقل وهم يوافقون على امتناعه
وإن عنوا بالتسلسل : أنه لو حدث ترجيح جنس الفعل للزم هذا التسلسل فهو صادق ولكن هذا يفيد أنه لا يحدث مرجح يوجب ترجيح الفعل بل لا يزال جنس الفعل موجودا فهذا يسلمه لهم أئمة المسلمين
لكن ليس في هذا ما يقتضي صحة قولهم بقدم شيء من العالم بل هذا يقتضي حدوث كل ما سوى الله فإنه إذا كان جنس الفعل لم يزل لزم أنه لا تزال المفعولات تحدث شيئا بعد شيء وكل مفعول محدث مسبوق بعدم نفسه ولكن هؤلاء ظنوا أن المفعول يجب أن يقارن الفاعل في الزمان ويكون معه من غير أن يتقدم الفاعل على مفعوله بزمان
وهذا غلط بين لمن تصوره وهو معلوم الفساد بالعقل عند عامة العقلاء ولهذا لم يكن في العقلاء من قال : إن السماوات والأرض قديمة أزلية إلا طائفة قليلة ولم يكن في العالم من قال : إنها مفعولة وهي قديمة إلا شرذمة من هذه الطائفة الذين خالفوا المعقول وصحيح المنقول
وقولهم بأن المؤثر التام الأزلي يستلزم أثره بهذا الاعتبار الذي زعموه أي : يكون معه لا يتقدم المؤثر على أثره بالزمان يوجب أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف المشاهدة فقد قالوا بما يخالف الحس والعقل وأخبار الأنبياء وهذه هي طرق العلم
وإذن كان الممتنع إنما هو جواز التسلسل في أصل التأثير والتسلسل المقارن مطلقا
وأما التسلسل في الآثار شيئا بعد شيء فهم مصرحون به : معترفون بجوازه
وقدم العالم ليس لازما مستلزما لجواز التسلسل وإنما خصوا به المعتزلة ومن اتبعهم من الكلابية وغيرهم الذين وافقوهم على نفي الأفعال القائمة به أو نفي الصفات والأفعال فقالوا لهم : أنتم قدرتم في الأزل ذاتا معطلة عن الفعل فيمتنع أن يحدث عنها شيء لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح
فالطريق الذي به ينقطع هؤلاء الفلاسفة أن يقال : إن كان التسلسل في الآثار شيئا بعد شيء ممتنعا بطلت الحجة وإن كان جائزا أمكن أن يكون حدوث كل شيء من العالم مبينا على حوادث قبله إما معان حادثة شيئا بعد شيء في غير ذات الله تعالى وإما أمور قائمة بذات الله تعالى كما يقوله أهل الحديث وأهل الإثبات الذين يقولون : لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء وإما غير ذلك كما قاله الأرموي وغيره
وبالجملة : فالتقديرات في تسلسل الحوادث معددة ومهما قدر منها كان أسهل من القول بأن السماوات والأرض أزلية وأن الله لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهؤلاء الفلاسفة إنما يبحثون بمجرد عقولهم فليس في العقل ما يوجب ترجيح قدم الأفلاك على سائر التقديرات ومن يقر بالسمع ـ كمن يقر بالشرائع منهم ـ فأي تقدير قدره كان أقرب إلى الشرع من قولهم بقدم الأفلاك


الترجيح بلا مرجح
وأما المقدمة الثانية - وهي الترجيح بلا مرجح - فإنهم ألزموا بها القائلين بالحدوث بدون سبب حادث وهي لهم ألزم فإن الحوادث المتجددة تقتضي تجدد أسباب حادثة فالحدوث أمر ضروري على كل تقدير والذات القديمة المستلزمة لموجبها : إن لم يتوقف حدوث الحوادث عنها على غيرها لزم مقارنة الحوادث لها في الأزل وهذا باطل بالضرورة والحس وإن توقف على غيرها فذلك الغير إن كان قديما أزليا كان معها فيلزم مقارنة الحوادث لها وإن كان حادثا فالقول في سبب حدوثه كالقول في غيره من الحوادث
فهؤلاء الفلاسفة أنكروا على المتكلمين - نفاة الأفعال القائمة به - أنهم أثبتوا حدوث الحوادث بدون سبب حادث مع كون الفاعل موصوفا بصفات الكمال وهم أثبتوا حدوث الحوادث كلها بدون سبب حادث ولا ذات موصوفة بصفات الكمال بل حقيقة قولهم أن الحوادث تحدث بدون محدث فاعل إذ كانوا مصرحين بأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها فلا يبقى للحوادث فاعل أصلا لا هي ولا غيرها
فعلم أن قولهم أعظم تناقضا من قول المعتزلة ونحوهم وأن ما ذكروه من الحجة في قدم العالم هو على حدوثه أدل منه على قدمه باعتبار كل واحدة من مقدمتي حجتهم
ومن تدبر هذا وفهمه تبين له أن الذين كذبوا بآيات الله صم وبكم في الظلمات وأن هؤلاء وأمثالهم من أهل النار كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } ( الملك : 10 ) وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن نبين أن أجوبة نفاة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى لهؤلاء الدهرية أجوبة ضعيفة كما بين ذلك وبهذا استطالت الفلاسفة والملاحدة وغيرهم عليهم
فالذين سلكوا هذه المناظرة لا أعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه ولا أعطوا الجهاد لأعداء الله تعالى حقه فلا كملوا الإيمان ولا الجهاد
وقد قال الله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } ( الحجرات : 15 ) وقال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } ( آل عمران : 81 ) [ قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق : لئن بعث الله محمد صلى الله عليه و سلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد صلى الله عليه و سلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ]
فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه ومن الإيمان به : تصديقه في كل ما أخبر به ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته
وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة الذين ذمهم السلف والأئمة لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع الذين هم أبعد عن السنة منهم بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد وأخذوا يقولون أنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده - تكذيبا أو تأويلا أو تفويضا - لأنها أصل السمعيات
وإذا حقق الأمر عليهم وجد الأمر بالعكس وأنه لا يتم الإيمان بالرسول والجهاد لأعدائه إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات وتبين أن المعقول الصريح مطابق لما جاء به الرسول لا يناقضه ولا يعارضه وأنه بذلك تبطل حجج الملاحدة وينقطع الكفار فتحصل مطابقة العقل للسمع وانتصار أهل العلم والإيمان على أهل الضلال والإلحاد ويحصل بذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول واتباع صريح المعقول والتمييز بين البينات والشبهات


كل ما يحتج به النفاة يدل على نقيض قولهم
وقد كنت قديما ذكرت في بعض كلامي أني تدبرت عامة ما يحتج به النفاة من النصوص فوجدتها على نقيض قولهم أدل منها على قولهم كأحتجاجهم على نفي الرؤية بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] فبينت أن الإدراك هو الإحاطة لا الرؤية وأن هذه الآية تدل على إثبات الرؤية أعظم من دلالتها على نفيها
وكذلك إحتجاجهم على أن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة بقوله تعالى { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه } [ الأنبياء : 2 ] بينت أن دلالة هذه الآية على نقيض قولهم أقوى فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث وبعضه ليس بمحدث وهو ضد قولهم
والحدوث في لغة العرب العامة ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل ال كلام فإن العرب يسمون ما تجدد حادثا وما تقدم على غيره قديما وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى { كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] وقوله تعالى عن إخوة يوسف { تالله إنك لفي ضلالك القديم } [ يوسف : 95 ] وقوله تعالى { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } [ تلأحقاف : 11 ] وقوله تعالى عن إبراهيم { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون } [ الشعراء : 75 - 76 ] وكذلك استدلالهم بقوله : الأحد الصمد على نفي علوه على الخلق وأمثال ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع
ثم تبين لي بعد ذلك مع هذا أن المعقولات في هذا كالسمعيات وأن عامة ما يحتج به النفاة من المعقولات هي أيضا على نقيض قولهم أدل منها على قولهم كما يستدلون به على نفي الصفات ونفي الأفعال وكما يستدل به الفلاسفة على قدم العالم ونحو ذلك والمقصود هنا التنبيه وإلا فالبسط له موضع آخر
وعمدة من نفى الأفعال والصفات من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم على هذه الحجة التي زعموا أنهم يقررون بها حدوث العالم وإثبات الصانع فجعلوا ما قامت به الصفات أو الأفعال محدثا حتى يستدلوا بذلك على أن العالم محدث ويلزم من ذلك أن لا يقوم بالصانع لا الصفات ولا الأفعال
وإذا تدبر العاقل الفاضل تبين له أن إثبات الصانع وإحداثه للمحدثات لا يمكن إلا بإثبات صفاته وأفعاله ولا تنقطع الدهرية من الفلاسفة وغيرهم قطعا تاما عقليا لا حيلة لهم فيه إلا على طريقة السلف أهل الإثبات للأسماء والأفعال والصفات وأما من نفى الأفعال أو نفى الصفات فإن الفلاسفة الدهرية تأخذ بخناقه ويبقى حائرا شاكا مرتابا مذبذبا بين أهل الملل المؤمنين بالله ورسوله وبين هؤلاء الملاحدة كما قال تعالى في المنافقين { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } [ النساء : 143 ]
وهذا موجود في كلام عامة هؤلاء الذين في كلامهم سنة وبدعة ولا ريب أنهم يردون على الفلاسفة وغيرهم أمورا ولكن الفلاسفة ترد عليهم أمورا وهم ينتصرون في غالب الأمر بالحجة العقلية على الفلاسفة أكثر مما تنتصر الفلاسفة بالحجة العقلية عليهم ولكن قد تقول الفلاسفة أمورا باطلة من جنس العقليات فيوافقونهم عليها فيستطيلون بها عليهم وقد تقول الفلاسفة أمورا صحيحة موافقة للشريعة فيردونها عليهم وهم لا يصيبون الصدق والعدل إلا إذا وافقوا الشريعة فإذا خالفوها كان غايتهم أن يقابلوا الفاسد بالفاسد الباطل بالباطل فتبقي الفلاسفة العقلاء في شك ويبقى العقلاء منهم في شك لا حصل لهؤلاء نور الهدى ولا لهؤلاء
وإنما يحصل النور والهدى بأن يقابل الفاسد بالصالح والباطل بالحق والبدعة بالسنة والضلال بالهدى والكذب بالصدق وبذلك يتبين أن الأدلة الصحيحة لا تعارض بحال وأن المعقول الصريح مطابق للمنقول الصحيح
وقد رأيت من هذا عجائب فقل أن رأيت حجة عقلية هائل لمن عارض الشريعة قد انقدح لي وجه فسادها وطريق حلها إلا رأيت بعد ذلك من أئمة بلك الطائفة من قد تفطن لفسادها وبينه
وذلك لأن الله خلق عباده على الفطرة والعقول السليمة مفطورة على معرفة الحق لولا المعارضات ولهذا أذكر من كلام رؤوس الطوائف من العقليات ما يبين ذلك لا لأنا محتاجون في معرفتنا إلى ذلك لكن ليعلم أن أئمة الطوائف معترفون بفساد هذه القضايا التي يدعي إخوانهم أنها قطعية مع مخالفتها للشريعة ولأن النفوس إذا علمت أن ذلك القول قاله من هو من أئمة المخالفين استأنست بذلك واطمأنت به ولأن ذلك يبين أن تلك المسألة فيها نزاع بين تلك الطائفة فتنحل عقد الإصرار والتصميم على التقليد
فإن عامة الطوائف ـ وإن ادعوا العقليات ـ فجمهورهم مقلدون لرؤوسهم فإذا رأوا الرؤوس قد تنازعوا واعترفوا بالحق انحلت عقدة الإصرار على التقليد


إبطال الأبهري حجة الفلاسفة على قدم العالم
وقد رأيت الأثير الأبهري - وهو ممن يصفه هؤلاء المتأخرون بالحذق في الفلسفة والنظر ويقدمونه على الأرموي ويقولون : الأصبهاني صاحب القواعد هو وغيره تلامذته - رأيته قد أبطل حجة هؤلاء المتفلسفة على قدم العالم بما يقرر ما ذكرته من إبطالها وكان ما أجاب به عن حجتهم أولى بدين المسلمين كما ذكره الأرموي مع أنه ينتصر للفلاسفة أكثر من غيره
فقال في فصل ذكر فيه ما يصح من مذاهب الحكماء وما لا يصح :
قال : ( ثم قالوا : إن الواجب لذاته يجب أن يكون واجبا من جميع جهاته أي يجب أن تكون جميع صفاته لازمة لذاته إما أن تكون كافية فيما له من الصفات وجودية كانت أو عدمية أو لا تكون والثاني باطل وإلا لتوقف شيء من صفاته على غيره وذاته متوقفة على وجود تلك الصفة أو عدمها فذاته تتوقف على غيره وهو محال
قال : ( وهذا ضعيف لأنا نقول : لا نسلم أن ذاته تتوقف على وجود تلك الصفة أو عدمها بل ذاته تستلزم تلك الصفة أو عدمها ولا يلزم من ذلك ذاته إما على وجودها أو عدمها )
قال : ( ثم قالوا : إن الباري تعالى يستلزم جملة ما يتوقف عليه وجود العالم فيلزم من دوامه أزلية العالم وهو ممتنع لا محال أن يكون له إرادات حادثة كل واحدة منها تستند إلى الأخرى ثم تنتهي في في جانب النزول إلى أرادة تقتضي حدوث العالم فلزم حدوثه )
قلت : فهذا الجواب خير من الذي ذكره الأرموي وذكر أنه باهر و الأرموي نقله من المطالب العالية للرازي فإنه ذكره وقال : ( إنه هو الجواب الباهر ) ووافقه عليه القشيري المصري : فهذا أصح في الشرع والعقل
أما الشرع : فإن هذا فيه قول بحدوث كل ما سوى الله وذلك القول فيه إثبات عقول ونفوس أزليبة مع الله تعالى والفرق بين القولين معلوم عند أهل الملل والشرائع
وأما العقل : فإن قول الأرموي فيه إثبات أمور ممكنة يحدث فيها حوادث متعاقبة من غير أمر يتجدد من الواجب وهذا يقتض حدوث الحوادث بلا محدث فإن الواجب بنفسه إذا كان علة مستلزمة لمعلولها لم يجز تأخر شيء من معلوله عنه بخلاف ما ذكره الأبهري فإنه ليس فيه إلا أن الواجب مستلزم لآثاره شيئا بعد شيء وهذا متفق عليه بينهم فإنه ليس فيه إلا تسلسل الآثار و الأبهري و الأرموي وغيرهما يقولون بتسلسل الآثار بل قول أولئك يقتضي أن يكون الفلك هو رب ما دونه وهو المحدث للحوادث بأفعاله القائمة به المتعاقبة وقول الأبهري يقتضي أن يكون الله هو رب العالمين وهو محدث لكل شيء مما يقوم به من الأفعال المتعاقبة
ولا ريب أن قول أولئك فاسد في العقل كما هو فاسد في الشرع فإن الفلك إذا كان ممكنا فجميع صفاته وحركاته ممكنة ولا يترجح شيء من ذلك إلا بوجود المرجح التام فالمرجح التام إن كان موجودا في الأزل لزم وجود مقتضاه في الأزل
ثم ذلك المرجح إن كان في نفسه علة تامة لمعلوله بحيث لا يتجدد به ولا منه شيء امتنع أن يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن صادرا لا في الفلك ولا في غير الفلك لا دائم ولا منقطع وامتنع أن تكون حركة الفلك الدائمة صادرة عن هذا لا سيما مع اختلاف الحركات والمتحركات وأنه بسيط عندهم من كل وجه وهو في الأزل علة تامة فيمتنع أن تصدر عنه المختلفات والمتجددات كما أن جميع المتحركات الممكنات لا تدوم حركتها إلا بدوام السبب المحرك المنفصل عنها وهذا لأن حال الفاعل إذا كانت حين أحدث هذا المتأخر كحاله حين أحدث ذلك المتقدم امتنع تخصيص هذا الحال بالفصل دون هذه كما يقولون هم ذلك
وإن قالوا : ( إنما كان هذا لأن حركة الفلك لم يمكن وجودها كلها أو لم يمكن وجود الحوادث كلها في الأزل فتأخر فيضه لتأخر استعداد القوابل )
قيل : هذا إنما يمكن أن يقال إذا كان القابل ليس هو صادرا عن الفاعل مثل القوابل لأثر الشمس فإن أثر الشمس فيها مختلف باختلاف تلك القوابل فتسود وجه القصار وتبيض الثوب وترطب الفاكهة تارة وتجففها أخرى ولهذا إنما قال سلفهم هذا في العقل الفعال فقالوا إنه يتأخر فيضه على القوابل لتأخر استعداد القوابل بسب الحركات الفلكية فالموجب لاستعداد القوابل ليس هو الموجب للفيض عندهم
وهذا قالوه لاعتقادهم وجود هذا العقل وهذا لا يستقيم في المبدع لكل شيء الذي منه الإعداد ومنه الإمداد لا يتوقف فعله على غيره
فأما إذا كان الفاعل هو الفاعل للقابل والمقبول عاد السؤال جذعا وقيل : فلم جعل القوابيل تقبل على ذلك الوجه دون غيره ؟ ولم جعل الحركة الفلكية علي هذا الوجه دون غيره مع أن الممكن ليس له من نفسه شيء أصلا لا طبيعة ولا غيرها ؟ بل الموجب هو الفاعل لطبيعته وحقيقته وليس له حقيقة في الخارج مباينة للموجود في الخارج بل البارىء هو المبدع للحقائق كلها
ومن قال : ( إن للممكن ماهية مغايرة في الخارج للأعيان الموجودة في الخارج ) أو قال : ( إنه شيء ثابت في القدم ) فلا يمكنه أن يقول : إن تلك المعدومات أوجبت قدرة الفاعل على بعضها دون بعض مع أنها كلها ممكنة : إلا لأمر آخر مثل أن يقال : ما يمكن غير هذا وهذا هو الأصلح أو الأكمل والأفضل
وبهذا تظهر حجة الله تعالى في قوله : { يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } ( الرعد : 4 ) فإنه دل بهذا على تفضيله بعض المخلوقات على بعض مع استوائها فيما تساوت فيه من الأسباب
كما قال في الآية الأخرى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء } ( فاطر : 27 - 28 )
فإذا قال القائل : إنما تفاضلت واختلفت لاختلاف القوابل وأسباب أخرى من الهواء والتراب والحب والنوى
قيل له : وتلك القوابل والأسباب هي أيضا من فعله ليست من فعل غيره فهو الذي أعد القوابل وهو الذي أمد كل شيء بحسب ما أعده له وحينئذ فقد تبين أنه خلق الأمور المختلفة ومن كل شيء زوجين فبطل أن يكون واحدا بسيطا لا يصدر عنه إلا واحد لازم له لا يصدر عنه غيره ولا يمكنه فعل شيء سواه فإن فعل المختلفات الحادثات يدل على أنه فاعل بقدرته ومشيئته ولهذا قال : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ( فاطر : 28 )
قال طائفة من السلف : العلماء به فإن من جعله غير قادر على إحداث فعل ولا تغيير شيء من العالم بل لزمه ما لا يمكنه مفارقته : لم يخشه إنما يخشى الكواكب والأفلاك التي تفعل الآثار الأرضية عنده أو ما كان نحو ذلك ولهذا عبدها هؤلاء من دون الله ولهذا كان دعاؤهم لها وخشيتهم منها
ولهذا تبرأ الخليل من مخافتها لما ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام وقال : { لا أحب الأفلين } ( الأنعام : 76 ) قال تعالى : { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } ( الأنعام : 80 - 81 ) وقال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ( الأنعام : 82 ) فإن المشركين يخافون بالمخلوقات من الكواكب وغيرها وهم قد أشركوا بالله ولا يخافون الله إذ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وإنما يخشاه من عباده العلماء الذين لا يعلمون أنه على كل شيء قدير وأنه بكل شيء عليم فهؤلاء الدهرية الفلاسفة وأمثالهم لا يخافون الله تعالى
فإن قال قائل : فهم يقرون بالعبادات ويقولون : ( ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات ) لا سيما الإسلاميون منهم فإنهم يعظمون الأدعية والعبادات
قيل : هم لا يقرون بأن الله نفسه يحدث شيئا بسبب الدعاء أو غيره وإنما الحوادث كلها عندهم بسبب حركة الفلك لا بشيء آخر أصلا وهم إذا قالوا : ( إن النفوس تقوى بالدعاء والعبادة والتجرد والتصفية فتؤثر في هيولى العالم ) كان هذا عندهم بمنزلة تأثير الأكل والشرب في الري والشبع لا يستلزم ذلك عندهم أمرا يحدث من عند الله تعالى فإنه لو حدث منه أمر لزم تغيره عندهم وبطل أصل قولهم
وهم قد يخافون ما يحدث من الحوادث بسبب أعمالهم لاقتضاء طبيعة الوجود ذلك كما يقولون : إن أكل المضرات يورث المرض أو الموت والسبب لكل الحوادث حركة الفلك وإن كانت الحوادث لا تحدث بمجرد الحركة بل بالحركة وغيرها : أما لكون الحركة توجب امتزاجا تستعد به الممتزجات لما يفيض عليها من العقل الفعال أو لغير ذلك فهم مطالبون بالموجب لحركة الفلك وحدوث جميع الحوادث : إن كان الموجب لها علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من معلولها امتنع أن تكون حركات الممكنات وما فيها من الحوادث صادرة عن هذه العلة لأن ذلك يقتضي تأخر كثير من معلولاتها مع ما فيها من الاختلاف العظيم المنافي لبساطتها التي يسمونها الوحدة
وقد بين في غير هذا الموضع أن الواحد البسيط الذي يقدرونه لا حقيقة له في الخارج أصلا
وإذا قيل : ( القوابل المفعولة الممكنة المبدعة اختلفت وتأخر استعدادها مع كون الفاعل لها لم يزل ولا يزال على حال واحدة ) كان امتناع هذا ظاهرا
بخلاف ما إذا قيل : ( أن نفس الفاعل موصوف بصفات متنوعة وأفعال متنوعة وله تعالى شؤون وأحوال كل يوم هو في شأن فإنه يكون تنوع المفعولات وحدوث الحادثات لتنوع أحوال الفاعل وأنه يحدث من أمره ما شاء )
وإذا طلب الفرق بينهما قيل : أحواله من مقتضيات ذاته الواجبة الوجود بنفسه التي لا يتوقف شيء من أحوالها على أمر مستغن عنها ولا يحتاج إليه وإذا كان واجبا بنفسه فما كان من لوازمه كان أيضا واجبا لا يمكن عدمه بخلاف الممكن الذي ليس له من نفسه وجود
فإنه إذا قيل : اختلف فعل الفاعل وتأخر لاختلاف القابل وحدوثه
قيل : فهو أيضا الفاعل للقابل المختلف الحادث فكيف تصدر المختلفات الحادثات عن فاعل لا اختلاف في فعله ولا حدوث لشيء من أفعاله ؟


رد الأبهري على الرازي وتعليق ابن تيمية
و الأبهري قد أبطل حجة المعتزلة والأشعرية ونحوهم على حدوث الأجسام وأراد أن يعتذر عن الفلاسفة فقال :
( فصل - في ذكر الطرائق التي سلكها الإمام - يعني أبا عبد الله الرازي - في كتبه لتقرير مذاهب المتكلمين وكيفية الاعتراض عليها
أما الطريقة التي سلكها لحدوث العالم فمن وجهين :
أحدهما : أن العالم ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو حادث لأن تأثير المؤثر فيه : إما أن يكون حال الوجود أوحال العدم أو لا حال الوجود ولا حال العدم والأول باطل لأن التأثير حال الوجود يكون إيجادا للموجود وتحصيلا للحاصل وهو محال والثاني محال لأن التأثير حال العدم يكون جمعا بين الوجود والعدم وهو محال فيلزم أن يكون : لا حال الوجود ولا حال العدم فيكون حال الحدوث فكل ما له مؤثر فهو حادث
الثاني : أن الأجسام لو كانت أزلية فإما أن تكون متحركة في الأزل أو ساكنة والقسمان باطلان
أما الأول فلوجوه :
أحدها : أنها لو كانت متحركة في الأزل للزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية في شيء واحد لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير والأزل يتقضي عدم المسبوقية بالغير فيلزم الجمع ضرورة
الثاني : أنه لو كانت متحركة في الأزل لكانت بحال لا تخلو عن الحوادث وما يخلو عن الحوادث فهو حادث وإلا لكان الحادث أزليا هذا خلف
الثالث : أنها لو كانت متحركة في الأزل لكانت الحركة اليومية موقوفة على انقضاء ما لا نهاية له وهو محال والموقوف على المحال محال
الرابع : أنها لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان : إحداهما من الحركة اليومية إلى غير النهاية والثانية من الحركة التي وقعت من الأمس إلى غير النهاية
فالجملة الثانية إن صدق عليها أنها لو أطبقت على الأولى انطبقت عليها كان الزائد مثل الناقص وإن لم تصدق كانت متناهية فالجملة الاولى أيضا متناهية وقد فرضت غير متناهية هذا خلف
وأما الثاني : فلأنها لو كانت ساكنة في الأزل امتنع عليها الحركة لأن المؤثر في السكون إما أن يكون أزليا أو حادثا لا جائز أن يكون حادثا وإلا لكان السكون حادثا وقد فرض أزليا هذه خلف فتعين أن يكون أزليا فيلزم من دوامه دوام السكون فتمتنع الحركة على الأجسام وأنها ممكنة عليها لأن الأجسام إما أن تكون بسيطة أو مركبة فإن كانت بسيطة فيصح على أحد جوانبها ما يصح على الآخر فيصح أن يصير يمينها يسارا ويسارها يمينا فيصح عليها الحركة وإن كانت مركبة كانت مجتمعة من البسائط فكانت بسائطها قابلة للاجتماع والافتراق وكانت قابلة للحركة هذا خلف )
قال الأبهري ( الاعتراض : قوله : بأن التأثير في الممكن إما أن يكون حالة الوجود أو حالة العدم أو لا حالة الوجود ولا حاله العدم
قلنا : لم لا يجوز أن يكون حال الوجود ؟
وقوله : التأثير حال الوجود إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل
قلنا : لا نسلم وإنما يكون كذلك أن لو أعطى الفاعل وجودا ثانيا وليس كذلك فإن التأثير عبارة عن كون الأثر موجودا بوجود المؤثر وجاز أن يكون الأثر موجودا دائما لوجود المؤثر والذي يدل على حصول التأثير حالة الوجود أنه لو لم يكن كذلك لكان التأثير حالة العدم لاستحالة الواسطة بين الوجود والعدم والثاني كاذب لأن التأثير حاله العدم يقتضي الجمع بين الوجود والعدم وهو محال )
قال : ( أما قوله : الأجسام لو كانت أزلية : فإما أن تكون متحركة أو ساكنة في الأزل
قلنا : لم لا يجوز أن تكون متحركة ؟
قوله : يلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في شيء واحد
قلنا : لا نسلم وهذا لأن المسبوق بالغير هو الحركة وغير المسبوق بالغير هو الجسم
فإن قال : ( إذا كانت الحركة أزلية كانت الحركة من حيث هي هي غير مسبوقة بالغير لكن الحركة من حيث هي هي مسبوقة بغير لأنها تغير وانتقال فتقتضي المسبوقية بالغير فيلزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير في الحركة
قلنا : إذا ادعيتم ذلك فنقول : لا نسلم أن الجسم لو كان أزليا لكانت الحركة من حيث هي هي حركة أزلية ولم لا يجوز أن يكون الجسم أزليا ويصدق عليه أنه متحرك دائما بأن تتعاقب عليه الحركات المعنية ولا يصدق على الحركات الموجودة في الأعيان أنها أزلية ضرورة اتصاف كل واحد منها بكونها مسبوقة بالغير ؟ )
قلت : هذا مضمونه ما نبه عليه في غير هذا الموضع : أن حدوث كل من الأعيان لا يستلزم حدوث النوع الذي لم يزل ولا يزال
( وأما قوله : لو كانت الأجسام متحركة لكانت لا تخلو عن الحوادث
قلنا : نعم : ولكن لم قلتم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ؟
قوله : لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليا
قلنا : لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كان شيء من الحركات بعينها لازما للجسم وليس كذلك بل هو قبل كل حركة حركة لا إلى أول إلى ما لا نهاية )
قلت : هذه من نمط الذي قبله فإن الأزلي هو نوع الحادث لا عين الحادث
قوله : لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له
قلنا : لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقا بحوادث لا أول لها ولم قلتم : إن ذلك غير جائز ؟
قلت : مضمونة أنه يكون موقوفا على انقضاء ما لا ابتداء له ولا أول له وهو لا نهاية له من الطرف الأول لكن له نهاية من الطرف الآخر
قوله : لو كانت متحركة في الأزل لحصلت جملتان أحدهما : من الحركة اليومية والثانية : من الحركة التي وقعت في الأمس
قلنا : لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كانت الحركات مجتمعة في الوجود
قلت : هذا مضمونه أن التطبيق لا يكون إلا بين موجودين ولكن يقال التطبيق في الخارج لا يكون إلا بين موجودين ولكن يمكن تقدير التطبيق بين معدومين لا سيما إذا كانا قد دخلا جميعا في الوجود فالمطبق بينهما إما أن يكونا مقدرين في الأذهان لا يوجدان في الأعيان بحال كالأعداد المجردة عن المعدودات أو معدومين منتظرين كالمستقبلات أو معدومين ماضيين كالحوادث المتقدمة أو موجودين كالمقادير الموجودة والمعدودات الموجودة
ويجاب عن هذا بجواب ثان : وهو : أن الجملتين اللتين طبقت إحداهما على الأخرى مع التفاوت في أحد الطرفين وعدم التناهي في الآخر هما متفاضلتان في الطرف الواحد وتنطبق إحداهما على الآخرى في الطرف الآخر فلا يصدق ثبوت مطابقة إحداهما للأخرى مطلقا ولا نفي المطابقة مطلقا بل يصدق ثبوت الانطباق من أحد الطرفين وانتفاؤه من الآخر وحينئذ فلا يكون الزائد مثل الناقص : ولا يكونان متناهيين
وإذا قال القائل : نحن نطبق بينهما من الطرف الذي يلينا فإن استويا لزم أن يكون الزائد مثل الناقص وأن يكون وجود الزيادة كعدمها والشيء مع عدم غيره كهو مع وجوده وإن تفاضلا لزم أن يكون ما لا يتناهى بعضه متفاضلا
قيل : التطبيق بينهما من الجهة المتناهية مع تفاضلهما فيها ممتنع وفرض الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع فإن الحوادث الماضية من أمس إذا قدرت منطبقة على الحوادث الماضية في اليوم كان هذا التطبيق ممتنعا فإنه يمتنع أن يطابق هذا هذا فإن الجملتين متفاضلتان : ومع التفاضل يمتنع التطبيق المستلزم للمعادلة والاستواء
وإذا قال القائل : أنا أقدر المطابقة في الذهن وإن كانت ممتنعة في الخارج
قيل له : فقد قدرت في الذهن شيئين مع جعلك أحدهما أزيد من الآخر من الطرف الواحد ومساويا له من الطرف الآخر ومعلوم أنك إذا قدرت لم يكن تفاضلهما ممتنعا بل كان الواجب هو التفاضل ودليلك مبني على تقدير التطبيق فيلزم التفاضل فيما لا يتناهى وكل من المقدمتين باطل فإن قدرت تطبيقها صحيحا عدليا فهو باطل وإن قدرته وإن كان ممتنعا لم يكن التفاضل في ذاك ممتنعا فدعواك أن التفاضل ممتنع فيما قدرته متفاضلا ممنوع بل مع تقدير التفاضل يجب التفاضل لكن يجب التفاضل من جهة التفاضل ولا يلزم التفاضل من الجهة الأخرى
قال الأبهري : ( وإن سلمنا أنه لا يجوز أن تكون متحركة في الأزل ولكن لم لا يجوز أن تكون ساكنة ؟
قوله : بأن المؤثر في السكون إما أن يكون حادثا أو أزليا
قلنا : فلم قلتم بأنه لو كان أزليا للزم دوام السكون ؟ ولم لا يجوز أن يكون تأثيره فيه موقوفا على شرط عجمي أزلي ؟ والعدمي الأزلي جائز الزوال فإذا زال الشرط زال السكون )
قلت : لقائل أن يقول : العرض الأزلي إنما يزول بسبب حادث والقول فيه كالقول في غيره بل لا يزول إلا بسبب حادث فيحتاج إلى حدوث سبب يحدث ليزول السكون وهو يقول : المقتضي لزوال السكون كالمقتضي لحدوث العالم وهو الإرادة المسبوقة بإرادة لا إلا أول لكن هذا التقدير يصحح القول بحدوث العالم
فيقال : إن كان الجسم أزليا وأمكن حدوث الحركة فيه كان المقتضي لحركته مجوزا لحدوث العالم لكن هذا يبطل حجة الفلاسفة ولا يصحح حجية أن الجسم الأزلي يمتنع تحريكه فيما بعد
وأيضا فإنه ههنا بحثا آخر وهو أن السكون هل هو أمر ثبوتي مضاد للحركة أو هو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك ؟ وفيه قولان معروفان فإذا كان عدميا لم يفتقر إلى سبب
( قال : وأما الطريقة التي يسلكها في كون الباري فاعلا بالاختيار فمن وجهين :
أحدهما : أنه لو كان موجبا بالذات وجب أن لا ينفك عنه العالم فيلزم إما قدم العالم وإما حدوث الباري تعالى
الثاني : أنه لو كان موجبا بالذات لما حصل تغير في العالم لأنه يلزم من دوامه دوام معلوله وإلا كان ترجيحا بلا مرجح ويلزم من دوام معلوله دوام معلول معلوله وهكذا إلى أن يلزم دوام جميع المعلولات )
قال الأبهري : ( الاعتراض : أما الوجه الأول فلا نسلم أن القدم منتف وأما الحجة التي ذكرها فقد مر ضعفها وأما الثاني فلا نسلم أنه لو كان موجبا بالذات للزم دوام معلولاته وإنما يلزم ذلك أن لو كان جميع معلولاته قابلة للدوام وهذا لأن من جملة معلولاته الحركة وهي غير قابلة للبقاء )
ولقائل أن يقول : اعتراض الأبهري هنا ضعيف
أما الأول فيقال : هب أن ما ذكره على انتفاء القدم ضعيف لكن لا يلزم من ضعف الدليل المعين انتفاء المدلول وأنت قد بينت ضعف دليل الفلاسفة على القدم وإذا كان القول بالموجب بالذات يستلزم قدم العالم ولا دليل لهم عليه كان قولهم أيضا لا دليل عليه
و الأبهري قد ذكر في غير هذه الموضع ما احتج به على حدوث العالم ببيان انتفاء لازم القدم ولكن إن كان قصده بيان فساد ما ذكره الرازي ف الرازي ذكر وجهين وهب أن الأول ضعيف لكن الثاني قوي وهو قوله : ( لو كان موجبا بالذات ما حصل تغير في العالم )
وتحرير ذلك أن يقال : الموجب بالذات يراد به العلة التامة التي تستلزم معلولها ولو كانت شاعرة به ويراد ما يفعل بغير إرادة ولا شعور وإن كان فعله متراخيا ومن المعلوم أنه لم يقصد إفساد القسم الثاني وإنما قصد إفساد القسم الأول
فيقال : إذا كان الموجب علة تامة تستلزم معلولها كان معلولها لازما لها ومعلول معلولها لازما فيمتنع تأخر شيء من لوزمها ولوازم لوازمها فلا يكون هناك شيء محدث فلا يحصل في العالم تغير
وأما قول المعترض : ( إنما يلزم أن لو كان جميع معلولاته قابلة للقدم والحركة لا تقبله )
فيقال : هذا الاعتراض باطل لوجوه : أحدها : أنه إذا جاز أن تكون العلة التامة التي تستلزم معلولها لها معلول لا يقبل البقاء وهو الحركة والحوادث تحدث بسببه جاز أن يكون ذلك المعلول حوادث يقوم بها وتكون كل الأمور المباينة موقوفة على تعاقب تلك الحوادث كما قد ذكره الأبهري نفسه في الإرادات المتعاقبة وقال : ( يجوز أن يكون للباري إرادات حادثة وكل واحدة منها تستند إلى الأخرى ثم تنتهي في جانب النزول إلى إرادة تقتضي حدوث العالم فيلزم حدوثه وإذا كان هذا جائزا امتنع أن يكون موجبا بذاته بمعنى أنه يسلتزم أن يكون موجبا بذاته بمعنى أنه يستلزم موجباته بل يجوز مع هذا أن تتأخر عنه موجباته وعلى هذا فلا يكون العالم قديما وليس هذا هو الموجب بذاته في هذا الاصطلاح الذي تكلم به الرازي وأراد به إفساد قول الفلاسفة الدهرية فإن الموجب بذاته في هذا الاصطلاح الذي بينه وبينهم هو العلة التامة التي تستلزم معلولها
الوجه الثاني : أن يقال : إن أردتم بالموجب بالذات ما يستلزم معلوله فالتغيرات التي في العالم تبطل كونه موجبا بهذا الاعتبار وإن أردتم بالموجب بالذات ما قد تكون مفعولاته أمرا لا يلزمه بل يحدث شيئا بعد شيء فحينئذ إذا وافقكم المنازعون على تسميته موجبا بالذات لم يكن في ذلك ما ينافي أن تكون مفعولاته تحدث شيئا بعد شيء ولا يمتنع أن تكون هذه الأفلاك من جملة الحوادث المتأخرة فبطل قولكم
الوجه الثالث : ذلك المعلول الذي لا يقبل الدوام كحركة الفلك : هل للباري موجب له بذاته بوسط أو بغير وسط أو أيجابه له موقوف على حادث آخر ؟
فإن قيل بالأول لزم الحركات المتعاقبة وأن تكون قابلة للدوام وهو ممتنع
وإن قيل بالثاني قيل : فإيجابه لما تأخر من هذه الحركة : إما يكون موقوفا على شرط أو لا يكون فإن يكن موقوفا على شرط لزم تقدمه لتقدم الموجب الذي لا يقف تأثيره على شرط وهو ممتنع
وإن قيل : بل إيجابه للجزء الثاني مشروط بحدوث الجزء الأول وهلم جرا : كان معناه أن إيجابه لكل جزء مشروط بوجود جزء آخر وهو قبله : وهو علة تامة لشيء من تلك الأجزاء فيجب أن لا يحصل شيء منها لأن تلك الأجزاء متعاقبة أزلا وأبدا وما من وقت يفرض إلا وهو مشابه من الأوقات فليس هو في شيء من الأوقات علة تامة لشيء من الحوادث فيكون إحداثه لكل حادث مشروطا بحادث لم يحدثه والقول في ذلك الحادث الذي هو شرط كالقول في الحادث الذي هو مشروط فإذا لم يكن محدثا للأول فلا يكون محدثا للثاني فلا يكون محدثا لشيء من الحوادث على قولهم ( هو علة تامة ) وهو المطلوب
فإنه لو قال : ( لو كان موجبا بذاته لما حصل في العالم شيء من التغير ) وهذا يهدم قولهم فإنهم بين أمرين : إما أن يقولوا ليس بعلة تامة لمعولاته أو يقولوا : معلولاته مقارنة له فأما جمعهم بين كونه علة تامة في الأزل وبين كون المعلول يوجد شيئا فشيئا فجمع بين الضدين
فإن العلة التامة : هي التي تستلزم معولولها لا يتأخر عنها معلولها ولا يقف اقتضاؤها على غيرها وهم يقولون : إنه في كل وقت ليس علة تامة لما يحدثه فيه بل فعله مشروط بأمر متقدم وليس هو علة تامة لذلك الشرط المتقدم فلا يكون علة تامة لا للمتقدم من الحوادث ولا للمتأخر فلا بد للحوادث من مقتض آخر
وهذا لا يرد على من يقول : ( أحدث الحوادث بإرادات متعاقبة أو أفعال متعاقبة ) فإنه لا يقول : هو موجب بنفسه للممكنات ولا يقول : هو في الأزل علة تامة لها بل بقوله : ليس بعلة أصلا لشيء من مخلوقاته بل فعلها بمشيئته وقدرته إذ الفعل الثاني منه مشروط بالأول لأن الأفعال الحادثة لا تكون إلا متعاقبة وليس هو موجبا بذاته لشيء من تلك الأفعال ولا للمفعولات بها ولا يلزم من ذلك لا قدم شيء من الأفعال بعينه ولا قدم شيء من المفعولات بعينه : لا فلك ولا غيره والحوادث جميعها التي في العالم والتغيرات يحدثها شيئا بعد شيء بأفعاله الحادثة شيئا بعد شيء فكل يوم هو في شأن
بخلاف ما إذا قالوا : هو علة تامة مستلزمة لمعلولها وجعلوا من المعلولات ما لا يكون إلا شيئا فشيئا فإن هذا جميع بين المتنافيين يمنزلة من قال : معلوله مقارن له معلوله ليس مقارنا له
وإذا قالوا : هو موجب بنفسه للفلك وأجزاء العالم الأصلية وليس موجبا بنفسه للحوادث المتجددة بل أيجابه لها مشروط بما يكون قبلها من الحوادث
قيل : هذه حقيقة قولكم وحينئذ فلا يكون نفسه موجبا لشيء من الحوادث لا الأول ولا الثاني لا بوسط ولا بغير وسط وهو المطلوب فالقول بالموجب بالذات وحدوث المحدثات عنه بوسط وبغير وسط جمع بين النقيضين
ثم هذا القول يبطل قولكم بكونه موجبا للعالم بذاته لأنهم يقولون : إن العالم لا قيام له بدون الحركة وإنها صورته التي لو لا هي لبطل فإذا كان إيجابه للعالم بدون الحركة ممتنعا وإيجابه للحركة في الأزل ممتنعا : لم يكن موجبا لا للعالم ولا للحركة فإن المبدع المشروط بشرط يمتنع إبداعه بدون إبداع شرطه وإبداع شرطه ممتنع على أصلهم فإذن إبداعه ممتنع وهذا لأنهم جعلوا الباري ليس له فعل يقوم بذاته أصلا ولا يتجدد منه شيء ولا فيه شيء أصلا وعندهم أن ما كان كذلك لا يحدث عنه شيء أصلا
ثم قالوا : الحوادث كلها صادرة عنه لأن الحركة لم تزل ولا تزال صادرة عنه وكيف تصدر حركات لم تزل ولا تزال في أمور ممكنة عن شيء لا يحدث عنه ولا فيه شيء على أصلهم ؟
ومما يوضح هذا أن قدماء هؤلاء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه كانوا يقولون : إن الأول محرك للعالم حركة الشوق كتحريك المحبوب لمحبه والإمام المقتدى به للمؤتم المقتدي به وبهذا أثبتوه وجعلوه علة للعالم حيث قالوا : إن الفلك لا يقوم إلا بالحركة الإرادية والحركة الإرادية لا تتم إلا بالمراد المحبوب الذي يحرك المريد حركة اشتياق فالباري عندهم علة بهذا الاعتبار وهو بهذا الاعتبار لم يبدع الأفلاك ولا حركاتها لكن هو شرط في حصول حركتها
وعلى هذا القول فقد يقال : العالم قديم واجب بنفسه بل هم يصرحون بذلك والأول الذي هو المحبوب واجب قديم بنفسه كما يقول آخرون منهم : بل العالم واجب قديم بنفسه وليس هناك علة محبوبة محركة له بالشوق خارجة عن العالم
وإذا كان كذلك كانت الحركات حادثة في واجب بنفسه وإذ لزمهم كون الواجب بنفسه محلا للحوادث والحركات لم يكن معهم ما يبطلون به كون الأول كذلك وحينئذ فلا يكون لهم حجة على كونه موجبا بالذات وهم يعترفون بذلك وإنما نفوا عن الأول ذلك لكونه ليس جسما عند أرسطو وأتباعه ولا دليل لهم على ذلك إلا كون الجسم لا يمكن أن يكون فيه حركة غير متناهية بناء على أن الجسم متناه فيمتنع أن يتحرك حركة غير متناهية
هذه الحجة عمدتهم وهي مغلطية من أفسد الحجج فإنه فرق بين ما لا يتناهى في الزمان بل يحدث شيئا بعد شيء وبين ما لا يتناهى في المقدار والنزاع إنما هو في حركة الجسم دائما حركة لا تتناهى ليس هو كونه في نفسه ذا قدر لا تتناهى فأين هذا من هذا ؟ وهذا مبسوط في موضع آخر
ويقال لهم : حدوث الحوادث عن فاعل لا يحدث فيه شيء : إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا أمكن حدوث الحوادث جميعها عن الأول بدون حدوث شيء كما يقوله من يقوله من أهل الكلام وغيرهم من المعتزلة والكلابية وغيرهم وإن كان ممتنعا بطل قولهم بحدوث الحوادث الدائمة عنه مع أنه لم يحدث فيه شيء وهذا أفسد
وإذا قالوا : أولئك خصصوا بعض الأوقات بالحدوث بدون سبب حادث من الفاعل
قيل : وأنتم جعلتم جميع الحوادث تحصل بدون سبب حادث من الفاعل
وإذا قلتم لهم : كيف يحدث بعد أن لم يكن محدثا بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة ؟
قالوا لكم : فكيف تحدث الحوادث دائما بدون حدوث قصد ولا علم ولا قدرة ؟ بل بدون وجود ذلك ؟ وأنتم تقولون : يحدث للفلك تصورات وإرادات وهي سبب الحركات المتعاقبة فما السبب الموجب لحدوث تلك الحوادث ولم يحدث شيء أصلا يوجب حدوثها ؟
ولو قال قائل : الإنسان دائما يتجدد له تصورات وإرادات وحركات بدون سبب حادث ولا يحدثها محدث أصلا ألم يكن ذلك ممتنعا ؟
فإن قيل : بإحداثه للأول استعان على إحداث الثاني
قيل : فما الموجب لإحداثه الأول وهو لم يزل في إحداث إذا قدر أزليا لم يكن هناك أول بل لم يزل في إحداث
فإن قيل تلك الحوادث التي للإنسان صدرت عن العقل الفعال بدون سبب حادث
قيل : فالعقل الفعال دائم الفيض عندهم فلم خص هذه التصورات والإرادت والحركات بوقت دون وقت ؟
قالوا : لعدم استعداد القوابل فإذا استعد الإنسان للفيض أفاض عليه واهب الصور
فإذا قيل لهم : فما الموجب لحدوث الاستعداد ؟
قالوا : ما يحدث من الحركات الفلكية والامتزاجات العنصرية فلا يجعلون العقل الفعال هو الموجب لما يحدث من الاستعداد بل يحيلون ذلك على تحركيات خارجة عنه وعن إفاضته
فإن قالوا مثل هذا في الأول لزم أن يكون المحدث لشروط الفيض غيره وشبهوه بالفعال في كونه لا يفيض عنه إلا بعض الأشياء دون بعض لكن الفعال تحدث عنه الأشياء شيئا بعد شيء عندهم أما الأول فلا يحدث عنه شيء بل معلوله لازم له فهو أنقص رتبة في الإحداث عندهم من الفعال
وإن قالوا : بل هو المحدث للشروط شيئا فشيئا
قيل : أنتم قلتم في الفعال : ( إنه دائم الفيض لا يخص من تلقاء نفسه وقتا دون وقت بفيض ) فالأول إذا خص وقتا دون وقت من تلقاء نفسه بشيء لم يكن فياضا بل كان الفياض أجود منه وإن كان التخصيص من غير تلقاء نفسه كان ذلك لمشارك له في الفعل كما في الفياض
فهم بين أمرين : إما أن يجعلوه عاجزا عن الانفراد بالإحداث كالفعال بل أدنى منه وإما أن يجعلوه بخيلا لا فياضا فيكون الفعال أجود منه
وأيضا فإذا قالوا : إنه علة تامة وموجب تام لمعلوله وموجبه وفاعل تام في الأزل لمفعوله فجعلوا ما سواه معلوله ومفعوله وموجبه وإن كان ذلك بوسط كان هذا ممتنعا في صرائح العقول فإن الموجب التام والعلة التامة والتكوين التام إما أن يقول القائل : يجوز تراخي المكون عنه كما يقوله من يقوله من أهل الكلام وإما أن يقول : هو مستلزم به
فإن قيل بالأول أمكن تراخي المفعولات كلها وبطل قولهم بوجوب قدم شيء من العالم بل يمتنع قدم شيء من العالم لامتناع مقارنة الكون للمكون
وإن قيل بالثاني فلا يخلو : إما أن يقال : يجب اقتران مفعوله به في الزمان بحيث يكون معه لا يكون عقب تكوينه وإما أن يقال : بل كون الكائن إنما يكون عقب تكوين المكون
فإن قالوا بالأول كما يدعونه لزمهم أن لا يحدث في العالم شيء وهو خلاف الحس والمشاهدة
وإن قالوا بالثاني لزم أن يكون كل معلول له مسبوقا بغيره زمانيا فلا يكون شيء من العالم قديما أزليا معه وهو المطلوب
وإذ كان أقتران المفعول بفاعله في الزمان ممتنعا على تقدير دعوى استلزامه له فاقترانه به على تقدير عدم وجوب الاستلزام أولى
فتبين أن يمتنع قدم شيء من العالم على كل تقدير وهذا بين لم تصوره تصورا تاما
ولكن وقع اللبس والضلال في هذا الباب من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام لما ادعوا ما يمتنع في صريح العقل عند هؤلاء - من كون المؤثر التام يتأخر عنه أثره والحوادث تحدث بسبب حادث - فر هؤلاء إلى أن جعلوا المؤثر يقترن به أثره ولا يحدث حادث إلا بسبب حادث ولم يحققوا واحدا من الأمرين بل كان قولهم اشد فسادا وتناقضا من قول أولئك المتكلمين
فإن كون المؤثر يستلزم أثره يراد به شيئان :
أحدهما : أن يكون الأثر المكون المفعول المصنوع مقرنا للمؤثر ولتأثيره في الزمن بحيث لا يتأخر عنه تأخرا زمانيا بوجه من الوجوه وهذا مما يعرف جمهور العقلاء بصريح العقل أنه باطل في كل شيء فليس معهم في العالم مؤثر تام يكون زمنه زمن أثره ويكون زمن حصول الأثر المفعول زمن حصول التأثير بل إنما يعقل التأثير أن يكون الأثر عقب المؤثر وإن كان متصلا به كأجزاء الزمان والحركة الحادثة شيئا بعد شيء وإن كان ذلك متصلا
أما كون الجزء الثاني من الزمان والحركة مقارنا للجزء الأول في الزمن فهذا مما يعلم فساده بصريح العقل وهذا معلوم في جميع المؤثرات الطبيعية والإرادية وما صار مؤثرا بالشرع وغير الشرع
فإذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق ولعبده أنت حر فالطلاق والعتاق لا يقع مع التكلم بالتطليق والإعتاق وإنما يقع عقب ذلك وإذا قال : إذا طلقت فلانة ففلانة طالق لم تطلق الثانية إلا عقب طلاق الأولى لا مع تطليق الأولى في الزمان وهذا الذي عليه عامة العلماء قديما وحديثا ولكن شرذمة من المتأخرين الذين استزل هؤلاء عقولهم ظنوا أن الطلاق يكون مع التكلم في الزمان وهذا غلط عند عامة العلماء وكذلك إذا قال : إذا مت فأنت حر فالمدبر يعتق عقب موت سيده لا مع موت سيده
وهكذا في الأمور الحسية إذا قال : ( كسرت الإناء فانكسر ) و ( قطعت الحبل فانقطع ) فانكسار المنفعل وانقطاعه يحصل عقب كسر الكاسر وقطع القاطع ولهذا إذا لم يكن المحل قابلا قيل : ( قطعته فلم ينقطع وكسرته فلم نكسر ) كما يقال : علمته فلم يتعلم ولفظ ( التعليم والقطع والكسر ) ونحو ذلك يراد به الفعل التام الذي يستلزم أثره فهذا كالعلة التامة التي تستلزم معلولها لا تقبل التخصيص ويراد به المقتضي الموجب المتوقف اقتضاؤه على شروط فهذا قد يتخلف عنه موجبه
ومن هذا الباب قوله تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وقوله : { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] وقوله : { إنما تنذر من اتبع الذكر } [ يس : 11 ] فالمراد به الهدى التام المستلزم لحصول الاهتداء وهو المطلوب في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } وكذلك الإنذار التام المستلزم خشية المنذر وحذره مما أنذر به من العذاب وهذا بخلاف قوله : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } ( فصلت : 17 ) فالمراد به البيان والإرشاد المقتضى للاهتداء وإن كان موقوفا على شروط وله موانع
وهكذا إذا قيل : هو موجب بذاته أو علة بذاتة ونحو ذلك : إن أريد بذلك أنه موجب ما يوجبه من مفعولاته بمشيئته وقدرته في الوقت الذي شاء كونه فيه فهذا حق لا منافاة بين كونه موجبا وفاعلا بالاختيار على هذا التفسير
وإن أريد به أنه موجب بذات عرية عن الصفات أو موجب تام لمعلول مقارن له - وهذا قول هؤلاء - وكل من الأمرين باطل
فقد قامت الدلائل القينية على اتصافه بصفات الإثبات وقامت الدلائل اليقينية على امتناع كون الأثر مقارنا للمؤثر وتأثيره في الزمان ولو كان فاعلا بدون مشيئته وقدرته كالمؤثرات الطبيعية فكيف في الفاعل بمشيئته وقدرته ؟ فإن هذا مما يظهر للعقلاء امتناع أن يكون شيء من مقدوراته قديما أزليا لم يزل ولا يزال
فمن تصور هذه الأمور تصورا تاما علم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون في العالم شيئ قديم وهو المطلوب
فإن قال قائل : المنازعون لنا الذين يقولون : لم يزل متكلما إذا شاء أو لم يزل فاعلا إذا شاء أو لم تزل الإرادات والكلمات تقوم بذاته شيئا بعد شيء ونحو ذلك وهم يقولون بحدوث الحوادث في ذاته شيئا بعد شيء فنحن نقول بحدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئا بعد شيء : إما حدوث تصورات وإرادات في النفس الفلكية وإما حصول حركات الفلك المتعاقبة فلم كان قولنا ممتنعا وقولهم ممكنا ؟
قيل لهم : أنتم قلتم : إنه مؤثر تام أو علة تامة في الأزل فلزمكم أن لا يتأخروا عنه شيء من آثاره سواء كانت صادرة بوسط أو بغير وسط
فإذا قلتم : صدر عنه عقل - مثلا - والعقل أوجب نفسا فلكية وفلكا أو ما قلتم
قيل لكم : المعلول الأول إن كان تاما من كل وجه لا يمكن أن يحدث فيه شيء - فهو أزلي - كان معلوله العقل معه أزليا فإن العقل حينئذ يكون علة تامة في الأزل فيلزم أن يكون معلوله معه أزليا وهكذا معلول المعلول هلم جرا
وإذا قلتم : الحركة لا تقبل البقاء
قيل لكم : فيمتنع أن يكون لها موجب تام في الأزل بل يكون الموجب لها غير تام في الأزل بل صار موجبا وحدوثه كونه موجبا يمتنع أن يتوقف على أثر غيره إذ ليس هناك موجب غيره ويمتنع أن يحدث تمام إيجابه منه لأنه علة تامة يجب اقتران معلولها بها في الأزل فذلك التمام : إن كان قديما لزم كون معلول المعلول قديما وهلم جرا وإن كان حادثا حدث عن العلة التامة الأزلية حادث بدون سبب حادث وهذا ينقض قولهم بامتناع حادث بلا سبب
فأنتم بين أمرين أيهما قلتموه بطل قولكم : إن قلتم ( أنه علة تامة في الأزل ) لزم أن لا يتأخر عنه معلوله وإن قلتم ( ليس بعلة تامة ) لزم أن يحدث تمام كونه علة بدون سبب حادث فيلزمكم جواز حدوث الحوادث بلا سبب وأيهما كان بطل قولكم فإنه إذا بطل كونه علة تامة في الأزل امتنع قدم شيء من العالم وإن جاز حدوث الحوادث بلا سبب حادث بطلت حجتكم وجاز حدوث كل ما سواه
وإذا قلتم : هو علة تامة للفلك دون حركاته
قيل لكم : هو علة للفلك ولحركاته المتعاقبة شيئا بعد شيء فهل كان علة تامة لهذه الحركات في الأزل أم حدث تمام كونه علة لها شيئا بعد شيء ؟
فإن قلتم : هو علة تامة في الأزل لزمكم إما مقارنتها كلها له في الأزل وإما تخلف المعلول عن علته التامة وكلاهما يبطل قولكم
وإن قلتم : حدث تمام كونه علة لحركة حركة منها
قيل لكم : فحدوث التمام قد حدث عندكم بدون سبب حادث وذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب وهذا أمر بين لمن تصوره تصورا تاما ليس لهم حيلة في دفعه
وأما الذين يقولون : ( إنه لم يزل متكلما إذا شاء أو فاعلا بمشيئته وإنه يقوم به إرادة أو كلمات متعاقبة شيئا بعد شيء ) فهؤلاء لا يجعلونه في الأزل قط علة تامة ولا موجبا تاما ولا يقولون : إن فاعلية شيء من المفعولات يتم في الأزل بل عندهم كون الشيء مفعولا ومصنوعا مع كونه أزليا جمع بين النقيضين وإذا امتنع كون المفعول الذي هو أثر المكون أزليا امتنع كون تأثيره وتكوينه المستلزم له قديما أزليا فأمتنع أن يكون علة تامة في الأزل لشيء من الأشياء ولكن ذاته تستلزم بما يقوم بها من الأفعال شيئا بعد شيء وكلما تم فاعلية مفعول وجد ذلك المفعول وجد ذلك المفعول كما قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) فكلما كون الشيء كونه فحصل المكون عقب تكوينه وهكذا الأمر دائما فكل ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن وتمام تكوينه وتخليقه لم يكن موجودا في الأزل بل إنما تم تخليقه وتكوينه بعدئذ وعند تمام التكوين والتخليق حصل المكون المخلوق عقب التكوين والتخليق لا مع ذلك في الزمان فأين هذا القول من قولكم ؟ !


دلالة السمع على أفعال الله تعالى
ونحن ننبه عى دلالة السمع على أفعال اله تعالى الذي به تنقطع الفلاسفة الدهرية ويتبين به مطابقة العقل للشرع
ولا ريب أن دلالة ظاهر السمع ليس فيها نزاع لكن الذين يخالفون دلالته يدعون أنها دلالة ظاهرة لا قاطعة والدلالة العقلية القاطعة خالفتها فأصل الدلالة متفق عليه فنقول :
معلوم بالسمع اتصاف الله تعالى بالأفعال الاختيارية القائمة به كالاستواء إلى السماء والاستواء على العرش والقبض والطي والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك بل والخلق والإحياء والإماتة فإن الله تعالى وصف نفسه بالإفعال اللازمة كالاستواء وبالأفعال المتعدية كالخلق والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم فإن الفعل لا بد له من فاعل سواء كان متعديا إلى مفعول أو لم يكن والفاعل لا بد له من فعل سواء كان فعله مقتصرا عليه أم متعديا إلى غيره والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله إذ كان لا بد له من الفاعل وهذا معلوم سمعا وعقلا
أما السمع فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن بل وغيرها من اللغات متفقون على أن الإنسان إذا قال : ( قام فلان وقعد ) وقال : ( أكل فلان الطعام وشرب الشراب ) فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة إذ كلتا الجملتين فعلية وكلاهما فيه فعل وفاعل والثانية امتازت بزيادة المفعول فكما أنه في الفعل اللازم معنا فعل وفاعل ففي الجملة المتعدية معنا أيضا فعل وفاعل وزيادة مفعول به
ولو قال قائل : الجملة الثانية ليس فيها فعل قائم بالفاعل كما في الجملة الأولى بل الفعل الذي هو ( أكل ) و ( شرب ) نصب المفعول - من غير تعلق بالفاعل أولا - لكان كلامه معلوم الفساد بل يقال : هذا الفعل تعلق بالفاعل أولا كتعلق ( قام وقعد ) ثم تعدى إلى المفعول ففيه ما في الفعل اللازم وزيادة التعدي وهذا واضح لا يتنازع فيه اثنان من أهل اللسان
فقوله تعالى : { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } ( الحديد : 4 ) تضمن فعلين : أولهما متعد إلى المفعول به والثاني مقتصر لا يتعدى فإذا كان الثاني - وهو قوله تعالى : { ثم استوى } - فعلا متعلقا بالفاعل فقوله ( خلق ) كذلك بلا نزاع بين أهل العربية
ولو قال قائل : ( خلق ) لم يتعلق بالفاعل بل نصب المفعول به ابتداء لكان جاهلا بل في ( خلق ) ضمير يعود إلى الفاعل كما في ( استوى )
وأما من جهة العقل : فمن جوز ان يقوم بذات الله تعالى فعل لازم به كالمجيء والاستواء ونحو ذلك لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء كما أن من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير كالعلم والقدرة والسمع والبصر ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر بل قد يثبت الأفعال المتعدية القائمة به كالتخليق من ينازع في الأفعال اللازمة كالمجيء والإتيان وأما العكس فما علمت به قائلا
وإذا كان كذلك كان حدوث ما يحدثه الله تعالى من المخلوقات تابعا لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة بنفسه وهذه سبب الحدوث والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفا بأنه يتكلم بما يشاء فعال لما يشاء وهذا قد قاله العلماء الأكابر من أهل السنة والحديث ونقلوه عن السلف والأئمة وهو قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفلسفة المتقدمين والمتأخرين بل هو قول جمهور المتقدمين من الفلاسفة
وعلى هذا فيزول الإشكال ويكون إثبات خلق السماوات والأرض إنما يتم بما جاء به الشرع ولا يمكن القول بحدوث العالم على أصل نفاة الأفعال الذين يزعمون أن العقل قد دل على نفيها ويقدمون هذا الذي هو عندهم دليل عقلي على ما جاء به الكتاب والسنة والعقل عند التحقيق يبطل هذا القول ويوافق الشرع فإنه إذا تبين أن القول بنفيها يمتنع معه القول بحدوث شيء من الحوادث : لا العالم ولا غيره والحوادث مشهودة كان العقل قد دل على صحة ما جاء به الشرع في ذلك والله سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص وكل كمال وصف به المخلوق من غير استلزامه لنقص فالخالق أحق به وكل نقص نزه عنه المخلوق فالخالق أحق بأن ينزه عنه والفعل صفة كمال لا صفة نقص كالكلام والقدرة وعدم الفعل صفة نقص كعدم الكلام وعدم القدرة فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع وهو المطلوب
وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي و أبو الحسن الأشهري وغيرهما وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب ولهذا أمر أحمد بهجره وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث : إنه رجع عن قوله
وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القرآن عن أهل السنة في هذه المسألة قولين ورجح قول ابن كلاب وذكر ذلك في قول الله تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } [ التوبة : 105 ] وأمثال ذلك وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم كـ حرب الكرماني و عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة ك أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه و عبد الله بن الزبير الحميدي و سعيد ين منصور وقال عثمان بن سعيد وغيره : إن الحركة من لوازم الحياة فكل حي متحرك وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم
وطائفة أخرى من السلفية ك نعيم بن حماد الخزاعي و البخاري صاحب الصحيح و أبي بكر بن خزيمة وغيرهم كـ أبي عمر بن عبد البر وأمثاله : يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء ويسمون ذلك فعلا ونحوه ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة لكونه غير مأثور
وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء ك أبي بكر عبد العزيز و أبي عبد الله بن بطة وأمثالهما ومنهم من يوافق الأولين ك أبي عبد الله بن حامد وأمثاله ومنهم طائفة ثالثة - كالتميميين و ابن الزاغوني غيرهم - يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم
ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث ك البخاري و أبي زرعة و أبي حاتم و محمد بن يحيى الذهلي وغيرهم من العلماء الذين أدركهم الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته : من أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بالكلام الواحد مرة بعد مرة وكان له أصحاب ك أبي علي الثقفي وغيره تلقوا طريقة ابن كلاب فقام بعض المعتزلة وألقى إلى ابن خزيمة سر قول هؤلاء وهو أن الله لا يوصف بأنه يقدر على الكلام إذا شاء ولا يتعلق ذلك بمشيئته فوقع بين ابن خزيمة وغيره وبينهم في ذلك نزاع حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه وأمر ولاة الأمر بتأديبهم لمخالفتهم له وصار الناس حزبين فالجمهور من أهل السنة وأهل الحديث معه ومن وافق طريقة ابن كلاب معه حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين ف الحاكم أبو عبد الله و أبو عبد الرحمن السلمي و أبو عثمان النيسابوري وغيرهم معه وكذلك يحيى بن عمار السجستاني و أبو عبد الله بن منده و أبو نصر السجزي و شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري و أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهم معه وأما أبو ذر الهروي و أبو بكر البيهقي وطائفة أخرى فهم مع ابن كلاب
وكذلك النزاع كان بين طوائف الفقهاء والصوفية والمفسرين وأهل الكلام والفلسفة وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة ( حلول الحوادث ) وكانت المعتزلة تقول : إن الله منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود ومقصودهم نفي الصفات ونفي الأفعال ونفي مباينته للخلق وعلوه على العرش وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبادات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب فإنهم إذا قالوا ( إن الله منزه عن الأعراض ) لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام ولا ريب أن الله منزه عن ذلك ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضا
وكذلك إذا قالوا : ( إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات ) أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات ولا تحوزه المصنوعات وهذا المعنىصحيح ومقصودهم : أنه ليس مباينا للخلق ولا منفصلا عنه وأنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله وأن محمدا لم يعرج به إليه ولم ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يتقرب إليه شيء ولا يتقرب إلى شيء ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ولا غيره ونحو ذلك من معاني الجهمية
وإذا قالوا : ( إنه ليس بجسم ) أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات ولا مثل أبدان الخلق وهذا المعنى صحيح ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه ولا يقوم به صفة ولا هو مباين للخلق وأمثال ذلك
وإذا قالوا : ( لا تحله الحوادث ) أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم وهذا معنى صحيح ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا بل عين المخلوقات هي الفعل ليس هناك فعل ومفعول وخلق ومخلوق بل المخلوق عين الخلق والمفعول عين الفعل ونحو ذلك
و ابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا وخالفوهم في إثبات الصفات وكان ابن كلاب و الحارث المحاسبي و أبو العباس القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات وكان ابن كلاب وأتباعه يقولون : إن العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل وأما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم إلا بالخبر وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة وثبت الاستواء على العرش ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش بخلاف أتباع صاحب الإرشاد فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة فلم يثبتوا الصفات إلا بالعقل وكان الأشعري وأئمة أصحابه يقولون : إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين والعقل عاضد له معاون
فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون : إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه
ومن هنا طمع فيهم المعتزلة وطمعت الفلاسفة في الطائفتين بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول وعن طلب الهدى من جهته وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ماء جاء به الشرع مطلقا والقدح فيما يعارضه ولم يكونوا يقولون : ( إنه لا يرجح إلى السمع في الصفات ) ولا يقولون : ( الأدلة السمعية لا تفيد اليقين ) بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم وذلك لأن الأشعري صرح بأن تصديق الرسول صلى الله عليه و سلم ليس موقوفا على دليل الأعراض وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول : إن هذا الدليل دليل الأعراض صحيح لكن الاستدلال به بدعة ولا حاجة إليه فهؤلاء لا يقولون : إن دلالة السمع موقوفة عليه لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات بل ولا الأفعال وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة وإن وافق العقل فكيف إذا خالفه ؟
وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الإرشاد وأتباعه وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات وتارة يقولون : إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية وتارة يطعنون في الأخبار
فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة : أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان حتى يقولون : إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع مما ليس هذا موضع بسطه وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم وغايتهم أنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة : المعقول والكلام وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد فهم من جنس الرافضة : لا عقل صريح ولا نقل صحيح بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية
ومع ذلك فهم لا يحتاجون من العقليات في أصول الدين إلى ما يحتاج إليه المعتزلة فإن المعتزلة يزعمون أن النبوة لا تتم إلا بقولهم في التوحيد والعدل فيجعلون التكذيب بالقدر من أصولهم العقلية وكذلك نفي الصفات وأما هؤلاء فالمشهور عندهم أنه إذا رؤيت المعجزة المعتبرة علم بالضرورة أنه تصديق للرسول وإثبات الصانع أيضا معلوم بالضرورة أو بمقدمات ضرورية فالعقليات التي يعلم بها صحة السمع مقدمات قليلة ضرورية بخلاف المعتزلة فإنهم طولوا المقدمات وجعلوها نظرية فهم خير من المعتزلة في أصول الدين من وجوه كثيرة وإن كان المعتزلة خيرا منهم من بعض الوجوه
و أبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب ومال إلى أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها ك الإبانة و الموجز و المقالات وغيرها وكان مختلطا بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم بهم بمنزلة ابن عقيل عند متأخريهم لكن الأشعري وأئمة أصحابه أتبع لأصول الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة من مثل ابن عقيل في كثير من أحواله وممن اتبع ابن عقيل ك أبي الفرج ابن الجوزي في كثير من كتبه وكان القدماء من أصحاب أحمد ك أبي بكر عبد العزيز و أبي الحسن التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق ذكر الموافق للسنة في الجملة ويذكرون ماذكره من تناقض المعتزلة وكان بين التميميين وبين القاضي أبي بكر وأمثاله من الأئتلاف والتواصل ما هو معروف وكان القاضي أبو بكر يكتب أحيانا في أجوبته في المسائل محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب أيضا الأشعري ولهذا توجد أقوال التميميين مقاربة لأقواله وأقوال أمثاله المتبعين لطريقة ابن كلاب وعلى العقيدة التي صفنها أبو الفضل التميمي اعتمد أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما أراد أن يذكر عقيدته وهذا بخلاف أبي بكر عبد العزيز و أبي عبد الله بن بطة و أبي عبد الله بن حامد وأمثالهم فإنهم مخالفون لأصل قول الكلابية
و الأشعري وأئمة أصحابه ك أبي الحسن الطبري و أبي عبد الله بن مجاهد الباهلي و القاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليد وإبطال تأويلها وليس له في ذلك قولان أصلا ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين أصلا بل جميع من يحكي المقالات من أتباعه وغيرهم يذكر أن ذلك قوله ولكن لأتباعه في ذلك قولان
وأول من اشتهر عنه نفيها أبو المعالي الجويني فإنه نفى الصفات الخبرية وله في تأويلها ففي الإرشاد أولها ثم إنه في ( الرسالة النظامية ) رجع عن ذلك وحرم التأويل
وبين إجماع السلف على تحريم التأويل واستدل بإجماعهم على أن التأويل محرم ليس بواجب ولا جائز فصار من سلك طريقته ينفي الصفات الخبرية ولهم في التأويل قولان وأما الأشعري وأئمة أصحابه فإنهم مثبتون لها يردون على من ينفيها أو يقف فيها فضلا عمن يتأولها


أقوال السلف في الأفعال الاختيارية بالله تعالى
وأما مسألة قيام الأفعال الاختيارية به : فإن ابن كلاب و الأشعري وغيرهما ينفونها وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم في هذا الباب بما هو معروف في كتب أهل العلم ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم وشاع النزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد وغيرهم وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب الشافعي عن أصحاب أحمد في معنى أن القرآن غير مخلوق قولين مبنيين على هذا الأصل :
أحدهما : أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته
والثاني : أنه لم يزل متكلما إذا شاء
وكذلك ذكر أبو عبد الله بن حامد قولين وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته - كقول ابن كلاب - أبو الحسن التميمي وأتباعه و القاضي أبو يعلى وأتباعه ك ابن عقيل و أبي الحسن بن الزاغوني وأمثالهم وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذه تارة وهذا تارة وممن كان يخالفهم في ذلك أبو عبد الله بن حامد و أبو بكر عبد العزيز و أبو عبد الله بن بطة و أبو عبد الله بن منده و أبو نصر السجزي و يحيى بن عمار السجستاني و أبو إسماعيل الأنصاري وأمثالهم
والنزاع في هذا الأصل بين أصحاب مالك وبين أصحاب الشافعي وبين أصحاب أبي حنيفة وبين أهل الظاهر أيضا فداود بن علي صاحب المذهب وأئمتهم على إثبات ذلك و أبو محمد بن حزم على المبالغة في إنكار ذلك وكذلك أهل الكلام فالهشامية والكرامية على إثبات ذلك والمعتزلة على نفي ذلك وقد ذكر الأشعري في المقالات عن أبي معاذ التومني و زهير الأثري وغيرهما إثبات ذلك وكذلك المتفلسفة فحكوا عن أساطينهم - الذين كانوا قبل أرسطو أنهم كانوا يثبتون ذلك وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر وغيره من متأخريهم وأما أرسطو وأتباعه - كالفارابي و ابن سينا - فينفون ذلك وقد ذكر أبو عبد الله الرازي عن بعضهم أن إثبات ذلك يلزم جميع الطوائف وإن أنكروه وقرر ذلك
وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير يوجد في كتب التفسير والأصول
قال إسحاق بن راهويه : حدثنا بشر بن عمر : سمعت غير واحد من المفسرين يقول : الرحمن على العرش استوى : أي ارتفع
وقال البخاري في صحيحه : ( قال أبو العالية استوى إلى السماء : ارتفع ) قال : ( وقال مجاهد : استوى : علا على العرش )
وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور : ( وقال ابن عباس وأكثر مفسري السلف : ( استوى إلى السماء : ارتفع إلى السماء ) وكذلك قال الخليل بن أحمد
وروى البيهقي في كتاب الصفات قال : ( قال الفراء : ثم استوى أي صعد قاله ابن عباس وهو كقولك للرجل : كان قاعدا فاستوى قائما )
وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عن يوم الجمعة : وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش ]
والتفاسير المأثورة عن النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم وتفسير أبي بكر بن المنذر وتفسير أبي بكر عبد العزيز و تفسير أبي الشيخ الأصبهاني وتفسير أبي بكر بن مردويه وما قبل هؤلاء التفاسير مثل تفسير أحمد بن حنبل و إسحاق بن إبراهيم و بقي بن مخلد وغيرهم ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد وتفسير سنيد وتفسير عبد الرازق و وكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين مالا يكاد يحصى وكذلك الكتب المصنفة في السنة التي فيها آثار النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة التابعين
وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن أحمد و إسحاق وغيرهما وذكر معها من الآثار عن النبي صلى الله عيه وسلم والصحابة وغيرهم ما ذكر وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات قال في آخره في الجامع : ( باب القول في المذهب : هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد و إسحاق بن إبراهيم بن مخلد و عبد الله بن الزبير الحميدي و سعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم ) وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك - إلى أن قال : ( وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه وله حد والله أعلم بحده والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره والله تعالى سميع لا يشك بصير لا يرتاب عليم لا يجهل جواد لا يبخل حليم لا يعجل حفيظ لا ينسى يقظان لا يسهو رقيب لا يغفل يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب ويرحم ويغفو ويغفر ويعطي ويمنع وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) - إلى أن قال : ( ولم يزل الله متكلما عالما فتبارك الله أحسن الخالقين )
وقال الفقيه الحافظ أبو بكر الأثرم في كتاب السنة وقد نقله عنه الخلال في السنة : ( حدثنا إبراهيم بن الحارث - يعني العبادي - حدثني الليث بن يحيى سمعت إبراهيم بن الأشعث قال أبو بكر - هو صاحب الفضيل - سمعت الفضيل بن عياض : يقول : ( ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقال : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } ( الإخلاص ) فلا صفة أبلغ مما وصف الله عز و جل به نفسه وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يباهي وكما شاء أن يطلع وكما شاء أن يضحك فليس لنا أن نتوهم أن كيف وكيف وإذا قال لك الجهمي : أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنت : أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء )
وقد ذكر هذا الكلام الأخير عن الفضيل بن عياض البخاري في كتاب خلق الأفعال هو وغيره من أئمة السنة وتلقوه بالقبول
وقال البخاري : ( وقال الفضيل بن عياض : إذا قال لك الجهمي ( أنا كافر برب يزول عن مكانه ) فقل : ( أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء )
قال البخاري : ( وحدث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال : ( من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي )


كلام الخلال في كتاب السنة
وقال الخلال في كتاب السنة : ( أخبرني جعفر بن محمد الفريابي حدثنا أحمد ابن محمد المقدمي حدثنا سلميان بن حرب قال : سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال : يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء [ ينزل الله إلى السماء الدنيا ] يتحول من مكان إلى مكان ؟ فسكت حماد بن زيد ثم قال : هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء )


قول الأشعري في كتابه المقالات
وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه المقالات لما ذكر مقالة أهل السنة وأهل الحديث فقال : ( ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من مستغفر ؟ ] كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ( النساء : 59 ) ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يحدثوا في دينهم ما لم يأذن الله ويقرون بأن الله يجيء يوم القيامة كما قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 ) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } ( ق : 16 )
قال الأشعري : ( وبكل ما ذكرنا من أقوالهم نقول وإليه نذهب )


أقوال أهل السنة : لـ أبي عثمان الصابوني في رسالته
وقال أبو عثمان إسماعيل الصابوني الملقب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة عنه في السنة وقد ذكر أبو القاسم التميمي في كتاب الحجة في بيان المحجة له قال : ( ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف ؟ بل يثبتون له ما أثبته رسول الله صلى الله عليه و سلم وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويكلون علمه إلى الله تعالى وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجيء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة وقوله عز و جل : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 )
وقال : ( سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول : سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول : سمعت أحمد بن إبراهيم أبا عبد الله الرباطي يقول : حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم وحضره إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - فسئل عن حديث النزول صحيح هو ؟ قال : نعم قال فقال له بعض قواد عبد الله : يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة ؟ قال نعم قال : كيف ينزل ؟ فقال له إسحاق : أثبته فوق حتى أصف لك النزول فقال الرجل : أثبته فوق فقال إسحاق : قال الله عز و جل : { وجاء ربك والملك صفا صفا } [ الفجر : 22 ] فقال له الأمير عبدالله : يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة فقال إسحاق : أعز الله الأمير ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم ؟
وروى بإسناد عن إسحاق بن إبراهيم قال : قال لي الأمير عبدالله بن طاهر : يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ] كيف ينزل ؟ قال : قلت : إعز الله الأمير ؟ لا يقال لأمر الرب كيف ؟ إنما ينزل بلا كيف
وبإسناد عن عبدالله بن المبارك : أنه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان فقال عبد الله : يا ضعيف ليلة النصف ؟ ينزل في كل ليلة فقال الرجل : يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل ؟ أليس يخلو ذلك المكان ؟ فقال عبد الله بن المبارك : ينزل كيف شاء )
وقال أبو عثمان الصابوني : ( فلما صح خبر النزول عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقر به أهل السنة وقبلوا الخبر وأثبتوا النزول على ماقاله رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يعتقدوا تشبها له بنزول خلقه وعلموا وعرفوا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الرب تبارك وتعالى لا تشبه صفات الخلق كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علوا كبيرا ولعنهم لعنا كثيرا )


قول البيهقي في كتابه الأسماء والصفات
وروى الحافظ ابو بكر البيهقي في كتابه الأسماء والصفات ( حدثنا أبو عبد الله الحافظ سمعت أبا زكريا العنبري سمعت أبا العباس - يعني السراج - سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول : دخلت يوما على طاهر بن عبد الله بن طاهر وعنده منصور بن طلحة فقال لي : يا أبا يعقوب إن الله ينزل كل ليلة ؟ فقلت له : نؤمن به فقال له طاهر : ألم أنهك عن هذا الشيخ ؟ ما دعاك إلى أن تسأله عن مثل هذا ؟ قال إسحاق : فقلت له : إذا أنت لم تؤمن أن لك ربا يفعل ما يشاء تحتاج أن تسألني )
قال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانىء سمعت أحمد بن سلمة يقول سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : جمعني وهذا المبتدع - يعني إبراهيم بن أبي صالح - مجلس الأمير عبد الله بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها فقال إبراهيم : كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء فقلت : آمنت برب يفعل ما يشاء فرضي عبد الله كلامي وأنكر على إبراهيم ) قال : ( هذا معنى الحكاية )
وروى أبو إسماعيل الأنصاري بإسناده عن حرب الكرماني قال : ( قال إسحاق بن إبراهيم : لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين لقوله تعالى : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ( الأنبياء : 23 ) ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله تعالى بصفاته وأفعاله - يعني كما نتوهم فيهم - وإنما يجوز النظر والتفكر في أمر المخلوقين وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل : كيف نزوله ؟ لأن الخالق يصنع ما يشاء كما يشاء
وعن حرب قال : قال إسحاق بن إبراهيم : ليس في النزول وصف )


قول الخلال في كتاب السنة
وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة ( أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - قيل له : أهل الجنة ينظرون إلى ربهم عز و جل ويكلمونه ويكلمهم ؟ قال : نعم ينظر وينظرون إليه ويكلمهم ويكلمونه كيف شاء وإذا شاء )
قال : ( وأخبرني عبد الله بن حنبل قال : أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال : قال عمي : نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه { لا تدركه الأبصار } بحد ولا غاية { وهو يدرك الأبصار } ( الأنعام : 103 ) هو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله من شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى : 11 ) وكان الله قبل أن يكون شيء والله هو الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته
قال : وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى [ إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ] و [ إن الله يرى ] و [ إن الله يضع قدمه ] وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى - أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل فنقول : معناها كذا - ولا نرد منها شيئا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كان بأسانيد صحاح ولا نرد على الله قوله ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء
وقال حنبل في موضع آخر عن أحمد قال : ( ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فنعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه ) قال : ( فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفته وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كتفه عليه - هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا كله بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه : سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف الله بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى : { ثم استوى على العرش } ( الأعراف : 45 ) كيف شاء المشيئة إليه عز و جل والاستطالة له ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } ( مريم : 42 ) فنثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر بضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه و سلم وبتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما تقوله الجهمية والمشبهة
قلت له : والمشبهة ما يقولون ؟ قال : من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محمدود والكلام في هذا لا أحبه
وقال محمد بن مخلد : قال أحمد : نحن نصف الله بما وصف نفسه وبما وصفه به رسوله
وقال يوسف بن موسى : إن أبا عبد الله قيل له : ولا يشبه ربنا شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه ؟ قال : نعم ليس كمثله شيء )
فقول أحمد : ( إنه ينظر إليهم ويكلمهم كيف شاء وإذا شاء ) وقوله : ( هو على العرش كيف شاء وكما شاء ) وقوله : ( هو على العرش بلا حد كما قال : { ثم استوى على العرش } كيف شاء المشيئة إليه والاستطاعة له ليس كمثله شيء )
قلت : وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير شيء يبين أن نظره وتكليمه وعلوه على العرش واستواءه على العرش مما يتعلق بمشيئته واستطاعته
وقوله : ( بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد ) نفى به إحاطة علم الخلق به وأن يحدوه أو يصفون على ما هو عليه إلا بما أخبر عن نفسه ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته كما قال الشافعي في خطبة الرسالة : ( الحمد الله الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه ) ولهذا قال أحمد : ( لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية ) فنفى أن يدرك له حد أو غاية وهذا أصح القولين في تفسير الإدراك وقد بسط الكلام على شرح هذا الكلام في غير هذا الموضع
وما في الكلام من نفي تحديد الخلق وتقديرهم لربهم وبلوغهم صفته لا ينافي ما نص عليه أحمد وغيره من الأئمة كما ذكره الخلال أيضا قال : ( حدثنا أبو بكر المروزي قال : سمعت أبا عبد الله - لما قيل له : روى علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له : كيف نعرف الله عز و جل ؟ قال : على العرش بحد - قال : قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } ( البقرة : 210 ) ثم قال : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 )
قال الخلال : وأنبأنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال : قلت لأحمد بن حنبل : يحكى عن ابن المبارك - وقيل له : كيف تعرف ربنا ؟ - قال : في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد : هكذا هو عندنا
وأخبرني حرب بن إسماعيل قال : قلت لإسحاق - يعني ابن راهويه - : هو على العرش بحد ؟ قال : نعم بحد
وذكر عن ابن المبارك قال : هو على عرشه بائن من خلقه بحد
قال : وأخبرنا المروزي قال : قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه : قال الله تبارك وتعالى : { الرحمن على العرش استوى } ( طه : 5 ) إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي قعور البحار ورؤوس الآكام وبطون الأودية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما فوق العرش أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات البر والبحر ولا رطب ولا يابس إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره )
فهذا مثاله مما نقل عن الأئمة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره كما قال مالك وربيعة وغيرهما : الاستواء معلوم والكيف مجهول فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر ولكن نفوا علم الخلق به وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزير بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف والأئمة ينفون علم الخلق بقدره وكيفيته


قول عبد العزيز الماجشون
وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون في كلامه المعروف وقد ذكره ابن بطة في الإبانة و أبو عمر الطلمنكي في كتابه في الأصول ورواه أبو بكر الأثرم قال : ( حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال : ( أما بعد فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول عن معرفة قدره ) - إلى أن قال : ( بأنه لا يعلم كيف هو إلا هو وكيف يعلم من يموت ويبلى قدر من لا يموت ولا يبلى ؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حدا أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف ؟ الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته : عجزها عن تحقيق صفة ما لم يسصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم تعرف منها قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف ؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته ؟ أو تنزجر به عن شيء من معصيته ؟ ـ وذكر كلاما طويلا إلى أن قال ـ : فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل - بزعمه - على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفي يجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } ( القيامة : 22 - 23 ) فقال : لا يراه أحد يوم القيامة فجحد - والله - أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر في وجهه في مقعد صدق عند مليك مقتدر قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون ) وذكر كلاما طويلا كتب في غير هذا الموضع


قول آخر لالخلال في السنة
وقال الخلال في السنة : ( أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال : سمعت أبا عبد الله يقول : ( من زعم أن الله لم يكلم موسى فقد كفر بالله وكذب القرآن ورد على رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره يستتاب من هذه المقالة فإن تاب وإلا ضربت عنقه )
قال : ( وسمعت أبا عبد الله قال : { وكلم الله موسى } ( النساء : 164 ) فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى ثم قال تعالى يؤكد كلامه : { تكليما } ( النساء : 164 )
قلت لأبي عبد الله : ( الله عز و جل يكلم عبد ه يوم القيامة ؟ قال : نعم فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز و جل ؟ يكلم عبده ويسأله الله متكلم لم يزل الله يأمر بما يشاء ويحكم وليس به عدل ولا مثل كيف شاء وأنى شاء )
قال الخلال : ( أخبرنا محمد بن علي بن بحر أن يعقوب بن بختان حدثهم أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت ؟ فقال : بلى تكلم بصوب وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها لكل حديث وجه يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر
حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال : ( إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا حتى إذا فزغ عن قلوبهم - قال : سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق قال : كذا وكذا )
قال الخلال : ( وأنبأنا أبو بكر المروزي : سمعت أبا عبد الله - وقيل له : إن عبد الوهاب قد تكلم وقال : من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام - فتبسم أبو عبد الله وقال ( ما أحسن ما قال ! عافاه الله ! )
وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن قوم يقولون : لما كلم موسى لم يتكلم بصوت فقال أبي : بلى تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت وحديث ابن مسعود : ( إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان ) قال أبي : و الجهمية تنكره قال أبي : وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت )
قلت : وهذا الصوت الذي تكلم الله به ليس هو الصوت المسموع من العبد بل ذلك صوته كما هو معلوم لعامة الناس وقد نص على ذلك الأئمة : أحمد وغيره فالكلام المسموع منه هو كلام الله لا كلام غيره كما قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ( التوبة : 6 ) وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي ] رواه أبو داود وغيره وقال صلى الله عليه و سلم : [ زينوا القرآن بأصواتكم ] وقال : [ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ]
ذكر الخلال عن إسحاق بن إبراهيم قال لي أبو عبد الله يوما - وكنت سألته عنه : تدري ما معنى ( من لم يتغن بالقرآن ) ؟ قلت : لا - قال : هو الرجل يرفع صوته فهذا معناه إذا رفع صوته لقد تغنى به
وعن صالح بن أحمد أنه قال لأبيه : ( زينوا القرأن بأصوتكم ) فقال : التزيين أن يحسنه
وعن الفضل بن زياد قال : سألت أبا عبد الله عن القراءة ؟ فقال : يحسنه بصوته من غير تكلف
وقال الأثرم : سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان فقال : كل شيء محدث فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه
وقال القاضي أبو يعلى : هذا يدل من كلامه على أن صوت القارىء ليس هو الصوت الذي تكلم الله به لأنه أضافه إلى القارىء الذي هو طبعه من غير أن يتعلم الألحان


قول البخاري في كتاب خلق أفعال العباد
وقال أبو عبد الله البخاري - صاحب الصحيح - في كتاب خلق الأفعال : يذكر عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وليس هذا لغير الله عز و جل ]
قال أبو عبد الله البخاري : ( وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب وأن الملائكة يصعقون من صوته فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا قال : { فلا تجعلوا لله أندادا } ( البقرة : 22 ) فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين )
ثم روى بإسناده حديث عبد الله بن أنيس - الذي استشهد به في غير موضع من الصحيح تارة يجزم به وتارة يقول : ( ويذكر عن عبد الله بن أنيس ) - قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ] وذكر الحديث - الذي رواه في صحيحه - عن أبي سعيد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول الله يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار قال : يا رب ما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال : تسعمائة وتسعة وتسعين - فحينئذ تضع الحامل حملها ] { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } ( الحج : 2 ) وذكر حديث ابن مسعود - الذي استشهد به أحمد - وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه عن عكرمة : سمعت أبا هريرة يقول : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ] فإذا { فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } ( سبأ : 23 ) وذكر حديث ابن عباس المعروف من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن نفر من الأنصار - وقد رواه احمد و مسلم في صحيحه وغيرهما وساقه البخاري من طريق ابن إسحاق عنه - [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم : ما تقولون في هذا النجم الذي يرمى به ؟ قالوا : كنا يا رسول الله نقول حين رأيناه يرمى بها : مات ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس ذلك كذلك ولكن الله إذا قضى في خلقه أمرا يسمعه أهل العرش فيسبحون فيسبح من تحتهم بتسبيحهم فيسبح من تحت ذلك فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا حتى يقول بعضهم لبعض : لم سبحتم ؟ فيقولون : سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم فيقولون : أفلا تسألون من فوقكم مم سبحوا ؟ فيسألونهم فيقولون : قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان فيهبط الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثون به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف ثم يأتون به إلى الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فتحدث به الكهان ثم إن الله حجب الشياطين عن السماء بهذا النجوم فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة ]
وقال البخاري أيضا : ( ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت وأن أفعال العباد مخلوقة فضيق عليه حتى مضى لسبيله وتوجع أهل العلم لما نزل به )
قال : ( وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيما ومن نحا نحوه ليس بمارق ولا مبتدع بل البدع والترؤس بالجهل بغيرهم أولى إذ يفتون بالآراء المختلفة مما لم يأذن به الله )


كلام المحاسبي في فهم القرآن
وقال الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب فهم القرآن لما تكلم على ما يدخل في النسخ وما لا يدخل فيه النسخ وما يظن أنه متعارض من الآيات وذكر عن أهل السنة في الإرادة والسمع والبصر قولين في مثل قوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } ( الفتح : 27 ) وقوله : { وإذا أردنا أن نهلك قرية } ( الإسراء : 16 ) وقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) وكذلك قوله : { إنا معكم مستمعون } ( الشعراء : 15 ) وقوله : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة : 105 ) ونحو ذلك فقال : ( قد ذهب قوم من أهل السنة إلى أن الله استماعا حادثا في ذاته وذكر أن هؤلاء وبعض أهل البدع تأولوا ذلك في الإرادة على الحوادث
قال : ( فأما من ادعى السنة فأراد إثبات القدر فقال : إرادة الله تحدث إن حدثت من تقدير سابق الإرادة وأما بعض أهل البدع فزعموا أن الإرادة إنما هي خلق حادث وليست مخلوقة ولكن بها كون الله المخلوقين )
قال : ( وزعموا أن الخلق غير المخلوق وأن الخلق هو الإرادة وأنه ليست بصفة لله من نفسه )
قال : ( ولذلك قال بعضهم : إن رؤيته تحدث )
واختار الحارث المحاسبي القول الآخر وتأول المنصوص على أن الحادث هو وقت المراد لا نفس الإرادة قال : وكذلك قوله : { إنا معكم مستمعون } وقوله : { فسيرى الله عملكم } تأوله على أن المراد حدوث المسموع والمبصر كما تأول قوله تعالى : { حتى نعلم } ( محمد : 31 ) حتى يكون المعلوم بغير حادث علم في الله ولا بصر ولا سمع ولا معنى حدث في ذات الله تعالى عن الحوادث في نفسه )


كلام محمد بن الهيصم في جمل الكلام
وقال محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له : لما ذكر جمل الكلام في القرآن وأنه مبني على خمسة فصول :
أحدها : أن القرآن كلام الله فقد حكى عن جهم بن صفوان أن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة إنما هو كلام خلقه الله فنسب إليه كما قيل : سماء الله وأرض الله وكما قيل : بيت الله وشهر الله وأما المعتزلة فإنهم أطلقوا القول بأنه كلام الله على الحقيقة ثم وافقوا جهما في المعنى حيث قالوا : كلام الله خلقه بائنا منه وقال عامة المسلمين : إن القرآن كلام الله على الحقيقة وإنه تكلم به
والفصل الثاني في أن القرآن غير قديم فإن الكلابية وأصحاب الأشعري زعموا أن الله لم يزل يتكلم بالقرآن وقال أهل الجماعة : بل إنما تكلم بالقرآن حيث خاطب به جبريل وكذلك سائر الكتب
والفصل الثالث : أن القرآن غير مخلوق فإن الجهمية والنجارية والمعتزلة زعموا أنه مخلوق وقال أهل الجماعة : إنه غير مخلوق
والفصل الرابع : أنه غير بائن من الله فإن الجهمية وأشياعهم من المعتزلة قالوا إن القرآن بائن من الله وكذلك سائر كلامه وزعموا أن الله خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى وخلق كلاما في الهواء فسمعه جبريل ولا يصح عندهم أن يوجد من الله كلام يقوم به في الحقيقة وقال أهل الجماعة : بل القرآن غير بائن من الله وإنما هو موجود منه وقائم به )
وذكر محمد بن الهيصم في مسألة الإرادة والخلق والمخلوق وغير ذلك ما يوافق ما ذكره هنا من إثبات الصفات الفعلية القائمة بالله التي ليست قديمة ولا مخلوقة


كلام الدارمي في النقض على بشر المريسي
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه المعروف بنقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي الجهمي العنيد فما افترى على الله في التوحيد قال : ( وادعى المعارض أيضا : أن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول : هل من مستغفر ؟ هل من تائب ؟ هل من داع ؟ ] قال : ( فادعى أن الله لا ينزل بنفسه إنما ينزل أمره ورحمته وهو على العرش وبكل مكان من غير زوال لأنه الحي القيوم والقيوم بزعمه من لا يزول )
قال : ( فيقال لهذا المعارض : وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان ومن ليس عنده بيان ولا لمذهبه برهان لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان فما بال النبي صلى الله عليه و سلم يحد لنزوله الليل دون النهار ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار ؟ أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا : هل من داع فأجيب ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطي ؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله وهذا محال عند السفهاء فكيف عند الفقهاء ؟ قد علمتم ذلك ولكن تكابرون وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر ثم يرفعان ؟ لأن رفاعة يرويه يقول في حديثه [ حتى ينفجر الفجر ] قد علمتم إن شاء الله أن هذا التأويل أبطل باطل لا يقبله إلا كل جاهل وما دعواه أن تفسير ( القيوم ) الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو عن بعض أصحابه أو التابعين لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك كل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا ووقت لنزوله مخصوصا لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا ولا عويصا )
قال : ( ثم أجمل المعارض جميع ما ينكر الجهمية من صفات الله تعالى وذاته المسماة في كتابه وفي آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم فعد منها بضعا وثلاثين صفة نسقا واحدا يحكم عليها ويفسرها بما حكم المريسي وفسرها وتأولها حرفا حرفا خلاف ما عنى الله وخلاف ما تأولها الفقهاء الصالحون لا يعتمد في أكثرها إلا على المريسي فبدأ منها بالوجه ثم بالسمع والبصر والغضب والرضا والحب والبغض والفرح والكره والضحك والعجب والسخط والإرادة والمشيئة والأصابع والكف والقدمين وقوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } ( القصص : 88 ) { فأينما تولوا فثم وجه الله } ( البقرة : 115 ) { وهو السميع البصير } ( الشورى : 11 ) و { خلقت بيدي } ( ص : 75 ) { وقالت اليهود يد الله مغلولة } ( المائدة : 64 ) و { يد الله فوق أيديهم } ( الفتح : 10 ) { والسماوات مطويات بيمينه } ( الزمر : 67 ) وقوله : { فإنك بأعيننا } ( الطور : 21 ) و { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } ( البقرة : 210 ) { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 ) { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ( الحاقة : 17 ) و { الرحمن على العرش استوى } ( طه : 5 ) و { الذين يحملون العرش ومن حوله } ( غافر : 7 )
وقوله { ويحذركم الله نفسه } ( آل عمران : 30 : 28 ) و { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } ( آل عمران : 77 ) و { كتب ربكم على نفسه الرحمة } ( الأنعام : 54 ) و { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } ( المائدة : 116 ) و { الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } ( البقرة : 22 )
قال : ( عمد المعارض إلى هذه الصفات والآيات فنسقها ونظم بعضها بعض كما نظمها شيئا بعد شيء ثم فرقها أبوابا في كتابه وتلطف بردها بالتأويل كتلطف الجهمية معتمدا فيها على تفسير الزائغ الجهمي بشر بن غياث المريسي دون من سواه مستترا عند الجهال بالتشنع بها على قوم يؤمنون بها ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكييف ولا تمثال فزعم أن هؤلاء المؤمنين بها يكيفونها ويشبهونها بذوات أنفسهم وأن العلماء بزعمه قالوا : ليس في شيء منها اجتهاد رأي ليدرك كيفية ذلك أو يشبه شيء منها بشيء مما هو في الخلق موجود )
قال : ( وهذا خطأ لما أن الله ليس كمثله شيء فكذلك ليس ككيفيته شيء
قال : أبو سعيد : فقلنا لهذا المعارض المدلس بالتشنيع : أما قولك : إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو في الخلق خطأ فإنا لا نقول : إنه خطأ كما قلت بل هو عندنا كفر ونحن لكيفيتها وتشبيهها بما هو في الخلق موجود أشد أنفا منكم غير أنا - كما لا نشبهها ولا نكيفها - لا نكفر بها ولا نكذبها ولا نبطلها بتأويل الضلال كما ابطلها إمامك المريسي في أماكن من كتابك سنبينها لمن غفل عنها ممن حواليك من الأغمار
وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله فإنا لا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيننا وتسمع في آذاننا فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون وقصرت عنها الظنون ؟ غير أنا لا نقول فيها كما قال إمامك المريسي : إن هذه الصفات كلها كشيء واحد وليس السمع منه غير البصر ولا الوجه منه غير اليد ولا اليد منه غير النفس وأن الرحمن ليس يعرف - بزعمكم - لنفسه سمعا من بصر ولا بصرا من سمع ولا وجها من يدين ولا يدين من وجه هو كله بزعمكم سمع وبصر ووجه وأعلى وأسفل ويد ونفس وعلم ومشيئة وإرادة مثل خلق الأرضين والسماء والجبال والتلال والهواء التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات ولا يوقف لها منها على شيء فالله المتعالي عندنا أن يكون كذلك فقد ميز الله في كتابه السمع من البصر فقال : { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه : 46 ) و { إنا معكم مستمعون } ( الشعراء : 15 ) وقال : { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم } ( آل عمران : 77 ) ففرق بين الكلام والنظر دون السمع فقال عند السماع والصوت : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } ( المجادلة : 1 ) و { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ( آل عمران : 181 ) ولم يقل : قد رأى الله قول التي تجادلك في زوجها
وقال موضع الرؤية إنه : { الذي يراك حين تقوم } { وتقلبك في الساجدين } ( الشعراء : 219 : 218 ) وقال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } ( التوبة : 105 ) ولم يقل : يسمع الله تقلبك ويسمع الله عملكم فلم يذكر الرؤية فيما يسمع ولا السماع فيما يرى لما أنهما عنده خلاف ما عندكم
وكذلك قال الله تعالى : { ودسر } { تجري بأعيننا } ( القمر : 14 : 13 ) { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } ( الطور : 48 ) { ولتصنع على عيني } ( طه : 39 ) ولم يقل لشيء من ذلك : على سمعي فكما نحن لا نكيف هذه الصفات لا نكذب بها كتكذيبكم ولا نفسرها كباطل تفسيركم )
ثم قال : ( باب الحد والعرش قال أبو سعيد : وادعى المعارض أيضا أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية )
قال : ( وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منها جميع أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره : قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم قد علموا أنه ليس له شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن ( لا شيء ) ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك : لا حد له يعني أنه لا شيء
قال أبو سعيد : والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره ولا يجوز أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله ولمكانه أيضا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان
وسئل عبدالله بن المبارك بم نعرف ربنا ؟ قال : بأنه على عرشه بائن من خلقه قيل : بحد ؟ قال : بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك
فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله وصفة حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال : { الرحمن على العرش استوى } ( طه : 5 ) { أأمنتم من في السماء } ( الملك : 16 ) { إني متوفيك ورافعك إلي } ( آل عمران : 55 ) { يخافون ربهم من فوقهم } ( النحل : 50 ) { إليه يصعد الكلم الطيب } ( فاطر : 10 ) فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آيات الله
و [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله فوق عرشه فوق سماواته ] و [ قال للأمة السواداء : أين الله ؟ قالت : في السماء قال أعتقها فإنها مؤمنة ] فقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنها مؤمنة ] دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء كما قال الله ورسوله لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن [ عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبيه : يا حصين كم تعبد اليوم إلها ؟ قال : سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء ] فلم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه و سلم فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإلة الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين : أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يده إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية
ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله وعلى رسوله فيها حرفا بعد حرف وشيئا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك كله منه إذ صرح باسمه وسلم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره وهتك ستره وافتضاحه في مصره وفي سائر الأمصار الذي سمعوا بذكره )
ثم ذكر الكلام على إبطال تأويلات الجهمية للصفات الواردة في الكتاب والسنة


كلام الدارمي في الرد على الجهمية
وقال عثمان بن سعيد في كتاب الرد على الجهمية له : ( باب الإيمان بكلام الله تعالى ) قال أبو سعيد : فالله المتكلم أولا وآخرا لم يزل له الكلام إذ لا متكلم غيره ولا يزال له الكلام إذ لا يبقى متكلم غيره فيقول : { لمن الملك اليوم } ( غافر : 16 ) أنا الملك أنا الديان أين ملوك الأرض ؟ فلا ينكر كلام الله إلا من يريد إبطال ما أنزل الله عز و جل وكيف يعجز عن الكلام من علم العباد الكلام وأنطق الأنام ؟ قال الله تعالى في كتابه { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء : 164 ) فهذا لا يحتمل تأويلا غير نفس الكلام وقال لموسى : { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ( الأعراف : 144 ) وقال الله تعالى : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } ( البقرة : 75 ) وقال { يريدون أن يبدلوا كلام الله } ( الفتح : 15 ) وقال { لا تبديل لكلمات الله } ( يونس : 64 ) وقال : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } ( الأنعام : 115 )
وذكر آيات أخر إلى أن قال : ( وقال تعالى لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } ( طه : 89 ) وقال : { عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } ( الأعراف : 148 )
قال أبو سعيد : ففي كل ما ذكرنا تحقيق كلام الله وتثبيته نصا بلا تأويل ففيما عاب الله تعالى به العجل في عجزه عن القول والكلام بيان أن الله غير عاجز عنه وأنه متكلم وقائل لأنه لم يكن ليعيب العجل بشيء هو موجود فيه وقال إبراهيم : { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } ( الأنبياء : 63 ) إلى قوله { أفلا تعقلون } ( الأنبياء : 67 ) فلم يعب إبراهيم أصنامهم وآلهتهم التي يعبدون بالعجز عن الكلام إلا وأن إلهه متكلم قائل )
وبسط الكلام في ذلك إلى أن قال : ( أرأيتم قولكم : إنه مخلوق فما بدء خلقه ؟ أقال الله له ( كن ) فكان كلاما قائما بنفسه بلا متكلم به ؟ فقد علم الناس - إلا ما شاء الله منهم - أن الله لم يخلق كلاما يرى ويسمع بلا متكلم به فلا بد من أن تقولوا في دعواكم : الله المتكلم بالقرآن فأضفتموه إلى الله فهذا أجور الجور وأكذب الكذب : أن تضيفوا كلام المخلوق إلى الخالق ولو لم يكن كفرا كان كذبا بلا شك فيه فكيف وهو كفر لا شك فيه ؟ لا يجوز لمخلوق يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعي الربوبية ويدعوا الخلق إلى عبادته فيقول : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } ( طه : 14 ) و { إني أنا ربك } ( طه : 12 ) { وأنا اخترتك } ( طه : 13 ) { واصطنعتك لنفسي * اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري } ( طه : 41 - 42 ) { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه : 46 ) { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ( الذاريات : 56 ) { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } ( يس : 60 - 61 ) قد علم الخلق - إلا من أضله الله - أنه لا يجوز لأحد أن يقول هذا وما أشبهه ويدعيه غير الخالق بل القائل به والداعي إلى عبادة غير الله كافر كفرعون الذي قال : { أنا ربكم الأعلى } ( النازعات : 24 ) والمجيب له والمؤمن بدعواه أكفر وأكذب
وإن قلتم : تكلم به مخلوق فأضفناه إلى الله لأن الخلق كلهم بصفاتهم وكلامهم لله فهذا المحال الذي ليس وراءه محال فضلا عن أن يكون كفرا لأن الله عز و جل لم ينسب شيئا من الكلام كله إلى نفسه أنه كلامه غير القرآن وما أنزل على رسله فإن قد تم كلامكم ولزمتموه لزمكم أن تسموا الشعر وجميع الغناء والنوح وكلام السباع والبهائم والطير كلام الله فهذا مما لا يختلف المصلون في بطوله واستحالته فما فضل القرآن إذا عندكم على الغناء والنوح والشعر إذ كان كله في دعواكم كلام الله ؟ فكيف خص القرآن بأنه كلام الله ونسب كل كلام إلى قائله ؟ فكفى بقوم ضلالا أن يدعوا قولا لا يشك الموحدون في بطوله واستحالته
ومما يزيد دعواكم تكذيبا واستحالة ويزيد المؤمنين بكلام الله إيمانا وتصديقا أن الله قد ميز بين من كلم من رسله في الدنيا وبين من لم يكلم ومن يكلم من خلقه في الآخرة ومن لا يكلم فقال : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } ( البقرة : 253 ) فميز بين من اختصه الله بكلامه وبين من لم يكلمه ثم سمى ممن كلم الله موسى فقال : { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء : 164 ) فلو لم يكلمه بنفسه إلا على تأويل ما ادعيتم فما فضل من ذكر الله في تكليمه إياه على غيره ممن لم يكلمه ؟ إذ كل الرسل في تكليم الله إياهم مثل موسى وكل عندكم لم يسمع كلام الله وقد قال تعالى : { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله } ( آل عمران : 77 ) ففي بيان أنه لا يعاقب قوما يوم القيامة بصرف كلامه عنهم إلا وأنه يثيب بتكلميه قوما آخرين
وقال أيضا في بيان كفر الجهمية : ( أخبر الله أن القرآن كلامه وادعت الجهمية أنه خلقه وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليما وقال هؤلاء : لم يكلمه الله بنفسه ولم يسمع موسى نفس كلام الله إنما سمع كلاما خرج إليه من مخلوق ففي دعواهم دعا مخلوق موسى إلى ربوبيته فقال : { إني أنا ربك فاخلع نعليك } ( طه : 12 ) فقال له موسى في دعواهم : صدقت ثم أتى فرعون يدعوه إلى ربوبيته مخلوق كما أجاب موسى في دعواهم فما فرق بين موسى وفرعون في الكفر إذا ؟ فأي كفر أوضح من هذا ؟ وقال الله تبارك وتعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) وقال هؤلاء : ما قال لشيء قط - قولا وكلاما - كن فكان ولا يقوله أبدا ولم يخرج منه كلام قط ولا يخرج ولا هو يقدر على الكلام في دعواهم فالصنم في دعواهم والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام )


عود إلى كتاب النقض على المريسي
وقال أيضا في كتاب النقض على المريسي : ( وادعيت أيها المريسي في قول الله عز و جل : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } ( الأنعام : 210 ) وفي قوله : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } ( الأنعام : 158 ) فادعيت أن هذا ليس منه بإتيان لما أنه غير متحرك عندك ولكن يأتي بالقيامة بزعمك وقوله : { يأتيهم الله في ظلل من الغمام } : يأتي الله بأمره في ظلل من الغمام ولا يأتي هو بنفسه ثم زعمت أن معناه كمعنى قوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } ( سورة النحل : 26 ) { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } ( الحشر : 2 )
فيقال لهذا المريسي : قاتلك الله ! ما أجراك على الله وعلى كتابه بلا علم ولا بصر ! أنبأك الله أنه إتيان وتقول : ليس بإتيان إنما هو كقوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } ( النحل : 26 ) لقد ميزت بين ما جمع الله وجمعت بين ما ميز الله ولا يجمع بين هذين التأويلين إلا كل جاهل بالكتاب والسنة لأن تأويل كل واحد منهما مقرون به في سياق القراءة لا يجهلة إلا مثلك
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته وأنه لا ينزل قبل يوم القيامة لعقوبة أحد من خلقه ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم وتشقق السماوات يومئذ لنزوله وتنزل الملائكة تنزيلا ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية كما قال الله ورسوله فلما لم يشك المسلمون أنا الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات إنما هو من أمره وعذابه
فقوله : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } يعني مكره من قبل قواعد بنيانهم { فخر عليهم السقف من فوقهم } ( النحل : 26 ) فتفسير هذا الإتيان خرور السقف عليهم من فوقهم وقوله : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } مكر بهم { وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } ( الحشر : 2 ) وهم بنو النضير فتفسير الإتيانين مقرون بهما فخرور السقف والرعب وتفسير إتيان الله يوم القيامة منصوص في الكتاب مفسر
قال الله تعالى : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } ( الحاقة : 13 - 18 ) إلى قوله تعالى : { هلك عني سلطانيه } ( الحاقة : 29 ) فقد فسر الله المعنيين تفسيرا لا لبس فيه ولا يشتبه على ذي عقل فقال فيما يصيب به من العقوبات في الدنيا : { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } ( يونس : 24 ) فحين قال : { أتاها أمرنا } علم أهل العلم أن أمره ينزل من عنده من السماء وهو على عرشه فلما قال : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } ( الحاقة : 13 ) الآيات التي ذكرناها وقال أيضا : { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } ( الفرقان : 25 ) و { يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور } ( البقرة : 210 ) و { دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 21 - 22 ) علم بما نص عليه الله من الدليل وبما حد لنزول الملائكة يومئذ : ( أن هذا إتيان الله بنفسه يوم القيامة ليلي محاسبة خلقه بنفسه لا يلي ذلك أحد غيره وأن معناه مخالف لمعنى إتيان القواعد لا ختلاف القضيتين )
إلى أن قال : ( وقد كفانا رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه تفسير هذا الإتيان حتى لا نحتاج منك له إلى تفسير ) وذكر حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين في تجليه يوم القيامة عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيه قال : [ فيقول المؤمنون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ] و ذكر حديث ابن عباس من وجهين موقوفا ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وفيه [ ثم يأتي الرب تعالى في الكروبيين وهم أكثر من أهل السماوات والأرض ] رواه الحاكم في صحيحه وذكر ( عن أنس بن مالك أنه قال : وتلا هذه الآية : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } قال : يبدلها الله يوم القيامة بأرض من فضة لم تعمل عليها الخطايا ينزل عليها الجبار )
ثم قال : ( ومن يلتفت أيها المريسي إلى تفسيرك المحال في إتيان الله يوم القيامة ويدع تفسير رسول الله صلى الله عيه وسلم وأصحابه إلا كل جاهل مجنون خاسر مغبون ؟ لما أنك مفتون في الدين مأفون وعلى تفسير كتاب الله غير مأمون ويلك ! أيأتي الله بالقيامة ويتغيب هو بنفسه ؟ فمن يحاسب الناس يومئذ ؟ لقد خشيت على من ذهب مذهبك هذا لأنه لا يؤمن بيوم الحساب
وادعيت أيها المريسي في قول الله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ( البقرة : 255 ) وادعيت أن تفسير القيوم عندك لا يزول يعني الذي لا ينزل ولا يتحرك ولا يقبض ولا يبسط وأسندت ذلك عن بعض أصحابك غير مسمى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : القيوم الذي لا يزول ومع روايتك هذه عن ابن عباس دلائل وشواهد أنها باطلة :
إحداها : أنك رويتها وأنت المتهم في توحيد الله
والثانية : أنك رويته عن بعض أصحابك غير مسمى وأصحابك مثلك في الظنة والتهمة
والثالثة : أنه عن الكلبي وقد أجمع أهل العلم بالأثر على أن لا يحتجوا بالكلبي في أدنى حلال ولا حرام فكيف في تفسير توحيد الله وتفسير كتابه ؟ وكذلك أبو صالح
ولو قد صحت روايتك عن ابن عباس أنه قال : ( القيوم : الذي لا يزول ) لم نستنكره وكان معناه مفهوما واضحا عند العلماء وعند أهل البصر بالعربية أن معنى لا يزول لا يفنى ولا يبيد لا أنه لا يتحرك ولا يزول من مكان إلى مكان إذا شاء كما كان يقال للشيء الفاني : هو زائل كما قال لبيد :
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل )
يعني فان لا أنه متحرك فإن أمارة ما بين الحي والميت التحرك وما لا يتحرك فهو ميت لا يوصف بحياة كما لا توصف الأصنام الميتة قال الله تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } ( النحل : 20 - 21 ) فالله الحي القيوم القابض الباسط يتحرك إذا شاء وينزل إذا شاء ويفعل ما يشاء بخلاف الأصنام الميتة التي لا تزول حتى تزال
واحتججت أيها المريسي في نفي التحرك عن الله والزوال بحجج الصبيان فزعمت أن إبراهيم صلى الله عليه و سلم حين رأى كوكبا وشمسا وقمرا قال : { هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين } ( الأنعام : 76 ) ثم قلت : فنفى إبراهيم المحبة عن كل إله زائل يعني أن الله إذا نزل من سماء إلى سماء أو نزل يوم القيامة لمحاسبة العباد فقد أفل وزال كما أفل الشمس والقمر فتنصل من ربوبيتهما إبراهيم فلو قاس هذا القياس تركي طمطماني أو رومي عجمي ما زاد على ما قست قبحا وسماجة ويلك ! من خلق الله : إن الله إذا نزل أو تحرك - أو نزل ليوم الحساب - أفل في شيء كما تأفل الشمس في عين حمئة ؟ إن الله لا يأفل في شيء سواه إذا نزل أو ارتفع كما تأفل الشمس والقمر والكواكب بل هوالعالي على كل شيء المحيط بكل شيء في جميع أحواله من نزوله وارتفاعه وهو الفعال لما يريد لا يأفل في شيء بل الأشياء كلها تخشع له وتتواضع والشمس والقمر والكواكب خلائق مخلوقة إذا قلت أفلت أفلت في مخلوق في عين حمئة كما قال الله تعالى والله أعلى وأجل لا يحيط به شيء ولا يحتوي عليه شيء


قول أبي بكر عبد العزيز في المقنع
وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر صاحب الخلال في أول كتابه الكبير المسمى بالمقنع وقد ذكر ذلك عنه القاضي أبو يعلى في كتاب إيضاح البيان في مسألة القرآن قال أبو بكر لما سألوه : ( إنكم إذا قلتم : لم يزل متكلما كان ذلك عبثا فقال : لأصحابنا قولان : أحدهما أنه لم يزل متكلما كالعلم لأن ضد الكلام الخرس كما أن ضد العلم الجهل قال : ومن أصحابنا من قال : قد أثبت سبحانه لنفسه أنه خالق ولم يجز ان يكون خالقا في كل حال بل قلنا : إنه خالق في وقت إرادته أن يخلق وإن لم يكن خالقا في كل حال ولم يبطل أن يكون خالقا كذلك وإن لم يكن متكلما في كل حال يبطل أن يكون متكلما بل هو متكلم خالق وإن لم يكن خالقا في كل حال ولا متكلما في كل حال )


قول القاضي أبي يعلي في إيضاح البيان
وذكر القاضي أبو يعلى في كتابه المسمى بإيضاح البيان هذا السؤال فقال : ( نقول : إنه لم يزل متكلما وليس بمكلم ولا مخاطب ولا آمر ولا ناه نص عليه أحمد في رواية حنبل فقال : لم يزل الله متكلما عالما غفورا
قال : وقال في رواية عبد الله : لم يزل الله متكلما إذا شاء وقال حنبل في موضع آخر : سمعت أبا عبد الله يقول : لم يزل الله متكلما والقرآن كلام الله غير مخلوق )
قال القاضي أبو يعلى : ( وقال أحمد في الجزء الذي فيه الرد على الجهمية والزنادقة : وكذلك الله يتكلم كيف شاء من غير أن نقول جوف ولا فم ولا شفتان ) وقال بعد ذلك : ( بل نقول : إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول : إنه كان ولا يتكلم حتى خلق )


قول عبد الله بن حامد في أصول الدين
وقال أبو عبد الله بن حامد في كتابه في أصول الدين : ( ومما يجب الإيمان به والتصديق أن الله متكلم وأن كلامه قديم وأنه لم يزل متكلما في كل أوقاته موصوفا بذلك وكلامه قديم غير محدث كالعلم والقدرة )
قال : وقد يجيء على المذهب أن يكون الكلام صفة المتكلم لم يزل موصوفا بذلك ومتكلما كما شاء وإذا شاء ولا نقول : إنه ساكت في حال أو متكلم في حال من حيث حدوث الكلام )
قال : ( ولا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلما قبل أن يخلق الخلق وقبل كل الكائنات وأن الله كان فيما لم يزل متكلما كيف شاء وكما شاء وإذا شاء أنزل كلامه وإذا شاء لم ينزله )
قلت : قول ابن حامد : ( ولا نقول إنه ساكت في حال أو متكلم في حال من حيث حدوث الكلام ) يريد به أنا لا نقول : إن جنس كلامه حادث في ذاته كما تقوله الكرامية من أنه كان ولا يتكلم ثم صار يتكلم بعد أن لم يكن متكلما في الأزل ولا كان تكلمه ممكنا


قول أبي إسماعيل الأنصاري في مناقب أحمد بن حنبل
وقال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام في اعتقاد أهل السنة وما وقع عليه إجماع أهل الحق من الأمة : ( اعلم أن الله متكلم قائل مادح نفسه وهو متكلم كلما شاء ويتكلم بكلام لا مانع له ولا مكره والقرآن كلامه هو تكلم به )
قال أيضا في كتاب مناقب أحمد بن حنبل في باب الإشارة إلى طريقته في الأصول لما ذكر كلامه في مسأئل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولا : هو مخلوق وجرت المحنة المشهورة ثم مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي إلى أن قال : وجاءت طائفة فقالت : لا يتكلم بعد ما تكلم فيكون كلامه حادثا قال : وهذه سحارة أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة فانتبه لها أبو بكر بن خزيمة وكانت حينئذ بنيسابور دار الآثار تمد إليها الدانات وتشد إليها الركائب ويجلب منها العلم وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي و الصبغي مع ما جمعا من الحديث والفقه والصدق والورع واللسان والبيت والقدر لا يستر لوث بالكلام واستمام لأهله ف ابن خزيمة في بيت ومحمد بن إسحاق في بيت و أبو حامد العرشرقي في بيت قال : فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر فلم يزل يصيح بتشويهها ويصنف في ردها كأنه منذر جيش حتى دون في الدفاتر وتمكن في السرائر ولقن في الكتاتيب ونقش في المحاريب أن الله متكلم : إن شاء تكلم وإن شاء سكت فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خبيرا )
قلت : هذه القصة التي أشار إليها عن ابن خزيمة مشهورة ذكرها غير واحد من المصنفين ك الحاكم أبي عبد الله في تاريخ نيسابور وغيره ذكر أنه رفع إلى الإمام أنه قد نبغ طائفة من أصحابه يخالفونه وهو لا يدري وأنهم على مذهب الكلابية و أبو بكر الإمام شديد على الكلابية
قال : ( فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال : اجتمعنا ليلة عند بعض أهل العلم وجرى ذكر كلام الله : أقديم لم يزل أو يثبت عند اختياره تعالى أن يتكلم به ؟ فوقع بيننا في ذلك خوض قال جماعة منا : إن كلام الباري قديم لم يزل وقال جماعة : إن كلامه قديم غير أنه لا يثبت إلا باختياره لكلامه فبكرت أنا إلى أبي علي الثقفي وأخبرته بما جرى فقال : من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه محدث وانتشرت هذه المسألة في البلد وذهب منصور الطوسي في جماعة معه إلى أبي بكر محمد بن إسحاق وأخبروه بذلك حتى قال منصور : ألم أقل للشيخ إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية وهذا مذهبهم فجمع أبو بكر أصحابه وقال : ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام ولم يزدهم على هذا في ذلك اليوم وذكر أنه بعد ذلك خرج على أصحابه وأنه صنف في الرد عليهم وأنهم ناقضوه ونسبوه إلى القول بقول جهم في أن القرآن محدث وجعلهم هو كلابية
قال الحاكم : ( سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول : سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول : الذي أقول به أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق ومن قال : إن القرآن أو شيئا منه ومن وحيه وتنزيله مخلوق أو يقول : إن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل أو يقول : إن أفعال الله مخلوقة أو يقول : إن القرآن محدث أو يقول : إن شيئا من صفات الله - صفات الذات - أو اسما من أسماء الله مخلوق فهو عندي جهمي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه هذا مذهبي ومذهب من رأيت من أهل الأثر في الشرق والغرب من أهل العلم ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت ومن نظر في كتبي المصنفة ظهر له وبان أن الكلابية كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلي وديانتي )
وذكر عن ابن خزيمة أنه قال : زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام فهم لا يفهمون كتاب الله فإن الله قد أخبر في نص الكتاب في مواضع أنه خلق آدم وأنه أمر الملائكة بالسجود له فكرر هذا الذكر في غير موضع وكرر ذكر كلامه مع موسى مرة بعد أخرى وكرر ذكر عيسى بن مريم في مواضع وحمد نفسه في مواضع فقال : { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } ( الكهف : 1 ) و { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } ( الأنعام : 1 ) { الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } ( سبأ : 1 ) وكرر زيادة على ثلاثين مرة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ( الرحمن : 16 ) ولم أتوهم أن مسلما يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين
قال الحاكم : ( سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق - يعني الصبغي - يقول : لما وقع من أمرنا ما وقع ووجد بعض المخالفين - يعني المعتزلة - الفرصة في تقرير مذهبهم بحضرتنا قال أبو علي الثقفي للإمام : ما الذي أنكرت من مذاهبنا أيها الإمام حتى نرجع عنه ؟ قال : ميلكم إلى مذهب الكلابية فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد وعلى أصحابه مثل الحارث المحاسبي وغيره حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب فقلت : قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق فأخرجت إليه الطبق فقلت : تأمل ما جمعته بخطي وبينته في هذه المسائل فإن كان فيها شيء تكرهه فبين لنا وجهه فذكر أنه تأمله ولم ينكر منه شيئا وذكر لشيخه الخط وفيه : إن الله بجميع صفات ذاته واحد لم يزل ولا يزال وما أضيف إلى الله من صفات فعله مما هو غير بائن عن الله فغير مخلوق وكل شيء أضيف إلى الله بائن عنه دونه مخلوق )
وذكر أن أبا العباس القلانسي وغيره وافقوا من خالف أبا بكر وأنه كتب إلى جماعة من العلماء تلك السمائل وأنهم كانوا يرفعون من خالف أبا بكر إلى السلطان وأن أمير نيسابور أمر أن يمتثل أمر أبي بكر فيهم من النفي والضرب والحبس وأن عبد الله بن حماد قال : طوبى لهم إن كان ما يقال عنهم مكذوبا عليهم وأن عبد الله بن حماد من غد ذلك اليوم قال : رأيت البارحة في المنام كأن أحمد بن السري الزاهد المروزي لكمني برجله ثم قال : كأنك في شك من أمور هؤلاء الكلابية قال : ثم نظر إلى محمد بن إسحاق فقال : { هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب } ( إبراهيم : 52 ) وهذه القصة مبسوطة في موضع آخر وأكثر أهل العلم والدين كانوا مع ابن خزيمة على الكلابية


قول الأنصاري في ذم الكلام
ذكر أبو إسماعيل الأنصاري العروف بشيخ الإسلام في كتاب ذم الكلام : ( سمعت أبا نصر بن أبي سعيد الرداد سمعت إبراهيم بن إسماعيل الخلال يقول : إني ذهبت بكتاب ابن خزيمة في الصبغي و الثقفي إلى أمير المؤمنين فكتب بصلبها فقال ابن خزيمة : لا قد علم رسول الله صلى الله عليه و سلم النفاق من أقوام فلم يصلبهم )
قال أبو إسماعيل : ( سمعت إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني يقول : استتيب الصبغي و الثقفي على قبر ابن خزيمة
وقال : ( سمعت أحمد بن أبي نصر يقول : رأينا محمد بن الحسين السلمي يعني أبا عبد الرحمن السلمي صاحب التصانيف المعروفة في طريقة الصوفية - يلعن الكلابية )
قال : ( وسمعت محمد بن العباس بن محمد يقول : كان أبو علي الرفا يقول : لعن الله الكلابية )
ومن الموافقين لابن خزيمة أبو حامد الشاركي و أبو سعيد الزاهد و يحيى بن عمار و أبو عثمان النيسابوري الملقب بشيخ الإسلام
قال : ( وسمعت عبد الواحد بن ياسين يقول : رأيت بابين قلعا من مدرسة أبي الطيب - يعني الصعلوكي - بأمره من بيتي شابين حضرا أبا بكر بن فورك وسمعت الطيب ابن محمد سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : وجدت أبا حامد الإسفرايني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي و أبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله


قول السجزي في رسالته إلى أهل زبيد
وقال الحافظ أبو نصر السحزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن : ( اعلموا - أرشدنا اله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي و الأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم بل أخس حالا منهم في الباطن من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذي تكلموا في العقليات وقالوا : الكلام جروف متسقة وأصوات مقطعة وقالت - يعني علماء العربية - : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالاسم مثل زيد وعمرو والفعل مثل جاء وذهب والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد وما شاكل ذلك فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت ويدخله التعاقب والتأليف وذكل لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق والكل والبعض والحركة والسكون وحكم الصفة الذاتية حكم الذات
قالوا : فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له أحدثه وأضافه إلى نفسه كما نقول : ( خلق الله وعبد الله وفعل الله )
( قال : فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل )
فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة : المسلم والكافر وقالوا للمعتزلة : الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم فمنهم من اقتصر على هذا القدر ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد فزاد فيه ( تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام ) ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم وإثبات اللغة فيه تشبيه وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل :
( إن البيان من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا )
فغيروه وقالوا : ( إن الكلام من الفؤاد ) وزعموا أنه لهم حجة على مقالتهم في قول الله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } ( المجادلة : 8 ) وفي قول الله عز و جل : { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } ( يوسف : 77 ) واحتجوا بقول العرب : ( أرى في نفسك كلاما وفي وجهك كلاما ) فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا : الأخرس متكلم وكذلك الساكت والنائم ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون به ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام
وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر بل يجانب ويقمع )


قول السجزي في الإبانة
وقال أبو نصر السجزي أيضا في كتابه المسمى بالإبانة في مسألة القرآن : لما قيل له ( إن القراءة عمل والعمل لا يكون صفة لله والدليل على أنها عمل أنك تقول : قرأ فلان يقرأ وما حسن فيه ذكر المستقبل فهو عند العرب عمل )
فقال : ( هذا لا يلزم لأنك تقول : ( قال الله عز و جل ) و ( يقول الله عز و جل ) والله تعالى قال : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } ( البقرة : 35 ) وقال تعالى : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } ( ق : 30 ) فقد حسن في القول ذكر المستقبل
فإن ارتكبوا العظمى وقالوا : كلام الله شيء واحد على أصلنا لا يتجزأ وليس بلغة والله سبحانه من الأزل إلا الأبد متكلم بكلام واحد لا أول له ولا آخر فقال : ويقول إنما يرجع إلى العبارة لا إلا المعبر عنه
قيل لهم : قد بينا مرارا كثيرة أن قولكم في هذا الباب فاسد وأنه مخالف للعقليين والشرعيين جميعا وأن نص الكتاب والثابت من الأثر قد نطقا بفساده قال الله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) فبين الله سبحانه أنه يقول للشيء كن إذا أراد كونه فعلم بذلك أنه لم يقل للقيامة بعد كوني )
وقال أيضا في موضع آخر : ( [ النبي صلى الله عليه و سلم قال : نبدأ بما بدأ الله به ] ) ثم قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ( البقرة : 158 ) والله تعالى قال : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } ( آل عمران : 59 ) وقال : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) فبين جل جلاله أنه قال لآدم بعد أن خلقه من تراب : كن وأنه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون ولم يقتض ذلك حدوثا ولا خلقا بعد حدوث نوع الكلام لما قام من الدليل على انتفاء الخلق عن كلام الله تعالى )
وقال أبو نصر السجزي أيضا : ( فأما الله تعالى فإنه متكلم فيما لم يزل ولا يزال متكلما بما شاء من الكلام يسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلامه إذا شاء ذلك ويكلم من شاء تكليمه بما يعرفه ولا يجهله وهو سبحانه حي عليم متكلم لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله ليس بجسم ولا في معنى جسم ولا يوصف بأداة ولا جارحة وآلة وكلامه أحسن الكلام وفيه سور وآي وكلمات وكل ذلك حروف وهو مسموع منه على الحقيقة سماعا يعقله الخلق ولا كيفية لتكلمه وتكليمه وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم سبحانه في حال واحدة بما يريده من كل واحد منهم من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا )
قال : ( ومنع كثير من أهل العلم إطلاق السكوت عليه ومن أهل الأثر من جوز إطلاق السكوت عليه لوروده في الحديث وقال : معناه تركه التوبيخ والتقرير والمحاسبة اليوم وسيأتي يوم يقرر فيه ويحاسب ويوبخ فذلك الترك بمعنى السكوت )
قال : ( والأصل الذي يجب أن يعلم : أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمين بها فنحن إذا قلنا إن الله موجود رؤوف واحد حي عليم بصير متكلم وقلنا إن النبي صلى الله عليه و سلم كان موجودا حيا عالما سميعا بصيرا متكلما لم يكن ذلك تشبيها ولا خالفنا به أحدا من السلف والأئمة بل الله موجود لم يزل واحد حي قديم قيوم عالم سميع بصير متكلم فيما لم يزل ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات والموجود منا إنما وجد عن عدم وحيي بمعنى حله ثم يصير ميتا بزوال ذلك المعنى وعلم بعد أن لم يعلم وقد ينسى ما علم وسمع وأبصر وتكلم بجوارح قد تلحقها الآفات فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق سبحانه وتعالى وإن اتفقت مسميات هذه الصفات )
وقال أبو نصر أيضا : ( خاطبني بعض الأشعرية يوما في هذا الفصل وقال : التجزؤ على القديم غير جائز فقلت له : أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه على الحقيقة بلا ترجمان ؟ فقال : نعم - وهم يطلقون ذلك ويموهون على من لم يخبر مذهبهم - وحقيقة سماع كلام الله من ذاته على أصل الأشعري محال لأن سماع الخلق - على ما جبلوا عليه من البنية وأجروا عليه من العادة - لا يكون البتة إلا لما هو صوت أو في معنى الصوت وإذا لم يكن كذلك كان الواصل إلى معرفته بضرب من العلم والفهم وهما يقومان في وقت مقام السماع لحصول العلم بهما كما يحصل بالسماع وربما سمي ذلك سماعا على التجوز لقربه من معناه فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري )
قال : ( فقلت لمخاطبي الأشعري : قد علمنا جميعا أن حقيقة السماع لكلام الله منه على أصلكم محال وليس ههنا من تتقيه وتخشى تشنيعه وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه بلطيفة منه حتى يصير عالما متيقنا بأن الذي فهمه كلام الله والذي أريد أن ألزمك وارد على الفهم وروده على السماع فدع التمويه ودع المصانعة ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله ؟ أفهم كلام الله مطلقا أم مقيدا ؟ فتلكأ قليلا ثم قال : ما تريد بهذا ؟ فقلت : دع إرادتي وأجب بما عندك فأبى وقال : ما تريد بهذا ؟ فقلت : أريد أنك إن قلت : إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقا اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه موسى وهذا يؤول إلى الكفر فإن الله تعالى يقول : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } ( البقرة : 255 ) ولو جاز ذلك لصار مم فهم كلام الله عالما بالغيب وبما في نفس الله تعالى وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } ( المائدة : 116 ) وإذا لم يجز إطلاقه وألجئت إلى أن تقول ( أفهمه الله ما شاء من كلامه ) دخلت في التبعيض الذي هربت منه وكفرت من قال به ويكون مخالفك أسعد منك لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز و جل ومن قبل رسول اله صلى الله عليه و سلم وأنت أبيت أن تقبل ذلك وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئا
فقال : هذا يحتاج إلى تأمل وقطع الكلام )
وقال أبو نصر : ( لم يزل الله متكلما لأن الكلام من صفات المدح للحي الفاعل وضده من النقائص والله منزه عنها )
وذكر كلاما كثيرا إلى أن قال : ( وقد ثبت بما ذكرناه كون القرآن مفرقا مفصلا ذا أجزاء وأبعاض وآي وكلمات وحروف وأن ما كان بخلاف ذلك لم يكن القرآن المنزل الذي آمن به المسلمون وجحده الكفار وأن المقروء سور وآي وكلمات وحروف وكذلك المحفوظ والمكتوب والمتلو وأنه عريبي مبين نازل بلسان العرب ولسان قريش والمراد باللسان في هذا الباب اللغة لا اللسان الذي هو لحم ودم وعروق تعالى الله عن ذلك وجل عن أن يوصف إلا بما وصف به نفسه وتنزه عن الأشباه )
قال : ( ونحن نذكر عقب هذا الفصل فصلا في ذكر حروف القرآن وفصلا بعد ذلك في الصوت وما ورد فيه من القرآن والحديث وكل ذي لب صحيح يعرف بالحس والمشاهدة قبل الاستدلال أن القرآن العربي حروف ولا فرق بين منكر ذلك ومنكر الحواس وأنها من مبادىء العلم وأسباب المدارك )
قال : ( وقد بين الله في كتابه ما لا إشكال بعده في هذا الفصل لما قال : { وإذ نادى ربك موسى } ( الشعراء : 10 ) والعرب لا تعرف نداء إلا صوتا وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك فإن أنكروا الظاهر كفروا وإن قالوا : ( إن النداء غير صوت ) خالفوا لغات العرب وإن قالوا : نادى الأمير - إذا أمر غيره بالنداء - دفعوا فضيلة موسى عليه السلام المختصة به من تكليم الله إياه من غير واسطة ولا ترجمان وليس في وجود الصوت من الله تعالى تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه وكيف وكلامه وكلام خلقه معا عن الأشعري معنى قائم بذات المتكلم لا يختلف فهو المشبه لا محالة )
قال : ( وأما نحن فنقول : كلام الله حرف وصوت بحكم النص ) قال : ( وليس ذلك عن جارحة ولا آلة وكلامنا حروف وأصوات لا يوجد ذلك منا إلا بآلة والله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء لا يشغله شيء عن شيء والمتكلم منا لا يتأتى منه أداء حرفين إلا بأن يفرغ من أحدهما ويبتدىء في الآخر والقرآن لما كان كلاما لله كان معجزا وكلام الخلق غير معجز وفي كلام الله بيان ما كان وما سيكون وما لا يكون أبدا لو كان كيف كان يكون والخلق لا يصلون إلى هذه الأشياء إلا بتعريف )


كلام أبي القاسم الأصبهاني في الحجة على تارك المحجة
وقال أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه المعروف بالحجة على تارك المحجة : ( أجمع المسلمون على أن القرآن كلام الله وإذا صح أنه كلام الله صح أنه صفة الله تعالى وأنه موصوف به وهذه الصفة لازمة لذاته تقول العرب : ( زيد متكلم ) فالكلام صفة له لا نعرف إلا أن حقيقة هذه الصفة الكلام وإذا كان كذلك كان القرآن كلام الله وكانت هذه الصفة لا زمة له أزلية والدليل على أن الكلام لا يفارق المتكلم أنه لو كان مفارقه لم يكن للمتكلم إلى كلمة واحدة فإذا تكلم بها لم يبق له كلام فلما كان المتكلم قادرا على كلمات كثيرة كلمة بعد كلمة دل على أن تلك الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة )
قال : ( والدليل على أن القرآن غير مخلوق : أنه كلام الله وكلام الله سبب إلى خلق الأشياء قال الله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) أي أردنا خلقه وإيجاده وإظهاره فقوله ( كن ) كلام الله وصفته والصفة التي منها يتفرع الخلق والفعل وبها يتكون المخلوق لا تكون مخلوقة ولا يكون مثلها للمخلوق والدليل على أنه كلام لا يشبه كلام المخلوقين أنه كلام معجز وكلام المخلوقين غير معجز لو اجتمع الخلق على أن يأتوا بمثل سورة من سوره أو آية من آياته عجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه )


كلام أبي الحسن الكرجي في الفصول في الأصول
وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول ) وذكر اثني عشر إماما : الشافعي و مالك و الثوري و ابن عيينة و ابن المبارك و الأوزاعي و الليث بن سعد و إسحاق بن راهويه و البخاري و أبو زرعة و أبو حاتم
ثم قال فيه : ( سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول : سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول : سمعت أبا حامد الإسفرايني يقول : مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار : أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله تعالى والنبي صلى الله عليه و سلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا ومنقوشا وكل حرف منه - كالباء والتاء - كله كلام الله غير مخلوق ومن قال ( مخلوق ) فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين )
قال الشيخ أبو الحسن : ( وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام )
قال : ( ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة - منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي - يقولون : سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا : كان الشيخ أبو حامد أحمد ابن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما وأصحابا إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول : اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني وتكرر لك منه جمعات فقيل له في ذلك فقال : حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلح ويشيع الخبر في أهل البلاد : أني بريء مما هم عليه - يعني الأشعرية - وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه : فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم مني تعلموه قبل وأنا ما قلته وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته )
قال الشيخ أبو الحسن الكرجي : ( وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول : سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول : كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرايني وكان ينهي أصحابه عن الكلام وعن الدخول على الباقلاني فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام فظن أني معهم ومنهم وذكر قصة قال في آخرها : إن الشيخ أبا حامد قال لي : يا بني قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل - يعني الباقلاني - فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة وإلا فلا تحضر مجلسي فقلت : أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه وأشهدوا على أني لا أدخل إليه )
قال الشيخ أبو الحسن : ( وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول : سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد - أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم - قالوا : كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعا خوفا من الشيخ أبي حامد الإسفرايني )
قال أبوالحسن : ( ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري وعلقه عنه أبو بكر الزاذقاني وهو عندي وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة حتى لو وافق قول الأشعري وجها لأصحابنا ميزة وقال : هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلا عن أصول الدين )
قلت : هذا المنقول عن الشيخ أبي حامد وأمثاله من أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه معروف في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها
وقد ذكر ذلك الشيخ أبو حامد و القاضي أبو الطيب و أبو إسحاق الشيرازي وغير واحد بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة لقول ابن كلاب و الأشعري في مسألة الكلام التي امتاز بها عن ابن كلاب و الأشعري عن غيرهما وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب و الأشعري بها اختصاص بل ما قاله قاله غيرهما إما من أهل السنة والحديث وإما من غيرهم بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام وأتبعه عليه الأشعري فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك حد ولا وافقه عليه من رؤوس الطوائف وأصله في ذلك مسألة الصفات الاختيارية ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته تعالى : هل تقوم بذاته أم لا ؟ فكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا والجهمية من المعتزلة وغيرهم ينكرون ذلك مطلقا فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به تعالى وما يتعلق بمشيئته وقدرته
ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه ك القلانسي و الأشعري ونحوهما بأن في أقوالهم بقايا من الاعتزال وهذه البقايا أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال
وقد ذكر الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب أنه طريق مبتدع في دين الرسل محرم عندهم وكذلك غير الأشعري ك الخطابي وأمثاله يذكرون ذلك لكن مع هذا من وافق ابن كلاب لا يرى بطلان هذه الطريقة عقلا وإن لم يقل : إن الدين محتاج إليها فلما رأى من رأى صحتها لزمه : إما قول ابن كلاب أو ما يضاهيه
وهذا الذي نقلوه - من إنكار أبي حامد وغيره على القاضي أبي بكر الباقلاني - هو بسبب هذا الأصل وجرى له بسبب ذلك أمور أخرى وقام عليه الشيخ أبو حامد و الشيخ أبو عبد الله بن حامد وغيرهما من العلماء من أهل العراق وخراسان والشام وأهل الحجاز ومصر مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على الزنادقة والملحدين وأهل البدع حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كلاب و الأشعري أجل منه ولا أحسن كتبا وتصنيفا وبسببه انتشر هذا القول وكان منتسبا إلى الإمام أحمد وأهل السنة وأهل الحديث والسلف مع انتسابه إلى مالك و الشافعي وغيرهما من الأئمة حتى كان يكتب في بعض أجوبته : محمد بن الطيب الحنبلي وكان بينه وبين أبي الحسن التميمي وأهل بيته وغيرهم من التميميين من الموالاة والمصافاة ما هو معروف كما تقدم ذكر ذلك ولهذا غلب على التميميين موافقته في أصوله ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام أحمد - و أبو بكر البيهقي موافق لابن البقلاني في أصوله - ذكر أبو بكر اعتقاد أحمد الذي صفنه أبو الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي وهو مشابه لأصول القاضي أبي بكر وقد حكى عنه : أنه كان إذا درس مسألة الكلام على أصول ابن كلاب و الأشعري يقول : ( هذا الذي ذكره أبو الحسن أشرحه لكم وأنا لم تتبين لي هذه المسألة ) فكان يحكى عنه الوقف فيها إذ له في عدة من المسائل قولان وأكثركما تنطق بذلك كتبه ومع هذا تكلم فيه أهل العلم وفي طريقته التي أصلها هذه المسألة مما يطول وصفه كما تكلم من قبل هؤلاء في ابن كلاب ومن وافقه حتى ذكر أبو إسماعيل الأنصاري قال : سمعت أحمد بن أبي رافع وخلقا يذكرون شدة أبي حامد - يعني الإسفرايني - على ابن الباقلاني قال : وأنا بلغت رسالة أبي سعد إلى ابنه سالم ببغداد : إن كنت تريد أن ترجع إلى هراة فلا تقرب الباقلاني قال : وسمعت الحسين بن أبي أمامة المالكي يقول : سمعت أبي يقول : لعن الله أبا ذر الهروي فإنه أول من حمل الكلام إلا الحرم وأول من بثه في المغاربة
قلت : أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به وكان قد قدم إلى بغداد من هراة فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم ك أبي نصر السجزي و أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين لما ليس هذا موضعه وهو ممن يرجح طريقة الصبغي و الثقفي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة ويدلهم على أصلها فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق كما رحل أبو الوليد الباجي فأخذ طريقة أبو جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي فأخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد
ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل وخيار الأمور أوساطها
وهذا لي مخصوصا بهؤلاء بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ( الحشر : 10 )
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه و سلم وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ( البقرة : 286 )
ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابا بعد اجتهاده وهو من البدع المخالفة للسنة فإنه يلزمه نظير ذلك أو وأعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين لكثرة الاشتباه والاضطراب وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب ويزول به عن القلوب الشك والارتياب ولهذا تجد كثيرا من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها فيقولون القول الموافق للسنة وينفون ما هو من لوازمه غير ظانين أنه من لوازمه ويقولون ما ينافيه غير ظانين أنه ينافيه ويقولون بملزومات القول المنافي ما أثبتوه من السنة وربما كفروا من خالفهم في القول المنافي وملزوماته فيكون مضمون قولهم : أن يقولوا قولا ويكفروا من يقوله وهذا يوجد لكثير منهم في الحال الواحد لعدم تفطنه لتناقض القولين ويوجد في الحالين لاختلاف نظره واجتهاده
وسبب ذلك ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة التي يظن الظان أنه لا يدخل فيها إلا الحق وقد دخل فيها الحق والباطل فمن لم ينقب عنها أو يستفصل المتكلم بها - كما كان السلف والأئمة يفعلون - صار متناقضا أ مبتدعا ضالا من حيث لا يشعر
وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة المبتدعة كلفظ الجسم والجوهر والعرض وحلول الحوادث ونحو ذلك كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم فإن البدعة لا تكون حقا محضا موافقا للسنة إذا لو كانت كذلك لم تكن باطلا ولا تكون باطلا محضا لا حق فيها إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس ولا كن تشتمل على حق وباطل فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل : إما مخطئا غالطا وإما متعمدا لنفاق فيه وإلحاد
كما قال تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم } ( التوبة : 47 ( فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالا ولكانوا يسعون بينهم مسرعين يطلبون لهم الفتنة وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم : إما لظن مخطىء أو لنوع من الهوى أو لمجموعهما فإن المؤمن إنمايدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ]
وقد أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } ( الفاتحة : 6 - 7 ) فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به والضالون عبدوا الله بلا علم
ولهذا نزه الله نبيه عن الأمرين بقوله { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى } ( النجم : 1 - 2 ) وقال تعالى : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } ( ص : 45 )
وهذا الذي تقدم ذكره - من إنكار أئمة العراقيين من أصحاب الشافعي قول ابن كلاب ومتبعيه في القرآن - هو معروف في كتبهم ومعلوم أنه ليس بعد الشافعي و ابن سريج مثل الشيخ أبي حامد الإسفرايني حتى ذكر أبو إسحاق في طبقات الفقهاء عن أبي الحسين القدوري : أنه كان يقول في الشيخ أبي حامد : إنه أنظر من الشافعي وهذا الكلام - وإن لم يكن مطابقا لمعناه لجلالة قدر الشافعي وعلو مرتبته - فلولا براعة أبي حامد ما قال فيه الشيخ أبو الحسين القدوري مثل هذا القول


كلام أبي حامد الإسفرايني في التعليق في أصول الفقه
وقد قال أبو حامد في كتاب التعليق في أصول الفقه : ( مسألة في أن الأمر أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به : اختلف الناس في الأمر : هل له صيغة تدل على كونه أمرا أم ليس له ذلك ؟ على ثلاثة مذاهب فذهب أئمة الفقهاء إلى أن الأمر له صيغة تدل بمجردها على كونه أمرا إذا عريت عن القرائن وذلك مثل قول القائل : افعل كذا وكذا وإذا وجد ذلك عاريا عن القرائن كان أمرا ولا يحتاج في كونه أمرا إلى قرينه
هذا مذهب الشافعي رحمه الله و مالك و أبي حنيفه و الأوزاعي وجماعة أهل العلم وهو قول البلخي من المعتزلة
وذهبت المعتزلة بأسرها - غير البلخي - إلى أن الأمر لا سيغة له ولا يدل اللفظ بمجرده على كونه أمرا وإنما يكون أمرا بقرينة تقترن به وهي الإرادة ثم اختلفوا في تلك الإرادة : فمنهم من قال : هي إرادة المأمور به فإذا قال : افعل وأراد بذلك إيجاد المأمور به صار أمرا وإذا عري عن ذلك لم يكن أمرا ومنهم من قال : يحتاج إلى إرادة شيئنين : إرادة المأمور به وإرادة كون اللفظ أمرا ومنهم من اعتبر إرادة ثلاثة أشياء ولسنا نتكلم معهم في هذا الفصل فإنه شيء يتفرع على مذاهبهم وإنما الخلاف بيننا وبينهم في الأصل وهو أن اللفظ هل يكون أمرا بصيغته أو بقرينة تقترن به ؟
وذهب الأشعري ومن تابعه إلى أن الأمر هو معنى قائم بنفس الآمر لا يفارق الذات ولا يزايلها وكذلك عنده سائر أقسام الكلام من النهي والخبر والاستخبار وغير ذلك كل هذه المعاني قائمة بالذات لا تزايلها كالقدرة والعلم وغير ذلك وسواء في هذا أمر الله تعالى وأمر الآدميين إلا أن أمر الله تعالى يختص بكونه قديما وأمر الآدمي محدث وهذه الألفاظ والأصوات ليست عندهم أمرا ولا نهيا وإنما هي عبارة عنه )
قال : ( وكان ابن كلاب عبد الله بن سعيد القطان يقول : هي حكاية عن الأمر وخالفه أبو الحسن الأشعري في ذلك فقال : لا يجوز أن يقال : ( إنها حكاية ) لأن الحكاية تحتاج إلى أن تكون مثل المحكي ولكن هو عبارة عن الأمر القائم بالنفس وتقرر مذهبهم على هذا فإذا كان هذا حقيقة مذهبهم فليس يتصور بيننا وبينهم خلاف في أن الأمر هل له صيغة أم لا فإنه إذا كان الأمر عندهم هو المعنى القائم بالنفس فذلك المعنى لا يقال : إن له صيغة أو ليست له صيغة وإنما يقال ذلك في الألفاظ ولكن يقع الخلاف في اللفظ الذي هو عندهم عبارة عن الأمر وعندنا أن هذا هو أمر وتدل صيغته على ذلك من غير قرينة وعندهم أنه لا يكون عبارة عن الأمر ولا دالا على ذلك بمجرد صيغته ولكنه يكون موقوفا على ما بينه الدليل فإن دل الدليل على أنه أريد به العبارة عن الأمر حمل عليه وأن دل الدليل على أنه أريد به العبارة عن غيره من التهديد والتعجيز والتحذير وغير ذلك حمل عليه إلا أننا نتكلم معهم في الجملة : أن هذا اللفظ هل يدل على الأمر من غير قرينة أم لا ) ؟ وبسط كلامه في هذه المسألة إلى آخرها
وهذا أيضا معروف عن أئمة الطريقة الخراسانية ومن متأخريهم أبو محمد الجويني والد أبي المعالي
وقد ذكر القاضي أبو القاسم بن عساكر في مناقبه ما ذكره عبد الغافر الفارسي في ترجمة أبي محمد الجويني ( قال : سمعت خالي أبا سعيد - يعني عبد الواحد بن أبي القاسم القشيري - يقول : كان أئمتنا في عصره والمحقوقون من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال الحيمدة أنه لو جاز أن يبعث الله نبيا في عصره لما كان إلا هو من حسن طريقته وورعه وزهده وديانته في كمال فضله )


كلام أبو محمد الجويني في عقيدة أصحاب الشافعي
قال أبو محمد في آخر كتاب صنفه سماه : ( عقيدة أصحاب الإمام المطلبي الشافعي وكافة أهل السنة والجماعة ) وقد نقل هذا عنه أبو القاسم بن عساكر فيكتابه الذي سماه تبيين كذب المفتري
( قال أبو محمد : ونعتقد أن المصيب من المجتهدين في الأصول والفروع واحد ويجب التعيين في الأصول فأما في الفروع فربما يتأتى التعيين وربما لا يتأتى ومذهب الشيخ أبي الحسن تصويب المجتهدين في الفروع وليس ذلك مذهب الشافعي و أبو الحسن أحد أصحاب الشافعي فإذا خالفه في شيء أعرضنا عنه فيه ومن هذا القبيل قوله : إنه لا صيغة للألفاظ أي الكلام وتقل وتعز مخالفته أصول الشافعي ونصوصه وربما نسب المبتدعون إليه ما هو بريء منه كما نسبوا إليه أنه يقول : ليس في المصحف قرآن ولا في القبر نبي وكذلك الاستثناء في الإيمان ونفي القدرة على الخلق في الأزل وتكفير العوام وإيجاب علم الدليل عليهم ) قال : ( وقد تصفحت ما تصفحت من كتبه فوجدتها كلها خلاف ما نسب إليه )
قلت : هذه المسأئل فيها كلام ليس هذا موضعه ولكن المقصود هنا : أنه جعل من القبيل الذي خالف فيه الشافعي وأعرض عنه فيه أصحابه : مسأل صيغ الألفاظ وهذه هي مسألة الكلام وقوله فيها هو قول ابن كلاب ( إن كلام الله معنى واحد قائم بنفس الله تعالى : إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وإن القرآن العربي لم يتكلم الله به بل وليس هو كلام الله وإنما خلقه في بعض الأجسام )
وجمهور الناس من أهل السنة وأهل البدعة يقولون : إن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار وإن معاني القرآن ليست هي معاني التوراة وليست معاني التوراة المعربة هي القرآن ولا القرآن إذا ترجم بالعبرية هو التوراة ولا حقيقة الأمر هي حقيقة الخبر
وإنما اضطر ابن كلاب و الأشعري ونحوهما إلى هذا الأصل : أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك وقد تبين لهم فساد قول من يقول : ( القرآن مخلوق ) ولا يجعل لله تعالى كلاما قائما بنفسه بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولا منفصلا عن المتكلم ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه بل إذا خلق الله شيئا من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل لا لله فإذا خلق في محل الحركة كان ذلك المحل هو المتحرك بها وكذلك إذا خلق فيه حياة كان ذلك المحل هي الحي بها وكذلك إذا خلق علما أو قدرة كان ذلك المحل هو العالم القادر بها فإذا خلق كلاما في غيره كان ذلك المحل هو المتكلم به
وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف مثل أهل الحديث والسنة ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم
ولازم هذا أن من قال : ( إن القرآن العربي مخلوق ) أن لا يكون القرآن العربي كلام الله بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه ومن قال ( إن لفظ الكلام يقع بالاشتراك على هذا وهذا ) تبطل حجته على المعتزلة فإن أصل الحجة أنه إا خلق كلاما في محل كان الكلام صفة لذلك المحل فإذا كان القرآن العربي كلاما مخلوقا في محل كان ذلك المحل هو المتكلم به ولم يكون كلام الله ولهذا قال من قال : ( لا يسمى كلاما إلا مجازا ) فرارا من أن يثبتوا كلاما حقيقيا قائما بغير المتكلم به فلما عظم شناعة الناس على هذا القول وكان تسمية هذا كلاما حقيقة معلوما بالاضطرار من اللغة أراد من ينصرهم أن يجعل لفظ الكلام مشتركا فأفسد الأصل الذي بنوا عليه قولهم
وبإنكار هذا الأصل استطال عليهم من يقول بخلق القرآن من المعتزلة والشيعة والخوارج ونحوهم فإن هؤلاء لما ناظرهم من سلك طريقة ابن كلاب - ومضمونها : أن الله لا يقدر على الكلام ولا يتكلم بما شاء ولا هو متكلم باختياره ومشيئته - طمع فيهم أولئك لأن جمهور الخلق يعلمون أن المتكلم يتكلم بمشيئته واختياره وهو قادر على الكلام وهو يتكلم بما يشاء
ولكن منشأ اضطراب الفريقين اشتراكهما في أنه لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته فلزم هؤلاء - إذا جعلوا يتكلم بإرادته وقدرته واختياره - أن يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه ولزم هؤلاء - إذا جعلوه غير مخلوق - أن لا يكون قادرا على الكلام ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بما يشاء
والمقصود هنا أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه كما قال الأئمة : كلام الله من الله ليس ببائن منه وقالوا : إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فقالوا : ( منه بدأ ) ردا على الجهمية الذين يقولون : بدأ من غيره ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } ( الزمر : 1 ) وقال تعالى : { ولكن حق القول مني } ( السجدة : 13 ) وأمثال ذلك
ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدورا له متعلقا بمشيئته بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا قالوا : والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة فأثبتوا معنى واحدا لم يمكنهم إثبات معان متعددة خوفا من إثبات ما لا نهاية له فاحتاجوا أن يقولوا ( معنى واحدا ) فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين بل جمهور العقلاء عليهم
وأنكر الناس عليهم أمورا : إثبات معنى واحد هو الأمر والخبر وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله وأن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن وأن الله لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بمشيئته واختياره وتكليمه لمن كلمه من خلقه كموسى وآدم ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم فالتكليم هو خلق الإدراك فقط
ثم منهم من يقول : السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع كما يقوله أبو الحسن ونحوه
ومنهم من يقول : إنه يسمع ذلك المعنى من القارىء مع صوته المسموع منه كما يقول ذلك طائفة أخرى
وجمهور العقلاء يقولون : إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم
وكذلك من قال : ( لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة وهو لا يقدر على التكلم بها ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل ) من أهل الحديث والفقهاء والكلام المنتسبين إلى السنة فجمهور العقلاء يقولون : إن قول هؤلاء أيضا معلوم الفساد بالضرورة وإنما ألجأهم إلى ذلك اعتقادهم أن الكلام لا يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته مع علمهم بأن الكلام يتضمن حروفا منظومة وصوتا مسموعا من المتكلم
وأما من قال : ( إن الصوت المسموع من القارىء قديم ) أو : ( يسمع منه صوت قديم ومحدث ) فهذا أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الكلام عليه
وكلام السلف والأئمة والعلماء في هذا الأصل كثير منتشر ليس هذا موضع استقصائه


دلالة القرآن على مسألة أفعال الله تعالى
وأما دلالة الكتاب والسنة على هذا الأصل فأكثر من أن تحصر وقد ذكر منها الإمام أحمد وغيره من العلماء في الرد على الجهمية ما جمعوه كما ذكر الخلال في كتاب السنة قال : ( أخبرنا المروزي قال : هذا ما جمعه واحتج به أبو عبد الله على الجهمية من القرآن وكتبه بخطه وكتبته من كتابه فذكر المروزي آيات كثيرة دون ما ذكر الخضر بن أحمد بن عبد الله بن أحمد وقال فيه : سمعت أبا عبد الله يقول : في القرآن عليهم من الحجج في غير موضع - يعني الجهمية -
قال الخلال : وأنبأنا الخضر بن أحمد المثنى الكندي سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : وجدت هذا الكتاب بخط أبي فيما احتج به على الجهمية وقد ألف الآيات إلى الآيات في السور فذكر آيات كثيرة تدل على هذا الأصل مثل قوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ( البقرة : 186 ) وقوله تعالى : { بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ( البقرة : 117 ) وقوله { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة } ( البقرة : 174 ) وقوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ( المجادلة : 1 ) وقوله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ( آل عمران : 181 ) وقوله تعالى : { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } إلى قوله تعالى - { كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ( آل عمران 45 - 47 ) وقوله تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } ( آل عمران : 59 ) وقول تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } ( آل عمران : 77 ) وقوله تعالى { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك } ( الأنعام : 73 ) { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء : 164 ) وقوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ( الأعراف : 143 ) { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون } ( يونس : 19 ) { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب } ( هود : 110 ) { ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم } ( الشورى : 21 ) { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } ( هود : 119 ) { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } ( يوسف : 3 ) وقوله : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } ( الكهف : 109 ) وقال تعالى : { فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ( طه : 11 - 14 ) إلى قوله : - { إنني معكما أسمع وأرى } ( طه : 46 ) { وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني } ( طه : 39 ) { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى } ( طه : 129 ) { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم } ( الأنبياء : 83 - 84 ) وقوله : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } ( الأنبياء : 87 - 88 ) قوله { وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } ( الأنبياء : 88 - 89 ) وقوله { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا } ( الفرقان : 59 ) وقوله : { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها } ( النمل : 80 ) وقوله : { فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } ( القصص : 30 ) وقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 88 ) وقوله تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } ( الصافات : 171 - 173 ) وقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ( الزمر : 67 ) وقول تعالى : { هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ( غافر : 68 ) { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } ( غافر : 60 ) { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب } ( الشورى : 14 ) { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } ( الشورى : 51 ) وقوله تعالى : { فلما آسفونا انتقمنا منهم } ( الزخرف : 55 ) وقوله : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } ( المجادلة : 1 )
قلت : وفي القرآن مواضع كثيرة تدل على هذا الأصل كقوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } ( البقرة : 29 ) وقوله : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } إلى قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } ( فصلت : 9 - 11 ) وقوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } ( البقرة : 210 ) وقوله : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } ( الأنعام : 158 ) وقوله : { وجاء ربك والملك صفا } ( الفجر : 22 ) وقوله تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة : 105 ) وقوله : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ( يونس : 14 ) وقوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } ( الأعراف : 54 ) في غير موضع في القرآن وقوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) وقوله تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } ( الإسراء : 16 ) وقوله تعالى : { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } ( الرعد : 11 ) وقوله تعالى : { كل يوم هو في شأن } ( الرحمن : 29 ) وقوله تعالى : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } ( القصص : 65 ) وقوه تعالى : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } ( القصص : 62 ) { وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين } ( الشعراء : 10 ) { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } ( الأعراف : 22 ) وقوله تعالى : { قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون } ( الشعراء : 15 ) وقوله : { سلام قولا من رب رحيم } ( يس : 58 ) وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } ( الزمر : 23 ) وقوله : { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } ( الجاثية : 6 ) وقوله : { فبأي حديث بعده يؤمنون } ( المرسلات : 50 ) وقوله : { ومن أصدق من الله حديثا } ( النساء : 87 )
وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى بل يدخل في ذلك عامة ما أخبر الله به من أفعاله لا سيما المرتبة كقوله تعالى : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } ( الضحى : 5 ) وقوله : { فسنيسره لليسرى } ( الليل : 10 ) وقوله : { إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } ( الغاشية : 25 - 26 ) وقوله : { إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه } ( القيامة : 17 - 19 ) وقوله : { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ( الانشقاق : 8 ) وقوله : { أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا } ( عبس : 25 - 26 ) وقوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } ( الروم : 27 ) وقوله { ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين } ( المراسلات : 16 - 17 ) ونحو ذلك
لكن الاستدلال بمثل هذا مبني على أن الفعل ليس هو المفعول والخلق ليس هو المخلوق وهو قول جمهور الناس على اختلاف أصنافهم وقد قرر هذا في غير هذا الموضع
ثم هؤلاء على قولين : منهم من يقول : إن الفعل قديم لازم للذات لا يتعلق بمشيئته وقدرته ومنهم من يقول : يتعلق بمشيئته وقدرته وإن قيل إن نوعه قديم فهؤلاء يحتجون بما هو الظاهر المفهوم من النصوص
وإذا تأول من ينازعهم أن المتجدد إنما هو المفعول المخلوق فقط من غير تجدد فعل كان هذا بمنزلة من يتأول نصوص الإرادة والحب والبغض والرضا والسخط على أن المتجدد ليس أيضا إلا المخلوقات التي تراد وتحب وترضى وتسخط وكذلك نصوص القول والكلام والحديث ونحو ذلك : على أن المتجدد ليس إلا إدراك الخلق لذلك وتأويل الإتيان والمجيء على أن المتجدد ليس إلا مخلوقا من المخلوقات
فهذه التأويلات كلها من نمط واحد ولا نزاع بين الناس أنها خلاف المفهوم الظاهر الذي دل عليه القرآن والحديث
ثم ملاحدة الباطنية يقولون : إن الرسل أرادو إفهام الناس ما يتخيلونه وإن لم يكن مطابقا للخارج ويجعلون ذلك بمنزلة ما يراه النائم فتفسير القرآن عندهم يشبه تعبير الرؤيا التي لا يفهم تعبيرها من ظاهرها كرؤيا يوسف والملك بخلاف الرؤيا التي يكون ظاهرها مطابقا لباطنها
وأما المسلمون من أهل الكلام النفاة فهم وإن كانوا يكفرون من يقول بهذا فإما أن يتأولوا تأويلات يعلم بالضرورة أن الرسول لم يردها وإما أن يقولوا : ما ندري ما أراد فهم إما في جهل بسيط أو مركب ومدار هؤلاء كلهم على أن العقل عارض ما دلت عليه النصوص
وقد بين أهل الإثبات أن العقل مطابق موافق لما أخبرت به النصوص ودلت عليه لا معارض له لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن والسنة فيهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك ومن عرف حقيقة قول النفاة علم أن القرآن مناقض لذلك مناقضة لا حيلة لهم فيها وأن القرآن يثبت ما يقدر الله عليه ويشاؤه من أفعاله التي ليست هي نفس المخلوقات وغير أفعاله ولولا ما وقع في كلام الناس من الالتباس والإجمال لما كان يحتاج أن يقال : الأفعال مفعول ليس هو نفس المفعول ولكن النفاة عندهم أن المخلوقات هي نفس فعل الله ليس له فعل عندهم إلا نفس المخلوقات فلهذا احتيج إلى البيان
ومما يدل على هذا الأصل ما علق بشرط كقوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } ( الطلاق : 2 - 3 ) وقوله : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ( آل عمران : 31 ) وقوله : { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } ( الأنفال : 29 ) وقوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ( الطلاق : 1 ) وقوله تعالى : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } ( الكهف : 23 - 24 ) وقوله تعالى : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } ( محمد : 28 )
وفي الجملة هذا في كتاب الله أكثر من أن يحصر


دلالة السنة على أفعال الله تعالى
وكذلك في الأحاديث المستفيضة الصحيحة المتلقاة بالقبول كقوله صلى الله عليه و سلم فيما يروى عن ربه [ ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ] وقوله : [ أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ ] وقوله في حديث الشفاعة : [ إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ] وقوله : [ إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات كجر السلسة على الصفا ] وقوله : [ إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث : أن لا تكلموا في الصلاة ] وقوله في حديث التجلي : [ فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ] وقوله : [ لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فنام تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته ] وهذا الحديث مستفيض عن النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيحين من غير وجه من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأنس وغيرهم
وقوله : [ يضحك الله إلى رجلين أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة ] وفي حديث آخر من يدخل الجنة [ قال : فيضحك الله منه ] وقوله [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان ] وفي حديث [ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد : { الحمد لله رب العالمين } قال الله : حمدني عبدي فإذا قال : { الرحمن الرحيم } قال : أثنى علي عبدي فإذا قال : مالك يوم الدين قال مجدني عبدي ] وقوله صلى الله عليه و سلم [ يقول الله تعالى : من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ] وقوله صلى الله عليه و سلم [ ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا شطر الليل أو ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ]
وقوله صلى الله عليه و سلم في حديث الأنصاري الذي أضاف رجلا وآثره على نفسه وأهله فلما أصبح الرجل غدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ لقد ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما ] وأنزل الله تبارك وتعالى { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ( الحشر : 9 ) وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين
وفي السنن من حديث علي عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث الركوب على الدابة قال : فقلت [ يا رسول الله من أي شيء تضحك ؟ قال : ربك يضحك إلى عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت قال : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ] وفي لفظ : [ إن ربك ليعجب من عبده إذا قال : رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري ] وفي حديث أبي رزين عنه صلى الله عليه و سلم قال : [ ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين : أو يضحك الرب ؟ قال نعم فقال لن نعدم من رب يضحك خيرا ]
وفي الصحيحين وغيرهما - في حديث التجلي الطويل المشهور الذي روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة - فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وفي مسلم من حديث جابر ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وغيره قال في حديث أبي هريرة [ قال : أو لست قد أعطيت العهود والمواثيق : أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ! فيضحك الله تبارك وتعالى منه ثم يأذن له في دخول الجنة ]
وفي صحيح مسلم [ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يا ابن آدم أترضى أن أعطيك الدنيا ومثلها معها ؟ فيقول : أي رب أتستهزىء بي وأنت رب العالمين ؟ وضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ألا تسألوني : مم ضحكت ؟ فقالوا : مم ضحكت يا رسول الله ؟ فقال : من ضحك رب العالمين حين قال : أتستهزىء بي وأنت رب العالمين ؟ فيقول : إني لا أستهزىء بك ولكني على ما أشاء قادر ]
وفي لصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : يقتل هذا فيلج الجنة ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد ]
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه و سلم قال [ عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل ]
وفي حديث معروف : [ لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا تبشبش الله به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته ]
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أيضا أنه قال : [ الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ] - وفي لفظ : [ مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ]
وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن الله لا ينظر صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ]
وفي الصحيحين عن أبي واقد الليثي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان قاعدا في أصحابه إذ جاء ثلاثة نفر فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس وأما رجل فجلس يعني خلفهم وأما رجل فانطلق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم عن هؤلاء النفر ؟ أما الرجل الذي جلس في الحلقة فرجل أوى إلى الله فآواه الله وأما الرجل الذي جلس خلف الحلقة فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الرجل الذي انطلق فأعرض فأعرض الله عنه ]
وعن سلمان الفارسي موقوفا ومرفوعا قال : [ إن الله يستحي أن يبسط العبد يديه إليه يسأله فيهما خيرا فيردهما صفرا خائبتين ]
وفي الصحيح عنه فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى [ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ]
وفي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة : إنا لنكره الموت ؟ قال : ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وسخطه فكره لقاء الله وكره الله لقاء ]
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله ]
وفي الصحيحين عن أبي سعيد [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك وسعديك فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول عز و جل : أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ]
وفي الصحيحين عن أنس قال : أنزل علينا - ثم كان من النسوخ - : أبلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا
وفي حديث [ عمرو بن مالك الرواسي قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله ارض عني قال : فأعرض عني ثلاثا قال : قلت : يا رسول الله إن الرب ليرضى فيرضى فارض عني فرضي عني ]
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ]
وفي الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله وهو حينئذ يشير إلى رباعيته ]
وقال : [ اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله ]
وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال : يا رب ذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول : يا رب أجله فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك فيقول : يا رب رزقه ؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك الصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص ]
وفي الصحيح [ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجوده أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ]
وفي حديث آخر : [ أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ] وفي الصحيحين عن أنس في حديث الشفاعة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول لي : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع ] وذكر مثل هذا ثلاث مرات
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي ؟ قالوا : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ]
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن لله ملائكة سيارة فضلا عن كتاب الناس سياحين في الأرض فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا : هلموا إلى حاجتكم قال : فيجيئون حتى يحفون بهم إلى السماء الدنيا قال : فيقول الله عز و جل : أي شيء تركتم عبادي يصنعون ؟ قال : فيقولون : تركناهم يحمدونك ويسبحونك ويمجدونك قال : فيقول : هل رأوني ؟ قال : فيقولون : لا قال : كيف لو رأوني ؟ قال : فيقولون : لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا وأشد ذكرا قال : فيقول : فأي شيء يطلبون ؟ قالوا يطلبون الجنة قال : فيقول : وهل رأوها ؟ قال : فيقولون : لا قال : فيقول : كيف لو رأوها ؟ قال : فيقولون : لو رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا قال : فيقول : من أي شيء يتعوذون ؟ قال : فيقولون : يتعوذون من النار قال : فيقول : وهل رأوها ؟ قال : فيقولون : لا قال : فيقول : كيف لو رأوها ؟ قال : فيقولون : لو رأوها كانوا أشد منها تعوذا وأشد منها هربا قال : فيقول : إني أشهدكم أني قد غفرت لهم قال فيقولون : إن فيهم فلانا الخطاء لم يردهم إنما جاء في حاجة قال : فيقول : هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ]
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانا فأحبه قال : فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ] وقال في البغض مثل ذلك
وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال : [ يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن اقترب إلي شبرا اقتربت له ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد : أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما جلس قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن رجلا أصاب ذنبا فقال : رب إني قد أصبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فقال : أي رب إني قد أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه : علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليعمل ما يشاء ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقبض الله الأرض ويطوى السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ ]
وفي الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الرؤية قال فيه : [ فيلقى العبد فيقول : أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى يا رب قال : فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا فيقول : إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول : أي فل - فذكر مثل ما قال الأول - ويلقى الثالث فيقول : آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال : فيقول : فههنا إذن قال : ثم يقال : ألا نبعث شاهدنا عليك ؟ فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه : انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ما كان ذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق ] وذكر الحديث
وفي صحيح مسلم [ عن أنس قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فضحك قال : هل تدرون مم أضحك ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلى قال : فيقول : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : فيقول : فكفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال : فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي بأعماله فتنطق بأعماله قال : ثم يخلي بينه وبين الكلام قال : فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ]
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة : لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم فيقول له : قد أردت منك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم : أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك ]
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول : عملت كذا وكذا ؟ فيقول : نعم يارب فيقرره ثم يقول : قد سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم قال : ثم يعطى كتاب حسناته وهو قوله : { هاؤم اقرؤوا كتابيه } وأما الكفار والمنافقون فينادون : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ]
وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله يوم القيامة : يا ابن آدم مرضت فلم تعدني فيقول : يا رب كيف أعدك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ويقول : يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني فيقول : أي رب وكيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ فيقول تبارك وتعالى : أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه ؟ أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي ؟ قال : ويقول : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني فيقول : أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه ؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ]
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى ؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قال : فيقولون : يارب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ] وهذا فيه ذكر المخاطبة وذكر الرضوان جميعا
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا من النار : رجل يخرج حبوا فيقول له ربه : ادخل الجنة فيقول : إن الجنة ملأى فيقول له ذلك ثلاث مرات كل ذلك يعيد : الجنة ملأى فيقول : إن لك مثل الدنيا عشر مرات ]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف على يمين على مال امرئ مسلم فاقتطعه ورجل حلف على يمين بعد العصر : أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب ورجل منع فضل ماء يقول الله اليوم أمنعك من فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ]
وفي صحيح مسلم [ عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال : فقرأها رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات فقال أبو ذر : خابوا وخسروا من هم يارسول الله ؟ قال : المسبل إزاره والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ]
وهذا الحديثان فيهما نفي التكليم والنظر عن بعض الناس كما نفى القرآن مثل ذلك وأما نفي التكليم وحده ففي غير حديث
وهذا الباب في الأحاديث كثير جدا يتعذر استقصاؤه ولكن نبهنا ببعضه على نوعه والأحاديث جاءت في هذا الباب كما جاءت الآيات مع زيادة تفسير في الحديث كما أن أحاديث الأحكام تجيء موافقة لكتاب الله مع تفسيرها لمجمله ومع ما فيها من الزيادات التي لا تعارض القرآن فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهم من آيات الله والحكمة وامتن على المؤمنين بأن بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته وزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة و [ قال النبي صلى الله عيه وسلم : ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ] وفي رواية : [ ألا إنه مثل القرآن أو أكثر ]
فالحكمة التي أنزلها الله عليه مع القرآن وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن من أنواع الخبر والأمر فخبره موافق لخبر الله وأمره موافق لأمر الله فكما أنه يأمر بما في الكتاب أو بما هو تفسير ما في الكتاب وبما لم يذكر بعينه في الكتاب فهو أيضا يخبر بما في الكتاب وبما هو تفسير ما في الكتاب وبما لم يذكر بعينه في الكتاب فجاءت أخباره في هذا الباب يذكر فيها أفعال الرب : كخلقه ورزقه وعدله وإحسانه وإثابته ومعاقبته ويذكر فيها أنواع كلامه وتكليمه لملائكته وأنبيائه وغيرهم من عباده ويذكر فيها ما يذكره من رضاه وسخطه وحبه وبغضه وفرحه وضحكه وغير ذلك من الأمور التي تدخل في هذا الباب
والناس في هذا الباب ثلاثة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق