الخميس، 3 ديسمبر 2020

درأ تعارض العقل والنقل لابن تيمية ج [ 3



http://www.shamela.ws
تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
[ درء التعارض - ابن تيمية ]
الكتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
الناشر : دار الكنوز الأدبية - الرياض ، 1391
تحقيق : محمد رشاد سالم
عدد الأجزاء : 10
الوجه الرابع
أن يقال : معلوم أنه لولا وجود الفاعل لكانت معدومة بنفسها ولم يكن عدمها معلول علة منفصلة عنها
وقول القائل : علة العدم عدم العلة : إن أراد به أن عدم العلة يستلزم عدمها ويدل عليه فهذا صحيح وإن أراد أن نفس عدم العلة هو الذي جعل المعلول معدوما ن فهذا معلوم البطلان بصريح العقل فإن العدم المحض لا يكون له تأثير في شيء أصلا ولأن ما لا يوجد إلا بغيره إذا لم يوجد الغير فهو باق على العدم مستمر على ما كان عليه والعدم المستمر الباقي لا يكون له علة أصلا ولو قدر أن لكل معدوم علة لعدمه للزم تقدير علل لا تتناهى لأن ما يقدر عدمه لا يتناهى وكل هذا باطل فإن العدم نفي محض ليس بشيء أصلا حتى يقدر فيه علل ومعلولات
وإذا كان كذلك فالممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا إذا قدر وجوده وإلا فمع تقدير عدمه لا يفتقر إلى شيء أصلا فإذا قدر وجوده واجبا بغيره وجوبا قديما أزليا لم يكن هناك ما يقبل العدم ولا يمكن أن يقرن بذاته شرط عدم علته
وهذا الاعتراض يمكن إيراده على قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره فهو إما واجب وإما ممكن
فيقال إن قيل بأن الذات هي نفس الوجود المحقق في الخارج فذاك إذا قيل ليس له حقيقة بدون الوجود بنفسه فإذا نظر إليه مجردا عن غيره بطلب حقيقته وكان نفيا محضا لم يكن له حقيقة بيلتفت القلب إيها ألبته
وإن قيل إن له ذاتا مغايرة للوجود فتلك الذات سواء قدر إمكان تحققها دون الوجود كما يقوله من يقول : المعدوم شيء أو فرض انه لا يمكن تحققها بدون الوجود فعلى التقديرين إذا التفت إليه من غير التفات إلى غيرها لم تكن موجودة بل معدومة وانت قد فرضتها موجودة فهذا جمع النقيضين
وأيضا فهي مع عدم الالتفات إلى غيرها ممتنعة الوجود لا جائزة الوجود فما يمكن وجوده إذا التفت إليه من غير التفات إلى ما يقتضى وجوده كان ممتنع الوجود ن سواء فرض عدم ما يوجده او لم يفرض : لا وجوده ولا عدمه فهو لا يكون موجودا إلا مع ما يوجده فإذا التفت إليه مجردا عما يوجده امتنع وجوده
وإن قال القائل فرق بين التفات إليه بشرط لا أولا بشرط أو قال بشرط عدم الموجد أولا بشرط وجوده فإنه ممتنع في الأول وممكن في الثاني
قيل له : بل هو ممتنع ف يالقسمين فإذا أخذ لا بشرط كان ممتنع الوجود وكذلك إذا أخذ لا مع وجود الفاعل وذلك أنه لا يمكن وجوده إلا بالفاعل ووجوده بدون الفاعل ممتنع فإذا التفت إليه لا مع لازم وجوده كان وجوده ممتنعا والممتنع أعم من أن يكون ممتنعا بنفسه أو بغيره كما أن الموجود أعم من أن يكون موجودا بنفسه او بغيره والامتناع لا يفتقر إلى أنيقترن به شرط وهو عدم علته بل إذا لم يقترن به سبب وجوده كان ممتنعا والعقل يعقل امتناعه بدون ما يوجده وإن لم يخطر له أنه قرن به عدم علته فهو في تجرده عن الاقتران بما يوجده ممتنع كما هو في الاقتران فعدم العلة ممتنع
يبين ذلك أن عدم العلة لا شيء فاقترانه بعدم العلة اقتران بعدم محض فلم تختلف حاله بين تقدير عدم هذا الاقتران وانتفائه إلا إذا قرن به ما يقتضي وجوده وإلا فهو بدون القرين المقتضي لوجوده ممتنع معدوم وسبب هذا ان هذا الاقتران ليس هو الموجب لعدمه في نفس الأمر بل هو دليل على العدم والأدلة تتعدد والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول إلا إذا كان ملازما فالشيء إذا اخذ مع ضده كان ممتنعا ومع عدم فاعله كان ممتنعا وكل من الأمرين يدل على امتنعه وكذلك إذا أخذ بدون شرطه كان ممتنعا وبدون لازمه كان ممتنعا والمقتضى الممكن ألزم اللوازم له وأعظم الشروط ولا فرق بين أن يقدر مع انتفاء اللازم أو يقدر لا مع ثبوت اللازم فالأمر سواء هو في كليهما ممتنع إلا مع اللازم فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ولهذا كل ما يقدر في الخارج فإما واجب بنفسه او بغيره وإما ممتنع بنفسه أو بغيره
فإذا قيل : هو باعتبار نفسه لا واجب ولا ممتنع
قيل : ليس في الخارج شيء لا واجب ولا ممتنع وإنما ذاك شيء يقدر ف يالذهن فيقدر في الذهن ذات يمكن وجودها وعدمها وانت لم تتكلم فيما يقدر في الأذهان بل قلت : كل موجود فجعلت التقسيم واردا على الأمور الموجودة ف يالخارج وتلك إما موجودة بنفسها وإما بغيرها وليس فيها ما يمكن الالتفات إليه مع كونه غير موجود إلا إذا كان في الذهن مع أنه في الذهن موجودا ذهنيا
الوجه الخامس
قوله إن قرن باعتبار ذاته واجبا أو ممتنعا وغن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث وهو الإمكان فيكون باعتبار ذاته الشيء الذي لا يجب ولا يمتنع
فيقال هذا التقسيم يتضمن رفع النقيضين فإنه لا بد أن يقترن بها حصول العلة أو عدمها 0 لا يمكن رفع النقيضين جميعا وهو حصول العلة وعدمها معا فالتقدير المقابل لهذين وهو أن لا يقترن بها حصول العلة ولا عدمها فهو تقدير سلب النقيضين وهو رفع وجود العلة وعدمها معا وهذا ممتنع
وحينئذ فلا يثبت الإمكان إلا علىى تقدير ممتنع وما لا يثبت إلا على تقدير ممتنع فهو ممتنع فيكون الإمكان الذي أثبتوه وهو أنه لا يجب ولا يمتنع لا يحصل إلا بتقدير ممتنع وهو رفع النقيضين فيكون ممتنعا وهذا يوضح أن هذا الإمكان أمر لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل الإمكان إلا في شيء يكون موجودا تارة معدوما أخرى 0 واما ما يكون موجودا لا يقبل العدم ألبتة فليس بممكن 0 كما أن المعدوم الذي لا يقبل الوجود البتة ليس بممكن مثل نقيض صفات كمال الباري فإن العجز والجهل ونحو ذلك أمور معدومة له لا تقبل الوجود ألبتة كما ان حياته وقدرته وعلمه من لوازم ذاته لا تقبل العدم ألبتة بل يجب وجودها ويمتنع عدمها وليست من الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يبين هذا
الوجه السادس
وهو قوله وإن لم يقترن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها بقي له من ذاته الأمر الثالث
يقتضي أن هذا الأمر الثالث إنما يكون له من ذاته إذا لم يقرن بها احد الأمرين ومعلوم أنه لا بد ان يقرن بها أحد الأمرين فإذا لم يكن لها الإمكان إلا في حال تجردها عن الاقتران وهي لا تتجرد عن الاقتران لم يكن لها من ذاتها إمكان أصلا فإنه جعل ما لا يمكن عدمه واجبا سواء كان واجبا بنفسه او بغيره وما كان واجبا لم يكن ممكنا وإنما يكون ممكنا إذا لم يقرن به لا سبب وجوده ولا سبب عدمه يقرر هذا
الوجه السابع
وهو أن هذا الكلام يقتضي أنها في حال اقرانها بشرط حصول العلة واجبة ليس لها من ذاتها افمكان والتقدير أنها موجودة وان الموجود إما واجب وإما ممكن وفي حال وجودها قد اقترن بها حصول العلة فلا يكون في حال وجودها لها من ذاتها الإمكان
وحينئذ فوصفها بالإمكان في حال الوجود الواجب ممتنع فبطل تقسيم الوجود الواجب إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار بخلاف تقسيم من قسمه إلى واجب وممكن وفسر الممكن بما يوصف بالوجود تارة والعدم أخرى فيكون تارة موجودا وتارة معدوما فإن تقسيم الوجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا منافاة فيه فإنها توصف بالإمكان حال عدمها لأنه يمكن وجودها وتوصف به في حال وجودها لأنه أمكن وجودها كما امكن عدمها
الوجه الثامن
أن قول القائل له من ذاته الإمكان أو ان ذاته تقبل الوجود والعدم ونحو ذلك
يقال له هذه الذات هي من حيث هي ذات مع قطع النظر عن وجودها كما فرضتم ذلك هي واجبة أو ممكنة او ممكتنعة فإن كانت واجبة أو ممتنعة بطل كونها ممكنة وإن كانت ممكنة فلا تكون ذاتا إلا آخر يجعلها ذاتا كما أنها لا تكون موجودة إلا بامر آخر يجعلها موجودة 0 بل قياس ما ذكروه أنه لا يثبت كونها ذاتا إلا بسبب ولا ينتفى كونها ذاتا إلا بسبب وهذا يفضي إلى التسلسل لأن القول فيما يوصف بكونه ذاتا كالقول فيما يوصف بكونه موجودا
الوجه التاسع
أنه إذا كانت تلك الحقيقة والذات مفتقرة في كونها حقيقة وذاتا إلى سبب فلا سبب إلا واجب الوجود وواجب الوجود يمتنع ان يجعلها حقيقة مع كونها معدومة فلا يجعلها ذاتا وحقيقة إلا مع كونها موجودة 0 وحينئذ فإذا كان وجودها واجبا به فحقيقتها واجبة به فلا تكون قابلة للعدم كما أن نفس الوجود لا يكون قابلا للعدم لما فيه من الجمع بين النقيضين
الوجه العاشر
أنه إذا قدر أن واجب الوجود لم يجعل حقيقتها 0 وهي لا تكون لها حقيقة إلا بسبب لم يكن هناك حقيقة تقبل الوجود والعدم
الوجه الحادي عشر
قوله كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره الخ
يقال نحن إذا التفتنا إلى السماء او غيرها من الموجودات من غير التفات إلى غيرها لم نعقل إلا تلك العين الموجودة فإذا قدرنا انه لا يجب لها الوجود من نفسها لم تكن موجودة إلا بموجد يوجدها فنحن نعقل ان الشيء إما موجود بنفسه وإما موجود بغيره وإذا قسم الوجود إلى موجود بنفسه وموجود بغيره وسمي هذا ممكنا كان هذا تقسيما صحيحا وهو كتقسيمه إلى مفعول وغير مفعول ومخلوق وغير وخلوق 0 اما كون هذا الممكن له ذات وليس له من تلك الذات وجود ولا عدم فهذا غير معقول في شيء من الموجودات بل المعقول انه ليس في الممكن من نفسه وجود أصلا ولا تحقق ولا ذات ولا شيء من الأشياء
وإذا قلنا ليس له من ذاته وجود فليس معناه أنه في الخارج له ذات ليس له منها وجود بل معناه أنا نتصور ذاتا في أنفسنا ونتصور أن تلك الذات لا توجد في الخارج إلا بمبدع يبدعها فالحقائق المتصورة في الأذهان لا توجد في الأعيان إلا بمبدع يبدعها في الخارج لا أنه في الخارج لها ذات ثابتة في الخارج تقبل الوجود في الخارج والعدم في الخارج فإن هذا باطل
وإذا كان كذلك وعلمنا أن كل موجود فإما موجود بنفسه وهو الخالق أو موجود بغيره وهو المصنوع المفعول والمصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم بل الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا محدثا مسبوقا بالعدم عند عامة العقلاء ولو قدر أنا لم نعرف هذا فتسمية ما وجوده بنفسه ووجود غيره منه خالقا
وتسمية ما أبدعه غيره مخلوقا أحسن وأبين من تسمية هذا ممكنا إذا الممكن لا يوصف به في العادة إلا المعدوم الذي يمكن أن يوجد وأن لا يوجد وأما وجد فقد خرج عن افمكان إلى الوجوب بالغير فالمعروف في فطر الناس أن ما مضى وجود وعدم لا يسمونه ممكنا وإنما يسمون بالممكن شيئا يمكن وجوده في المستقبل وعدمه في المستقبل
ثم إذا عرف أن كل ما سوى الوجود بنفسه فهو مفعول مصنوع له علم أن المصنوع المفعول لا يكون إلا محدثا كما قد بسط في موضعه وهذه الاعتراضات ليست اعتراضات على إثبات واجب الوجود فإنه حق لكن على هذا الطريق الذي سلكه حيث أثبت ذاتا ممكنة مع كونها عنده قديمة أزلية ولا يحتاج إثبات واجب الوجود إلى هذا في هذه الطريق
بل إذا قيل كل موجود فإما موجود بنفسه وإما موجود بغيره والموجود بغيره لا يوجد إلا بالموجود بنفسه ثبت وجود الموجود بنفسه وإذا سمي هذا واجبا وهذا ممكنا كان ذلك أمرا لفظيا 0 لكن المقصود أنه لا يثبت واجب الوجود بما يدعي أنه ذات تقبل الوجود والعدم وهؤي مع ذلك قديمة أزلية واجبة فالواجب لا يقبل العدم بحال والله أعلم
وهذه الأمور التي ذكرناها في هذا الموضع عامة النفع ويحتاج إليها في هذا الموضع وغيره لما في القلوب من الأمراض ولكن خرجنا إليها من الكلام على المسالك التي سلكها أبو عبد الله الرازي في حدوث العالم والأجسام ن وذكرنا كلام الآمدي على تلك المسالك فحصل هذا في الكلام على المسلك الأول
فصل تقرير الآمدي للمسلك الثاني
وأما المسلك الثاني فمسلك افتقار الاختصاص إلى مخصص فقرره الآمدي من وجهين
الوجه الأول
أحدهما ما ذكره الرازي ثم زيفه
قال الآمدي المسلك الثاني هو أن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها وكل ما كان كذلك فهو محدث فالعالم محدث
أما المقدمة الأولى فقد انتهج الأصحاب فيها طريقين الأول انهم قالوا كل جسم من أجسام العالم فهو متناه وكل متناه فله شكل معين ومقدار معين وحيز معين
أما المقدمة الأولى فلما سبق تقريره وأما المقدمة الثانية فلأن كل جسم متناه فلا بد له من مقدار معين وأن يحيط به حد واحد كالكري أو حدود كالمضلع وهو المعني بالشكل وأن يكون في حيز بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه ههنا أو هناك
وهذا كله معلوم بالضرورة وكل ماله شكل ومقدار وحيز معين فلا بد له من مخصص يخصصه به
وبرهانه أنه ما من جسم إلا ويعلم بالضرورة أنه يجوز أن يكون على مقدار أكبر أو أصغر مما هو عليه أو شكل غير شكله وحيز غير حيزه إما متيامنا عنه أو متياسرا وإذا كان كذلك فلا بد له من مخصص بما يخصص به وإلا كان أحد الجائزين واقعا من غير مخصص وهو محال
الطريق الثاني أن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة أو مجتمعة ومتفرقة معا أو لا مجتمعة ولا متفرقة أو البعض مجتمعا والبعض متفرقا لا جائز أن يقال بالاجتماع والافتراق معا ولا أنها غير مجتمعة ولا مفترقة معا إذ هو ظاهر الإحالة فلم يبق إلا أحد الأقسام الأخر وأي قسم منها قدر أمكن في العقل فرض الأجسام على خلافه فيكون ذلك جائزا لها ن ولا بد لها من مخصص يخصصها به لما تقدم في الطريق الأول
وأما بيان المقدمة الثانية وهو أن كل مفتقر إلى المخصص محدث فهو أن المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا وأن يكون ما يخصصه حادثا لما تقدم في المسلك الأول يعني مسلك الإمكان فإنه قدمه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره فيه وإذا ثبت أن أجزاء العالم من الجواهر والأجسام لا تخلو عن الحادث فتكون حادثة فإذا كانت أجزاء العالم من الجواهر والأجسام حادثة فالأعراض كلها حادثة ضرورة عدم قيامها بغير الجواهر والأجسام والعالم لا يخرج عن الجواهر والأعراض فيكون حادثا
قال الآمدي وهذا المسلك ضعيف أيضا إذ لقائل أن يقول المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث ممنوعة وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق من المسلك الأول وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق في بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه
تعليق ابن تيمية على كلام الآمدي
قلت هذا المسلك أضعف من مسألة الحركة والسكون فإن هذا يفتقر إلى ما يفتقر إليه ذاك من غير عكس إذ كلاهما مفتقر إلى بيان امتناع حوادث متعاقبة وقد عرف ما فيه 0 وهذا يزيد باحتياجه إلى بيان أن الجسم لا يخلو عن صفات حادثة غير الحركة والسكون وهذا يخالف فيه جمهور العقلاء وهذا مبني على مقدمات على أنه لا بد من قدر أو اجتماع أو افتراق وان ذلك لا يكون إلا بمخصص وأن كل ما لا بد له من مخصص فهو محدث
أما المقدمة الأولى فجمهور العقلاء سلموا أنه لا بد له من قدر وأما كونه لا بد له من اجتماع وافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد
وأكثر العقلاء من طوائف المسلمين وغيرهم ينكرون الجوهر الفرد حتى الطوائف الكبار من أهل الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وكثير من الكرامية مع أكثر الفلاسفة وإن كان القول بتركيب الجسم من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أيضا أفسد من دعوى تركبه من الجواهر الفردة فكلا القولين ضعيف
ونحن في هذا المقام مقصودنا التنبيه على جوامع الطرق ومقاصدها وأما كون ما له قدر يفتقر إلى مخصص فهذا فيه نزاع مشهور 0 وذلك أن القدر صفة من صفات ذي القدر كألوانه وأكوانه وسائر ما يمكن أن يتصف به الجسم من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك فإن صفاته نوعان منها ما يختص بالأحياء مثل هذه الصفات ومنها ما يشترك فيه الحي وغيره كالألوان والقدر والطعم والريح
فإذا قال القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون قدرو على خلاف ما هو عليه كان بمنزلة أن يقول كل موصوف يمكن أن يكون موصوفا بخلاف صفته 0 فإذا عرضنا على عقولنا ما نعلمه من الموجودات التي لها أقدار وصفات كان تحويزنا لكونها على خلاف أقدارها كتجويزنا لها أن تكون على خلاف صفاتها بل القدر من الصفات
ولهذا لما تكلم الفقهاء في مفهوم الصفة كقوله صلى الله عليه و سلم في الإبل السائمة الزكاة تكلم بعضهم في مفهوم القدر كقوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث فقال آخرون القدر من جملة الصفات
ولهذا كان مما احتيج به من احتج به من أهل الكلام على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم أن العالم له صفات وأقدار يمكن أن يكون على خلافها فهو مفتقر إلى مخصص لأن العالم ممكن بالاتفاق والمخصص لا يكون موجبا بالذات
وقد سلك هذا الطريق أبو المعالي في النظامية فسالكو هذه الطريقة ومنازعوهم لم يفرقوا بين القدر وسائر الصفات في إمكان القبول وعدمه والقدر المعين أقرب إلى الذات المعينة من الصفات المطلقة كما أن صفاته المخصوصة ألزم له من جنس القدر فإن نفس الجسم التعليمي الذي يقدر في الذهن لا يمكن فرضه إلا وله قدر يمكن فرضه خاليا عن جميع الصفات لنه فرض جسم شامل لجميع الأجسام ن فلهذا قدر مجردا عن جميع الصفات كما يفرض عدد مجرد عن جميع المعدودات
وكذلك ما يتخيله الإنسان من الأجسام بعد رؤيته له كتخيله الإنسان والفرس والشجر والدار والمدينة والجبل ونحو ذلك يمكنه تخيله مع عدم تخيل شيء من صفاته كألوانه وغيرها ولا يمكنه تخيله مع نفي قدره فاختصاص جنس الجسم بجنس القدر كاختصاص جنس الموصوفات بجنس الصفات واختصاص الجسم المعين بقدره كاختصاصه بصفته المعينة وحقيقته المخصوصة
وكل شيء له حقيقة تخصه وقدر وصفات تقوم به 0فهنا ثلاثة أشياء المقدار والحقيقة وصفات الحقيقة
فقول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك القدر كقوله كل موصوف يمكن وجوده على خلاف تلك الصفات وهو أقرب من قوله كل ماله حقيقة فيمكن وجوده على خلاف تلك الحقيقة
ولكن في هذا المقام يكفي أن يجعل حكم المقدار حكم سائر الصفات فلا ريب أن كيفية الموصوف وصفاته ألزم له من قدره فكيفيته أحق به من كميته فاختصاصه بقدر دون اختصاصه بصفة فالنار والماء والهواء يلزمها كيفياتها المخصوصة أعظم مما يلزمها المقدار المعين
فيقال إن أمكن أن يقرر أن كل جسم يقبل من الصفات خلاف ما هو عليه وما كان كذلك فهو ممكن أو محدث كان هذا دليلا عاما لا يختص بالمقدر وغن لم يمكن ذلك فلا فرق بين القدر وغيره
وأحد الطرق التي ذكرها إبرازي وغيره في إثبات الصانع تعالى الاستدلال بإمكان صفات الجسم أو حدوثها لم يفرق السالكون فيه بين القدر وغيره
ثم لقائل أن يقول قول القائل كل ذي قدر يمكن أن يكون أكبر أو أصغر أو كل ذي وصف يمكن أن يكون بخلاف ذلك الوصف ونحو ذلك أتريد به الإمكان الذهني إن الخارجي ؟ والفرق بينهما أن إمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع ن فليس في ذهنه ما يمنع ذلك 0 والإمكان الخارجي معناه العلم بالإمكان في الخارج
والإنسان يقدر في نفسه أشياء كثيرة يجوزها ولا يعلم أنها ممتنعة ومع هذا فهي ممتنعة في الخارج لأمور أخر
فإن قال أريد به الإمكان الذهني لم ينفعه ذلك لأن غايته عدم العلم بامتناع كون تلك الصفة واجبة له
وإن قال أريد إمكان الخارجي وهو أني اعلم أن كل موصوف بصفة أو كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك كان مجازفا في هذا الكلام لأن هذه قضية كلية تتناول من الأفراد ما لا يحصيه إلا الله تعالى وليس معه دليل يدل على إمكان ذلك في الخارج يتناول جميع هذه الأفراد 0 غايته انه رأى بعض الموصوفات والمقدرات يقبل خلاف ما هو عليه فإذا قاس الغائب على الشاهد كان هذا من أفسد القياس لاختلاف الحقائق ولأن هذا ينعكس عليه
فيقال له لم نر إلا ماله صفة فيقاس الغائب على الشاهد
ويقال كل قائم بنفسه فله صفة وقدر وهذا إلى المعقول أقرب من قياسهم فإن هذا لا يعلم انتقاضه
وأما قول القائل كل ماله صفة وقدر فيقبل خلاف ذلك فلا يعلم اطراده فأين القياس الذي لا يعلم افتقاده من القياس الذي لا يعلم اطراده ؟
والناس متفقون على أنهم لم يروا موجودا إلا له صفة وقدر وليسوا متفقين على أن كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته وقدره مع بقاء حقيقته التي هو بها هو ولكن مع استحالة حقيقته فاستحالة قدره وصفاته أولى
ثم إن ما نشاهد من السماوات غنما نعلم جواز كونها على خلاف هذه الصفات بأدلة منفصلة لا نعلم ذلك ضرورة ولا حسا 0 ولهذا نازع في ذلك كثير من العقلاء الذين لا يجمعهم مذهب معين تلقاه بعضهم عن بعض 0 ولو كان هذا الجواز معلوما بالضرورة لم ينازع فيه طوائف العقلاء الذين لم يتواطأوا على قول فإن هؤلاء لا يتفقون على جحد الضروريات
ثم يقال هذا بعينه معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها فإنه يمكن أن يقال كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص
ويقال أيضا كل موجود له صفات لازمة تخصه فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص
ومن المعلوم انه قد علم بضرورة العقل واتفاق العقلاء أنه لا بد من وجود واجب بنفسه قديم ن وموجود ممكن محدث ن فإنا نشاهد حدوث الحوادث والحادث ممكن وإلا لما وجد وليس بواجب بنفسه وإلا لم يعدم ويعلم بالضرورة أن طبيعة المحدث لا تكون إلا بقديم وطبيعة الممكن لا تكون إلا بواجب كما قد بسط في غير هذا الموضع
فإذا كانت الموجودات منقسمة إلى قديم ومحدث وواجب وممكن فمن المعلوم انهما يشتركان في مسمى الوجود والماهية والذات والحقيقة وغير ذلك ويختص الواجب بما لا يشركه فيه غيره
بل من المعلوم بالضرورة إن الواجب له حقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره ن فإن كان كل مختص يفتقر مباين له افتقرت حقيقة الواجب بنفسه إلى مخصص مباين له فلا يكون في الموجودات قديم ولا واجب فيلزم حدوث الحوادث بلا محدث ووجود الممكنات بلا واجب
وهذا كما أنه معلوم الفساد بالضرورة فلم يذهب إليه احد من العقلاء بل غاية الدهري المعطل الكافر أن يقول : العالم قديم واجب الوجود بنفسه لا يقول : إنه ممكن محدث ليس له مبدع وإذا قال الدهري إن العالم واجب الوجود بنفسه لزمه أن الواجب بنفسه مختص عن غيره بصفات لا يشركه فيها غيره كالحوادث من الحيوان والنبات والمعدن
ففي الجملة كل عاقل مضطر إلى إثبات موجود واجب بنفسه له حقيقة يختص بها عما سواه من غير مخصص مباين له خصصه بتلك الحقيقة
ومن قال : إن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط
فيقال له : هذا القول وإن كان فساده معلوما بالاضطرار كما بين في موضعه قول متناقض وهو مستلزم أنه مختص عن غيره بما يخصه
وذلك أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقا ولا يوجد إلا مقيدا بقيد من القيود
فإذا قيل : موجود واجب قيده بالوجوب فلم يبق مطلقا
وإن قال : ليس بواجب قيده بسلب الوجوب فلم يكن مطلقا
وإن ادعى وجود موجود لا واجب ولا غير واجب لزمه رفع النقيضين جميعا وهو أظهر الأمور الممتنعة في بديهة العقل
ثم إنه يقيده بكونه مبدأ لغيره وبكونه عاقلا ومعقولا وعقلا وعاشقا ومعشوقا وعشقا وغير ذلك من الأمور المقيدة المخصصة التي يمتاز بها من غيره ولا يكون وجودا مطلقا
ثم إن قال هو مطلق لا بشرط لزمه ان يصدق حمله على كل موجود كما أن الحيوان المطلق لا بشرط يصدق عليه حمله على الإنسان والفرس وغيرهما من الحيوانات وهذا متفق عليه بين العقلاء فيلزم حينئذ أن يكون كل موجود واجب الوجود إن كان واجب الوجود هو الوجود المطلق لا بشرط كما يقوله الصدر القونوي وامثاله من الملاحدة الباطنية باطنية الرافضة وباطنية الصوفية
ومعلوم أن هذا مكابرة للحس والعقل وهو منتهى الإلحاد في الدين وإن قال هو مطلق بشرط الإطلاق كما يقوله طائفة من ملاحدة الطائفتين ممن يرفع عنه النقيضين فهم قد قرروا في منطقهم ان المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان ثم يلزمهم ان لا يصفوه بالوجوب ولا بكونه علة ولا عاقلا ولا معقولا ولا عاشقا ولا معشوقا لأن هذه كلها تخرج الوجود عن أن يكون مطلقا بشرط الإطلاق وتميزه عما ليس كذلك والمطلق لا بشرط ليس فيه اختصاص ولا امتياز
وإن قالوا : مطلق بشرط سلب سائر الأمور التثبوتيه عنه وهو الموصوف بالسلوب والإضافات دون الإثبات كما يقوله ابن سينا وطائفة فهذا مع أنه باطل من وجوه كثيرة ليس هو مطلقا بل موجود مقيد بقيود سلبية وإضافية وذلك نخصيص امتاز به عن سائر الموجودات على أي وجه قدر
ثم يقال كل ما أشار إليه العقل من الأمور فلا بد له من حقيقة تختص به تميزه عما سواه كيفما كان وكل ما هو موجود في الخارج فلا بد له من وجود يختص به يمتاز به عما سواه فإن كان كل ما اختص بأمر يخصه يجب أن يكون له مخصص من خارج امتنع ان يكون في الوجود موجود بنفسه وأن تكون حقيقة من الحقائق موجودة بنفسها وأن يكون ثم وجود واجب
ثم يلزم التناقض والدور الممتنع والتسلسل الممتنع فغنه إذا افتقر كل مختص إلى مباين يخصه فذاك الثاني إما أن يفتقر إلى مخصص وإما ان لا يفتقر فإن لم يفتقر انتقضت القضية الكلية وهو المطلوب
وإن افتقر إلى الأول لزم الدور القبلي وإن افتقر إلى غيره لزم التسلسل في العلل وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء
ولو قدر مقدر أنه يلزم الدور المعي وهو أن يكون كل من المختصين موجودا مع الآخر
فيقال فكل منهما مختص بأمر فهو متوقف على ما اختصت به نفسه وعلى ما اختص به الآخر فيلزم أن يكون هناك اختصاصات فالقول في ذلك الاختصاص كالقول في الأول
وبالجملة اختصاص الشيء بما هو عليه من خصائص كاختصاصه بنفسه ووجوده وصفاته كلها لازمها عارضها فقول القائل كل مختص لا بد له من مخصص مباين له كقوله كل موجود فلا بد له من موجد مباين له وكل حقيقة فلا بد لها من محقق مباين لها وكل قدئم بنفسه فلا بد له من مقوم مباين له وأمثال ذلك
فإنه ما من أمر من هذه الأمور إلا ويمكن الذهن أن يقدره على خلاف ما هو عليه ومجرد تقدير إمكان ذلك في الذهن لا يوجب إمكان ذلك في الخارج ولكن طائفة من أهل الجدل الباطل والحكمة السوفسطائية يستدلون على إمكان الشيء في الخارج بإمكانه في الذهن كما يوجد مثل ذلك في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة
والرازي و الآمدي ونحوهما يستعملون ذلك كثيرا كاستدلال الرازي وغيره على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانب بأن يقولوا القسمة العقلية تقتقضي أن كل موجود فاما مباين لغيره وإما مجانب له وإما لا مباين ولا مجانب أو كل موجود فإما داخل في غيره وإما خارج عنه وإما لا داخل ولا خارج
ويجعلون مثل هذا التقسيم دليلا على إمكان كل من الأقسام في الخارج وقد يسمون ذلك برهانا عقيا وهو من أفسد الكلام فإن هذا بمنزلة القائل : كل موجود فإما أن يكون قائما بنفسه أو قائما بغيره وإما أن لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره فإن هذا لا يقتضى إمكان وجود موجود لا قائم بنفسه ولا بغيره بل هذا ما يعلم امتناعه بالضرورة واتفق العقلاء على امتناعه
ومثله أن يقال كل موجود إما قديم أو محدث أو لا قديم ولا محدث ومثله كل موجود غما واجب أو ممكن أو لا هذا ولا هذا وكل موجود إما خالق أو مخلوق أو لا خالق ولا مخلوق ومثله إما عالم أو جاهل أو لا عالم ولا جاهل ومثله إما حي وميت أو لا حي ولا ميت
فهذه التقسيمات وأمثالها لا تدل على إمكان كل قسم منها ولا على وجوده في الخارج باتفاق العقلاء بل العقلاء متفقون على أن الموجود إما واجب وإما ممكن وإما قديم وإما محدث وإما قائم بنفسه وإما قائم بغيره
فأما تقسيم كل قائم بنفسه إلى الحي والميت والعالم والجاهل والقادر والعاجز فهو أيضا صحيح عند جماهير العقلاء وهو قول المثبة لأسماء الله الحسنى وهو انه حي عالم قادر
وإنما ينازع فيه النفاة من الجهمية والباطنية فلا يسمونه بشيء من الأسماء الحسنى التي سمى بها نفسه وسمته بها رسله حتى لا يقولون هو شيء ولا موجود لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه بغيره من الأشياء والموجودات
شبهة للملاحدة
وللملاحدة الفلاسفة سؤال مشهور على قول القائل إما أن يكون حيا أو ميتا أو عالما أو جاهلا وقادرا أو عاجزا وسميعا بصيرا أو أعمى وأصم فإن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والايجاب
والفرق بينهما أن الأول سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كسلب الحياة والسمع والبصر والعلم عن الحيوان فإنه قابل لذلك فإذا سلب عنه لزم أن يكون ميتا أعمى أصم جاهلا وأما الجماد فإنه لا يقبل الاتصاف بذلك فلا يقال فيه حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا سميع بصير ولا أعمى أصم
الجواب عنها من وجوه
قلت وقد بسطنا الكلام على هذه الشبهة وغن كان الآمدي وأمثاله عجزوا عن حلها بل اعترفوا بورودها وبينا الجواب عن ذلك من وجوه
الأول
أن مالا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أنقص مما يقبل الاتصاف بصفات الكمال والحي الجاهل الأعمى الأصم لقبوله للعلم
والسمع والبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك ن فإذا كان يمتنع كون الواجب يقبل صفات الكمال ولا يتصف بها فلأن يمتنع كونه لا يقبلها بطريق الأولى
والثاني
أن كل صفة من صفات الكمال إذا لم تستلزم نقصا فالواجب أولى بها من الممكن واتصافه بها أولى من الممكن لأنه أكمل ولأن كل كمال حصل للممكن فهو من الواجب وهم يسلمون أن كل كمال حصل للمعلوم فهو من علته فالمعلول أولى بذلك
الثالث
أن كل ما أمكن اتصاف الربسبحانه فهو واجب له لامتناع توقف شيء من صفاته على غيره
الرابع
أن نفي هذه الصفات نقص وإن لم يسم جهلا وصما وبكما
الخامس
أن ما ذكروه من التفريق بين السلب والإيجاب والعدم والملكة بتسمية هذا ميتا دون هذا اصطلاح لهم لا يجب أتباعه والله قد سمى الجماد مواتا في مثل قوله تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء } النحل 20 - 21 وفي قوله تعالى { وآية لهم الأرض الميتة } يس : 33 وأمثال ذلك
فإذا كان قد علم انه لا بد من موجود بنفسه مختص بخصائص لا يشركه فيها غيره مباين له توهما باطلا شيطانيا وهو من جنس ما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح لما قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا فيقول الله فيقول من خلق الله ؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته
وفي حديث آخر لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله كل شيء فمن خلق الله ؟
وهذا لكون الوسواس الشيطاني الباطل لا يقف عند حد الموجود الواجب القديم الخالق وهذا المقام ضل فيه طوائف من الناس صاروا ينفون ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات لعدم علمهم بما يوجب اختصاصه بذلك
ثم إنهم يتناقضون فالمعتزلة فرقوا بين كونه عالما وقادرا وكونه متكلما مريدا بأن العلم عام التعلق فإنه سبحانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والكلام خاص فإنه يتكلم بشيء دون شيء فإنه لا يتكلم إلا بالصدق والإرادة خاصة فإنه يريد شيئا دون شيء لا يريد إلا ما علم أن سيكون
فقال لهم الناس هب أن الأمر كذلك لكن ما الموجب للتكلم ببعض الكلام دون بعض ولإرادة بعض الأمور دون بعض ؟ فلا بد من سبب يوجب التخصيص فلا بد حينئذ أن يكون هو المخصص 0 فقالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص
فيقال لهم هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم فإنكم قلتم لا بد للتخصيص من مخصص ثم قلتم كل الممكنات مخصصة ووجدت بدون مخصص بل رجح المرجح أحد المتاثلين على الآخر من غير مخصص وإذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص مع أن نسبة القادر واحدة فالموجود بنفسه أولى أن يستغني عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته وذلك أنه من المعلوم أن وجود ذاته وصفاته أولى من وجود مفعولاته وإذا جوزتم أن يكون مخصصا لمفعولاته المختصة بحقيقة وقدر وصفة بلا مخصص أصلا فتجويزكم أن تكون ذاته المختصة الواجبة بنفسها لا تفتقر إلى مخصص بطريق الأولى
وهذا لا ينعكس فإنه إذا قيل إن أفعاله تفتقر إلى مخصص لم يلزم أن تكون ذاته مفتقرة إلى مخصص فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها فهي لا تفتقر إلى سبب أصلا بخلاف مفعولاته فإنها مفتقرة إلى سبب وما افتقر إلى فاعل جاز أن يقال هو مفتقر إلى مخصص بخلاف ما لا يفتقر إلى فاعل فإنه لا يجب أن يفتقر إلى مخصص
فإذا قيل ما افتقر إلى سبب أو ما افتقر إلى فاعل أو ما افتقر إلى علم افتقر إلى مخصص وما لم يفتقر إلى شيء من ذلك لم يفتقر كان هذا كاملا معقولا
بخلاف ما إذا قيل المفتقر إلى الفاعل لا يفتقر إلى نخصص والغني عن الفاعل يفتقر إلى مخصص فإن هذا قلب للحقيقة كما قالته المعتزلة الجهمية القدرية من نفي افتقار الأفعال إلى مخصص وإثبات افتقار الذات إلى مخصص قلب للحقائق
وأفسد منه قول الفلاسفة الذين يثبتون مفعولات مختلفة مع حدوث كثير منها ويقولون إن مخصصها مجرد وجود بسيط ثم يصفونه بصفات تفيد اختصاصه بما يتميز به عن سائر الموجودات ويقولون مع ذلك الاختصاص لا بد له من مخصص مباين له ثم العلم فيه من العموم ما ليس في القدرة وفي القدرة من العموم ما ليس في الإدارة
والمتفلسفة نفوا الاختصاص حتى أثبتوا وجودا مطلقا مجردا ثم أثبتوا له من اللوازم ما يوجب الاختصاص مثل كونه وجودا واجبا وذلك يميزه عن الوجود الممكن وجعلوه عاقلا ومعقولا وعقلا وعاشقا ومعشوقا وعشقا وملتذا به وأنواع ذلك مما يوجب اختصاصه بهذه الأمور عمن ليس هو موصوفا بها من الجمادات
وقالوا صدر عنه العالم المختص بما له من الصفات والأقدار من غير موجب للتخصيص فهل في الوجود أعظم من هذا التناقض ؟
وهو أن يكون وجود مطلق لا اختصاص فيه يوجب كل اختصاص في الوجود من غير سبب يوجب التخصيص ؟
وهؤلاء ينكرون على من أثبت من أهل الكلام الحوادث بلا سبب حادث ثم يثبتون الحوادث بلا محدث ويثبتون التخصيصات في الموجودات بلا مخصص أصلا وهو شبيه بقول من يجعل الممكن الذي ليس له من نفسه وجود يوجد بلا واجب بنفسه
ومن وافق هؤلاء من الكلابية في بعض الأمور يثبت صفات معدودة يختص بها ن ويجعل لها خصائص ثم يطلب المخصص لغير تلك الصفات 0 ولهذا كان منتهى من سلك هذه السبيل إلى أن يثبت وجودا ثم مطلقا ثم يتناقض أعظم من تناقض غيره وذلك لن كل موجود فمختص بما هو من خصائصه سواء عن غيره طلب ما هو ممتنع لذاته فمن وصف الواجب بذلك فقد وصفه بصفة الممتنع لذاته ن وهذا نهاية هؤلاء وهو الجمع بين النقيضين
ثم يقول من يقول من متصوفتهم انه يجوز الجمع بين النقيضين وأنه يثبت في الكشف ما يناقض صريح العقل
كلام الشهر ستاني في نهاية الإقدام
والشهر ستاني لما اعتمد في مناظرته للقائلين بالعلو والمباينة والصفات الفعلية ونحو هؤلاء على هذه الطريقة أورد على نفسه من اللوازم ما اعترف معه بالحيرة فلما احتج بأن الاختصاص بالقدر يقتضي مخصصا والاختصاص بالجهة يقتضي مخصصا قال فإن قيل بم تنكرون على من يقول القدر الذي اختص به نهاية وحدا واجب له لذاته فلا يحتاج إلى مخصص بخلاف مقادير الخلق فإنها احتاجت إلى ذلك لأنها جائزة وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة عليها فلما كانت المقادير المخلوقة مقدورة عرف جوازها واحتاج الجواز إلى مرجح فإذا لم يكن فوق الباري تعالى قادر يقدر عليه لم يمكن إضافة الجواز إليه وإثبات الاحتجاج له ألسنا اتفقنا على أن الصفات ثمان أفهى واجبة له على هذا العدد أم جائز أن توجد صفة اخرى ؟ فإن قلتم يجب الانحصار في هذا العدد كذلك نقول الاختصاص بالحد المذكور واجب له إذ لا فرق بين مقدار في الصفات عدا ومقدار في الذات حدا وإن قلتم جائز أن توجد صفة أخرى فما الموجب للانحصار في هذا العدد والحد فيحتاج إلى مخصص حاصر ؟ ثم قال قلنا المقادير من حيث إنها مقادير طولا وعرضا وعمقا لا تختلف شهدا ولا غائبا في تطرق الجواز العقلي إليها واستدعاء مخصص
فيقال له هذا الذي قلته هو أول المسألة فإن المقادير من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج كما ان الصفات والذوات من حيث هي هي لا وجود لها في الخارج وإنما يوجد في الخارج ذات مخصوصة بصفاتها المخصوصة فالقول فيما اختصت به من المقدار كالقول فيما اختصت به من سائر الصفات به من الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
ثم قال وأما الصفات وانحصارها في ثمان فقد اختلف جواب الأصحاب عنه بوجوه منها أنهم منعوا إطلاق لفظ العدد عليها فضلا عن الثمانية وقالوا قد دل الفعل بوقوعه على كون الفاعل قادرا وباختصاصه ببعض الجائزات على كونه مريدا وبأحكامه على كونه عالما وعلم بالضرورة أن القضايا مختلفة وورد في الشرع إطلاق العلم والقدرة والإرادة ولا مدلول سوى ما دل الفعل عليه أو ورد في الشرع إطلاقه ولهذا اقتصرنا على ذلك فلو سئل هل يجوز أن يكون له صفة أخرى اختلف الجواب عته فقيل لا يتطرق إليه الجواز فإنا لم نثبت الصفات إلا بدليل الفعل والفعل ما دل إلا على تلك وقيل يجوز عقلا إلا أن الشرع لم يرد به فنتوقف في ذلك ولا يضر في ذلك الاعتقاد إذا لم يرد به تكليف
قال ومنها أنهم فرقوا في الشاهد بين الصفات الذاتية التي تلتئم منها حقيقة الشيء وبين المقادير العرضية التي لا مدخل لها في تحقيق حقيقة الشيء فإن الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل بل هي له من غير سبب والمقادير العرضية تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل 0 فإن جعلها له بسبب
ومنها أنه ولو قدر صفة زائدة على الثمان لم يخل إما أن تكون صفة مدح وكمال او صفة ذم ونقصان فإن كان صفة كمال فعدمها في الحال نقص وإن كان صفة نقص فعدمها واجب وإذا بطل القسمان تعين أنه لا يتصف بزيادة على الثمانية
قال ويترتب على ما ذكرناه هل يجوز أن يكون للباري تعالى أخص وصف لا ندركه ؟ وفرق بين هذا السؤال الأول فإن السائل الأول سأل هل يجوز أن تزيد صفاته على الصفات الثمانية ؟ والسائل الثاني سأل هل له أخص وصف تميز به عن المخلوقات ؟ واختلف جواب الأصحاب عنه أيضا فقال بعضهم ليس له أخص وصف ولا يجوز أن يكون لأنه بذاته وصفاته تميز عن ذوات المخلوقات وصفاتها من حيث أن ذاته لا حد لها زمانا ومكانا ولا تقبل الانقسام فعلا ووهما بخلاف ذوات المخلوقات لا حد لها زمانا ومكانا ولا تقبل الانقسام فعلا ووهما بخلاف ذوات المخلوقات وصفاته غير متناهية في التعلق بالمتعلقات ولو كان الغرض أن يتحقق أخص وصف به يقع التميز فقد وقع التميز بما ذكرناه ن فلا أخص سوى ما عرفناه 0 وقال بعضهم لا بل له أخص وصف في الإلهة لا ندركه وذلك أن كل شيئين لهما حقيقتان معقولتان فإنهما يتمايزان بأخص وصفيهما وجميع ما ذكرنا من ان لا حد ولا نهاية لا انقسام للذات ولا تناهي للتعلق في الصفات كل ذلك أسلوب وصفات نفي وبالنفي لا يتميز الشيء عن الشيء بل لا بد من صفة إثبات بها يقع التميز وإلا فترتفع الحقيقة رأسا ثم إذا ثبت أخص الوصف فهل يجوز أن يدرك قال إمام الحرمين لا يجوز أن يدرك أصلا وقال بعضهم يجوز أن يدرك وقال ضرار بن عمرو يدرك ذلك عند الرؤية بحاسة سادسة ونفس المسألة من محارات العقول وتصور الأخص من محارات العقول
تعليق ابن تيمية على كلام الشهرستاني
فيقال : هذا وما أشبه هو الذي يقال في هذا المقام من جهة من يفرق بين بعض الصفات وبعض كما يفرق بين الصفة والقدر ومن تدبره علم أنه لا يمكن الفرق
وذلك من وجوه :
الوجه الأول
أن ما ذكره ليس فيه جواب فيه جواب عن الإلزام والمعارضة فإنهم عارضوه بإثبات صفات متعددة سواء كانت ثمانيا أو أكثر أو أقل فغن اختصاص الصفات بعدد من الأعداد كاختصاص الذات بقدر من الأقدار وإذا كان المسمي لا يسمي ذلك عددا فمنازعه لا يسمي الآخر قدرا وليس الكلام في الإطلاقات اللفظية بل في المعاني العقلية وما زاد على ذلك سواء نفي ثبوته او نفي العلم به لا يضر فغن السؤال قائم إلا أن يثبت المثبت صفات لا نهاية لعددها وهذا ينقض قاعدة من يقول : غنه لا يوجد ما لا نهاية له وإلا فإذا أثبت الصفات متناهية كانت المعارضة متوجهة سواء عرف عددها أو لم يعرف وتفريق من فرق بين الصفات الذاتية والعرضية بأن هذه تفتقر إلى فاعل دون الأخرى لا يصح لأن هذا إنما يجيء على قول من يقول : الماهيات غير مفعولة ولا مجعولة كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم وإلا فأهل السنة ومتكلموهم متفقون على أن حقائق جميع المخلوقات مخلوقة مصنوعة بل ليس لها حقيقة في الخارج إلا ما هو موجود في الخارج وما سوى ذلك فإنما هو الصورة العلمية وما في الأذهان من ذلك فالله تعالى هو الذي جعله فيها والله سبحانه هو الذي خلق فسوى وهو الذي قدر فهدى وهو الذي خلق خلق الإنسان من علق وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم وهو الذي خلق الإنسان علمه البيان
فقوله : الصفات الذاتية لا تثبت للشيء مضافة إلى الفاعل قول باطل بل صفة كل موصوف مخلوق مضافة إلى الله تعالى فإنه خلق كل موصوف بصفاته وليس في المخلوق شيء لا من ذاته ولا من صفاته إلا والله تعالى خلقه وأبدعه
وأيضا فكل صفة لازمة لموصوفها لا يكون الموصوف إلا بها فإن كان مفتقرا إلى الفاعل فالفاعل فعله بصفاته وإن كان غنيا عن الفاعل استغنى بصفاته عن الفاعل وتسمية أهل المنطق لبعضها ذاتيا ولبعضها عرضيا لا يمنع اشتراكها في هذا الحكم
وقول القائل لو قدر صفة زائدة على الثمان لكان صفة كمال أو نقص إنما يفيده نفي ما زاد على الثمان وهذا لا يضر المعارض بل يقوي معارضته فإن تخصيص الصفات بإثبات ثمان دون ما زاد ونقص تخصيص بقدر وعدد فغن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين للموصوف فالسؤال قائم فإن قال القائل هذه الصفات على هذا الوجه من لوازم الذات لا تفتقر إلى موجب غير الذات قيل له : فهكذا مورد النزاع وبطل ما ذكرته من أن اختصاص كل موصوف بصفات ومقدار يفتقر إلى مخصص منفصل عنه
الوجه الثاني
أن ما ذكره من الكلام في أخص وصف هو أيضا لازم لهم كما أن ما ذكره في الصفات هو أيضا لازم لهم فإن هذا معارضة باختصاص الحقيقة في نفسها وذلك معارضة باختصاصها ببعض الصفات دون بعض وبعدد من الصفات دون ما زاد وسواء قيل بإثبات أخص وصف أو لم يقل فإنه لا بد من ذات متميزة بنفسها عما سواها
الوجه الثالث
أن يقال : أهل الإثبات للصفات لهم فيما زاد على الثمانية ثلاثة أقوال معروفة : أحدها : إثبات صفات أخرى كالرضى والغضب والوجه واليدين والاستواء وهذا قول ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي والأشعري وقدماء أصحابه كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن بن مهدي الطبري والقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثالهم ن وهو قول أبي بكر بن فورك وقد حكي إجماع أصحابه على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد وهو قول أبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي كما هو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل والشريف أبي علي وابن الزغوني وأبي الحسن التميمي وأهل بيته كابنه أبي الفضل ورزق الله وغيرهم كما هو قول سائر المنتسبين إلى أهل السشنة والحديث وليس للأشعري نفسه فيإثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان بل لم يختلف قوله أنه يثبتها ولا يقف فيها بل يبطل تأويلات من ينفيها ولكن أبو المعالي وأتباعه ينفونها ثم لهم في التأويل والتفويض قولان فأول قولي أبي المعالي التأويل كما ذكره في الإرشاد وآخرهما التفويض كما ذكره في الرسالة النظامية وذكر إجماع السلف على المنع من التأويل وأنه محرم
وأما أبو الحسن وقدماء أصحابه فهم من المثبتين لها وقد عد القاضي أبو بكر في التمهيد و الإبانة له الصفات القديمة خمس عشرة صفة ويسمون هذه الصفات الزائدة على الثمانية الصفات الخبرية وكذلك غيرهم من أهل العلم والسنة مثل محمد بن جرير الطبري وأمثاله وهو قول أهل السنة والحديث من السلف وأتباعهم وهو قول الكرامية والسالمية وغيرهم
وهذا القول هو القول المعروف عند متكلمة الصفاتية لم يكن يظهر بينهم غيره حتى جاء من وافق المعتزلة على نفيها وفارق طريقة هؤلاء وأصل هؤلاء أنهم يثبتون الصفات السمع والعقل بخلاف من اقتصر على الثمانية فإنه لم يثبت صفة إلا بالعقل وقد أثبت طائفة منهم بعضها بالعقل كما أثبت أبو أسحق الإسفراييني صفة اليد بالعقل وكما يثبت كثير من المحققبن صفة الحب والبغض والرضى والغضب بالعقل
القول الثاني : قول من ينفي هذه الصفات كما ذكره الشهرستاني وغيره وهو أضعف الأقوال فإن عندته أنه لو كان لله صفة غير لوجب أن ينصب عليها دليلا نعلمه ولم ينصب فلا صفة له وكلتا المقدمتين باطلة فإن دعوى المدعي أنه لا بد أن ينصب الله تعالى على كل صفة من صفاته دليلا باطل ودعواه أنه لم ينصب دليلا إلا نعلمه هو أيضا باطل كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع فإن هذه القاعدة إنما هي معدة لجمل المقاصد
والثالث قول الوافقة الذين يجوزون إثبات صفات زائدة لكن يقولون لم يقم عندنا دليل على نفي ذلك ولا إثباته وهذه طريقة محققي من لم يثبت الصفات الخبرية وهذا أختيار الرازي و الأمدي وغيرهما
وأئمة أهل السنة والحديث من اصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم يثبتون الصفات الخبرية لكن منهم من يقول لا نثبت إلا ما في القرآن والسنة المتواترة وما لم يقم دليل قاطع على إثباته نفيناه كما يقوله ابن عقيل وغيره أحيانا ومنهم من يقول بل نثبتها بأخبار الآحاد المتلقاة بالقبول ومنهم من يقول نثبتها بالأخبار الصحيحة مطلقا ومنهم من يقول يعطى كل دليل حقه فما كان قاطعا في الإثبات قطعنا بموجبه وما كان راجحا لا قاطعا قلنا بموجبه فلا نقطع في النفي والإثبات إلا بدليل يوجب القطع وإذا قام دليل يرجح لأحد الجانبين بينا رجحان أحد الجانبين وهذا أصح الطرق
وكثير من الناس قد يظن صحة أحاديث فإما أن يتأولها أو يقول هي مثل غيرها من الأخبار وتكون باطلة عند أئمة الحديث
ومن الأخبار ما يكون ظاهرة يبين المراد به لا يحتاج إلى دليل يصرفه عن ظاهرة ولكن يظن قوم أنه مما يفتقر إلى تأويل كقوله الحجر السود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه
فهذا الخبر لو صح عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ظاهرة ان الحجر صفة لله بل صريح في أنه ليس صفة لله لقوله يمين الله في الأرض فقيده في الأرض ولقوله فمن صافحه فكأنما صافح الله والمشبه ليس هو المشبه به وإذا كان صريحا في أنه ليس صفة لله لم يحتج إلى تأويل يخالف ظاهرة ونظائر هذا كثيرة مما يكون في الاية والحديث ما يبين أنه لم يرد به المعنى الباطل فلا يحتاج نفي ذلك إلى دليل منفصل ولا تأويل يخرج اللفظ عن موجبه ومقتضاه
وإذا كان كذلك فالمعارضة بالصفات ثابتة على كل قول من الأقوال الثلاثة إذ لا بد فيها من اختصاص فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين لزم افتقار صفات الله تعالى إلى مباين له
ثم رأيت أبا الحسن الآمدي قد ذكر هذا الدليل الذي ذكره الشهرستاني وبين ضعفه في كتابه المسمى بغاية المرام في علم الكلام فقال في مسألة نفي العلو وتوابع ذلك وقد سلك بعض الأصحاب في الرد على هؤلاء طريقا شاملا فقال لو كان الباري مقدرا بقدر متصورا بصورة متناهيا بحد ونهاية مختصا بجهة متغيرا بصفة حادثة في ذاته لكان محدثا إذ العقل الصريح يقضي بأن المقادير في تجويز العقل متساوية فما من مقدار وشكل يقدر في العقل إلا ويجوز أن يكون مخصوصا بغيره فاختصاصه بما اختص به من مقدار أو شكل أو غيره يستدعي مخصصا ولو استدعى مخصصا لكان الباري محدثا
قال الآمدي لكن هذا المسلك مما لا يقوى وذلك انه سلم ما يفرض من المقادير والجهات وغيرها ممكنة في أنفسها وأن ما وقع منها لا بد له من مخصص لكن إنما يلزم أن يكون الباري حادثا ان لو كان المخصص خارجا عن ذاته ونفسه
ولعل صاحب هذا القول لا يقول به وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الباري تعالى حادثا ولا محوجا إلى غيره أصلا فإن قيل : إن ما اقتضاه بذاته ليس هو أولى من غيره لتساوي الجميع بالنسبة إليه في جهة الاقتضاء فهو نحو الخلاف ولعل الخصم قد لا يسلم تساوي النسبة في جهة الاقتضاء إلا ان يقدر أنه لا اختلاف بين هذه الممكنات ولا محالة أن بيان ذلك متعذر جدا كيف وأنه يحتمل أن ينتهج الخصم في تخصيص هذه الصفات الثابتة للذات منهج أهل الحق في تخصيص سائر الممكنات وبه درء الإلزام
ثم استدل على هذه المسألة بما هو أضعف من هذا وهو أن البناء على ذلك مستلزم لكونه جوهرا والجواهر متماثلة وقد عرف ما في هذين الأصلين من المنازعات اللفظية والمعنوية في غير هذا الموضع و الآمدي نفسه قد بين بطلان قول من جعل الجواهر متماثلة
ومما ينبغي أن يعرف في مثل هذه المسائل المنازعات اللفظية فإن القائل إذا قال التخصيص يفتقر إلى مخصص والتقدير إلى مقدر كان بمنزلة من يقول : التحريك يفتقر إلى محرك وأمثال ذلك وهذا لا ريب فيه فإن التخصيص مصدر خصص يخصص تخصيصا وكذلك التقدير والتكلم ونحو ذلك ومصدر الفعل المتعدي لا بد له من فاعل يتعدى فعله فإذا قدر مصدر متعد بلا فاعل يتعدي فعله كان متناقضا بخلاف ما إذاقيل : الاختصاص يفتقر إلى مخصص والمقدار إلى مقدر ونحو ذلك فإن هذا ليس في الكلام ما يدل عليه لأن المذكور إما مصدر فعل لازم كالاختصاص ونحوه أو اسم ليس بمصدر كالمقدار وكل من هذين ليس في الكلام ما يوجب افتقاره إلى فاعل يتعداه فعله فإذا قيل الموصوف الذي له صفة وقدر قد اختص بصفة وقدر فلا بد له من مخصص لم يكن في هذا الكلام ما يدل على افتقاره إلى مخصص مباين له يخصصه بذلك بخلاف ما إذا قيل إذا خص بصفة أو قدر فلا بد له من مخصص فإن هذا كلام صحيح
والناطقون من أهل النظر وغيرهم إذا قصدوا المعاني فقد لا يراعون مثل هذا بل يطلقون اسم المفعول على ما لم يعلم أن له فاعلا فيقول أحدهم هذا مخصوص بهذه الصفة والقدر والمخصوص لا بد له من مخصص فإذا أخذ المخصوص على أنه اسم مفعول فمعلوم أنه لا بد له من فاعل يتعدى فعله وإذا أخذ على أن المقصود اختصاصه بذلك الوصف مان هذا مما يفتقر إلى دليل وهذا مثل الموجود فإنه لا يقصد به أن غيره أوجده بل يقصد به المحقق الذي هو بحيث يوجد فكثير من الأفعال التي بنيت للمعفول واسم المفعول التابع لها قد كثر ف يالاستعمال حتى بقي لا يقصد به قصد فعل حادث له فاعل أصلا بل يقصد إثبات ذلك الوصف من حيث الجملة
وكثير من ألفاظ النظار من هذا الباب كلفظ الموجود والمخصوص والمؤلف والمركب والمحقق فإذا قالوا : إن الرب تعالى المخصوص بخصائص لا يشركه فيها غيره أو هو موجود لم يريدوا أن أحدا غيره خصه بتلك الخصائص ولا أن غيره جعله موجودا
وبسبب ذلك تجد جماعات غلطوا في هذا الموضع في مثل هذه المسألة إذا قيل الباري تعالى مخصوص بكذا وكذا او مختص بكذا وكذا قالوا فالمخصوص لا بد له ممن خصه بذلك والمخصص لا بد له من مخصص خصصه بذلك
والناس قد يبحثون عن اختصاص الشيء بأمور قبل بحثهم هل هي من نفسه او من غيره ويعلمون ويقولون إنه مخصوص بذلك وقد خص بهذا واختص به ونحو ذلك
ونظير ذلك ما ذكره أبو حامد في تهافت الفلاسفة لما رد عليهم مذهبهم ف ينفي الصفات وبين أنه لا دليل هم على نفيها وتكلم في ذلك بكلام حسن بين فيه ما احتجوابه من الألفاظ المجملة المبهمة كلفظ التركيب فإنهم جعلوا إثبات الصفات تركيبا وقالوا متى أثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيبا وادخلوا في مسمى التركيب خمسة أنواع
أحدها : أنه ليس له حقيقة إلا الوجود المطلق لئلا يكون مركبا من وجود وماهية
والثاني : ليس له صفة لئلا يكون مركبا من ذات وصفات
والثالث : ليس له وصف مختص ومشترك لئلا يكون مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز لتركب النوع من الجنس والفصل أو من الخاصة والعرض العام
الرابع : أنه ليس فوق العالم لئلا يكون مركبا من الجواهر المفردة وكذلك لا يكون مركبا من المادة والصورة فلا يكون مركبا تركيبا حسيا كتركيب الجسم من الجواهر المنفردة ولا عقليا كتركبه من المادة والصورة
وهذان نوعان بهما يصير خمسة وهذه الطريقة هي طريقة ابن سينا فإنه زعم أن نفس الوجود إذا كان يستلزم وجودا واجبا فالوجود الواجب له هذه الخصائص النافية لهذه الصفات ويقول ليس له أجزاء حد ولا أجزاء كم وهذا مراده
كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة
وأما قدماء الفلاسفة فلم يكونوا يثبتون واجب الوجود بهذه الطريقة بل بطريقة الحركة فلما جاء ابن رشد الحفيد يعترض على أبي حامد فيما ذكره لم يمكنه الانتصار لابن سينا بل بين أن هذه الطريقة التي سلكها ضعيفة كما ذكر أبو حامد واحتج هو بطريقة أخرى ظن أنها قوية وهي أضعف من طريقة ابن سينا فإن أبا حامد لما ذكر القول المضاف إلى الفلاسفة كابن سينا وأمثاله وذكر أنهم ينفون تلك الأنواع الخمسة قال ومع هذا فإنهم يقولون للباري تعالى غنه مبدأ وأول وموجود وجوهر واحد وقديم وباق وعالم وعاقل وعقل ومعقول وفاعل وخالق ومريد وقادر وحي وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ وجواد وخير محض وزعموا ان كل ذلك عبارة عن معنى واحد لا كثرة فيه
قال وهذا من العجائب وهم يقولون ذات المبدأ الأول واحد وإنما تكثر الأسماء بإضافة إلى شيء أو إضافة شيء إليه أو سلب شيء عنه والسلب والإضافة لا يوجب كثرة في ذات المسلوب عنه ولكن الشان في رد هذه كلها إلى السلوب والإضافات وذكر تمام قولهم
قال أبو حامد فيقال لهم بم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه وانتم مخالفون من جميع المسلمين سوى المعتزلة فما البرهان عليه ؟ فإن القائل الكثرة محال في واجب الوجود مع كون الصفات الموصوفة واحدة يرجع إلى أنه يستحيل كثرة الصفات فيه وفيه النزاع وليس استحالة معلوما بالضرورة ولهم مسلكان أحدهما أن كل واحد من الصفة والموصوف : إن كان مستغنيا عن الآخر فهما واجبا الوجود وإن كان مفتقرا إليه فلا يكون واحد منهما واجب الوجود وإن احتاج أحدهما إلى الآخر فهو معلول والآخر هو الواجب وأيهما كان معلولا افتقر إلى سبب فيؤدي إلى أن ترتبط ذات واجب الوجود بسبب
قال أبو حامد : المختار من هذه الأقسام هو الأخير ولكن إبطالكم القسم الأول لا دليل لكم عليه فإن برهانكم عليه إنما يتم بنفي الكثرة من هذه المسألة فكيف تنبني هذه المسألة على تلك ؟
تعليق ابن تيمية
قلت الجواب عن هذه الحجة يمكن بوجوه :
الوجه الأول
أن يقال : قولكم : إما أن يقال : قولكم : إما أن يكون أحدهما محتاجا إلى الآخر وإما أن يكون مستغنيا عنه : تريدون بالاحتياج حاجة المفعول إلى فاعله أو مطلق التلازم وهو كون أحدهما لا يوجد إلا بالآخر أم قسم ثالث ؟
فإن أردتم الأول لم يكن أحدهما محتاجا إلى الآخر بل غنيا عن كونه فاعلا له ولا يلزم أن يكونا واجبي الوجود بمعنى أن كلا منهما هو الواجب بنفسه المبدع للممكنات
وإن قيل : إن كلا منهما واجب الوجود بمعنى أنه لا مبدع له
قيل : نعم ولا نسلم امتناع تعدد مسمى واجب الوجود بهذا التفسير وإنما يمتنع تعدده بالتفسير الأول فإن الأدلة قامت على أن خالق الممكنات رب واحد لم تقم على نفي صفاته بل كل من صفاته اللازمة له قديم أزلي ممتنع عدمه ليس له فاعل فإذا عبر عن هذا المعنى بأنه واجب الوجود فهو حق وإن عني بواجب الوجود ما ليس ملازما لغيره فليست الذات وحدها واجبة الوجود ولا الصفات بل الواجب الوجود هو الذات المتصفة بصفاتها اللازمة لها لا سيما وهم يقولون إنها مستلزمة للمعلول فامتناع ذلك على أصلهم أبلغ وقد عرف أن كلا من الصفات الذاتية ملازمة للأخرى والصفات ملازمة للذات وليس كل منهما مبدعا للآخر
وإن قلتم : كل منهما محتاج إلى الآخر بمعنى انه ملازم له لم يلزم من كونه ملازما أن يكون معلولا
الوجه الثاني
وهذا الجواب الثاني وهو أن يقال : ما تعني بواجب الوجود ؟
أتعني به مالا فاعل له أو تعني به القائم بنفسه الذي لا فاعل له ؟
فإن عنيت الأول لم يمتنع أن يكون كل الصفات والذات واجب الوجود بهذا التفسير ولم يدل على امتنع تعدد الواجب بهذا التفسير دليل كما لم يدل على امتناع تعدد القديم بهذا التفسير دليل وإنما دل الدليل على أنه لا إله إلا الله وأن الله رب العالمين واحد لا شريك له وهو التوحيد الذي دل عليه الشرع والعقل
فأما نفي الصفات وتسمية ذلك توحيدا فهو مخالف للشرع والعقل
وإن أراد بواجب الوجود : القائم بنفسه الذي لا فاعل له كانت الذات واجبة الوجود وهي بالصفة واجبة الوجود ولم تكن الصفة وحدها واجبة الوجود
وإن أريد بحاجة كل من الصفة والموصوف إلى الآخر التلازم أختير إثبات ذلك ولم يلزم من ذلك كون أحدهما معلول الآخر فإن المتضايفين متلازمين وليس أحدهما معلول الآخر وإن أريد بذلك كون أحدهما فاعلا اختير نفي الحاجة بهذا التفسير وهو القسم الأول وهو انه ليس أحدهما محتاجا إلى الآخر
وإن أريد أن أحدهما محل للآخر أختير جواب الغزالي وهو ان الصفة محتاجة إلى الذات من غير عكس
وعلى هذا فقول القائل : إن أحدهما معلول للآخر إن أراد به أحدهما فاعل للآخر فهو باطل فإنه لا يجب من قيام الصفة بالموصوف أن يكون الموصوف فاعلا للصفة بل الأمر بالعكس فإن المفعول يمتنع ان يكون من باب الصفات اللازمة للموصوف
وإن أريد بذلك أن يكون أحدهما قابلا للآخر فلا امتناع في ذلك وإن قيل بل إن المحل علة للحال
واعلم أن هذه الحجة وأمثالها غنما نشأت الشبهة فيها من جهة أن ألفاظها مجملة فلفظ العلة يراد به العلة الفاعلة والعلة القابلة ولفظ الحاجة إلى الغير يراد به الملازم للغير ويراد به حاجة المشروط إلى شرطه ويراد به حاجة المفعول إلى فاعله
وإذا عرف هذا فالصفات اللازمة مع الذات متلازمة وليس أحدهما فاعلا للآخر بل الذات محل للصفات وليس الواحد منهما علة فاعلة بل الموصوف قابل للصفات وهذا لا امتناع فيه بل هو الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول
لكن الغزالي لم يجب إلا بجواب واحد ومضمون كلامهم أنهم في جميع كلامهم في نفي الصفات ينتهي أمرهم إلى أن هذا تركيب والمركب مفتقر إلى جزئه والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه لأنه محتاج
كلام الغزالي في مسألة صفات الله
فقال لهم أبو حامد : نحن نختار أن يقال : الذات في قوامها غير محتاجة إلى الصفات والصفات محتاجة إلى الموصوف كما في حقنا فبقي قولكم إن المحتاج إلى غيره لا يكون واجب الوجود فيقال إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له علة فاعلية فلم قلتم ذلك ؟ ولم استحال أن يقال كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفته قديمة معه ولا فاعل لها وإن أردتم بواجب الوجود أن لا يكون له علة قابلية فهو ليس بواجب الوجود على هذا التأويل ولكنه قديم مع هذا ولا فاعل له فما المحيل لذلك فإن قيل : واجب الوجود المطلق هو الذي ليس له علة فاعلية ولا قابلية فإذا سلم أن له علة قابلية فقد سلم كونه معلولا قلنا تسمية الذات القابلة علة قابلية من اصطلاحكم والدليل لم يدل على ثبوت واجب الوجود بحكم اصطلاحكم إنما دل على إثبات طرف ينقطع به تسلسل العلل والمعلولات ولم يدل على هذا القدر وقطع التسلسل يمكن بواحد له صفات قديمة لا فاعل لها كما أنه لا فاعل لذاته ولكنها تكون متقررة في ذاته
تعليق ابن رشد على الغزالي
قال ابن رشد يرد أنه إذا وضع لهم هذا القسم من الأقسام التي استعملوا في إبطال الكثرة آل الأمر معهم إلى أن يثبتوا أن واجب الوجود ليس يمكن أن يكون مركبا من صفة وموصوف ولا أن تكون ذاته ذات صفات كثيرة وهذا شيء ليس يقدرون عليه بحسب أصولهم ثم أخذ يبين أن المحال الذي راموا أن يلزموه على تقدير هذا القسم ليس بلازم قال : فيقال لهم : إن أردتم بواجب الوجود أنه ليس له فاعلة فاعلية فلم قلتم ذلك أي فلم قلتم بامتناع كونه موصفا بالصفات ولم استحال أن يقال : كما أن ذات واجب الوجود قديم لا فاعل له فكذلك صفاته قديمة لا فاعل لها
قال ابن رشد وهذا كله معاندة لمن سلك في نفي الصفات طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود بذاته وذلك أنهم يفهمون في الممكن الوجود الممكن الحقيقي ويرون أن كل ما دون المبدأ الأول هو بهذه الصفة وخصومهم من الأشعرية يسلمون هذا ويرون أن كل ممكن فله فاعل وأن التسلسل ينقطع بالانتهاء إلى ما ليس ممكنا في نفسه فإذا سلم لهم هذه ظن بها أنه يلزم عنها أن يكون الأول الذي انقطع عنده الإمكان ليس ممكنا فوجب أن يكون بسيطا غير مركب لكن للأشعرية أن يقولوا : أن الذي ينتفي عنه الإمكان الحقيقي ليس يلزم أن يكون بسيطا وإنما يلزم أن يكون قديما فقط لا علة فاعلية له فلذلك ليس عند هؤلاء برهان على أن الأول بسيط من طريقة واجب الوجود
كلام آخر للغزالي في مسألة التركيب
قال أبو حامد فإن قيل فإذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو مركب وكل تركيب يحتاج إلى مركب ولذلك لم يجز أن يكون الأول جسما لأنه مركب قلنا قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقوله كل موجود يحتاج إلى موجد فيقال له : الأول قديم موجود لا علة له ولا موجد فكذلك يقال : موصوف قديم ولا علة لذاته ولا لصفته ولا لقيام صفاته بذاته بل الكل قديم بلا علة وأما الجسم فإنما لم يجز أن يكون هو الأول لأنه حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث ومن لم يثبت له حدوث الجسم يلزمه أن تكون العلة الأولى جسما كما سنلزمه عليكم فيما بعد
تعليق ابن رشد على كلام الغزالي
قال ابن رشد معترضا على أبي حامد التركيب ليس هو مثل الوجود لأن التركيب هو مثل التحريك أعني صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب والوجود هو صفة هذه الذات بعينها وأيضا المركب ليس ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره فيلزم أن ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم وأيضا فإذا كان الأمر كما قلنا من أن التركيب أمر زائد على الوجود فلقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك
قال والفصل في هذه المسألة أن المركب لا يخلو من أن يكون كل واحد من جزأيه أو أجزائه التي تركب منها شرطا في وجود صاحبه بجهتين مختلفتين أو لا يكون شرطا أو يكون أحدهما شرطا في وجود الثاني والثاني ليس شرطا في وجود الأول فأما الأول فلا يمكن أن يكون قديما لأن التركيب نفسه شرط في وجود الأجزاء فلا يمكن أن تكون الأجزاء علة التركيب ولا التركيب علة نفسه إلا لو كان الشيء علة نفسه وأما الثاني إذا لم يكن واحد منهما شرطا في وجود صاحبه فإن امثال هذه إذا لم يكن في طباع أحدهما أن يلازم الآخر فإنها ليست تتركب إلا بمركب خارج عنها وإن كان أحدهما شرطا في وجود الآخر من غير عكس كالحال في الصفة والموصوف الغير جوهرية فإن كان الموصوف قديما ومن شانه أن لا تفارقه الصفة فالمركب قديم وإذا كان هذا هكذا فليس يصح إن جوز مجوز وجود مركب قديم أن يبين على طريق الشعرية أن كل جسم محدث لأنه إن وجد مركب قديم وجدت أعراض قديمة أحدها التركيب لأنه أصل ما يبنون عليه وجوب حدوث الأعراض أنه لا تكون الأجزاء التي تركب منها الجسم إلا بعد الأفتراق فإذا جوزوا مركبا قديما أمكن أن يوجد اجتماع لم يتقدمه افتراق وحركة لم يتقدمها سكون وإذا جاز هذا أمكن أن يوجد جسم ذو أعراض قديمة ولم يصح لهم أن مالا يخلو عن الحوادث حادث
تعليق ابن تيمية على كلام الغزالي وابن رشد
قلت ما ذكره أبو حامد مستقيم مبطل لقول الفلاسفة وما ذكره ابن رشد إنما نشأ من جهة ما في اللفظ من الإجمال والاشتراك وكلامه في ذلك أكثر مغلطة من كلام ابن سينا الذي أقر بفساده وضعفه
وذلك أن هؤلاء قالوا لأبي حامد والمثبتين إذا أثبتم ذاتا وصفة وحلولا للصفة بالذات فهو مركب وكل مركب يحتاج إلى مركب
قال لهم قول القائل كل مركب يحتاج إلى مركب كقول القائل : كل موجود يحتاج إلى موجد
ومقصوده بذلك أن هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا ليس معنى كونه مركبا إلا كون الذات موصوفة بصفات قائمة بها ليس معناه أنه كان هناك شيء متفرق فركبه مركب بل ولا هناك شيء يقبل التفريق فإن الكلام إنما هو في إثبات صفات واجب الوجود اللازمة الوجود بنفسه لم يكن أن تفارقه ولا أن توجد دونه ولا يوجد إلا بها فليس هناك شيئان كانا مفترقين فركبهما فركب
ولفظ المركب في الأصل اسم مفعول لقول القائل ركبته فهو مركب كما تقول فرقته فهو مفرق وجمعته فهو مجمع وألفته فهو مؤلف وحركته فهو محرك
قال الله تعالى { في أي صورة ما شاء ركبك } الانفطار 8 يقال ركبت الباب في موضعه
هذا هو المركب في اللغة لكن صار في اصطلاح المتكلمين والفلاسفة يقع على عدة معان غير ما كان مفترقا فاجتمع كما يقول أحدهم الجسم إما بسيط وإما مركب يعنون بالبسيط الذي تشتبه أجزاؤه كالماء والهواء وبالمركب ما اختلفت كالإنسان وقد يقولون كل جسم مركب من أجزائه لأن هذا الجزء غير هذا الجزء وإن كانوا يعتقدون أنه لم يتفرق قط وأنه لم يزل كذلك ويتنازعون هل الجسم مركب من الواهر المنفردة أو من الهيولى والصورة أم ليس مركبا من واحد منهما ؟ مع اتفاقهم على أنه من الأجسام ما لم تكن أجزاؤه مفترقة فتركبت وقد يعنون بالمركب المركب من الصفات كما يقولون الإنسان مركب من الجنس والفصل وهو الحيوان الناطق وهاتان الصفتان لم تفارق إحداهما الأخرى ولا يمكن وجود الناطق إلا مع الحيوان ولا يمكن وجود حيوان إلا مع ناطق أو ما يقوم مقامه كالصاهل ونحوه
فأبو حامد وأمثاله خاطبوا هؤلاء بلغتهم في أن الموصوف بصفة لازمة له يسمى مركبا وقالوا لهم قلتم إن مثل هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا يمتنع في الواجب الوجود فقولهم إن كل مركب مفتقر إلى مركب مغلطة نشأت من الإجمال في لفظ مركب فإنهم لم يسلموا لهم أن هناك تركيبا هو فعل مركب حتى يقال إن المركب يفتقر إلى مركب بل هناك ذات موصوفة بصفات لازمة له فإذا قال القائل كل موصوف بصفات لازمة له يفتقر إلى مركب ومؤلف يجمع بين الذات والصفات كان قوله باطلا فقولهم في هذا الموضع كل مركب يفتقر إلى مركب من هذا الباب
وكذلك إذا قيل كل مؤلف يفتقر إلى مؤلف كما يستعمل مثل هذا الكلام غير واحد من الناس في نفي معان سماها مسم تأيفا وتركيبا فجعل المستدل يستدل بمجرد إطلاق اللفظ من غير نظر إلى المعنى العقلي فيقال لمن سمى مثل هذا تركيبا وتأليفا أتعني بذلك أن هنا شيئا فعله مركب ومؤلف أو ان هنا ذاتا موصوفة بصفات ؟
أما الأول فممنوع فإنه ليس في خلق الله من يقول إن صفات الله اللازمة له متوقفة على فاعل يؤلف ويركب بين الذات والصفات
وإن عنيت الثاني فمسلم ولا دليل لك على أن الذات القديمة الواجبة المستلزمة للصفات تفتقر إلى من يركب صفاتها فيها فلهذا قال أبو حامد هذا كقول القائل كل موجود يفتقر إلى موجد ولو قال إلى واجد لكان أقرب إلى مطابقة اللفظ
وهذا صحيح فإن الموجود اسم مفعول من وجد يجد فهو واجد فإذا قال القائل : كل موجود يفتقر إلى واجد أو موجد نظرا إلى اللفظ كان كقوله كل مركب يفتقر إلى مركب نظرا إلى اللفظ ولكن لفظ الموجود إنما يراد به ما كان متحققا في نفسه لا يعني به ما وجده أو اوجده غيره كما أنهم يعنون بالمركب هنا ما كان متصفا بصفة قائمة به أو ما كان فيه معان متعددة وكثرة لا يعنون به ما ركبه غيره فالذي جرى لهؤلاء المغالطين في لفظ التأليف والتركيب كما جرى لأشباههم في لفظ التخصيص والتقدير فإن الباب واحد فليتفطن اللبيب لهذا فإنه يحل عنه شبهات كثيرة
وأما اعتراض ابن رشد على أبي حامد بقوله ليس المركب مثل الموجود بل مثل التحريك
فجوابه من وجوه :
أحدها أن يقال ليس الكلام في الموازنات اللفظية بل في المعاني العقلية والمقصود هنا أن الذات القديمة الواجبة الموصوفة بصفات لا يجب أن يكون لها جامع منفصل جمع بين الذات والصفات كما أن الموجود المحقق لا يفتقر إلى موجود غير نفسه بل قد يكون موجودا بنفسه لا يفتقر إلى فاعل كذلك اتصافها بالصفات لا يفتقر إلى فاعل
الثاني أن يقال وهب أن هذا مثل التحريك في اللفظ
فقولك : هي صفة انفعالية زائدة على ذات الأشياء التي قبلت التركيب إن عنيت انها زائدة على الذات والصفة وقيام الصفة بالذات فهذا باطل وإن عنيت انها هي قيام الصفة بالذات أو هي الصفة القائمة بالذات فليس في ذلك ما يوجب كونها انفعالية لها فاعل مباين للموصوف
الثالث أن التحريك إن عني به تحريك الشيء لغيره فليس هذا نظير مورد النزاع فإن أحدا لم يسلم أن في الذات القديمة الموصوفة بصفاتها اللازمة شيء ركبه أحد وإن عني به مطلق الحركة صار معنى الكلام أن اتصاف الذات بالصفات كاتصافها بالحركات وليس في واحد منهما ما يقتضي احتياج الموصوف إلى مباين له
وأما قوله ليس ينقسم الأمر إلى مركب من ذاته ومركب من غيره حتى ينتهي الأمر إلى مركب قديم كما ينتهي الأمر في الموجودات إلى موجود قديم
فيقال له بل هؤلاء المسلمون كأبي حامد وأمثاله لما خاطبوكم باصطلاحهم وأنتم جعلتم قيام الصفة بالموصوف تركيبا فإنهم يقولون بحسب اصطلاحكم إنه ينقسم إلى مركب من ذاته ومركب من غيره
وحقيقة الأمر أن ثبوت الصفات إن سميتموه تركيبا لم نسلم لكم عدم انقسام المركب إلى قديم واجب ومحدث ممكن وإن لم تسموه تركيبا بطل أصل كلامكم 0 ولكن أنتم سميتم هذا تركيبا ونفيتموه فلهذا قلتم لا ينقسم المركب فكان كلامكم ممنوعا بل باطلا
وأما قوله إن لقائل أن يقول إن كان يوجد مركب من ذاته فسيوجد متحرك من ذاته وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد معدوم من ذاته
فجوابه من وجوه
أحدها منع المقدمة الأولى فما الدليل على أنه إذا وجدت ذات موصوفة بصفات لازمة له يلزم أن توجد ذات متحركة بحركة منها ليس معه في ذلك إلا مجرد الموازنة اللفظية
الثاني أن حقيقة قوله إن افتقار التركيب إلى مركب كافتقار التحريك إلى المحرك فإن أخذ ذلك على أن له فاعلا فلكل منهما فاعل وإن أخذ مجرد التركيب مجرد التحرك قيل فعلى هذا يكون المعنى إذا وجد متصف بصفة بنفسه يوجد فاعل متحرك بنفسه وإذا كان حقيقة كلامه أنه إذا كان متصفا بالصفات من ذاته فسيوجد متصفا بالأفعال من ذاته 0 فيقال له إما أن تكون هذه الملازمة صحيحة وغما أن لا تكون فإن لم تكن صحيحة فليست بحجة وإن كانت صحيحة كانت دليلا على ثبوت أفعال الله تعالى وكان حقيقتها أنه يلزم من ثبوت الصفات القائمة به ثبوت الأفعال القائمة به فأي محذور في هذا إذا كانت الملازمة صحيحة ؟
الثالث قوله وإن وجد متحرك من ذاته فسيوجد المعدوم من ذاته لأن وجود المعدوم هو خروج ما هو بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك وليس كذلك الوجود لأنه ليس صفة زائدة على الذات فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا موجودا لنه ليس صفة زائدة على الذات فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا موجودا بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة فلذلك احتاج كل متحرك إلى محرك
فيقال ألقني بقولك فسيوجد المعدوم من ذاته أي نفس ما كان معدوما يوجد من الذات المعدومة أم تعني به أن الحركة المعدومة توجد من الذات المتحركة ؟
أما الأول فغير معقول فإن المعدوم ليس له وجود أصلا حتى يعقل أن يوجد منه ذاته أو غير ذاته ووجوده موجود من غير موجود ممتنع بضرورة العقل وكون المعدوم يوجد بنفسه معلوم البطلان بالبديهية
وإن عنيت الثاني فاللازم والملزوم واحد فإن المتحرك من ذاته توجد حركته المعدومة من ذاته
وقول القائل إنه إذا جاز هذا جاز وجود المعدوم من الذات المعدومة ممنوع بل باطل معلوم البطلان
وقوله لأن وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل وكذلك الأمر في الحركة والمتحرك
فيقال له غاية هذا أنهما يشتركان في أمر من الأمور فمن أين يلزم إذا اشتركا في أمر ما أن يشتركا في غيره مع ظهور الفرق فإن قوله وجود المعدوم هو خروج ما بالقوة إلى الفعل لا يجوز أن يراد به أن نفس المعدوم كان فيه قوة هي مبدأ وجوده فإن المعدوم ليس في شيء ولا فيه شيء
وإنما يقال إن ما منه وجد المعدوم كان فيه قوة وجوده كما في النطفة قوة أن تصير علقة 0 وفي الحبة قوة أن تصير سنبلة وفي النواة قوة أن تصير نخلة فالذي فيه القوة ليس هو المعدوم واما الحركة والمتحرك فنفس المتحرك فيه قوة هي مبدأ الحركة فنظير المتحرك المحل الذي وجد فيه ما كان معدوما من الأعراض كما يوجد اللون في المتلونات والطعم في المطعومات والحياة في الأحياء فكذلك الحركة في المتحركات فمحل هذه الصفات والحركات كان قابلا لها وفيه قوة القبول والاستعداد لها وأما نفس هذه الأمور التي كانت معدومة فوجدت فليس فيها من القوة ولا غيرها شيء
فقياس القائس وجود المعدوم من ذاته بوجود الحركة من المتحرك في غاية الفساد والعلة تكون فاعلة وتكون قابلة فلو قال القائل الموجود أو الجسم أو القائم بنفسه أو نحو ذلك يقبل الصفات والأعراض كالحركات ونحوها وفيه قوة لذلك فيجب أن يكون المعدوم فيه قبول لقيام الصفات والحركات به لكان قوله في غاية الفساد فكيف إذا قال إذا كان المتحرك فاعلا بنفسه لحركته وجب أن يكون المعدوم فاعلا لذاته بل يقال الفاعل يمكن أن يفعل غيره وأما فعله لنفسه فممتنع فلو قال إذا كان المتحرك يفعل حركة وجب أن يفعل المعدوم حركة لكان باطلا فكيف إذا قال وجب أن يفعل نفسه
وقوله فكل موجود لم يكن وقتا موجودا بالقوة ووقتا بالفعل فهو موجود بذاته والمتحرك وجوده إنما هو مع القوة المحركة فلهذا احتاج كل متحرك إلى محرك
فيقال له هب أنه سلم لك أن المتحرك وجوده مع القوة المحركة فلم قلت إن الحركة تحتاج إلى محرك منفصل عنه ؟
ثم يقال لك هل يجوز أن يتحرك المتحرك بنفسه بعد أن لم يكن متحركا أم لا ؟
فإن أجزت هذا بطل قولك وجاز وجود المتحرك بنفسه قبل الحركة وقبل القوة المحركة وإن قلت لا يجوز قيل فحركته حينئذ اما أن تكون من نفسه وإما من غيره فإن كانت من نفسه كانت الحركة من نفس المتحرك وبطل قولك وإن كانت من غيره وكان ذلك الغير متحركا فالقول فيه كالقول في الأول وإن كان غير متحرك لزم وجود حركات متوالية عن غير متحرك وهذا قولهم وهو باطل
وذلك أن أجزاء الحركات متعاقبة شيئا بعد شيء فالمقتضى لكل من تلك الأجزاء يمتنع ان يكون موجبا تاما في الأزل لأنه لو كان كذلك للزم أن يقارنه موجبه فإن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها 0 وحينئذ يلزم كون المحدث قديما وهو ممتنع أو يقال إن كانت العلة التامة تستلزم مقارنة معلولها لزم ذلك وإن لم تستلزم ذلك جاز حدوث الحركات المتأخرة عن موجب قديم فيجوز أن يتحرك الشيء بعد ان لم يكن متحركا بدون سبب حادث وهذا يبطل قولكم وإذا لم يكن الموجب التام لها ثابتا في الأزل لزم ان يكون حادثا والقول في حدوثه كالقول في حدوث غيره فيمتنع أن يحدث هو او غيره عن علة تامة قديمة فإذا لم يكن في الفاعل فعل حادث امتنع أن يصدر عنه شيء حادث فامتنع صدور الحركات عن غير متحرك
ومما اعترف به ابن رشد وغيره من الفلاسفة والمتكلمين وقال عن إخوانه لفلاسفة إن الذي يتمسكون به سببان :
أحدهما أن فعل الفاعل يلزمه التغير وإن كل متغير فله مغير
والثاني أن القديم لا يتغير بضروب من ضروب التغير
وقال وهذا كله عسير البيان
قلت وهذا المقام وهو حدوث الحوادث عن ذات لا يقوم بها حادث ن مما اعترف حذاقهم بصعوبته وبعده عن المعقول كما ذكر ذلك ابن رشد والرازي وغيرهما وهؤلاء المتفلسفة يقولون إن النفس المحركة للأفلاك يحدث لها تصورات وإرادات هي مبدأ الحركة وأن محركها العقل الذي يريد التشبه به او واجب الوجود الذي يطلب الفلك التشبه به بإخراج ما فيه من الأيون والأوضاع وتحريك الواجب أو العقل للفلك أو لنفس الفلك كتحريك المحبوب للمحب والمشتهى للمشتهى والمعشوق للعاشق ليس من جهة المحرك فعل أصلا بل ذلك يحبه فيتحرك تشبها به
وبهذا أثبت أرسطو وأتباعه العلة الأولى وان فوق الأفلاك ما يوجب تحريك الأفلاك
والكلام على هذا من وجوه ليس هذا موضع بسطها لكن يقال كون الفلك يتحرك للتشبه بالواجب أو إخراج ما فيه الأيون والأوضاع كلام لا دليل عليه بل الأدلة الدالة على فساده كثيرة ليس هذا موضعها
فنقول : هب أن الأمر كذلك فهذا إنما فيه أنه أثبت العلة الغائية للحركة
فيقال : أين السبب الفاعل لحركة الفلك ؟ فإن الحركة وإن افتقرت إلى غاية مقصودة فتفتقر إلى مبدأ فاعل بالضرورة
فإذا قالوا نفسه تحركه
قيل لهم فما الفاعل لما يحدث في النفس من أسباب الحركة كالتصورات والإرادات ؟ فإن فإن هذه كانت معدومة ثم وجدت بعد العدم فما السبب الفاعل لهذه الحركة
فإن قالوا النفس هي الفاعلة لهذه الحركة فقد جعلوها متحركة من نفسها وهذا خلاف ما قالوه
وإن قالوا شيئا غيرها قيل لهم الكلام فيه كالكلام في النفس فإنه إن حدث فيه ما لم يحدث سئل عن سبب ذلك
وإن قيل بل المحدث لحركة النفس على حال واحدة أزلا وأبدا قيل لهم فقد لزمكم حدوث حادث بلا سبب وقيل لكم ذلك المحرك للنفس إن كان علة في الأزل وجب وجود معلوله في الأزل فيجب وجود ما حدث للنفس من التصورات والإرادات في الأزل وهذا جمع بين النقيضين
وإن قيل بل حدث له أمر به صار فاعلا لما يحدث في النفس سئل عن سبب حدوث ذلك
وإذا قيل الحادث استعداد النفس لأن يفيض عليها من الفعل ما تتصور به وتريد
قيل فذلك الاستعداد حادث والقول في سبب حدوثه كالقول في سبب حدوث غيره فلا بد من أحد أمرين غما حدوث الحوادث بلا سبب حادث وإما حدوث الحوادث عن متحرك وأيهما كان بطل قولهم 0 والأول يقولون إنه معلوم البطلان بالضرورة فيلزمهم الثاني فقد ألزم مناظريه ما يلزمه هو أشد منه وتبين به أن قول إخوانه أشد فسادا فإنه قال والذي لا مخلص للأشعرية منه هو إنزال فاعل أول وإنزال فعل له أول لأنهم لا يمكنهم أن يضعوا أن حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون في وقت الفعل هي بعينها حالته في وقت عدم الفعل فهنالك ولا بد حالة متجددة ونسبة لم تكن وذلك ضرورة إما في الفاعل أو في المفعول او في كليهما وإذا كان كذلك فتلك الحال المتجددة إذا أوجبنا أن لكل حال متجددة فاعلا لا بد أن يكون الفاعل لها إما فاعلا آخر فلا يكون ذلك الفاعل هو الأول ولا يكون مكتفيا بفعله بنفسه بل بغيره ن وإما ان يكون الفاعل لتلك الحال التي هي شرط في فعله هو نفسه ن فلا يكون ذلك الفعل الذي فرض صادرا عنه اولا أولا بل يكون فعله لتلك الحال التي هي شرط في المفعول قبل فعله المفعول
قال وهذا لازم كما ترى ضرورة إلا أن يجوز أن من الأحوال الحادثة في الفاعلين مالا يحتاج إلى محدث وهذا بعيد إلا على قول من يجوز ان ههنا أشياء تحدث من تلقائها وهو قول الأوائل من القدماء الذين أنكروا الفاعل وهو قول بين سقوطه بنفسه
فيقال له ك أنت ألزمت مناظريك من أهل الكلام حدوث حادث بلا سبب حادث وذكرت أن هذا ممتنع بالضرورة وهذا هو المقام المعروف الذي استطالت به المتفلسفة الدهرية على مناظريهم من أهل الكلام المأخوذ في الأصل عن الجهمية والقدرية فيقال له أنت يلزمك ما هو أشد من هذا وهو حدوث الحوادث بلا فاعل وهو الذي ذكرت أنه ساقط بين السقوط وذلك أن الحوادث المشهودة أن قلت لا فاعل لها فقد لزمك هذا القول وإن قلت : لها فاعل قيل لك : أفعلها بعد أن لم تكن من غير حدوث شيء في ذاته ام لم يفعلها حتى حدث شيء في ذاته ؟
فإن قلت بالأول قيل لك : فهي دائمة أو لها ابتداء ؟ فإن قلت لها ابتداء فهذا قول منازعيك وإن قلت لا ابتداء لها فقد صارت الحوادث كلها تحدث عن فاعل من غير حدوث شيء فيه وقد قلت إنه لا يمكن أن يكن حال الفاعل في المفعول المحدث وقت الفعل هي بعينها حاله وقت عدم الفعل فيلزمك أن لا يكون حاله عند وجود حوادث الطوفان هي حاله عند وجود الحوادث التي قبله فإن الحوادث مختلفة فإن أمكن أن يكون حاله واحدا مع حدوث الحوادث المختلفة أمكن أن يكون حاله واحدا مع تجدد الحوادث لأن الحادث الثاني كالطوفان فيه من الأمور ما لم يكن له قبل ذلك نظير فتلك حوادث لا نظير لها ولا فرق بين إحداث هذا وإحداث غيره وإذا جعل المقتضي لذلك تغيرات تحدث في الفلك كان الكلام في حدوث تلك التغيرات العلوية كالكلام في حدوث التغيرات السفلية
وإن قلت : بل حدث أمر أوجب هذه الحوادث
قيل لك : الفاعل له : إن كان هو الأول عاد الإلزام جذعا وإن كان غيره لزمك حدوث الحوادث بلا فاعل وإن التزمت أنه ما فعلها حتى حدث فيه شيء فقد تركت قولك
وأيضا فالفاعل المستكمل لشروط الفعل إما أن يجوز حدوث المفعول عنه بعد أن لم يكن بلا سبب حادث وإما أن لا يجوز فغن جاز فهو قول منازعك الذي ادعيت أنه فاسد بالضرورة وإن لم يجز لزم أن يكون مفعوله مقارنا له لا يتأخر عنه منه شيء فلا يجوز أن يحدث عن الفاعل شيء كما تقوله أنت وإخوانك إنه علة تامة وموجب تام والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء من معلولها فإذا كل ما تأخر عن الأول ليس معلولا للعلة التامة ولا مفعولا للفاعل الأول ولا يجوز أن يكون فعلا لغيره إذ القول في ذلك الغير كالقول فيه فيلزم أن تكون الحوادث كلها حادثة بلا محدث
وهذا لازم لهؤلاء الفلاسفة الإلهيين كما يلزم إخوانهم الطبيعيين وهو القول الذي هو من أظهر المعارف الضرورية فسادا وقد بسط الكلام على هذه المواضع في غير هذا الموضع وإنما كان المقصود هنا التنبيه على جنس ما يغالط به هؤلاء وأمثالهم من الألفاظ المجملة كلفظ المركب ونحوه كما يغالطون بلفظ التخصيص والمخصص وأن كلام أبي حامد وأمثاله في مناظرتهم خير من كلامهم وأقوم
وأما قول ابن رشد لا يخلو إما أن يكون كل من جزأيه شرطا في وجود الآخر أو لا يكون أو يكون الواحد شرطا في الآخر من غير عكس
وقوله القسم الأول لا يكون قديما وذلك أن التركيب نفسه هو شرط في وجود الآخر فليس يمكن أن تكون الأجزاء هي علة التركيب ولا التركيب علة نفسه إلا لو كان الشيء علة نفسه
فيقال له أولا تسمية هذا تركيبا وأجزاء ليس هو من لغات بني آدم المعروفة التي يتخاطبون بها فإنه ليس في لغة الآدميين أن الموصوف بصفات يقال إنه مركب منها وأنها أجزاء له وإذا خاطبناكم باصطلاحكم فقد علمتم انه ليس المراد بالمركب إلا اتصاف الذات بصفات لازمة لها أو وجود معان فيها أو اجتماع معان وأمور ونحو ذلك ليس المراد أن هناك مركبا ركبه غيره حتى يقال : إن المركب نفتقر إلى مركب فإن من وافقكم على اصطلاحكم في تسمية الذات الواجبة الموصوفة بصفاتها اللازمة تركيبا لم يرد بذلك أن هناك مركبا ركبها فغن هذا لا يقوله عاقل ولا انتم أيضا تدعون أن مجرد اللفظ الدال على هذا المعنى يقتضي أن يكون له فاعل ولكن تدعون ثبوت ذلك إما بطريقة ابن سينا ونحوه الذي قد تقدم إبطالها وإما بطريقة المعتزلة التي اختارها ابن رشد واعترف بفساد طريقة ابن سينا
وإذا كان المراد بلفظ التركيب ما قد عرف فمن المعلوم ان الذات الموصوفة بصفات لازمة لها أو فيها معان لازمة لها لا يقال فيها : إن اتصاف الذات بالصفات أمر معلوم مفتقر إلى فاعل حتى يقال إن الأجزاء هي علة التركيب أو يقال التركيب علة نفسه بل هذا المعنى الذي سميته تركيبا هو من لوازم الواجب بنفسه لا يمكن أن يكون الواجب إلا موصوفا بالصفات اللازمة له ثابتة له المعاني اللازمة له وليس لذلك علة فاعلة كما تقدم
وأما قوله إن التركيب شرط في وجود الأجزاء
فيقال له لا ريب أنه لا يمكن وجود الذات إلا موصوفة بلوازمها ولا يمكن أن توجد صفاتها إلا بوجودها فاجتماع الذات بالصفات واجتماع الأمور المتلازمة شرط في وجود كل منها وهي أيضا شرط في وجود ذلك الاجتماع وليس شيء من ذلك معلولا لفاعل ولا مفتقرا إلى مباين ن وتوقف أحدهما على الآخر هو من باب الدور الاقتراني المعي لا من باب الدور السبقي القبلي والألو جائز والثاني ممتنع فغن الأمور المتلازمة لا يوجد بعضها إلا مع بعض وليس بعضها فاعلا لبعض بل أن كانت واجبة الوجود بنفسها وإلا افتقرت كلها إلى فاعل
والذات التي لا تقبل العدم بما هي عليه من الصفات اللازمة هي الحق الواجب الوجود بنفسه وأما مجرد وجود مطلق في الخارج وذات لا صفة لها فلذلك ممتنع لنفسه فضلا عن أن يكون واجب الوجود
واتصاف الذات الواجبة بصفاتها اللازمة سواء سمي تركيبا او لم يسم لا يوجب افتقاره ولا افتقار الذات ولا شيء من صفاته إلى فاعل ولا علة فاعلة ولا ما يشبه ذلك وأما كون بعضها مستلزما لبعض ومشروطا به ولا يوجد إلا معه وثبوته متوقف عليه ونحو ذلك فليس في هذا ما يقتضي افتقار ذلك إلى فاعل مبدع لكن يعلم ان الذات لا تكون إلا بصفاتها اللازمة وصفاتها لا تكون إلا بها
وإذا سمى المسمي هذا افتقارا وسمى هذه أجزاء وسمى هذا الأجتماع تركيبا لم يكن في هذه التسمية ما يوجب أن يكون هذا الموصوف مفتقرا إلى فاعل وما جعله افتقارا ليس هو افتقار المفعول إلى الفاعل والمعلول إلى العلة الفاعلة وإنما هو تلازم ومن سماه افتقارا لا يمكنه أن يفسره إلا لافتقار المشروط إلى الشرط والشرط إلى المشروط
ومثل هذا المعنى لازم للوجود الواجب لا ممتنع عليه وإنما الممتنع أن يفتقر إلى مباين له فيكون وجود الواجب متوقفا على وجود مباين فإن كان المباين علة له لم يكن موجودا بنفسه بل ممكنا له فاعل وعلة وإن قدر انه شرط فيه وهو غني عنه وما كان وجوده مشروطا بما هو غني عنه لم يكن موجودا بنفسه فلا يجوز أن يكون الرب الخالق تعالى الذي له الذات الموصوفة بصفات الكمال متوقفا على شيء مباين له بل ولا على شيء عني عنه بوجه من الوجوده لا على فاعل ولا شرط
وهذا هو الذي يقوم عليه الدليل فإن الممكنات التي لا وجود لها من نفسها لا توجد إلا بغيرها وما كان خارجا عنها لم يكن وجوده إلا بنفسه ونفسه هي الذات الموصوفة بصفاتها اللازمة ليست نفسه مجرد وجود مطلق ولا ذات مجردة
ومن ادعى أن ما كان وجوده بنفسه لا يكون إلا وجودا مجردا وذاتا مجردة لأن الذات الموصوفة مفتقرة إلى الصفة فلا يكون موجودة بنفسها
قيل له : الممكنات والمحدثات لم تفتقر إلى ذات مجردة ن حتى يقال إذا قيل إنها موصوفة لزم الافتقار بل افتقرت إلى ما هو خارج عنها كلها
والتعبير عن هذا المعنى يكون بعبارات فإذا قيل : ما لا يقبل العدم أو قيل موجود بنفسه او واجب الوجود بنفسه ونحو ذلك كان المقصود واحدا ومن المعلوم أن مالا يقبل العدم إذا كان ذاتا موصوفة بصفات الكمال لم يجز ان يقال : اتصافها بصفات الكمال يوجب افتقارها إلى الصفات فتقبل العدم فإن فساد هذا الكلام ظاهر وهو بمنزلة أن يقال قولكم : موجود بنفسه أو واجب الوجود بنفسه يقتضي افتقاره إلى نفسه والمفتقر لا يكون واجب الوجود بنفسه بل يكون قابلا للعدم وإذا كان هذا فاسدا فالأول أفسد فإن صفات كماله داخلة في مسمى نفسه فإذا كان قول القائل : هو مفتقر إلى نفسه لا يمنع وجوب وجوده فقوله إنه مفتقر إلى صفاته أولى أن لا يمنع وجوب وجوده
وكذلك إذا سمى ذلك أجزاء وقال : هو مفتقر إلى أجزائه فإن جزء الشيء وبعضه وصفته ونحو ذلك داخل في مسمى نفسه فإذا لم يكن قول القائل : هو مفتقر إلى نفسه مانعا من وجوب وجوده ن فقوله هو مفتقر إلى جزئه وصفته ونحو ذلك أولى وتسمية مثل هذا افتقارا لفظ فيه تلبس وتدليس يشعر الجاهل بفقره وهذا كما لو قيل : هو غني بنفسه فإنه قد يقول القائل : فهو فقير إلى نفسه فصفاته داخلة في مسمى نفسه وهو غني سبحانه بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه
وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع وقد قال ابن رشد هذا الذي يعبر على من قال بنفي تعدد الصفات هو ان تكون الصفات المختلفة ترجع إلى ذات واحدة حتى يكون مفهوم العلم مثلا والإرادة والقدرة مفهوما واحدا وانها ذات واحدة وأن يكون أيضا العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد معنى واحدا والذي يعبر على من قال : إن ههنا ذاتا وصفات زائدة على الذات ان تكون شرطا في وجود الصفات والصفات شرطا في كمال الذات ويكون المجموع من ذلك شيئا واجب الوجود أي موجودا واحدا ليس فيه علة ولا معلول
قال لكن هذا لا جواب عنه في الحقيقة إذا وضع ان ههنا شيئا واجب الوجود بذاته فإنه يجب أن يكون واحدا من جميع الوجوه وغير مركب أصلا لا من شرط ومشروط ولا من علة ومعلول لأن كل موجود بهذه الصفة : فإما أن يكون تركيبه واجبا وغما أن يكون ممكنا فغن كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته لأنه يعسر إنزال مركب قديم من ذاته أعني من غير أن يكون له مركب وبخاصة على قول من أنزل أن كل عرض حادث لأن التركيب فيه يكون عرضا قديما وإن كان ممكنا فهو محتاج إلى ما يوجب اقتران العلة بالمعلول
قال وأما هل يوجد شيء مركب من ذاته على اصول الفلاسفة وإن جوزوا أعراضا قديمة فغير ممكن وذلك أن التركيب شرط في وجوده وليس يمكن أن تكون الأجزاء هي فاعلة للتركيب لأن التركيب شرط في وجودها وكذلك أجزاء كل مركب من الأمور الطبيعية إذا انحلت لم يكن الاسم المعقول عليها إلا بالاشتراك مثل اسم اليد المقولة على التي هي جزء من الإنسان الحي واليد المقطوعة بل كل تركيب عند أرسطو طاليس فهو كائن فاسد ن فضلا عن ان يكون لا علة له وأما هل تفضى الطريقة التي سلكها ابن سينا في واجب الوجود إلى نفي مركب قديم فليس تفضي إلى ذلك لأنه إذا فرضنا أن الممكن ينتهي إلى علة ضرورية والضرورية لا يخلو إما أن يكون لها علة او لا علة لها وأنها إن كانت لها علة فإنها تنتهي إلى ضروري لا علة له فإن هذا القول إنما يؤدي من جهة امتناع التسلسل إلى وجود صورية ومادية إلا أن يوضع ان كل ماله صورة ومادة وبالجملة كل مركب فواجب أن يكون له فاعل خارج عنه وهذا يحتاج إلى بيان ولم يتضمنه القول المسلوك في شأن واجب الوجود مع ما ذكرنا أن فيه من الأختلال ولهذا بعينه لا يفضي دليل الشعرية وهو ان كل حادث له محدث إلى أول قديم ليس بمركب وإنما يفضي إلى أول ليس بحادث
قال وأما أن يكون العالم والعلم شيئا واحدا فليس ممتنعا بل واجب أن ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها وذلك أن العالم إن كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى ان يكون عالما وذلك أن كل ما استفاد صفة من غيره فتلك الصفة أولى بذلك المعنى المستفاد مثال ذلك أن هذه الأجسام الحية التي لدينا ليست حية من ذاتها بل من قبل حياة تحلها فواجب أن تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها أو يفضي الأمر فيها إلى غير نهاية وكذلك يعرض في العلم وسائر الصفات
تعليق ابن تيمية
قلت : ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل كيف يتكلمون في غاية حكمتهم ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا بكلام فيه تلبيس وتدليس فإنه ذكر ما يلزم مثبة الصفات وما يلوم نفاتها
فقال : يلزم النفاة أن تكون الصفات ترجع إلى ذات واحدة فيكون مفهوم العلم والقدرة والإرادة مفهوما واحدا وأن يكون العلم والعالم والقدرة والقادر والإرادة والمريد واحدا وقد قال إن هذا عسير
قلت : بل الواجب أن يقال : أن هذا مما يعلم فساده بضرورة فمن جعل العلم هو القدر والقدرة هي الإرادة وجعل الإرادة هي المريد والعلم هو العالم والقدرة هي القادر كان مخالفته للعوم الضرورية وسفسطته اعظم من سفسطة كثير من السوفسطائية وقود هذه المقالة أن يمكن أن يكون المتكلم هو الكلام والمتحرك هو الحركة والمصلي هو الصلاة والصائم هو الصوم وأمثال ذلك وإن فرق بين الصفات اللازمة وغيرها فلا فرق في الحقيقة بل هذا تحكم ويلزمه ان يكون الإنسان الناطق نفس النطق والفرس الصاهل نفس الصهيل والحمار الناهق نفس النهيق والجسم الحساس المترحك بالإرادة نفس الإحساس والحركة الإرادية ويلزمه أيضا أن يجعل نفس الحس نفس الحركه ونفس الحيوانيه نفس الناطقية ونفس الصاهلية نفس الناهقية
وما أحق هؤلاء بدخولهم في قول الله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } الأنعام 39
وبقوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } الأعراف 179
وبقوله تعالى { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } الملك 10
وقول ابن رشد كون العالم والعلم شيئا واحدا ليس ممتنعا بل واجب ان ينتهي الأمر في أمثال هذه الأشياء إلى أن يتحد المفهوم فيها
فيقال له : هذا من أعظم المكابرة والفسفسطة والبهتان وقوله إن العالم إذا كان عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما إلى آخر كلامه كلام في غاية الفساد كما أنه إذا قيل إذا كان الضارب ضاربا بضرب فالضرب اولى أن يكون ضاربا والقائم إذا كان قائما بقيام أولى أن يكون قائما والناطق إذا كان ناطقا بنطق فالنطق أولى أن يكون ناطقا والقاتل إذا كان قاتلا ماشيا والخالق إذا كان خالقا بخلق فالخلق أولى أن يكون خالقا والرازق إذا كان رازقا برزق فالرزق أولى ان يكون رازقا والمحيي المميت إذا كان محييا مميتا بإحياء وإماتة فالإحياء والإماتة أولى أن يكون محييا مميتا
وبالجملة فهذا يلزم نظيره في عامة أسماء الله الحسنى وفي أسماء نبيه صلى الله عليه و سلم وأسماء سائر الموجودات المشتقة يلزم أن يكون المصدر الذي اشتق منه الاسم أحق بالاسم من الفاعل ويكون مسمى المصدر الذي هو الحدث أحق بأسماء الفاعلين والصفات المشبهة بها من من نفس الفاعل الموصوف
وتصور هذا الكلام كاف في معرفة فساده وإنما دخلت الشبهة على من قاله لأن قوله إذا كان العالم عالما بعلم فالذي به العالم عالم أحرى أن يكون عالما كلام اشتبهت فيه باء الاستعانة بباء المصاحبة فظن أنه إذا قيل هذا عالم بعلم أن العلم هو الذي أفاده العلم والعلم هو الذي أعطاه العلم كأنه معلمه فكأنه قال إذا كان المتعلم عالما فمعلمه أولى أن يكون عالما وليس الأمر كذلك بل قولنا هذا عالم بعلم أي أنه موصوف بالعلم أي ليس موجودا عن العلم ولا معرى عنه بل هو متصف به والعلم نفسه لا يعطيه العلم بل نفس العلم هو العلم وإن كان العلم قديما من لوازم ذاته فلم يستفيده من أحد وإن كان محدثا فقد استفاده من غيره ولم يستفد العلم من العلم لكن هل له حال وهو كونه عالما معللة بالعلم أم كونه عالما نفس العلم هذا فيه نزاع بين مثبتة الحال ونفاتها ومن أثبتها لم يقل إنها صفة موجودة
وقوله ما استفاد صفة من غير فتلك الصفة يعني المستفاد منها اولى بذلك المعني المستفاد كما مثل به من الحياة كلام فاسد فإن العالم لم يستفد الصفة التي هي العلم من الصفة التي هي العلم بل نفس علمه هو نفس الصفة ليس هنا صفة مفيدة وصفة مستفادة إلا أن يقال اعلم أثبت العالمية على رأي مثبتة الحال وعلى هذا التقدير فالعالمية ليست صفة وجودية وهو غنما كان عالما بالعلم الوجوب للحال لا بالحال الموجبة للعلم وإذا كان عالما بالعلم لم يكن العلم حصل من علم آخر وإنما العلم عند هؤلاء اوجب كونه عالما والذي عليه الجمهور أن نفس العلم هو نفس كونه عالما فليس هنا شيئان وعلى القولين فإذا استحق الموصوف بالعلم أن يسمى عالما لم يكن العلم أحق بأن يكون عالما فإن هذا لا يقوله عاقل :
وقوله إن الجسم إذا كانت حياته من قبل حياة تحله فواجب أن تكون تلك الحياة التي استفاد منها ما ليس بحي الحياة حية بذاتها
فيقال : هذا باطل من وجهين :
أحدهما أن الحياة التي حلته هي الحياة التي صار بها حيا ليس هنا حياة أخرى صار بها حيا حتى يقال هنا حياة حلته وحياة جعلته حيا
الثاني أن حياته إذا قدر أنها مستفادة من حياة أخرى فتلك الحياة الأخرى قائمة بحي هو حي بها لا أن تلك الحياة هي الحية بل الحي الموصوف بالحياة لا نفس الحياة فلينظر العاقل نهايات مباحث هؤلاء الفلاسفة في العلم الإلهي : العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته ن ولينظر هذا المعقول الذي يعارضون به الرسول صلى الله عليه و سلم مع أن هذا مبسوط في غير هذا الموضع وليس هذا موضع بسطه
والناس شنعوا على ابي الهذيل العلاف لما قال إن الله عالم بعلم وعلمه نفسه ونسبوه إلى الخروج من العقل مع أن كلامه أقل تناقضا من كلام هؤلاء
وأما زعمه أن ما يلزم مثبتة الصفات لا جواب عنه لأن واجب الوجود يجب أن يكون غير مركب من شرط ومشروط
فيقال له : قد تقدم أنكم أنتم سميتم هذا تركيبا هو لا يسمى تركيبا في لغة من اللغات المعروفة لبني آدم بل إنما سماه تركيبا متأخروكم كابن سينا وأمثاله وأما قدماؤكم فقد ذكرتم عن أرسطو طاليس أن كل تركيب فهو كائن عنده فاسد والسماء عنده ليست كائنة فاسدة فهو لا يسمي السماوات وما فيها من الكواكب مركبة مع لأنها أجسام متحيزة متحركة تقوم بها الأعراض فكيف يسمي ما كان حيا عالما قادرا مركبا ؟ وإذا خاطبناكم باصطلاحكم المبتدع لنقطع شغبكم بحثنا معكم بحثا عقليا فإنكم تدعون أن هذه الأمور معلومة بالعقل لا بالسمع وإطلاق الألفاظ ونفيها لا تقفون أنتم فيه عند الشرع فالواجب على أصولكم أن ما علم بالعقل ثبوته أو انتفاؤه اتبع من غير مراعاة للفظ
ونحن نبين فساد ما ذكرتموه من المعنى بالعقل الصريح مع مخاطبتكم بلغتكم فيقال له لم قلت إن ما كان مركبا من شرط لا يكون واجب الوجود ؟
وأما قوله لأن تركيبه إذا كان واجبا كان واجبا بغيره لا بذاته لأنه يعسر تقدير مركب قديم من غير أن يكون له مركب
فيقال له هذا هو البحث اللفظي ذكرنا هذا لأجله والمركب الذي يفتقر إلى مركب هو ما ركبه غيره كما أن المحرك الذي يفتقر إلى محرك ما حركة غيره ولم يقل احد من العقلاء إن واجب الوجود مركب ركبة غيره وأنتم إذا سميتم اجتماع الذات والصفات تركيبا لم تريدوا إلا الاجتماع والتعدد والتألف وكثرة المعاني ونحو ذلك لم تقصدوا بذلك ان هناك فاعلا لذلك وإن أردتم ذلك كان باطلا وبطل اللفظ والمعنى جميعا فغن أصل الكلام أن الواجب إذا كان ذاتا موصوفة بصفات كان مركبا فإن أراد المريد : كان له من ركبه من الذات والصفات كان التلازم ممنوعا بل هو باطل ضرورة فإنا إذا قدرنا واجب الوجود بنفسه الغني عن الفاعل موصوفا بصفات لازمة له امتنع أن يكون للواجب بنفسه المستلزم لصفاته من ركب بينه وبين صفاته فإن كونه واجبا بنفسه يمنع ان يكون له فاعل وكون صفاته لازمة له يمنع جواز مفارقتها له ويمنع افتقارها إلى من يجعلها فيه فكيف يقال : إن له مركبا ركبه حتى يقال : إن هذا تركيب يفتقر إلى مركب ويقال يمتنع ثبوت مركب قديم أي من ذاته ومن سمى هذا تركيبا وقال إنه قديم فإنه يقول هو تركب وتألف واجتماع ومثل هذا لا يفتقر إلى مركب مؤلف جامع ولو قيل على سبيل الفرض إن الذات المستلزمة للصفات هي الموصوفة بذلك فليس هنا ما يقتضي افتقارها إلى غيرها
كلام لابن رشد باطل من وجوه
وأما قوله خاصة على قول من يقول كل عرض حادث لن التركيب يكون فيه عرضا قديما فهذا باطل من وجوه :
الوجه الأول
أن القائلين بأن كل عرض حادث من الأشعرية ومن وافقهم لا يسمون صفات الله أعراضا فإذا قالوا هو عالم وله علم وهو متصف بالعلم لم يقولوا إن علمه واتصافه بالعلم عرض ومن سمى صفاته أعراضا كالكرامية ونحوهم لم يلزمهم أن يقولوا كل عرض حادث 0 وما أعلم أحدا من نظار المسلمين يقول كل عرض حادث وصفات الله القديمة عرض فإن هذا تناقض بين فما ذكره لا يلزم أحد من المسلمين ن فلم يقل أحد إن كل عرض حادث مع قوله إن صفات الله اللازمة له أعراض
الوجه الثاني
أن يقال على سبيل التقدير من قال كل عرض حادث فإنه يقول في الأعراض الباقية إنها تحدث شيئا بعد شيء فإذا قدر موصوف قديم بصفات وقيل إنها أعراض والعرض لا يبقى زمانين لزم أن يقال إنها تحدث شيئا بعد شيء وحينئذ فإذا قدر اجتماع أو تألف او تعدد في الصفات ونحو ذلك مما سميته تركيبا
وقيل إنه قديم وإنه عرض وإن كل عرض فهو حادث لا يبقى زمانين كان أولى بتجدد أمثاله من سائر الأعراض فثبوت المعنى الذي سماه تركيبا وجعله عرضا قديما كسائر الصفات القديمة
الوجه الثالث
أن يقال هذا الذي سميته عرضا قديما حكمه سائر الصفات فإن أقمت دليلا على انتفاء الصفات أمكن نفي هذا وإلا فالقول فيه كالقول في أمثاله 0 وأنت لا دليل لك على انتفاء الصفات إلا انتفاء الاجتماع والتعدد الذي سميته تركيبا فإذا لم يمكنك نفي هذا إلا بنفي غيره من الصفات ولا يمكنك نفي الصفات إلا بنفي هذا كان هذا دورا قبليا باطلا وقد تبين انه لا يمكنك لا نفي هذا ولا نفي هذا وان ما ذكرته من لفظ التركيب كلام فيه تلبيس توهم به من لا يفهم حقيقة المقصود أن مثبته الصفات أثبتوا لله تعالى ما يفتقر فيه إلى مركب يركبه معه وكل عاقل يعلم أن مذهب المسلمين المثبتين للصفات أن صفاته القديمة لازمة لذاته لا يفتقر فيها إلى أحد سواه ومن جعل اتصافه بها مفتقرا إلى مركب غيره فهو كافر عندهم فضلا عن أن يقولوا إنه مفتقر إلى مركب جمع بينه وبينها
الوجه الرابع
أن يقال على سبيل الفرض لو نازعك بعض إخوانك الفلاسفة في امتناع مركب قديم من ذاته لم يكن لك عليه حجة فلو قدر أن ذلك يستلزم مركبا قديما من ذاته لم يكن لك على أصول إخوانك الفلاسفة حجة على إبطال هذا فإن الفلك عندكم جسم قديم وهو مركب بهذا الاصطلاح
وأما قولك الفلاسفة وإن جوزوا أعراضا قديمة فغير ممكن وجود قديم من ذاته عندهم ن لأن التركيب شرط في وجوده ولا يمكن أن تكون الأجزاء هي فاعلة للتركيب لأن التركيب شرط في وجودها
فيقال لك إذا كان التركيب شرطا في وجودها نوهي شرط في وجود التركيب لم يكن أحدهما فاعلا للآخر بل إن كانا مفتقرين إلى الفاعل ففاعل الأجزاء هو فاعل التركيب وإن كانا غنيين عن الفاعل لم يفتقر أحدهما إلى الفاعل 0 والكلام على تقدير أن يكون المركب قديما تركيبه بنفسه 0 وقولك مركب من نفسه لا تعنى به أن أجزاءه فعلت التركيب وإنما تعنى به أن نفس الأجزاء متلازمان وهما مستغنيان عن غيرهما
الوجه الخامس
أن يقال قد اعترفت بفساد طريقة ابن سينا وأنها لا تتضمن أن كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه
وهذا الذي قلته في طريقة ابن سينا يلزمك بطريق الأولى فإنه ليس فيما ذكرته أن كل مركب فلا بد له من فاعل خارج عنه إلا ما أخذته من لفظ مركب وهذا تدليس قد عرف حاله
وأما قولك إن دليل الأشعرية أيضا لا يفضي إلى إثبات أول قديم ليس بمركب وإنما يفضي إلى إثبات أول ليس بحادث
فهذا أيضا توكيد لإثبات الصفات ن فإن مرادك بالمركب ما كان موصوفا بالصفات ولا ريب أن الأدلة الدالة على إثبات الصانع ليس فيها والحمد لله ما ينفي إثبات الصفات
فإن قلت فهم ينفون التجسيم بناء على انتفاء التركيب ولا دليل لهم على ذلك
قيل لك هذه حجة جدلية وغايته أن تلزمهم التناقض وذلك لا يقتضي صحة قولك الذي نازعوك فيه وهو نازعوك في إثبات الصفات فقلت إن إثبات الصفات يستلزم التركيب وأنت لم تقم دليلا على نفي هذا التركيب فلم تقم دليلا على نفي الصفات وقالوا لك أيضا لا دليل لك على نفي التجسيم فإن عمدتك هو نفي الصفات العائد إلى نفي التركيب وقد ظهر ذلك
فإذا قلت لهم وأنتم أيضا لا دليل لكم على ذلك فإن دليل الحدوث لا يقتضي ذلك
قالوا لك نحن أثبتنا الحدوث بحدوث الجسم وهو المراد بقولنا مركب فإن صح دليلهم ثبت نفي ما سموه تركيبا وغن لم يصح دليلهم لم يكن في هذا منفعة لك
وهذه الطريق هي التي سلكها أبو حامد في مناظرته إخوانك وهي طريق صحيحة وقد تبين أن ما ذكره أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ المركب جواب صحيح وان احتجاجهم بهذا نظير احتجاج أولئك بلفظ التخصيص حيث قالوا إن المختص بشيء لا بد له من مخصص وهذا هو الذي سلكه نفاة الصفات ويسمون نفي الصفات توحيدا وهذا هو الذي سلكه أبو عبد الله محمد بن تومرت الملقب عند أصحابه بالمهدي وأمثاله من نفاة الصفات المسمين ذلك توحيدا
كلام ابن تومرت
ولقب ابن تومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا ويقال إنه تلقى ذلك عمن يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى
قلت ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا في التوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات ولا إثبات الرؤية ولا قال إن كلام الله غير مخلوق ن ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين والقائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وقد ذكر ابن التومرت في فوائده المشرقية أن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا
ما ورد في كتاب الدليل والعلم
وقال ابن التومرت في كتاب الدليل والعلم فقال
المعلومات على ضربين معدوم وموجود والموجود على ضربين مطلق ومقيد فالمقيد هو المخصص والاختصاص على ثلاثة اضرب الاختصاص بزمان دون زمان سواه والثاني الاختصاص بجهة دون جهة غيرها والثالث الاختصاص بخاصة دون خاصة غيرها ن والموجود المطلق هو الذي ليس بمقيد ولا بمخصص ن فلا يختص بزمان دون غيره ولا بجهة دون غيرها ولا بخاصة دون غيرها فلو اختص بشيء لكان من جنسه ن فلما انتفت عنه الخواص على الإطلاق وجب له الوجود المطلق
قال والموجود المطلق هو القديم الأزلي الذي استحالت عليه القيود والخواص المختص بطلق الوجود من غير تقييد ولا تخصيص وذكر كلاما في نفي الاختصاص إلى أن قال وإذا تساوت المتناهيات في الاختصاص بجهة مقدرة امتنع عليها التخصيص من جهتها ومن مخصص على الإطلاق ثم قال بعد هذا انفرد بالعلم والكمال والحكم والاختيار وانفرد بالقهر والاقتدار وانفرد بالخلق والاختراع وقال مع هذه المخصصات بأسرها يستحيل الكمال عليها وإن تكاملت صفاتها
تعليق ابن تيمية
قلت ومعلوم أن هذا تناقض فإن نفي الاختصاص بخاصة من الخواص ودعوى انه وجود مطلق لا يختص بوجه من الوجوه يمنع أن يختص بعلم أو قدرة أو مشيئة ونحو ذلك من الصفات فإن العالم مختص بعلمه متميز به عن الجاهل ن والقادر مختص بقدرته متميز بها عن العاجز ن والمختار مختص بالاختيار متميز به عن المستكره فإن أثبت شيئا من صفات الكمال فقد أثبت اختصاصه بذلك وإن نفى جميع الصفات ولم يثبت إلا وجودا مطلقا تناقض كلامه
وقيل له المطلق لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج ن فلا يتصور أن يكون في الخارج شيء مطلق لا حيوان ولا إنسان مطلق ولا جسم مطلق ولا موجود مطلق بل كل موجود فله حقيقة بها لا يشركه فيها غيره
وقيل له هذا الوجود المطلق اهو وجود المخلوقات أم غيره ؟ فإن قال هو هو بطل إثبات الخالق وإن قال هو غيره قيل له فوجوده مثل وجود المخلوقات أو ليس مثله ن فإن كان الأول لزم أن يكون الخالق مثل المخلوق والمثلان يجوز ويجب ويمتنع على أحدهما ما يجوز ويجب ويمتنع على الآخر فيلزم أن يكون الشيء الواحد واجبا غير واجب محدثا غير محدث وهو جمع بين النقيضين
وإن قال وجوده مخالف لوجود المخلوقات فقد أثبت له وجودا يختص به لا يشركه فيه غيره فلا يماثله غيره وهذا وجود مخصوص مقيد لا وجود مطلق وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع
والمقصود هنا الكلام في أن كل مختص بأمر هل يفتقر إلى مخصص منفصل عنه ؟ لأن الكلام كان في المسلك الثاني في حدوث الأجسام الذي بين فساده الآمدي والأرموي وغيرهما فإنه مبني على مقدمتين إحداهما أنها مفتقرة إلى ما يخصصها بصفاتها والثانية أن ما كان كذلك فهو محدث وقد بينوا فساد المقدمة الثانية كما تقدم
وأما الأولى فقررت بوجهين
أحدهما أن المختص بمقدار لا بد له من مخصص ن وقد تبين فساده أيضا
الثاني أن جواهر العالم إما ان تكون مجتمعة أو مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو البعض مجتمعا والبعض مفترقا وخلوها عنهما وأيضا الجمع بينهما ممتنع واما بقية الأقسام فهي ممكنة ومهما قدر أمكن تقدير خلافه فيكون جائزا والجائز يفتقر إلى مخصص
وهذا أضعف الوجهين
أحدهما انه مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة وان كل جسم يقبل الاجتماع والافتراق واكثر عقلاء الناس على خلاف ذلك فإن للناس في هذا المقام أقوالا أحدها قول من يقول إنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة كما هو قول أكثر المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وموافقيهم
والثاني قول من يقول إنها مركبة من جواهر لا نهاية لها كما هو قول النظام ومتبعيه
والثالث قول من يقول إنها مركبة من المادة والصورة وإنها تقبل الانقسام إلى غير نهاية كما هو قول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة
والرابع قول من يقول إنها ليست مركبة من هذا ولا هذا لكن تقبل الانقسام إلى جوهر لا يتجزأ كما هو قول الشهر ستاني وغيره
والخامس قول من يقول إنها ليست مركبة لا من هذا ولا هذا ن ولا تقبل الانقسام إلى جزء لا يتجزأ ولا إلى غير غاية لكن كل جزء موجود فإنه يقبل الانقسام العقلي ولا يقبل الانقسام الفعلي ولكنه يستحيل إذا تصغر كما تفسد وتستحيل أجزاء المادة إذا صغرت فتصير هواء ن فلا يكون في الأجزاء ما لا يتميز يمينه عن شماله ولا يكون فيها ما يقبل الانقسام إلى غير غاية
وهؤلاء تخلصوا من هذا المحذور وهذا المحذور فإن مثبتة الجزء الذي لا ينقسم ألزمهم الناس بأنه لا بد ان يتميز أحد جانبيه عن الآخر ن وما كان كذلك فهو يقبل الانقسام المتنازع فيه
وألزموهم انه إذا وضع بين جوهرين فإن لاقى هذا بعين ما لاقى به هذا امتنع كونه بينهما وإن لاقى هذا بغير ما لاقى به هذا لزم انقسامه وألزموهم من هذا الجنس إلزامات لا محيد لهم عنها
ومن نفاه وقال بانه يمكن انقسام الأجسام إلى غير نهاية ألزمهم الناس أن يكون الجسم الصغير كالكبير وان يكون ما لا يتناهى محصورا بين حاصرين
ثم إما أن يقول هي غير متناهية مع وجودها كما يقوله النظام والتزم على ذلك ان الظافر لا يحاذي ما تحته من الأجزاء لئلا يقع ما لا يتناهى تحت ما يتناهى وصار الناس يقولون عجائب الكلام طفرة النظام ن وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري ولهم في ذلك من الكلام ما يطول وصفه
أو يقول إن الانقسام إلى غير غاية ممكن فيها كما يقوله المتفلسفة كابن سينا وأمثاله
ولما كان كل من القولين معلوم الفساد بالضرورة قول من أثبت ما لا يتميز بعضه عن بعض ومن أثبت ما ينقسم إلى غير نهاية ن توقف من توقف من أفاضل النظار فيه فتوقف فيه أبو الحسين البصري وأبو المعالي الجويني في بعض كتبه وأبو عبد الله الرازي في نهايته
فهؤلاء الذين لم يثبتوا إمكان الانقسام إلى غير غاية ولا أثبتوا ما لا يقبل امتياز بعضه عن بعض خلصوا من هذا وهذا ن وقالوا إنه إذا صغر استحال إلى غيره مع امتياز بعضه عن بعض لو بقي موجودا
وبالجملة نفي هذا وهذا قول طوائف قول طوائف كثيرة من أهل النظر من الكلابية والكرامية بل والهاشمية والنجارية والضرارية وغيرهم
والمقصود هنا ان هؤلاء الذين يقولون إن جواهر العالم إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة إلى آخرها قولهم مبني على هذا الأصل والتزموا على ذلك أن جميع ما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن وما يفسد من ذلك غنما هو لاجتماع الجواهر وافتراقها فالحادث صفات الجواهر لا أن عينا من الأعيان يحدث وانكروا استحالة الأجسام بعضها إلى بعض وقالوا : إن أجزاء المني باقية في الأنسان وكذلك أجزاء النواة في الشجرة ولكن زادت أجزاء بما انضم إليها من أجزاء الغذاء كأجزاء الماء والهواء وأن تلك الأجزاء أيضا باقية لم تستحل ولم تعدم بل تجتمع تارة وتفترق أخرى
وجماهير العقلاء على مخالفة وقائلون هؤلاء وقائلون باستحالة الأجسام بعضها إلى بعض كما أطبق على ذلك علماء الشريعة وعلماء الطبيعة وغيرهم من أصناف الناس
ولهذا يقولون : النجاسة هل تطهر بالاستحالة ام لا تطهر ؟ فإذا صارت الميتة والدم ولحم الخنزير رمادا أو ترابا أو ملحا ونحو ذلك ففي طهارة ذلك قولان مشهوران للعلماء والقول بطهارته قول أكثر الفقهاء فإنه قول أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك و أحمد بن حنبل واتفقوا على أن الخمر إذا استحالت وانقلبت بغير قصد الإنسان أنها تطهر
والأطباء مع سائر الناس يعلمون أن الماء يستحيل هواء والهواء يستحيل ماء والنار تسحيل هواء والهواء يستحيل ماء كما هو مبسوط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على أصول هذه الحجة
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين ما يقوله هؤلاء وهؤلاء من التركيب وأن هؤلاء يدعون التركيب من جواهر محسوسة لا تنقسم وهي الجواهر المنفردة وهؤلاء يدعون التركيب من جواهر معقولة لا تنقسم كما يقولون في تركب الأنواع من الأجناس والفصول وفي تركب الأجسام من المادة والصورة والمركب لا بد له من واحد لا تركيب فيه ولا تقسيم
وقد بين ان ما يدعيه هؤلاء وهؤلاء من هذا الواحد لا حقيقة له في الخارج ن وإنما تقديره في الذهن وكذلك ما يدعيه هؤلاء من الجواهر العقلية المجردة التي لا تنقسم كالعقول العشرة فقد بين في غير هذا الموضع أنها لا تتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان
وتوحيد القديم الأزلي واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات عند الفريقين ينزه عن مثل هذه الآحاد والوحدات التي يثبتونها في الخارج ولا حقيقة لها إلا في الذهن ولهذا كان منتهى تحقيقهم القول بوحدة الوجود وأن الوجود واحد لا يميزون بين الواحد بالنوع والواحد بالشخص فإن الواحد بالنوع كما يقال : الموجودات تشترك في مسمى الوجود والأناسي تشترك في مسمى الإنسان والحيوانات تشترك في مسمى الحيوان والأجسام تشترك في مسمى الجسم ونحو ذلك
وهذا المشترك هو الكلي الذي لا يوجد في الخارج كليا ولا يكون كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان
وبين ما دخل على المنطقيين من الغلط في دعواهم تركب الحقائق من هذه الكليات وما دخل عليهم من الفساد في العلم الإلهي والطبيعي وأنهم يجعلون الواحد اثنين كالجسم والأثنين واحدا كالعلم والعالم والإرادة والقدرة ويجعلون الموجود معدوما ن كالحقيقة الإلهية وصفاتها وأفعالها والمعدوم موجودا كالوجود المطلق ويجعلون ما في الذهن في الخارج كالمجردات والكليات وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه
الوجه الثاني انه لو سلم أن الجسم مؤلف من الجواهر المجتمعة فالقول في الاجتماع كالقول في المقدار وقوله : إن اختصاصه بذلك الاجتماع يفتقر إلى مخصص قد بين فساده كقوله إن اختصاصه بالمقدار إلى مخصص وهو مبني على أن كل مختص يفتقر إلى مخصص
وأما المقدمة الثانية فإنها قررت بان المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا وان يكون ما خصصه به حادثا وقد أبطل الآمدي وغيره كلا المقدمتين
وغاية هذا المسلك أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث
كلام الآمدي في تقرير هذا المسلك
قال الآمدي وبتقدير تسليم حدوث ماأشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الجواهر والأجسام حادثة لجواز ان تكون هذه الفصفات متعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها ينتهي إليه
ذكر الآمدي في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها
قلت : وهذا الذي اعتمده الآمدي في هذه المسألة فإنه ذكر في حدوث الأجسام سبعة مسالك وزيف ستة منها :
الأول : مسلك الإمكان وأنه ممكن وكل ممكن محدث
والثاني : مسلك الاختصاص
الثالث : مسلك الخبز المعين
الرابع : مسلك القدم : أنه قديم
والخامس مسلك الإمكان أيضا لكن فيه تقدير الحدوث بطريقة أخرى
والسادس : مسلك الحركة والسكون الذي قدمه الرازي وقد تقدم ما عترض به هو والأرموي وغيرهما على هذه المسالك وبينوا به فسادها
المسلك السابع الذي اعتمده
قال الآمدي والمسلك السابع : المسلك المشهور للأصحاب وعليه الاعتماد وذكر أن المسلك المشهور للأشعرية والرازي ونحوه لم يعتمد على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وقدح الآمدي في الطرق التي اعتمد عليها الرازي
قال الآمدي : وهو أنا نقول : العالم مؤلف من أجزاء حادثة والمؤلف من الأجزاء الحادثة حادث فالعالم حادث بيان الأول أن أجزاء العالم منحصرة في الجواهر والأعراض والواهر والأعراض حادثة فأجزاء العالم حادثة وبيان الأول ما سبق في الوجود والممكن بيانت الثانية إما بيان أن الأعراض حادثة فلانا بينا ان الأعراض ممتنعة البقاء وكل ممتنع البقاء فهو حادث مسبوق بعدم نفسه فكل واحد من الأعراض حادث مسبوق بعدم نفسه وعند ذلم فإما أن تكون متعاقبة في وجودها إلى غير النهاية او هي منتهية إلى عرض ليس وراءه عرض آخر الأول محال لما بيناه من بيان امتناع حوادث لا أول لها ينتهي إليه في إثبات واجب الوجود فلم يبق إلا الثاني وهو أن تكون جملتها متناهية ومسبوقة بالعدم فتكون حادثة وأما الواهر فلأنا بينا فيما تقدم امتناع عرو الواهر عن الأعراض وإذا كانت الأعراض التي لا عرو للجواهر عنها حادثة ومسبوقة بالعدم فالجواهر كذلك لأن مالا يعرى عما له أول فله أول وهو حادث وإلا فلو كان قديما للزم منه غما عروة عن العرض في حال قدمه وإما أن تكون الأعراض لا أول لها وكل واحد من الأمرين محال لما تقدم
اما بيان المقدمة الثانية من أصل الدليل فهو أن ما كانت أجزاؤه حادثة ولها أول تنتهي إليه فالهيئة الاجتماعية الكائنة عنها تكون حادثة مسبوقة بالعدم وهو معلوم بالضرورة
فهذا تمام تقريره لهذا المسلك الذي ارتضاه
تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول : هذا الدليل أضعف بكثير ممن ذكره الرازي ولهذا لم يعرج الرازي على هذا لضعفه واستدل بدليل الحركة والسكون كما استدل به من استدل من المعتزلة فإن هذا الدليل مبني على مقدمتين إحداهما أن الأعراض جميعها ممتنعة البقاء وجمهور العقلاء من أهل الكلام وغيرهم من أصناف الناس ينكرون ذلك بل يقولون إن هذا خلاف الحس والضرورة ويجعلونه من جنس قول النظام إن الأجسام أيضا لا تبقى
وعمدة من قال بامتناع بقائها : أن العرض لو جاز لامتنع عدمه لأن العدم لا يجوز أن يكون بحدوث ذد فإن الحادث إنما يحدث في حال عدم الثاني لامتناع اجتماع الضدين لأنه ليس عدم الثاني لطريان الحادث بأولى من العكس ولا يجوز ان يكون بفعل القادر المختار لأن العدم نفي محض وفعل الفاعل لا يكون نفيا محضا
ومعلوم ان هذا كلام ضعيف فإنه يمكن عدمه بالإعدام وفعل الإعدام ليس فعلا لعدم مستمر بل هو إحداث لعدم ما كان موجودا كما أن إحداث الوجود إحداث لوجود ما كان معدوما وهذا أمر متجدد يعقل كونه مفعولا للفاعل
وأيضا فالضد الحادث إذا قدر أنه أقوى من الباقي كان إزالته له لفضل قوته فإن كون العرضين متضادين لا يستلزم تساويهما وتماثلهما في القوة والضعف
وأيضا فإن الفاعل المحدث للعرض الحادث يجعله مزيلا لذلك الباقي دون العكس
ولولا أن هذا ليس موضع بسط الكلام في مثل هذه الأمور وإلا لكان ينبغي أن تبين أن مثل هذا الكلام من أسخف الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وغيرهم من العقلاء فإن هؤلاء يقولون إن الله لا يمكن أن يفني شيئا من الأجسام والأعراض بل طريق فنائها أنه لا يخلق الأعراض التي تحتاج إلى تجديد وإحداث دائما فإذا لم يحدثها عمدمت الأجسام وفنيت بأنفسها لأنه لا وجود لها إلا بالأعراض ومثل هذا الكلام لو قاله الصبيان لضحك منهم
وأما المقدمة الثانية فهو وجوب تناهي الحوادث وقد تقدم كلامهم في إفساد جميع ما استدل به على ذلك والطريقة التي قررها الآمدي قد تقدم اعتراض الأموري وغيره عليها وبيان فسادها
فهذا جملة ما احتج به هؤلاء الذين هم فحول النظر وأئمة الكلام والفلسفة في هذه المسائل وقد تبين بكلام بعضهم في بعض إفساد هذه الدلائل وهذا جملة ما يعارضون به الكتاب والسنة ويسمونه قواطع عقلية ويقولون : إنه يجب تقديم مثل هذا الكلام على نصوص التنزيل والثابت من أخبار الرسول وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها
فلو لم يكن في المعقول ما يوافق قول الرسول لم تجز معارضته بمثل هذا الكلام فضلا عن تقديمه عليه فكيف والمعقول الصريح موافق لما جاء به الرسول كما بين في موضعه بل لا يجوز أن تعارض بمثل هذا الكلام الأحكام الثابتة بالمعومات والأقيسة والظاهر وأخبار الآحاد فكيف تعارض بذلك النصوص الثابتة عن المعصوم ؟
بل مثل هذا الكلام لا يصلح لإفادة ظن ولا يقين وإنما هو كلام طويل بعبارت طويلة وتقسيمات متنوعة يهابه من لم يفهمه وعامة من وافق عليه وافق عليه تقليدا لمن قاله قبله لا عن تحقيق عقلي قام في نفسه
وكلام السلف والأئمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الأعراض والجواهر على حدوث الأجسام وإثبات الصانع كثير منتشر قد كتب في غير هذا الموضع وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما وأبر قلوبا وأقل تكلفا وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم وقبلوا الحق وردوا الباطل والله أعلم
فصل
وإذ قد عرف ما قله الناس من جميع الطوائف في مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى وضعف أدلة النفاة واعتراف أب يعبد الله الرازي وغيره بذلك وانه اعتمد على حجة الكمال والنقصان وهي ضعيفة أيضا كما تقدم وذكر هو و أبو الحسن الآمدي ومن اتبعهما ادلة نفاة ذلك وأبطلوها كلها ولم يستدلوا على نفي ذلك إلا بأن ما يقوم به : إن كان صفة كمال كان عدمه قبل حدوثه نقصا وإن كان نقصا لزم اتصافه بالنقص والله منزة عن ذلك
ضعف تضعيف الرازي وغيره لحجة الكمال والنقصان
وهذه الحجة ضعيفة ولعلها أضعف مما ضعفوه فإن لقائل أن يبطلها من وجوه كثيرة
الوجه الأول
أن يقال : القول في افعاله القائمة به الحادثة بمشيئته وقدرته كالقول في أفعاله التي هي المفعولات المنفصلة التي يحدثها بمشيئته وقدرته فإن القائلين بقدم العالم أوردوا عليهم هذا السؤال فقالوا الفعل إن كان صفة كما لزم عدم الكمال له في الأزل وإن كان صفة نقص لزم اتصافه بالنقائص فأجابوهم بأنه ليس صفة نقص ولا كمال
وهذا كما أن من حجج النفاة أنه لو كان قابلا لقيام الحادث به لكان القبول من لوازم ذاته ووجود المقبول في الأزل محال
فأجيبوا بانه لا فرق بين حدوث ما يقوم به أو بغيره
فإذا قيل : لو كان قادرا على فعل الحوادث لكان ذلك من لوازم ذاته وذلك في الأزل محال فما كان جوابا عم هذا كان جوابا عن هذا
وقد اورد الرازي على ذلك في بعض كتبه أن القادر يتقدم المقدور والقابل لا يجب أن يتقدم المقبول وهذا فرق في غاية الضعف لوجوه :
أحدها : أن الكلام إنما هو في مقبول مقدور لا في مقبول غير مقدور فإن ما كان حادثا فالرب قادر عليه وهو قادر على افعاله القائمة به كما هو قادر على مفعولاته المنفصلة
قال تعالى : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } القيامة 40 وقال تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } الآية الأنعام 65 وقال تعالى { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } يس 81 وقال تعالى { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } الشورى 29 فبين أنه قادر على الإحياء والبعث والخلق والجمع وهذه أفعال وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي مسعود البدري لما رآه يضرب عبدا له لله أقدر عليك منك عليه فتعين انه قادر عليه نفسه
والمقصود هنا أن الكلام إنما هو في الحوادث التي هي مقدورة ليس في كل مقبول فإذا كان المقدور لا يوجد في الأزل اتمنع وجود الحوادث كذلك فلا يصح أن يفرق بين مقبول مقدور ومقبول غير مقدور إذ كلاهما مقدور
الثاني : أن يقال إما أن يكون وجود الحادث في الأزل ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا أمكن وجود المقدور في الأزل وإن كان ممتنعا امتنع وجوده مقبولا ومقدورا
الثالث : أن يقال : إثبات المقدور حال امتناع المقدور جمع بين المتناقضين ن فلا يعقل إثبات القدرة في حال امتناع المقدور بل في حال إمكانه ولهذا أنكر المسلمون وغيرهم على من قال من أهل الكلام إنه قادر في الأزل مع امتناع المقدور في الأزل وقالوا هذا جمع بين المتناقضين وقالوا : أنه يستلزم انتقال المقدور من الإمكان إلى الامتناع بدون سبب يوجب هذا الانتقال ويوجب أن يصير الرب قادرا بعد أن لم يكن قادرا بدون سبب يوجب ذلك وقد بسط الكلام على ذلك ف يغير هذا الموضع
الوجه الثاني
أن يقال : كونه بحيث يتكلم ويفعل ما يشاء صفة كمال وهو لم يزل متصفا بذلك وأما الشيء المعين فحدوثه لا نقص ولا كمال
الوجه الثالث
أن يقال : ما تعني بقولك عدم ذلك نقص ؟ أتعني به أن ذاته ناقصة وأنها ليست منتصفة بصفات الكمال الواجبة لها ؟ أم تعني به عدم ما سيوجد لها ؟ أما الأول فباطل وأما الثاني فلم قلت إن هذا ممتنع
الوجه الرابع
أن يقال أنتم قلتم ما ذكره أبو المعالي والرازي وغيرهما من أن تنزيهه عن النقائض إنما علم بالسمع لا بالعقل فإذا قلتم إنه ليس في العقل ما ينفي ذلك لم يبقي ذلك إلا بالسمع الذي هو الإجماع عندكم ومعلوم أن السمع الذي هو الإجماع والإجماع وغيره لم ينف هذه الأمور وإنما نفي ما يناقض صفات الكمال كالموت المنافي للحياة والسنة والنوم المنافي للقيومية واللغوب المنافي لكمال القدرة
ولهذا كان الصواب أن الله منزه عن النقائص شرعا وعقلا فإن العقل كما دل على اتصافه بصفات الكمال من العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام دل أيضا على نفي أضداد هذه فإن إثبات الشيء يستلزم نفي ضده ولا معنى للنقائص إلا ما ينافي صفات الكمال
وأيضا فكل كمال اتصف به المخلوق إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أحق به لأنه هو الذي خلقه وكل كمال اتصف به موجود ممكن وحادث فالموجود الواجب القديم أولى به وكل نقص تنزه عنه مخلوق موجود حادث إذا لم يكن فيه نقص بوجه ما فالخالق أولى بتنزيهه عنه
الوجه الخامس
أن يقال إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا علم لها ولا قدرة ولا حياة ولا تتكلم ولا تسمع ولا تبصر أو لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات وذاتا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والكلام والمشيئة كان صريح العقل قاضيا بان المتصفة بهذه الصفات التي هي صفات الكمال بل القابلة للاتصاف بها أكمل من ذات لا تتصف بهذه أو لا تقبل الاتصاف بها
ومعلوم بصريح العقل أن الخالق المبدع لجميع الذوات وكمالاتها أحق بكل كمال وأحق بالكمال الذي باين به جميع الموجودات وهذا الطريق وتحوه مما سلكه أهل الإثبات للصفات
فيقال : وإذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا فعل لها ولا حركة ولا تقدر أن تصعد ولا تنزل ولا تأتي ولا تجيء ولا تقرب ولا تقبض ولا تطوي ولا تحدث شيئا بفعل يقوم بها وذاتا تقدر على هذه الفعال ولا تحدث الأشياء بفعل لها كانت هذه الذات أكمل فإن تلك كالجماد أو الحي الزمن المجدع والحي أكمل من الجماد والحي القادر على العمل أكمل من العاجز عنه كما أن ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم كالجماد أو كالأعمى الصم الأخرس والحي أكمل من الجماد والحي الذي يسمع ويبصر ويتكلم أكمل من الأصم الأعمى الأخرس
وإذا كان كذلك فإذا أراد نافي الفعل أن ينفيه لئلا يصفه في الأزل بالنقص فقال لو كان فعالا بنفسه لكان الفعل المتأخر معدوما في الأزل وعدمه صفة نقص فكان متصفا بالنقص كان بمنزلة من يقول إنه لا يقدر أن يحدث الحوادث ولا يفعل ذلك لأنه لو قدر على ذلك وفعله لكان إحداثه للحادث الثاني معدوما قبل إحداثه وذلك نقص فيكون متصفا بالنقص
فيقال : أنت وصفته بالكمال عن النقص حذرا من أن تصفه بما هو عندك نوع نقص فإن من لا يفعل قط ولا يقدر أن يفعل هو أعظم نقصا ممن يقدر على الفعل ويفعله والفعل لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء
وهذه عادة النفاة لا ينفون شيئا من الصفات فرارا من محذور إلا لزمهم في النفي أعظم من ذلك المحذور كنفاة الصفات من الباطنية من المتفلسفة وغيرهم لما قبل لهم إذا لم يوصف بالعلم والقدرة والحياة لزم أن يتصف بما يقابل ذلك كالعجز والجهل والموت
فقالوا : إنما يلزم ذلك لو كان قابلا للاتصاف بذلك فإن المتقابلين تقابل السلب والإيجاب كالوجود والعدم إذا عدم أحدهما ثبت الآخر وأما المتقابلان تقابل العدم والملكة كالحياة والموت والعمى والبصر فقد يخلو المحل عنهما كالجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا
فيقال لهم : فررتم عن تشبيهه بالحيوان الناقص الذي لا يسمع ولا يبصر مع إمكانه ذلك منه فشبهتموه بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا فكان ما فررتم إليه شرا مما فررتم منه ولهذا نظائر مبسوطة ف يغير هذا الموضع
والمقصود هنا أن من نفي الأفعال الاختيارية القائمة به لئلا يكون وجود الحادث منها ناقصا كان قد وصفه بالنقص التام فرارا بزعمه مما يظنه نقصا
الوجه السادس
أن يقال : الأفعال التي حدثت بعد ان لم تكن لم تكن وجودها قبل وجودها كمالا ولا عدمها نقصا فإن النقص إنما يكون إذا عدم ما يصلح وجوده وما به يحصل الكمال وما ينبغي وجوده ونحو ذلك والرب تعالى حكيم في أفعاله وهو المقدم والمؤخر فما قدمه كان الكمال في تقديمه وما أخره كان الكمال في تأخيره كما أن ما خصصه بما خصصه به من الصفات فقد فعله على وجه الحكمة وإن لم نعلم نحن تفاصيل ذلك واعتبر ذلك بما يحدثه من المحدثات
الوجه السابع
أن يقال : الحوادث يمتنع قدمها ويمتنع أن توجد معا واو وجدت معا لم تكن حوادث ومعلوم انه إذا دار الأمر بين إحداث الحوادث وعدم إحداثها كان أحداثها أكمل ولا يكون إحداثها إلا مع عدم الحادث منها في الأزل
وإذا كان كذلك صار هذا بمنزلة جعل الشيء موجودا معدوما فلا يقال عدم فعل هذا او عدم تعلق القدرة به صفة نقص بل النقص عدم القدرة على جعله موجودا فإذا كان قادرا على ذلك كان موصوفا بصفة الكمال التي لا يمكن غيرها فكذلك المحدث للأمور المتعاقبة هو موصوف بالكمال الذي لا يمكن في الحدوث غيره
الوجه الثامن
أن يقال : لا ريب أن الحوادث مشهودة وأن لها محدثا أحدثها فالمحدث لها : إما أن يحدثها بفعل اختياري يقوم به وإما أن تحث عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به ولا حدوث شيء منه ومعلوم أن اتصافه بالأول أولى لو كان الاثنين ممكنا فإن الأول فيه وصفة بصفة الكمال بخلاف الثاني فكيف والثاني ممتنع لأن حدوث الحوادث من غير سبب حادث ممتنع
وإذا كان حال الفاعل قبل حدوثها كحاله مع حدوثها وبعد حدوثها وهي في الحالين حادثة لم يكن الفاعل قد فعل شيئا ولا أحدث شيئا بل حدثت بذاتها
وهذا الدليل قد بسط في غير هذا الموضع وبين فساد قول الفلاسفة الدهرية القائلين بان حركات الأفلاك تصدر عن قديم أزلي لا يحدث منه شيء وإن قولهم أفسد من قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام فغن هؤلاء الفلاسفة استدلوا على قدم العالم بحجتهم العظمى وهو انه لو حدث بعد أن لم يكن لاحتاج إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب كالقول فيه فيلزم التسلسل او الترجيح بلا مرجح
فيقال لهم : أنتم تقولون بحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن فاعل قائم بنفسه لا تقوم به صفة ولا فعل ولا يحدث له فعل ولا غير فعل فقولكم بصدور الحوادث المختلفة الدائمة عمن لا فعل له ولا صفة ولا يحدث منه شيء أعظم فسادا من قول من يقول إنه تارة تصدر عنه الحوادث وتارة تصدر فإنه إن كان صدور الحوادث عنه من غير حدوث شيء فيه محالا فصدورها دائما عنه من غير حدوث شيء فيه أشد إحالة
الوجه التاسع
إن يقال : أفعال الله تعالى : إما أن يكون لها حكمة هي غايتها المطلوبة وإما أن لا يكون والناس في هذا المقام مشهوران أحدهما قول من لا يثبت إلا المشيئة والثاني قول من يثبت حكمه قائمة بالمخلوق أو حكمه قائمة بالخالق 0 والأقول الثلاثة معروفة في الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم
فإن نفيتم الحكمة جوزتم أن يفعل أفعالا لا يحصل له بها كمال فيقال لهم قولوا في أفعاله القائمة بنفسه الاختيارية ما تقولونه في حدوث المفعولات عنه وهو الفعل عندكم
وإن أثبتم الحكمو قيل لكم الحكمة الحاصلة بالفعل الحادث حادثة بعده فحدوث هذه الحكمة بعد أن لم تكن سواء كانت قائمة بنفسه أو بغيره اهي صفة كمال أو لا ؟
فإن قلتم صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة به
وإن قلتم ليست صفة كمال فقولوا في نفس الفعل الحادث ما قلتموه في الحكمة المطلوبة
فقد لزمكم في الحكمة إن أثبتموها أو نفيتموها ما يلزمكم في نفس الفعل سواء بسواء وهذا بين واضح
الوجه العاشر
أن يقول من يثبت الفعل القائم به والحكمة القائمة به معلوم بصريح العقل ان هذا صفة كمال وأن من يكون كذلك أكمل ممن لا يفعل أو يفعل لا لحكمة فلم قلتم إن هذا ممتنع ؟
فإذا قيل لئلا يلزم الكمال بعد النقص
قيل لهم لم قلتم وجود مثل هذا الكمال ممتنع ؟
ولفظ النقص لفظ مجمل كما تقدم فإن غايته أن يفسر بعدم ما وجد قبل أن يوجد فيعود الأمر إلى أن هذا الموجود إذا وجد بعد أن لم يكن لزم أن يكون معدوما قبل وجوده
فيقال ومن أين علمتم أن وجود هذا بعد عدمه محال ؟ وليس في ذلك افتقار الرب إلى غيره ولا استكماله بفعل غيره بل هو الحي الفعال لما يشاء العليم القدير الحكيم الخبير الرحيم الودود لا إله إلا هو وكل ما سواه فقير إليه وهو غني عما سواه لا يكمل بغيره ولا يحتاج إلى سواه ولا يستعين بغيره في فعل ولا يبلغ العباد نفعه فينفعوه ولا ضره فيضروه بل هو خالق الاسباب والمسببات وهو الذي يلهم عبده الدعاء ثم يجيبه وييسر عليه العمل ثم يثيبه ويلهمه التوبة ويحبه ويفرح بتوبته وهو الذي استعمل المؤمنين فيما يرضيه ورضي عنهم فلم يحتج في فعله لما يحبه ويرضاه إلى سواه بل هو الذي خلق حركات العباد التي يحبها ويرضاها وهو الذي خلق ما لايحبه ولا يرضاه من اعمالهم لما له في ذلك من الحكمة التي يحبها ويرضاها { وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } القصص : 70 فلا إله إلا هو { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } الانبياء : 22 إذا كان هو الذي يستحق أن تكون العبادة له وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل لا منفعة فيه فما لا يكون به لا يكون فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم كما قال تعالى { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } الفرقان : 23 وقال { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء } إبراهيم : 18 وهو سبحانه يحب عباده الذين يحبونه والمحبوب لغيره أولى أن يكون محبوبا
فإذا كنا إذا أحببنا شيئا لله هو المحبوب في الحقيقة وحبنا لذلك بطريق التبع وكنا نحب من يحب الله لأنه يحب الله فالله تعالى يحب الذين يحبونه فهو المستحق أن يكون هو المحبوب المألوه المعبود وأن يكون غاية كل حب كيف وهو سبحانه الذي يحمد نفسه ويثني على نفسه ويحب الحمد من خلقه
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح لا أحد أحب إليه المدح من الله
وقال له الأسود بن سريع يا رسول الله إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقد روى انه كان يقول ذلك في آخر الوتر
فهو المثني على نفسه إذا أفضل خلقه لا يحصى ثناء عليه
والثناء تكرير المحامد وتثنيتها كما في الحدث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال إذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدني فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد احق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد 0 فذكر الحمد والثناء والمجد هنا كما ذكره في اول الفاتحة فالحمد يتناول جنس المحامد والثناء يقتضي تكريرها وتعديدها والزيادة في عددها 0 والمجد تعظيمها وتوسيعها والزيادة في قدرها وصفتها
فهو سبحانه مستحق للحمد والثناء والمجد ولا أحد يحسن أن يحمد كما يحمد نفسه ن ولا يثني عليه كما يثني على نفسه ولا يمجده كما يمجد نفسه
كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيح لما قرأ النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر : 67 قال يقبض الله سماواته بيده والأرضون بيده الأخرى ثم يمجد نفسه فيقول نا الملك انا القدوس انا السلام أنا المؤمن أنا المهيمن أنا العزيز أنا الجبار أنا المتكبر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبارون أين المتكبرون ؟ أو كما قال
وفي الحديث الآخر يقول الله تعالى إني جواد ماجد واجد إنما أمري إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون
فصل كلام الآمدي في أبكار الأفكار في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى 0
ونحن نذكر ما ذكره أبو الحسن الآمدي في هذا الأصل وتتكلم عليه قال في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار المسألة الرابعة من النوع الرابع الذي سماه إبطال التشبيه في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى :
قال وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول المراد بالحادث المتنازع فيه الموجود بعد العدم كان ذاتا قائمة بنفسها أو صفة لغيره كالأعراض وأما ما لا وجود له كالعدم أو الأحوال عند القائلين بها فإنها غير موصوفة بالوجود ولا بالعدم كالعالمية والقادرية والمريدية ونحو ذلك أو النسب والإضافات فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له متجدد ولا يقال له حادث
قال وعند هذا فنقول العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى غير المجوس والكرامية فإنهم اتفقوا على جواز ذلك
غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب تعالى بل قال أكثرهم هو ما يفتقر إليه في الإيجاد والخلق ثم اختلفوا في هذا الحادث فمنهم من قال هو قوله كن ومنهم من قال هو الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة لا أنه حادث بإحداث ن وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول على اختلاف مذهبهم فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين وهما السمع والبصر
قال وأجمعت الكرامية على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة لا يتجدد له منها اسم ولا يعود إليه منها حكم حتى لا يقال إنه قائل بقول ولا مريد بإرادة بل قائل بالقائلية ومريد بالمريدية ولم يجوزواعليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال بل قالوا أسماؤه كلها أزلية حتى في الخالق والرازق وغن لم يكن في الأزل خلق ولا رزق
قال وأما ما كان من الصفات المتجددة التي لا وجود لها في الأعيان فما كان منها حالا فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب به غير أبي الحسين البصري فإنه قال تتجدد عالميات لله تعالى بتجدد الملومات ن وما كان من النسب والإضافات والتعلقات فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب تعالى بها حتى يقال إنه موجود مع العالم بعد أن لم يكن وإنه خالق العالم بعد أن لم يكن 0 وما كان من الأعدام والسلوب 0 فإن كان سلب أمر يستحيل تقدير وجوده لله تعالى فلا يكون متجددا بالإجماع مثل كونه غير جسم ولا جوهر ولا عرض إلى غير ذلك 0 وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب به كالنسب والإضافات فغير ممتنع إن يتصف به الرب تعالى بعد أن لم يكن بالإتفاق فإنه إذا كان الحادث موجودا صح أن يقال الرب تعالى موجود مع موجوده وتنعدم هذه المعية عند فرض عدم ذلك الحادث فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن
تعليق ابن تيمية
قلت قد ذكر أن لفظ الحادث مرادهم به الموجود بعد العدم سواء كان قائما بنفسه كالجوهر أو صفة لغيره كالأعراض ن وسمي ما ليس بموجود كالأحوال والسلوب والإضافات متجددات وهذا الفرق أمر اصطلاحي وإلا فلا فرق بين معنى المتجدد ومعنى الحادث
وأيضا فإن الأحوال عند القائلين بها منهم من يقول بوجودها وقالوا يصح أن تكون معلومة تبعا لغيرها وأن يكون وجودها تبعا لغيرها
وخالفوا أبا هاشم في قوله ليست معلومة ولا مجهولة ولا موجودة ولا معدومة
وأيضا فالنسب والإضافات عند الفلاسفة قد تكون وجودية وأما المذاهب فيقال لفظ الحوادث والمتجدادت في لغة العرب يتناول أشياء كثيرة وربما أفهم أو اوهم في العرف استحالات كالأمراض والغموم والأحزان ونحوها إذا قيل فلان حدث به حادث وكثير منهم يعبر بالأحداث عن المعاصي والذنوب ونحو ذلك كما قد عرف هذا
وأما مورد النزاع انه هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته إما من باب الأفعال كالاستواء إلى غيره والأستواء عليه والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك وإما من باب الأقوال والكلمات وإما من باب الأحوال كالفرح والغضب والإرادات والرضا والضحك ونحو ذلك وإما من باب العلوم والإدراكات كالسمع والبصر والعلم بالموجود بعد العلم بأنه سيوجد وإذا كان كذلك فقوله إن العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة ذلك غير أن الكرامية إلى آخره ليس بنقل مطابق
أما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة صلوات الله عليه وسلامه أو ما أجمع عليه أهل العلم وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه مع منازعة غيره له فلا يجوز إضافته إلى الملة ومن المعلوم أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن محمد صلى الله عليه و سلم ولا عن إخوانه المرسلين كموسى وعيسى صلوات الله عليهما ما يدل على قول النفاة لا نصا ولا ظاهرا بل الكتب الإلهية المتواترة عنهم والأحاديث المتواترة عنهم تدل على نقيض قول النفاة وتوافق قول أهل الإثبات
وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين أرباب المذاهب المشهورة وشيوخ المسلمين المتقدمين لا يمكن أحد أن ينقل نقلا صحيحا عن أحد منهم بما يوافق قول النفاة بل المنقول المستفيض عنهم يوافق قول أهل الإثبات فنقل مثل هذا عن أهل الملة خطأ ظاهر
ولكن أهل الكلام والنظر من أهل الملة تنازعوا في هذا الأصل لما حدث في أهل الملة مذهب الجهمية نفاة الصفات وذلك بعد المائة الأولى في أواخر عصر التابعين ولم يكن قبل هذا يعرف في أهل الملة من يقول بنفي الصفات ولا بنفي الأمور الاختيارية القائمة بذاته
فلما حدث هذا القول وقالت به المعتزلة وقالوا لا تحل به الأعراض والحوادث وأرادوا بذلك انه لا تقوم به صفة كالعلم والقدرة ولا فعل كالخلق والاستواء أنكر أئمة السلف ذلك عليهم كما هو متواتر معروف
وعن هذا قالت المعتزلة إن القرآن مخلوق لأنه لو قام بذاته للزم أن تقوم به الأفعال والصفات وأطبق السلف والأئمة على إنكار هذا عليهم
وكل من خالفهم قبل ابن كلاب كان يقول بقيام الصفات والأقوال والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته به لكن ابن كلاب ومتبعوه فرقوا بين ما يلزم الذات من أعيان الصفات كالحياة والعلم وبين ما يتعلق بالمشيئة والقدرة فقالوا هذا لا يقوم بذاته لن ذلك يستلزم تعاقب الحوادث عليه كما سيأتي
و ابن كرام كان متأخرا بعد محنة الإمام أحمد بن حنبل وتوفي ابن كرام في حدود ستين ومائتين فكان بعد ابن كلاب بمدة وكان أكثر أهل القبلة قبلة على مخالفة المتزلة والكلابية حتى طوائف أهل الكلام من الشيعة والمرجئة كالهشامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهما كما ذكر عنهم الأشعري في المقالات
وأمثال هؤلاء كانوا يقولون بقيام الحوادث به حتى صرح طوائف منهم بالحركة كما صرح بذلك طوائف من أئمة الحديث والسنة وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء وأن الحركة من لوازم الحياة وأمثال ذلك بل هم يقولون إنه إنما ابتدع من ابتداع من أهل الكلام البدع المخالفة للنصوص وللمعقول بهذا الأصل كقول من قال إن الكلام معنى واحد قديم وقول من قال إن المعدوم يرى ويسمع وقول من قال بقدم صوت معين
وأما غير أهل الملل فالفلاسفة متنازعون في هذا الأصل والمحكي عن كثير من أساطينهم القدماء أنه كان يقول بذلك كما تقدم نقل المقالات عنهم حتى صرح بالحركة من صرح منهم بل الذين كانوا قبل أرسطو من الأساطين كانوا يقولون بحدوث العالم عن أسباب حادثة وهم يقولون بهذا الأصل إما تصريحا وإما لزوما وكذلك غير واحد من متأخريهم كأبي البركات البغدادي صاحب المعتبر وهذا اختيار طائفة من النظار كالأثير الأبهري وغيره
وما حكاه عن أبي الحسين البصري فهو قول غير واحد قبل أبي الحسين وبعده كهشام ونحوه وغيره وإبن عقيل يختار قول ابي الحسين وهو معنى قول السلف والرازي يميل إلى قول أبي الحسين بل وإلى زيادة على قوله كما ذكره في المطالب العالية بل ينصره وقوله عن الكرامية إنهم قالوا أسماؤه كلها أزلية أي معاني أسمائه أي ما لأجله استحق تلك الأسماء كالخالقية والرازقية
واما نفس الاسم فهو من كلامه وكلامه عندهم حادث قائم بذاته ويمتنع عندهم أن يكون في الأزل كلام أو أسماء لن ذلك يقتضي حوادث لا أول لها أو يقتضي قدم القول المعين وكلاهما باطل عندهم وحكايته عن الكرامية أنهم يقولون خلق الإرادة والقول في ذاته مستند إلى القدرة القديمة وخلق ما في المخلوقات يستند إلى الإرادة والقول تعبير عن مذهبهم بعبارته وإلا فهم لا يسمون شيئا مما يقوم بذات الرب لا مخلوقا ولا محدثا وغنما يقولون حادث ولا يقولون إن إرادته وكلامه لا مخلوق ولا محدوث
تابع كلام الآمدي وتعليق ابن تيمية عليه
قال وقد احتج أهل الحق على امتناع قيام الحوادث به بحجج ضعيفة :
الأولى قالوا لو كان الباري تعالى قابلا لحلول الحوادث بذاته لما خلا عنها أو عن أضدادها وضد الحادث وما لا يخلو عن الحوادث فيجب أن يكون حادثا والرب تعالى ليس بحادث
قال وهذه الحجة مبينة على خمس مقدمات الأولى أن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد والثانية أن ضد الصفة الحادثة لا بد وأن يكون حادثا والثالثة أن ما قبل حادثا فلا يخلو عنه وعن ضده والرابعة أن مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث والخامسة أن الحدوث على الله تعالى محال أما أن الرب تعالى ليس بحادث فقد سبق تقريره
قلت هذا معلوم باتفاق أهل الملل وسائر العقلاء ممن أثبت الصانع ومعلوم بالأدلة اليقينية بل معلوم بالضرورة وقد ذكر انه قرر ذلك وهو لم يقرره فإنه إنما قرره بناء على إثبات واجب الوجود وبني ذلك على نفي التسلسل في العلل وإبطال حوادث لا أول لها وحجته على ذلك ضعيفة
وقد أورد في كتابه المسمى بدقائق الحقائق على إبطال تسلسل العلل سؤلا زعم أنه لا يعرف عنه جوابا فبطل ما ذكره من تقريره لكن هذا بحمد الله أجل من أن يحتاج إلى مثل هذا التقرير
وقال وأما أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فسيأتي تقريره في حدوث الجواهر
قلت لم يقرر ذلك إلا بدليل حدوث الأعراض وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها وإنما قرر ذلك بإبطال التسلسل في الآثار وقرر ذلك بان الحادث يمتنع أن يكون أزليا
وقد تقدم فساد ذلك بأن لفظ الحادث يراد به النوع الدائم ويراد به الحادث المعين والمعلوم امتناعه إنما هو النوع الثاني والنزاع إنما هو في الأول
وأيضا فإن الذي قرر به امتناع تسلسل العلل في دقائق الحقائق أورد عليه سؤلا واعترف بأنه لا جواب له عنه وإذا كان تقريره لنفى تسلسل العلل قد بين انه ورد عليه سؤال لا يعرف جوابه فكيف بتقرير نفي تسلسل الحوادث
ومن المعلوم أن العقلاء اتفقوا على نفي تسلسل العلل وتنازعوا في نفي تسلسل الحوادث فإن كان لم يقم على نفي ذاك عنده دليل عقلي فهذا أولى
والسؤال الذي أورده يرد على النوعين وقد ذكرنا وذكرنا الجواب عنه فيما تقدم ومضمونه أنه : لم يلا يجوز أن كان لم لا يجوز أن يكون مجموع المعلومات التي لا تتناهى وإن كان ممكنا في نفسه لكنه واجب بوجوب آحاده المتعاقبة وكل واحد واجب بما قبله وهذا وإن كان باطلا لكن المقصود التنبيه على أن من خالف الكتاب والسنة وقال إنه ينصر بالمعقول أصول الدين يخل بمثل هذا الواجب في أعظم أصول الدين مع انه يقرر ما لا يحتاج إليه في الدين أو ما يعارض ما يثبت انه من الدين
وكذلك من قال مثل هذا وأمثاله انه يتكلم بالقليات يظهر منه في أعظم المعقولات التقصير والتوقف والخيرة فيها ويحقق من المعقولات ما تقل الحاجة إليه أو ما يكون وسيلة إلى غيره مع أن المقصود بالوسيلة لم يحققه
وقد احتج على إبطال حوادث لا أول لها بعد أن أبطل حجج موافقيه بأن ذلك يستلزم كون الحادث أزليا وهذا الوجه ضعيف
فإن المنازع يقول أشخاص الحوادث ليست أزلية وإنما الأزلي النوع فالموصوف بأنه أزلي ليس هو الموصوف بأنه حادث ثم يقال إذا لم تقدر أن تقيم حجة على امتناع تسلسل المعلولات وإثبات الصانع عندك موقوف على هذا فأي شيء ينفعك نفي حلول الحوادث عما لم تقم حجة على إثباته فضلا عن قدمه ؟
قال : وإنما الإشكال في المقدمات الثلاثة الأول
قال وذلك أن لقائل أن يقول قولكم إن كل صفة حادثة لا بد لها من ضد فإما أن يراد بالضد معنى وجودي يستحيل اجتماعه مع تلك الصفة لذاتيهما وإما أن يراد به ما هو اعم من ذلك وهو ما لا يتصور اجتماعه مع وجود الصفة لذاتيهما وإن كان عدما حتى يقال فإن عدم الصفة يكون ضدا لوجودها فإن كان الأول فلا نسلم انه لا بد وان يكون للصفة ضد بذلك الاعتبار والاستدلال على موقع المنع عسير جدا وإن كان الثاني فلا نسلم أنه يلزم أن يكون ضد الحادث حادثا وإلا كان عدم العالم السابق على وجوده حادثا ولو كان عدمه حادثا كان وجوده سابقا على عدمه وهو محال
قال وإن سلمنا انه لا بد أن يكون ضد الحادث معنى وجوديا ولكن لا نسلم امتناع خلو عن الصفة وضدها بهذا الاعتبار وحيث قررنا في مسألة الكلام والإدراكات أن القابل لصفة لا يخلو عنها وعن ضدها إنما كان بالمعنى الأعم لا بالمعنى الأخص فلا مناقضة
قلت هذا كلام حسن جيد لو كان قد وفي بموجبه فإن هذه الطريقة مما كان يحتج بها السلف والأئمة في إثبات صفات الكمال كالكلام والسمع والبصر وقد اتبعهم في ذلك متكلمة الصفلتية من أصحاب أبي كلاب وابن كرام والأشعري وغيرهم بل أثبتوا بها عامة صفات الكمال
وقد أورد عليها ما يورده نفاة الصفات وزعم أن ذلك قادح فيها فقال أما أهل الإثبات يعني للصفات فقد سلك بعضهم في الإثبات مسلكا ضعيفا وهو انهم تعرضوا لإثبات أحكام الصفات ثم توصلوا منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيا 0 فقالوا إن العالم لا محالة على غاية من الحكمة والإتقان وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه كما سيأتي وهو مستند في التخصيص والإيجاد إلى واجب الوجود كما سيأتي أيضا فيجب أن يكون قادرا عليه مريدا له عالما به كما وقع به الاستقراء في الشاهد فإن من لم يكن قادرا لا يصح صدور شيء عنه ومن لم يكن مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات عنه دون بعض بأولى من العكس إذ نسبتها إليه واحدة ومن لم يكن عالما بالشيء لا يتصور منه القصد إلى إيجاده
قالوا وإذا ثبت كونه قادرا مريدا عالما وجب أن يكون حيا إذ الحياة شرط في هذه الصفات على ما عرف في الشاهد وما كان له في وجوده أو عدمه شرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما فإن من لم تثبت له هذه الصفات من الأحياء فهو متصف بأضدادها كالعمي والطرش والخرس على ما عرف في الشاهد أيضا والإله تعالى يتقدس عن الاتصاف بهذه الصفات
قالوا وإذا ثبت له هذه الأحكام فهي في الشاهد معللة بالصفات فالعلم في الشاهد علة كون العالم عالما والقدرة علة كون القادر قادرا وعلى هذا النحو باقي الصفات والعلة لا تختلف لا شاهدا ولا غائبا
وأيضا فإن حد العالم في الشاهد من قام به العلم والقادر من قامت به القدرة وعلى هذا النحو والحد لا يختلف شاهدا ولا غائبا
وأيضا فإن شرط العالم في الشاهد قيام العلم به وكذلك في القدرة وغيرها والشرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا
قلت وهذه الطريقة مع إمكان تقريرها علي هذا الوجه فإنه يمكن تقريرها على وجه اكمل منه ومع هذا فقد قال هذه الحجة مما يضعف التمسك بها جدا وأورد عليها أنها مبنية على الجمع بين الشاهد والغائب
وقد تكلمنا على ما ذكره هو وغيره في غير هذا الموضع وبينا أن الحجة لا يحتاج فيها إلى هذا الجمع ولو احتيج فيها إلى هذا الجمع فهو صحيح فإنه من باب قياس الأولى وهو أن ما كان من لوازم الكمال فثبوته للخالق أولى منه للمخلوق كما قد ذكر في غير هذا الموضع
لكن المقصود هنا انه اعترض على قولهم لو لم يتصف بهذا لاتصف بضده العام الذي يتضمن النفي وهو قد ذكر هنا أنه قرره
قال وأما قولهم لو لم يتصف بهذه الصفات مع كونه حيا لكان متصفا بما يقابلها فالتحقيق فيه موقوف على بيان حقيقة المتقابلين يعني المتنافيين
وذكر التقسيم المشهور فيه للفلاسفة وانه أربعة أقسام تقابل السلب والإيجاب والعدم والملكة والتضايف والتضاد وان تقابل العلم والجهل أعمى والبصر هو عندهم من باب تقابل أتعدم والملكة
والملكة على اصطلاحهم كل معني وجودي أمكن أن يكون ثابتا للشيء إما بحق جنسه للإنسان فإن البصير يمكن ثبوته لجنسه وهو الحيوان أو بحق نوعه ككتابه زيد فإن هذا ممكن لنوع الإنسان أو بحق شخصه كاللحية للرجل فإنها ممكنة في حق الرجل
قال والعدم المقابل لها ارتفاع هذه الملكة
قال فإن أريد بتقابل الإدراك ونفيه تقابل التناقض بالسلب والإيجاب وهو انه لا يخلو من كونه سميعا وبصيرا ومتكلما أو ليس فهو ما يقوله الخصم ولا يقبل نفيه من غير دليل
وإن أريد بالتقابل تقابل العدم والملكة فلا يلزم من نفي الملكة تحقق العدم ولا بالعكس إلا في محل يكون قابلا لهما ولهذا يصح أن يقال الحجر لا أعمى ولا بصير والقول بكون البارىء تعالى قابلا للبصر والعمى دعوى محل النزاع والمصادرة على المطلوب وعلى هذا فقد امتنع نفي لزوم العمي والخرس والطرش في حق الله تعالى من ضرورة نفي البصر والسمع والكلام عنه
قلت وقد أشكل هذا على كثير من النظار حتى ضل به لاعتقادهم صحته حتى على الآمدي فهذا كلامه في الخلو عن الضدين بالمعنى العام قد أورد عليه ما ذكر فكيف يدعي انه قرره وهذا الإيراد إيراد معروف للمعطلة نفاة الصفات وهو إيراد فاسد من وجوه
الوجه الأول لن يقال نحن نريد بالتقابل السلب والإيجاب ونفي هذه الصفات يتضمن النقص لكل من نفيت عنه سواء قيل إنه قابل لها أو لم يقل فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المتصف بالحياة والعلم والكلام والسمع والبصر اكمل ممن لم يتصف بذلك وما قدر انتفاء ذلك عنه كالجماد فهو أنقص بالنسبة إلى من اتصف بذلك
وهو قد سلك في إثبات الصفات طريقة الكمال وهي في الحقيقة من جنس هذه فقال واعلم أن ههنا طريقة رشيقة سهلة المعرك قريبة المدرك يعسر على المنصف المتبحر الخروج عنها والقدح في دلالتها يمكن طردها في إثبات جميع الصفات النفسانية وهي مما ألهمني الله إياها ولم أجدها على صورتها وتحريرها لأحد غيري وهو أن يقال المفهوم من كل واحد من هذه الصفات المذكورة مع قطع النظر عما يتصف به صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن تكون لا صفة كمال وإلا كان حال من اتصف بها في الشاهد أنقص من حال من لم يتصف بها إن كان عدمها في نفس الأمر كمالا أو مساويا من لم يتصف بها إن لم يكن عدمها في نفس الأمر كمالا وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة في الشاهد فلم يبق إلا القسم الأول وهو انه في نفسها وذواتها كمال وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف الباري تعالى بها لكان ناقصا بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق
قلت هذه الحجة مادتها صحيحة وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف وغن كان تصويرها والتعبير عنها يتنوع وهذه المادة بعينها يمكن نقلها إلى الحجة الأولى التي زيفها بان يقال لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها وهي صفات نقص فيكون انقص من بعض مخلوقاته
الوجه الثاني أن يقال هب انهما متقابلان تقابل العدم والملكة فقولكم لا يلزم من نفي أحدهما ثبوت الآخر إلا إذا كان المحل قابلا
جوابه أن يقال الموجودات نوعان نوع يقبل الاتصاف بأحد هذين كالحيوان وصنف لا يقبل ذلك كالجماد ومن المعلوم أن ما قبل أحدهما اكمل ممن لا يقبل واحدا منهما وإن كان موصوفا بالعمى والصم والخرس فإن الحيوان الذي هو كذلك أقرب إلى الكمال ممن لا يقبل لا هذا ولا هذا إذ الحيوان الأبكم الأعمى الأصم يمكن أن يتصف بصفات الكمال وما يقبل الاتصاف بصفات الكمال اكمل ممن لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال
فإذا كان قد علم أن الرب تعالى مقدس عن أن يتصف بهذه النقائص مع قبوله للاتصاف بصفات الكمال فلان يقدس عن كونه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال أولى وأحرى وهذا معلوم ببداهة العقول
الوجه الثالث : إن نقول : لا نسلم أن في الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات فإن الله قادر على أن يخلق الحياة في كل جسم وأن ينطقه كما أنطق ما شاء من الجمادات وقد قال تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء } النحل 20 - 21
وإذا كان كذلك فدعواهم أن من الأعيان مالا يقبل الاتصاف بهذه الصفات رجوع منهم إلى مجرد ما شهدوه من العادة وإلا فمن كان مصدقا بأن الله قلب عصا موسى وهي جماد ثعبانا عظيما ابتلعت الحبال والعصي لم يمكنه أن يطرد هذه الدعوى
وإذا كان سبحانه قادرا على أن يثبت هذه الصفات صفات الكمال لما كان جمادا من مخلوقاته وكان كل مخلوق يقبل ذلك بقدرة الله تعالى فهو أحق بقبول ذلك بل بوجود به له إذ ما كان ممكنا في حقه من صفات الكمال كان واجبا فإنه لا يستفيد صفات الكمال من غيره بل هو مستحق لها بذاته فهي من لوازم ذاته
وهذا فصل معترض ذكرناه تنبيها على تقصير من يقصر في الاستدلال على الحق الذي قامت عليه الدلائل اليقينية العقلية مع السمعية مع مدافعتهم لما دلت عليه دلائل السمع والعقل وإن كنا لا نظن بمسلم بل بعاقل أن يتكلم في جهة الربوبية بما يراه تقصيرا ولكن لا يخلو صاحب هذه الطريق من عجز أو تفريط وكلاهما يظهر به نقصه عن حال السلف الأئمة الموافقين للشرع والعقل وأنهم كانوا فوق المخالفين لهم في هذه المطالب الإلهية والمعارف الربانية
وهذه الحجة التي صدر بها الآمدي وزيفها هي الحجة التي اعتمد عليها الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من السالمية والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم وهي مبنية على مقدمتين أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وأكثر الناس ينازعونهم في ذلك بل جميع الطوائف من أهل النظر والأثر ينازعونهم كالمعتزلة والكرامية والشيعة والمرجئة وأهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة
والثانية : على امتناع تسلسل الحوادث والنزاع فيها مشهور بين جميع الطوائف قال الآمدي الحجة الثانية أنه لو قامت الحوادث بذات الرب تعالى لكان لها سبب والسبب إما الذات وإما خارج عنها فإن كان هو الذات وجب دوامها بدوام الذات وخرجت عن أن تكون حادثة وإن كان خارجا عن الذات فإما أن يكون معلولا للإله تعالى أو لا يكون معلولا له فإن كان الأول لزم الدور وإن كان الثاني فذلك الخارج يكون واجب الوجود بذاته مفيدا للإله تعالى صفاته فكان أولى أن يكون هو إلاله
وهذه المحالات إنما لزمت من قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى فتكون محالا
قال الآمدي ولقائل أن يقول وإن افتقرت الصفات الحادثة إلى سبب فالسبب إنما هو القدرة القديمة والمشيئة الأزلية القائمة بذات الرب كما هو مذهب الكرامية على ما أوضحناه فليس السبب هو المسبب ولا خارجا ولا يلزم من دوام القدرة دوام المقدور وإلا كان العالم قديما وهو محال
قال : فإن قيل : إذا كان المرجح للصفة الحادثة هو القدرة والاختيار فلا بد وأن يكون الرب تعالى قاصدا لمحل حدوثها ومحل حدوثها ليس إلا ذاته فيجيب أن يكون قاصدا لذاته والقصد إلى الشيء يستدعي كونه في الجهة وهو محال ثم ولجاز قيام كل حادث به هو محال
وأيضا فإن الصفةالحادثة عند الكرامية إنما هو قوله كن والإرادة هي مستند المحدثات وعند ذلك فلا حاجة إلى الحادث الذي هو القول والإرادة لإمكان إسناد جميع المحدثات إلى القدرة القديمة
قلنا أما الأول فمندفع فإن القصد إلى إيجاد الصفة وإن استدعي القصد إلى محل حدوثها فإنما يلزم من ذلك أن يكون المحل في الجهة أن لو كان القصد بمعنى الإشارة إلى الجهة وليس كذلك بل بمعنى إرادة إحداث الصفة فيه وذلك غير موجب للجهة
ثم وإن كان القصد إلى إيجاد الصفة في المحل يوجب كون المحل في الجهة فيلزم من ذلك امتناع القصد من الله تعالى إلى إيجاد الأعراض لأن القصد إلى إيجادها يكون قصدا لمحالها ويلزم من ذلك أن تكون محالها في الجهات والقصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال وذلك يفضي إلى أن يكون الرب في الجهة عند قصد خلق الأعراض وهو محال
والقول بأنه إذا جاز خلق بعض الحوادث في ذاته جاز خلق كل حادث فدعوى مجردة وقياس من غير جامع وهو باطل على ما أسلفناه في تحقيق الدليل
وأما الثاني فحاصله يرجع إلى لزوم رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله تعالى وهو غير موافق لأصولنا وإن كان ذلك بطريق الإلزام للخصم فلعله لا يقول به وإن كان قائلا به فليس القول بتخطئته في القول بحلول الحوادث بذات الرب تعالى ضرورة تصويبه في رعاية الحكمة أولى من العكس
قلت هذه الحجة مادتها من الفلاسفة الدهرية كابن سينا وامثاله الذين يقولون إن الرب لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا ولهذا يستدل بهذه الحجة على نفي الحوادث المنفصلة كما يستدل بها على نفي الحوادث المتصلة وهو أن الموجب لحدوث الحادث مطلقا من الذات إن كان الذات لزم دوامه وإن كان الذات لزم دوامه وغن كان خارجا عنها فإن كان معلولا للذات لزم الدور لن ذلك الحادث موقوف على ذلك المعلول الخارج وذلك المعلول الخارج لا بد أن يكون حادثا وإلا لو كان قديما لكان كمال المقتضي لذلك الحادث قديما وهو الذات ومعولها القديم وإذا كان المعلول الخارج حادثا فلا يحدث إلا بسبب حادث في الذات وإلا لزم حدوث الحادث بلا سبب فيلزم أن يكون ما حدث في الذات من الذات موقوفا على الحادث الخارج وما حدث في الخارج موقوفا على الحادث فيها \ فيلزم الدور وإن كان الخارج ليس من مقتضيات الذات لزم أن يكون واجبا بنفسه فيكون ما يقوم بالرب من الحوادث موقوفا على ذلك الواحب بنفسه ثم قال فيكون أولى بالإلهية فهذه عمدة هؤلاء الدهرية في نفي فعله للحوادث سواء كانت قائمة به أو بغيره
ولهذا بين الآمدي ضعفها بين المتكلمين المنازعين للكرامية فإن قال الكرامية يقولون في الحوادث بذاته كما تقولون أنتم في الحوادث المنفصلة عنه فكما أن تلك الحوادث تحدث عندكم بكونه قادرا أو بالقدرة أو المشيئة القديمة فهكذا نقول فيما يقوم بذاته
ولا ريب أن ما ذكره جواب تنقطع به عنهم مطالبة إخوانهم المتكلمين من المعتزلة والأشعرية ولكن لا تنقطع عنهم مطالبة الفلاسفة إلا بما يقوله الجميع من أن القادر المختار يرجح أحد المتساويين لا لمرجح أو أن الإرادة الأزلية ترجح أحد المتساويين لا لمرجح
والمنازعون في هذا من أهل الحديث والكلام والفلسفة يقولون إن هذا جحد للضرورة وإن هذا يقدح فيما به أثبتوا وجود الصانع فإنهم أثبتوا الصانع بأن ترجيح أحد المتساويين لا بد له من مرجح وقد عرف كلام الناس في هذا المقام
الرد على الفلاسفة في مسألة امتناع حلول الحوادث بذاته تعالى من وجوه
ونحن نذكر ما تجاب به الفلاسفة عن أهل الملل جميعا وذلك من وجوه
الوجه الأول
ان يقال الحوادث إما أن يجب تناهيها أو لا يجب بل يجوز أن لا يكون لها نهاية فإن وجب تناهيها لزم أن يكون للحوادث اول ولزم جواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث وبطلت حجتكم وقولكم بدوام حركات الفلك وأنها أزلية وإن جاز دوام الحوادث فحينئذ ما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث وحينئذ فالأفلاك إذا كانت حادثة لزم أن يكون قبلها حادث آخر وحينئذ فيمكن أن تكون تلك الإرادات المتعاقبة القائمة بذات الواجب أو غيرها من الحوادث هي الشرط في حدوث الأفلاك كما تقولون انتم كل حادث فهو مشروط بحادث قبله
فإن قالوا ذاته لا تحلها الحوادث
قيل لهم دليلكم على نفي قيام الحوادث به إما أن يكون نافيا لقيام الصفات به مطلقا وإما ان يخص الحوادث فإن كان الول فقد عرف فساد قولكم فيه ببيان فساد حجتكم على نفي الصفات وإبطال ما تذكرونه في التوحيد الذي مضمونه نفي الصفات كما بسط في موضعه
وإن كان مختصا فدليلكم على النفي هو هذا الدليل على امتناع حدوث الحوادث عنه فليس لكم ان تثبتوا هذا بهذا وهذا بهذا فإنه يكون دورا وهذا من المصادرة على المطلوب فغن نفيكم لحدوث الحوادث بذاته وبغيره سواء فإذا لم يمكنكم نفي ذلك إلا بنفي حلولها بذاته كنتم قد صادرتم على المطلوب
الوجه الثاني
إن يقال لهم قول القائل سبب الحوادث غما الذات أو خارج عنها أتريدون به سبب كل حادث أو سبب نوع الحوادث فإن أردتم الأول منعوكم الحصر وقالوا لكم بل سبب كل حادث الذات بما قام بها من الحوادث المتعاقبة
فإن قلتم هذا يستدعي تعاقب الحوادث بذاته وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث
قالوا لكم فهذا يبطل قولكم بقدم الأفلاك ويوجب حدوثها
وأيضا فيقال لكم مالا يخلو عن جنس الحوادث إن لم يجب حدوثه بطلت هذه الحجة وغن وجب حدوثه لزم حدوث الأفلاك وحينئذ فالموجب لحدوث الأفلاك إن كان قديما لم يحدث به حادث جاز حدوث الحادث بدون سبب حادث ولا فرق حينئذ بين أن يكون الحادث بذاته أو منفصلا إنه فيلزم قول الكرامية 0 وإن كانت الحوادث لا تحدث إلا بحوادث متعاقبة لزم تسلسل الحوادث وبطل القائل فما لا ينفك عن حنس الحوادث فهو حادث وحينئذ فتبطل هذه الحجة
فتبين انه يلزمكم إما بطلان هذه الحجة وإما تصحيح قول الكرامية وذلك يستلزم بطلان الحجة فثبت بطلانها على كل تقدير
وإن أردتم سبب نوع الحوادث فيقال لكم سبب نوع الحادث المتصل كسبب نوع الحادث المنفصل عندكم وإذا جاز عندكم ان تكون الذات سبب الحوادث التي لا أول لها مع انفصاله عنها فمع قيامها به بطريق الأولى فإن اقتضاء المقتضي لما قام به أولى من اقتضائه لما باينه ولا محيص لهم عن هذا إلا بما ينفون به الصفات مطلقا
وقد عرف فساد قولهم في ذلك وأن حجتهم عليه من أسقط الحجج وحينئذ فيكون جماهير الناس خصومهم في ذلك الأصل
الوجه الثالث
أن يقال هب أن سبب الحادث خارج عن الذات وهو معلول الذات قولهم يلزم الدور له إنما يلزم الدور إذا كان ذلك الحادث الخارج موقوفا على الحادث المتصل والمتصل موقوفا على الخارج وأما إذا كان ذلك الخارج موقوفا على متصل وذلك المتصل موقوف على خارج آخر والخارج الآخر موقوف على متصل آخر فإنما يلزم التسلسل في الآثار وفي تمام التأثيرات المعينة لا يلزم الدور على هذا التقدير
وإذا كان اللازم هو التسلسل في الآثار والتأثيرات المعينة فذلك لا يلزم منه الدور والتسلسل جائز عند هؤلاء الفلاسفة وكثير من أهل الكلام والحديث وغيرهم وليس هذا تسلسلا ولا دورا في أصل التأثير فإن هذا باطل باتفاق العقلاء كالدور والتسلسل في نفس المؤثر فإن الدور والتسلسل في تمام التأثيرات المعينة فإنه كالتسلسل في الآثار المعنية والتسلسل في أصل التأثير كالتسلسل في أصل الآثار
ثم يقال إن كان هذا التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول وان تصدر الحوادث كلها عن قديم بلا سبب حادث من غير أن يجب دوام الحوادث 0 وحينئذ فيلزم صحة قول الكرامية كما يلزم صحة قول غيرهم من أهل الكلام الجهمية والقدرية وأتباعهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث بدون سبب حادث وإنما النزاع بينهم في المتصل والمنفصل
والوجه الرابع
في الجواب أن يقال هب أن ذلك الخارج إذا كان ليس معلول الذات يلزم إن يكون مفيدا للإله صفاته فيكون أولى بالإلهية
يقال لهم هذا وغن كان باطلا عند المسلمين وغيرهم من أهل الملل ولكن على أصولكم لا يمتنع بطلانه وذلك أن هذا لا ينافي وجوب وجوده بذاته بمعنى أنه لا فاعل له فإن ما كان لا فاعل له لم يمتنع من هذه الجهة أن يقوم به أمر بسبب منه ومن أمر مباين له وغنما ينتفي ذلك بنفي واجب بذاته مباين له وذلك مبني على نفي واجبين بالذات
وأنتم ادعيتم ذلك وادرجتم في ذلك نفي الصفات كما ادعت الجهمية أن القديم واحد وادرجوا في ذلك نفي الصفات فقلتم أنتم لو كان له صفات لتعدد الواجب بذاته كما قال أولئك لو كان له صفات لتعدد القديم وحجتكم على ذلك ضعيفة جدا وحتى إن منكم من قال بقدم الأفلاك ووجوب وجودها بذاتها لضعف ذلك
وهذا حقيقة قول أرسطو وأصحابه في الأفلاك وهو قول أهل وحدة الوجود في كل موجود الذين أظهروا التصوف والتحقيق وحقيقة قولهم قول هؤلاء الدهرية المعطلة
وحينئذ فنخاطب الجميع خطابا يتناول الطوائف كلها ونقول إما أن تكون الأفلاك واجبة الوجود بذاتها وإما أن لا تكون
فإن قيل : إنها واجبة الوجود بذاتها مع ان الحوادث تقوم بها بطل قولكم : إن الواجب أو القديم لا تقوم به الحوادث
وإن قلتم : إنها معلولة مفعولة لغيرها فالموجب لها : إن كان علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله فلا تصدر عنه الحركات والحوادث فتفتقر الحوادث المشاهدة إلى واجب آخر والقول فيه كالقول فيه وإن لم يكن علة تامة فلا بد لما يتأخر حدوثه أن يكون موقوفا على شرط حادث والقول فيه كالقول في الذي قلبه فيلزم التسلسل وإذا لزم لزم دوام الحوادث المتسلسلة ويمتنع صدورها عن علة تامة أزلية لا يقوم بها حادث فإن ذلك يقتضي مقارنة جميع معلوها لها لوجوب مقارنة جميع معلول العلة التامة لها وامتناع أن يصير علة لشيء ما بعد أن لم يكن علة بدون سبب منها وإذا جاز أن تقوم به الحوادث المتعاقبة فيلزم قيام الحوادث المتعلقة بالقديم على كل تقدير فبطلي هذه الحجة
وأيضا فقدماؤهم يقولون : إن الأول يحرك الأفلاك حركة شوقية مثل حركة المحبوب لمحبه ولم يذكروا أن الأفلاك مبدعة له ولا معلولة لعلة فاعلة
وحينئذ فلا بد أن يقال : هي واجبة بنفسها وهي مفتقرة في حركتها إلى المحرك المنفصل عنها فلا يمكن من قال هذا أن يقول : إن الواجب بنفسه لا يقوم به حادث بسبب مباين له كما لا يمكنه أن ينفي شيئين واجبين بأنفسهما كل منها متوقف على الآخر
إذ حقيقة قول هؤلاء أن الفلك والعلة الأولى كل منها محتاج إلى الآخر حاجة المشروط إلى شرطه لا حاجة المصنوع إلى مبدعه
الوجه الخامس
أن يقال : غاية ما ذكرتموه في الحوادث منقوص بالمتجددات كالإضافات والعدميات فإنهم سلموا حدوثها وهذه الحجة تتناول هذا كما تتناول هذا فما كان جوابكم عن هذا كان جواب منازعيكم عن هذا
فإنه يقال : تلك الأمور الإضافية والعدمية إذا تجددت فلا بد لها من سبب متجدد والسبب إما : الذات وغما خارج عنها فإن كان الأول لزم دوام الإضافات والعدميات وإن كان الثاني لزم الدور أو التسلسل وإن كان الثالث فالأمر الخارجي الذي أوجب تجدد تلك الإضافات والإعدام يجب أن يكون واجب والوجود
وأما الأسئلة التي ذكر أبو الحسن الآمدي أنهم أوردها على هذه الحجة فهي ضعيفة كما ذكر ضعفها ويمكن الجواب عنها ما ذكر أيضا
أما قول القائل : القاصد إلى الحدوث في محل يستدعي كون المحل في جهة فإن أراد به ما يقصد حدوثه في محل مباين له فالكرامية تقول بموجب ذلك وليس هذا محل الأنواع هنا ثم القائل لهذا إما أن يجوز كون الأمور المبانية للرب في جهة منه أو لا يجوز ذلك
فإن جوزه فقال بموجبه مع بقاء محل النزاع وإن لم يجوزه كان ذلك دليلا على فساد قوله في مسألة الجهة وحينئذ فيكون ذلك أقوى لقول الكرامية ومن وافقهم
وإن أرادا ان ما يقصد حدوثه في محل هو ذاته يوجب أن تكون ذاته في جهة من ذاته
فيقال له : هل يعقل كون الشيء في جهة من نفسه أم لا ؟ فإن عقل ذلك قالوا بموجب التلازم وإن لم يعقل ذلك منعوا التلازم
يبين ذلك أن الإنسان يحدث حوادث في نفسه بقصده وإدارته وهذا السؤال يرد عليها فإن عقل كون نفسه في جهة من نفسه أمكن للمنازعين أن يقولوا بموجب ذلك في كل شيء وإلا فلا
وأيضا فيقال : قصد الشيء إما أن يستلزم كونه بجهة منم المقاصد وأما أن لا يستلزم ذلك فإن استلزم ذلك لزم كون جميع الأجسام بجهة من الرب فإنه إذا أحدث فيها الأعراض الحادثة كان قاصدا لها على ما ذكروه فيلزم أن يكون بجهة منه على هذا التقدير وحينئذ فيكون هو أيضا بجهة منها لامتناع كون أحد الشيئين بجهة من الآخر من غير عكس كما ذكروه وإذا كان كذلك لزم أن يكون الباري في جهة
وإذا كان كذلك بطلب حجتهم لأن غايتها أن قصده للحوادث في ذاته يستلزم كون ذاته في جهة بطل نفي هذا اللازم
وإما ان يقال : قصد الشيء لا يستلزم كونه بجهة من القاصد وحينئذ فبطلت هذه الحجة فثبت بطلانها على التقديرين
وإيضاح فسادها أنها مبنية على مقدمتين وصحة إحداهما تستلزم بطلان الأخرى وبطلانها يتضمن بطلان إحدى المقدمتين فثبت بطلان إحداهما على كل تقدير وإذا بطلت إحدى المقدمتين بطلت الحجة فإن أحدى المقدمتين أن القاصد لا يقصد إلا ما هو في جهة والثانية أن كون الباري في الجهة محال فإن كانت المقدمة الأولى صحيحة لزم أن يكون في الجهة لأنه يقصد حدوث حوادث قطعا فبطلت الثانية وإن كانت الأولى باطلة بطلت الحجة أيضال لبطلان أحدى مقدمتيها
وكما أن فساد هذه الحجة ظاهر على أصول أهل الملل وغيرهم ممن يقول بحدوث العالم فبطلانها على رأي الفلاسفة الدهرية أظهر فإن هؤلاء لا ينكرون حدوث الحوادث فإن قالوا : إنها حادثة عن علة أزلية موجبة بنفسها كما يقوله ابن سينا وأمثاله فهؤلاء يقولون بان الحوادث تحدث عنه بوسائط
وحينئذ فيقال : إما أن ذلك يستلزم كونها منه في جهة أو لا يستلزم ؟ وتبطل الحجة على التقديرين كما تقدم
وإن قالوا : بل العالم واجب الوجود بنفسه فقد قالوا بحدوث الحوادث عن القديم الواجب بنفسه وقيامها به فإن الحوادث قائمة بذات الأفلاك وحينئذ فكل ما يحتج به على نقيض ذلك فهو باطل فإن صحة أحد النقيضين تستلزم بطلان الآخر وبطلان اللازم الذي هو المدلول كانت أدلته المستلزمة له كلها باطلة
وهذا الجواب خير من جواب الآمدي بقوله : القصد إلى ما هو في جهة ممن ليس في الجهة محال فإن جميع نفاة الجهة من أهل الكلام يقولون إن الرب تعالى يقصد إلى ما هو في جهة من المخلوقات والقصد منه وليس هو في جهة عندهم
بل يقال جوابا قاطعا : القصد في الجهة ممن ليس في الجهة إن كان ممكنا بطلت المقدمة الأولى من الأعتراض وإن كان ممتنعا بطلت المقدمة الثانية
وأما الاعتراض الثاني وهو قولهم : لجاز قيام كل حادث به فظاهر الفساد فإنا إذا جوزنا قيام صفة به لم يلزم قيام كل صفة به فإذا جوزنا أن تقوم به صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن تقوم صفات النقص به كالجهل المركب والمرض والسنة والنوم وغير ذلك من النقائض الوجودية وإذا جوزنا أن يقوم به كلام لم نجوز قيام كل كلام به وإذا جاز إرادة به لم يجز قيام إرادة كل شيء به وإنما يقوم به ما يليق بجلاله وما يناسب كبرياءه إذ هو موصوف بصفات الكمال ولا يوصف بنقائضها بحال
وذلك لأن كونه سبحانه قابلا لأن تقوم به الصفات أو الحوادث لم يكن لمجرد كون ذلك صفة أو حادثا فيلزم طرد ذلك في كل صفة وحادث كما انه إذا قيل : تقوم به أمور وجودية ولم يلزم أن يقوم به كل موجود لأن قيام الصفات الوجودية به لم يكن لمجرد كونها موجودة حتى يقوم به كل موجود وهذا كما إذا قلنا : إن رب العالمين قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات لم يلزم من ذلك أن يكون كل ما هو قائم بنفسه وهو موجود وهو ذات متصفة بالصفات أن يكون رب العالمين
والناس متنازعون في صفاته : هل تسمى أعراضا أو لا تسمى ؟ مع تنازعهم في ثبوتها ونفيها ففي مثبتة الصفات ونفاتها من يسميها أعراضا
فإذا قيل : لو جاز أن يقوم به عرض لزم أن يقوم به كل عرض لكان هذا أيضا باطلا فإن ذلك لم يكن لكونه عرضا فيلزم قيام كل عرض به
والمسلمون متفقون على أن الله خالق كل موجود سواه فلو قيل : لو جاز أن يخلق موجودا للزم أن يخلق كل موجود فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال أو لو قيل : لو جاز أن يخلق عالما قادرا حيا لزم أن يخلق كل حي عالم قادر وهو حي عالم قادر فيلزم أن يكون خالقا لنفسه وهو محال لكان هذا كلاما باطلا
وأصل هذا أن السالب النافي لما نفي نفيا عاما أن يقوم بالله صفة أو أن يقوم به ما يريده ويقدره عليه لكونه حادثا فنفي عاما أن يقوم به حادث ونحو ذلك قابلة المثبت فناقض هذا الخبر العام وهذه القضية السالبة الكلية وكذبها يحصل بإثبات خاص وهو القضية الجزئية الموجبة فيجوز قيام صفة ما من الصفات وحادث ما من الحوادث وذلك الجائز لم يجز قيامه للمعنى المشترك بينه وبين سائر الصفات والحوادث وإنما قام لمعنى يختص به وبأمثاله لا يشاركه فيه جميع الصفات والحوادث
لكن المشترك كما انه ليس هو المقتضي له للقيام بالذات فليس هو مانعا فكون القائم به صفات أو حادثا ليس أمرا موجبا للقيام به حتى يقوم كل صفة وحادث ولا مانعا من القيام به حتى يمنع كل صفة وحادث
فمن نفى نفيا عاما لأجل ذلك فهو معارض بمن أثبت إثباتا عاما لأجل ذلك وكلاهما باطل بل هو المستحق لصفات الكمال العارية عن النقص وهو على كل شيء قدير ولم يزل قادرا على أن يتكلم ويفعل بمشيئة واختياره سبحانه وتعالى
وإذا قال القائل : هذا يقتضي قيام الصفات أو الحوادث به قيل : هذا المعنى عديم التأثير لا هو موجب للامتناع ولا للجواز
والمثبتون يقولون : كونه قادرا على الفعل والكلام بنفسه صفة كمال وكونه لا يقدر على ذلك صفة نقص فإن القدرة على الفعل والكلام مما يعلم بصريح العقل أنه صفة كمال وأن من يقدر أن يخلق ويتكلم أكمل ممن لا يقدر أن يخلق ويتكلم فإنه يكون بمنزلة الزمن ويقولون : بالطريق التي تثبت له صفات الكمال يثبت هذا فإن الفاعل بنفسه الذي يقدر بنفسه على الفعل من حيث هو كذلك أكمل ممن لا يمكنه ذلك كما قد بسط كلامهم في غير هذا الموضع
وأيضا فإن أراد المريد بقوله : تقوم به الحوادث كلها أنه قادر على أن يمسك العالم كله في قبضته كما جاءت به الأخبار الإلهية فهم يجوزون ذلك بل هذا عندهم من أعظم أنواع الكمال كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر 67
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود وابن عباس ما يوافق مضمون هذه الآية وأن الله تعالى يقبض العالم العلوي والسفلي ويمسكه ويهزه ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض ؟
وفي بعض الآثار : ويدحوها كما يدحو أحدكم الكرة وقال ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم
فإن أراد مريد بقوله إن الحوادث كلها تقوم بذاته المعنى الذي دلت عليه النصوص فهو حق وهو من أعظم الأدلة على عظمة الله وعظم قدره وقدرته وعلى فعله القائم بنفسه وفي مخلوقاته
وإن أراد بذلك أنه يتصف بكل حادث فهذا يستلزم أن يتصف بالنقائض الوجودية مثل أن يتصف بالجهل المركب الحادث ونحو ذلك وهذا ممتنع لكونه نقصا لا لكونه حادثا فالموت والسنة والنوم والعجز واللغوب والجهل وغير ذلك من النقائص هو منزه عنها ومقدس أزلا وأبدا فلا يجوز أن تقوم به لا قديمة ولا حادثة لكونه نقاقض ما وجب له من الكمال اللازم لذاته
وإذا كان أحد النقيضين لازما للذات لزم انتقاء النقيض الآخر فكل ما تنزه الرب عنه من الحوادث والصفات فهو منزه عنه لما أوجب ذلك لا للقدر المشترك بينه وبين ما قام به من الكمالات
وأما السؤال الثالث وهو قوله : إنه لا حاجة إلى ذلك فيقال ليس كل مالا تعلم الحاجة إليه يجزم بنفيه فإن الله أخبر أنه كتب مقادير الخلائق قبل خلقهم ولا يعلم إلى ذلك حاجة وكذلك قد خلق آدم بيده عند أهل الإثبات مع قدرته على أن يخلقه كما خلق غيره
وأيضا فإن عدم الحاجة إلى الشيء أوجبت نفيه فينبغي أن تنفي جميع المخلوقات فإن الله لا يحتاج إلى شيء
وأما ما يقوم بذاته فما كان الخلق محتاجا إليه وجب إثباته وما لم يكن الخلق محتجا إليه كان قد انتفى هذا الدليل المعين الدال على إثباته وعدم الدليل مطلقا لا يستلزم عدم المدلول عليه في نفس الأمر وإن استلزم عدم علم المستدل به فضلا عن عدم الدليل المعين
وأيضا فإن الرب تعالى يمكن ان يكون له من صفات الكمال مالا يعلمه البعاد ولا يمكنهم نفيه لانتفاء الحاجة إليه
ولكن هذا السؤال يمكن تحريره على وجه آخر وهو أن يقال : الكرامية إنما أثبتوا ما أثبتوه لاحتياج الخلق إليه والقدرة والمشيئة الأزلية مكافية في حدوث المخلوقات المنفصلة كما هي كافية في حدوث ما قام بالذات فيكون دليلهم على ذلك باطلا
وهذا الكلام إنما يفيد إن أفاد إبطال هذا الدليل المعين ولا يبطل دليلا آخر ولا يبطل ثبوت المدلول فلا يجوز أن ينفي قيام الحوادث بذاته لعدم ما يثبت ذلك بل الواجب فيما لا يعرف دليل ثبوته وانتفائه الوقف فيه
ثم هم قد يقولون : صدور المفعولات المنفصلة من غير سبب حادث يقوم بالفاعل أمر ممتنع كصدور المفعولات بدون قدرة وإرادة للفاعل
ويقولون أيضا : قد علم أن الله خالق لعالم والخلق ليس هو المخلوق إذ هذا مصدر وهذا مفعول به والمصدر ليس هو المفعول به فلا بد من إثبات خلق قائم به ومن إثبات مخلوق منفصل عنه
وهذا قول جمهور الناس وهو أشهر القولين عند أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب : أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وهو قول جمهور الناس : أهل الحديث والصوفية وكثير من أهل الكلام أو أكثرهم وكثير من أساطين الفلاسفة أو أكثرهم
لكن النزاع بينهم في الخلق المغاير للمخلوق : هل هو قديم قائم بذاته ؟ أو هو منفصل عنه ؟ أو هو حادث قائم بذاته ؟ وإذا كان حادثا فهل الحادث نوه ؟ أو أن الحوادث هي الأعيان الحادثة ونوع الحوادث قديم لتكون صفات الكمال قديمة لله لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال ؟
هذه الأقوال الأربعة قد قال كل قول طائفة ويقولون أيضا : إن قيام هذه الأمور بذاته من صفات الكمال وذلك أنا قد علمنا أن الله متكلم وأن المتكلم لا يكون متكلما إلا بكلام قائم بذاته وأنه مريد ولا يكون مريدا إلا بإرادة قائمة بذاته إذ ما قام بغيره من الكلام والإرادة لا يكون كلاما له ولا إرادة إذ الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره ويقولون قد أخبر الله انه { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وان تدل على أن الفعل مستقبل فوجب أن يكون القول والإرادة حادثين بالسمع
وبالجملة عامة ما يذكر في هذا الباب يعود إلى نوع تناقض من الكرامية وهو عمدة منازعيهم ليس معهم ما يعتمدون عليه إلا تناقضهم وتناقض أحد المتنازعين لا يستلزم صحة قول الآخر لجواز ان يكون الحق في قول ثالث لا قول هذا ولا قول هذا لا سيما إذا عرف أن هناك قولا ثالثا وذلك القول يتضمن زوال الشبه القادحة في كل من القولين الضعيفين
الحجة الثالثة عند الآمدي على امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى
قال الآمدي الحجة الثالثة : أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها في الأزل وإلا كانت القابلية عارضة لذاته واستدعت قابلية أخرى وهو تسلسل ممتنع وكون الشيء قابلا للشيء فرع إمكان وجود المقبول فيستدعي تحقق كل واحد منهما ويلزم من ذلك إمكان حدوث الحوادث في الأزل وحدوث الحادث في الأزل ممتنع للتناقض بين كون الشيء أزليا وبين كونه حادثا
قال الآمدي ولقائل أن يقول لا نسلم أنه لو كان قابلا لحلول الحوادث بذاته لكان قابلا لها في الأزل فإنه لا يلزم من القبول للحادث فيمالا يزال مع إمكانه القبول له أزلا مع كونه غير ممكن أزلا والقول بأنه يلزم منه التسلسل يلزم عليه الأيجاد بالقدرة للمقدور وكون الرب خالقا للحوادث فإنه نسبة متجددة بعد أن لم يكن فما هو الجواب ههنا به يكون الجواب ثم وإن سلمنا أنه يلزم من القبول فيما لا يزال القبول أزلا فلا نسلم أن ذلك يوجب إمكان وجود المقبول أزلا ولهذا على أصلنا الباري موصوف في الأزل قادرا على خلق العالم ولا يلزم منه إمكان وجود العالم أزلا
قلت : قد ذكر في إفساد هذه الحجة وجهين هما منع لكلتا مقدمتيها فإن مبناها على مقدمتين : إحداهما : أنه لو كان قابلا لكان القبول أزليا
والثانية أنه يمكن وجود المقبول مع المقبول
فيقال في الأولى لا نسلم أنه إذا كان قابلا للحوادث في الأبد يلزم قبلوها في الأزل لأن وجودها فيما لا يزال ممكن وجودها في الأزل ممتنع فلا يلزم من قبول الممكن قبول الممتنع وهذا كما يقال إذا أمكن حدوث الحوادث فيما لا يزال أمكن حدوثها في الأزل
وقد احتجوا على ذلك بأنه يجب أن يكون القبول من لوازم الذات إذ لو كان من عوارضها لكان للقبول قبول آخر ولزم التسلسل
فأجاب عن هذه الحجة بالمعارضة بالإيجاد والإحداث فإنه عند من يمنع تسلسل الأثار من عوارض الذات لا من لوازمها فالقول في قبولها كالقول في فعله لها إذ التسلسل في القابل كالتسلسل في الفاعل
وهذا الجواب من جنس جوابه عن الحجة الأولى وهو جواب صحيح على أصل من وافق الكرامية من المعتزلة والأشعرية والسالمية وغيرهم وهؤلاء أخذوا هذا الأصل عن الجهمية والقدرية من المعتزلة ونحوهم
وأما المقدمة الثانية فيقال : لا نسلم انه يلزم من ثبوت القبول في الأزل إمكان وجود المقبول في الأزل بدليل أن القدرة ثابتة في الأزل ولا يمكن وجود المقدور في الأزل عند هذه الطوائف
وهذا الجواب أيضا جواب لمن وافقه على ذلك والنكتة في الجوابين : أن ما ذكروه في المقبول ينتقض عليهم بالمقدور فإن المقبول من الحوادث هو نوع من المقدورات لكن فارق غيره في المحل فهذا مقدور في الذات وهذا مقدور منفصل عن الذات فإن قدرته قائمة بذاته ومقدور القدرة هو فعله القائم بذاته وإن كانت المخلوقات أيضا مقدورة عندهم فهذا المنفصل عندهم مقدور وفعله القائم بذاته مقدور وقدرته قائمة بمحل هذا المقدور المتصل دون المنفصل
والناس لهم في وجود المقدور بمحل القدرة وخارجا عنها أقوال : منهم من يقول القدرة القديمة والمحدثة توجد في محل المقدور كأئمة أهل الحديث والكرامية وغيرهم
ومنهم من يقول القدرتان توجدان في غير محل المقدور كالجهعية والمعتزلة وغيرهم
ومنهم من يقول المحدثة لا تكون إلا في محل المقدور والقديمة لا تكون في محل المقدور وهم الكلابية ومن وافقهم
ومتنازعون أيضا هل يمكن أن تكون القدرتان أو إحداهما متعلقة بالمقدور في محلها وخارجة عن محلها جميعا
والمقصود هنا ان ما عارضهم به معارضة صحيحة ولكن كثير من الناس من أهل الحديث والكلام والفلسفة وغيرهم يقولون في المقدور ما يقولون في المقبول ويقولون بجواز حوادث لا تتناهى ومنهم من يخص ذلك بالمقدورات
فيقال لهؤلاء : حينئذ فيجوز حوادث لا تتناهى في المقبولات والمقدورات كما في المقدورات المنفصلة لا فرق بينهما
والجواب القاطع المركب ان يقال إما يكون وجود حوادث لا تتناهي ممكنا وغما أن يكون ممتنعا فإن كان الأول كان وجود نوع الحوادث في الأزل ممكنا وحينئذ فلا يكون اللازم منفيا فتبطل المقدمة الثانية
وإن كان ممتنعا لم يجز أن يقال إنه قابل لها في الأزل قبولا يستلزم إمكان وجود المقبول وحينئذ فلا يلزم وجودها في الأزل فتبطل المقدمة الأولى
فتبين أنه لا بد من بطلان إحدى المقدمتين وأيهما بطلت بطلت الحجة فهذا جواب ليس بإلزامي بل هو علمي يبطل الحجة قطعا
وهنا طريقة ثالثة في الجواب على قول من قال : إنه لم يزل متكلما إذا شاء وإن الحركة من لوازم الحياة من أهل السنة والحديث وغيرهم فغن هؤلاء يقولون إنه قابل لها في الأزل وإنها موجودة في الأزل
وما ذكره من الحجة يستلزم صحة قول هؤلاء في المقدور والمقبول فإنهم يقولون هو قادر عليها فيما لا يزال وهي ممكنة فيما لا يزال فوجب أنه لم يزل قادرا وأنها ممكنة فإن هذه القدرة والإمكان إما أن تكون قديمة وإما أن تكون حادثة فإن كانت قديمة حصل المطلوب وإن كانت حادثة فلا بد لها من سبب حادث وذلك يستلزم التسلسل والتسلسل يتضمن دوام القدرة وإمكان الفعل فثبت أنه لم يزل قادرا على الفعل والفعل ممكن له وهو المطلوب
وإيضاح ذلك أنه إذا كان قادرا على الفعل وجب أن يكون قادرا عليه في الأزل وإلا كانت القادرية عارضة لذاته واستدعت القادرية قادرية أخرى وذلك يقتضي التسلسل فإن كان التسلسل باطلا لزم دوام نوع القادرية لأنه يمتنع أن تكون عارضة إذ كانت العارضة تستلزم التسلسل الباطل على هذا التقدير وما استلزم الباطل فهو باطل وإذا امتنع كونها عارضة ثبت كونها لازمة لأنه متصف بها قطعا وإن كان ممكنا لزم إمكان دوام قادريات لا تتناهى لأنه يتصف بها ويمتنع تجددها له إذ كانت قدرته من لوازم ذاته لامتناع أن يكون غير القادر يجعل نفسه قادرا بعد أن لم يكن وذلك يقتضي دوام نوع القادرية فلا بد في الأزل من ثبوت القادرية على التقديرين وهو المطلوب
وإذا كان كذلك فالقدرة على الشيء فرع إمكان المقدور إذ القادرية نسبة بين القادر والمقدور فتستدعي تحقق كل منهما وإلا فما لا يكون ممكنا لا يكون مقدورا فلا تكون القادرية عليه ثابتة في الأزل فدل على أنه يلزم من ثبوت القدرة في الأزل إمكان وجود المقدور في الأزل
وحينئذ فذلك يدل على إمكان الفعل في الأزل فلا يكون هنا ما يمنع وجود المقدور المقبول في الأزل فصار ما ذكروه حجة على النفي هو حجة على الإثبات لكن هذا حجة لإمكان وجود المقبول في الأزل ويمكن أن يحتجوا على وجود المقبول في الأزل بأن يقولوا : لو لم يقم بذاته ما هو مقدور مراد له دائما للزم أن لا يحدث شيئا لكنه قد أحدث الحوادث فثبت دوام فاعليته وقابليته لما يقوم بذاته من مقدورات ومرادات
وبيان التلازم أن الحادث بعد أن لم يكن إن حدث بغير سبب لزم ترجيح الممكن بلا مرجح وتخصيص أحد المثلين من الوقتين وغيرهما بلا مخصص وهذا ممتنع
وإن حدث بالسبب فالقول في ذلك السبب كالقول في غيره فيلزم تسلسل الحوادث
ثم تلك الحوادث الدائمة : إما أن تحدث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها وهو ممتنع لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها ولا شيء منه وإما أن تحدث عن غير علة تامة وما ليس بعلة تامة ففعله للحادث موقوف على الشرط الذي به يتم فاعليته لذلك الحادث
وذلك الشرط إما منه وغما من غيره فإن كان من غيره لزم أن يكون رب العالمين محتاجا في أفعاله إلى غيره وإن كان منه لزم أن يكون دائما فاعلا للحوادث
وتلك الحوادث إما ان تحدث بغير أحوال تقوم به وإما أنه لا بد من أحوال تقوم به والثاني يستلزم انه لم يزل قادرا قابلا فاعلا تقوم به الأفعال والأول باطل لأنه إذا كان في نفسه أزلا وابدا على حال واحدة لم يقم به حال من الأحوال أصلا كانت نسبة الأزمان والكائنات إليه واحدة فلم يكن تخصيص أحد الزمانين بحوادث تخالف الحوادث في الزمان الآخر اولى من العكس
وتخصيص الأزمنة بالحوادث المختلفة أمر مشهود ولأن الفاعل الذي يحدث ما يحدثه من غير فعل يقوم بنفسه غير مفعول بل ذلك يقتضي أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق وأن مسمى المصدر هو مسمي المفعول به وأن التأثير هو الأثر
ونحن نعلم بالاضطرار أن التأثير أمر وجودي وإذا كان دائما لزم قيامه بذاته دائما وأن تكون ذاته دائما موصوفة بالتأثير والتأثير صفة كمال فهو لم يزل متصفا بالكمال قابلا للكمال مستوجبا للكمال وهذا أعظم في إجلاله وإكرامه سبحانه وتعالى
وبهذه الطريق وأمثالها يتبين أن الحجة العقلية التي يحتج بها أهل الضلال فإنه يحتج بها على نقيض مطلوبهم كما أن الحجج السمعية التي يحتجون بها حالها كذلك
وذلك مثل احتجاجهم على قدم الأفلاك بأنه إذا كان مؤثرا في العالم فإما أن يكون التأثير وجوديا أو عدميا والثاني معلوم الفساد بالضرورة
لكن هذا قول كثير من المعتزلة والأشعرية وهو قول من يقول الخلق هو المخلوق وإن كان وجوديا فإن كان حادثا لزم التسلسل ولزم كونه محلا للحوادث فيجب أن لا يكون قديما وغن كان قديما لزم قدم مقتضاه فيلزم قدم الأثر
فيقال أولا هذا يقتضي أن لا يكون شيء من آثاره محدثا وهذا خلاف المشاهدة
وموجب هذه الحجة ان الأثر يقترن بالمؤثر التام التأثير وإذا كان كذلك فكلما حدث من الحوادث شيء كان التأثير التام منتفيا في الأزل وكذلك أيضا كلما تجدد شيء من المتجددات وحينئذ فيلزم أنه لم يكن في الأزل تأثير يستلزم آثاره وهذا نقيض قولهم
وحينئذ فيلزم حدوث التأثير وتسلسله وإذا كان التأثير وجوديا وجب أن يكون قائما بالمؤثر وهذا يقتضي دوام ما يقوم بذاته من أحواله وشؤونه التي هي من آثار قدرته ومشيئته
وهذه الحجج الثلاث المذكورة مبناها على جواز التسلسل في الآثار والكرامية لا تقول بذلك لكن يقول به غيرهم من المسلمين وأهلل الملل وغير أهل الملل
والكرامية تجيب من يوافقها على التسلسل بما تقدم من المعارضات أو الممانعات
الحجة الرابعة عند الآمدي
قال الآمدي الحجة الرابعة انه لو قامت الحوادث بذاته لكان متغيرا والتغير على الله محال ولهذا قال الخليل عليه السلام { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76 أي المتغيرين
قال ولقائل أن يقول إن أردتم بالتغير حلول الحوادث بذاته فقد اتحد اللازم والملزوم وصار حاصل المقدمة الشرطية لو قامت الحوادث بذاته لقامت الحوادث بذاته وهو غير مفيد 0 ويكون القول بأن التغير على الله بهذا الاعتبار محال دعوى محل النزاع فلا يقبل وإن أردتم بالتغير معنى آخر وراء قيام الحوادث بذات الله تعالى فهو غير مسلم ن ولا سبيل إلى إقامة الدلالة عليه
تعليق ابن تيمية
قلت لفظ التغير في كلام الناس المعروف هو يتضمن استحالة الشيء كالإنسان إذا مرض يقال غيره المرض ويقال في الشمس إذا اصفرت تغيرت والأطعمة إذا استحالت يقال لها تغيرت قال تعالى { فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين } محمد : 15 فتغير الطعم استحالت من الحلاوة إلى الحموضة ونحو ذلك
ومنه قول الفقهاء إذا وقعت النجاسة في الماء الكثير لم ينجس إلا أن يتغير طعمه أو لونه أو ريحه وقولهم إذا نجس الماء بالتغير زال بزوال التغير ولا يقولون إن الماء إذا جرى مع بقاء صفائه أنه تغير ولا يقال عند الإطلاق للفاكهة والطعام إذا حول من مكان إلى مكان انه تغير ولا يقال للإنسان إذا مشى أو قام أو قعد قد تغير اللهم إلا مع قرينة ولا يقولون للشمس والكواكب إذا كانت ذاهبة من المشرق إلى المغرب إنها متغيرة بل يقولون إذا إصفر لون الشمس إنها تغيرت ويقال وقت العصر ما لم يتغير لون الشمس ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا وإن سمى بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا 0 لونه لون لباس المسلمين وتقول العرب تغايرت الأشياء إذا اختلفت والغيار البدال
قال الشاعر
( فلا تحسبني لكم كافرا ... ولا تحسبني أريد الغيارا )
ويقولون نزل القوم يغيرون أي يصلحون الرحال
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم لما أتي بابي قحافة ورأسه ولحيته كالثغامة فقال غيروا الشيب وجنبوه السواد أي غيروا لونه إلى لون آخر أحمر أو أصفر وتقول العرب غيرت الشيء فتغير غيرا
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره أي قرب تغيره من الجدب إلى الخصب
وغار الرجل على أهله يغار إذا حصل له غضب أحال صفته من حال إلى حال
وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقبله وذلك أضعف الإيمان ]
وقال [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ]
وتغيير المنكر تبديل صفته حتى يزول المنكر بحسب الإمكان وغن لم يكن إلا بتغير الإنسان في نفسه غضبا لله
ولهذا لم يطلق على الصفة الملازمة للموصوف أنها مغايرة له لأنه لا يمكن أن يستحيل عنها ولا يزايل
والغير والتغير من مادة واحدة فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير ولا تكون صفاته مغايرة له
والناس إذا قيل لهم التغير على الله ممتنع فهموا من ذلك الاستحالة والفساد مثل انقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص أو تفرق الذات ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه
وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته فيخلق ويستوي ويفعل ما يشاء بنفسه ويتكلم إذا شاء ونحو هذا لا يسمونه تغيرا
ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة كما قال الإمام أحمد : يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم حتى يتوهم الجاهل أنهم يعظمون الله وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله
ومن أعجب الأشياء احتجاجهم بقصة إبراهيم الخليل وهم مع افترائهم فيها على التفسير واللغة إنما هي حجة عليهم لا لهم كما قال بعضهم في قوله { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76
أي المتغيرين وربما قال غيره المتحركين أو المنتقلين وقال بعض المتفلسفة المتأخرين الممكنين وأراد بالممكن ما يتناول القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه
وزعم بعضهم كالرازي في تفسيره أن هذا قول المحققين وهؤلاء من أعظم الناس تحريفا للفظ الأفول ولفظ الإمكان فإنهم وسائر العقلاء يسلمون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا ما كان معدوما فأما القديم الأزلي الذي لم يزل فيمتنع عندهم وعند سائر العقلاء أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم
ولكن يتناقضون تناقضا بينا فقالوا الفلك ممكن يقبل الوجود والعدم وهو مع ذلك قديم أزلي
ثم استعمال لفظ الأفول في الممكن الذي يقبل الوجود والعدم من أعظم الكذب على اللغة والتفسير فإن المخلوقات الموجودة كالشمس والقمر والكواكب والأدميين وغيرهم لا يسمون في حال حضورهم آفلين
وهؤلاء اجترأوا على ذلك لما جعلت الجهمية أهل الكلام المحدث المتحرك آفلا فجعلوا كل متحرك آفلا وزعموا أن إبراهيم عليه السلام احتج بالحركة على امتناع كون المتحرك رب العالمين فلما قال هؤلاء هذا قال أولئك نحن نجعل كل ما سوى الرب آفلا فجعلوا السموات والأرض وكل ما سواه آفلا وفسروا بذلك القرآن
وهذا لا يعرف في لغة العرب أن الأفول بمعنى التحرك والانتقال ولا بمعنى التغير الذي هو استحالة من صفة إلى صفة دع ما هومن باب التصرف الذي لا تستحيل فيه الصفات
وإبراهيم إنما قال { لا أحب الأفلين } الأنعام : 76 ردا لمن كان يتخذ كوكبا يعبده من دون الله كما يفعله أهل دعوة الكواكب كما كان قومه يفعلون ذلك لا ردا على من قال إن الكوكب هو رب العالمين فإن هذا لم يقله أحد لكن قومه كانوا مشركين ولو كان إبراهيم مقصودة نفي كون الكوكب رب العالمين واحتج على ذلك بالأفول لكانت حجة عليهم لأنه لما رأى الكوكب والقمر والشمس بازغة كانت متحركة من حين بزوغها إلى حين غروبها وهو في تلك الحال لا ينفي عنها المحبة كما نفاها حين غابت
فعلم بذلك أن ما ذكر من التغير والحركة والانتقال لم يناف مقصود إبراهيم عليه السلام وإنما نافاه التغيب والاحتجاب فإن كان مقصودة نفي كونه رب العالمين كان ذلك حجة عليهم لا لهم وكانوا قد حكوا عن إبراهيم انه لم يجعل التغير والحركة والانتقال مانعة من كون الموصوف بذلك رب العالمين فما ذكروه لو صح كان حجة عليهم لا لهم
وبكل حال فإبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من حب المتصف بذلك كما جعل الأفول مانعا فعلم أن ذلك ليس من صفات النقص التي تنافي كون المتصف بها معبودا عند إبراهيم
قال الآمدي وأما المعتزلة فمنهم من قال المفهوم من قيام الصفة بالموصوف حصولها في الحيز تبعا لحصول محلها فيه والباري ليس بمتحيز فلا تقوم بذاته الصفة ومنهم من قال الجوهر إنما صح قيام الصفات به لكونه متحيزا ولهذا فإن الأعراض لما لم تكن متحيزة لم يصح قيام المعاني بها والباري ليس بمتحيز فلا يكون محلا للصفات
قال وهذه الشبهة تدل على انتفاء الصفة عن الله تعالى مطلقا قديمة كانت أو حادثة وهي ضعيفة جدا أما الشبهة الأولى فلقائل أن يقول لا نسلم انه لا معنى لقيام الصفة بالموصوف إلا ما ذكروه بل معنى قيام الصفة بالموصوف تقوم الصفة بالموصوف في الوجود وعلى هذا فلا يلزم أن يكون المعلول قائما بالعلة لكونه متقوما بها في الوجود إذ ليس المعلول صفة ولا العلة موصوفة به
وأما الشبهة الثانية فلقائل أن يقول لا نسلم أن قيام الصفات بالجوهر لكونه متحيزا بل أمكن أن يكون ذلك لمعنى مشترك بينه وبين الباري تعالى وغن كان ذلك لكونه متحيزا فلا يلزم من انتفاء الدليل في حق الله تعالى انتفاء المدلول كما تقدم تحقيقة وقد أمكن أن يكون ذلك لمعنى اختص به الباري تعالى ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلتين في صورتين
قلت أما الحجة الأولى فيقال قيام الصفة بالموصوف معروف يتصور بالبديهة وهو أوضح مما حدوه به حيث قالوا إن ذلك هو حصول الصفة في الحيز تبعا لحصول محلها فيه فإن الناس يفهمون قيام اللون والطعم والريح بالموصوف بذلك وغن لم يخطر بقلوبهم هذا الحصول
فإن ادعى مدع أن كل موصوف متحيز وأن قيام الصفة بدون المتحيز ممتنع
فيقال من الناس من ينازعك في هذا ومنهم من يوافقك عليه والموافقون لك منهم من يقول كل قائم بنفسه متحيز ولا اعلم قائما بنفسه إلا المتحيز ومنهم من يقول بل أعلم قائما بنفسه غير المتحيز فقولك لا يصح إلا إذا ثبت لك أن كل موصوف متحيز وثبت لك وجود موجود ليس بمتحيز حتى يستلزم ثبوت موجود ليس بموصوف
وجمهور الخلق ينكرون هذه الدعوى بل يقولون إثبات موجود لا يوصف بشيء من الصفات بل هو ذات مجردة كإثبات وجود مطلق لا يتعين ولا يتخصص وهذا كله ممتنع لمن تصوره بضرورة العقل ويقولون هذا غنما يعقل تصوره في الأذهان لا في الأعيان والذهن يقدر فيه الممتنعات كالجمع بين الضدين والنقيضين
والجواب المركب أن يقال ما تعني بقولك متحيزا اتعني به ما كان له حيز موجود يحيط به أم تعني به ما يقدر المقدر له حيزا عدميا أو ما كان منحازا عن غيره ؟
فإن عنيت الأول كان باطلا متناقضا فإن الأجسام إن كانت متناهية لم تكن في حيز وجودي فإنها إذا كانت متناهية لو كانت في حيز وجودي لزم أن يكون الجسم في جسم آخر إلى ما لا يتناهي في حيز وجودي لأن ذلك الحيز هو أيضا داخل فيما لا يتناهي
فهذا جواب برهاني والجواب الإلزامي أن قولك كل موصوف يحيط به حيز وجودي يستلزم وجود أجسام لا تتناهى وهذا باطل عندك فإن العالم متحيز موصوف وليس في حيز وجودي
وإن قلت أعني به أمرا عدميا قيل لك لاشيء وما جعل في لاشيء لم يجعل في شيء
فكأنك إن قلت المتحيز ليس في غيره وحينئذ فلا نسلم لك امتناع كون الرب متحيزا بهذا الاعتبار
وكذلك إن فسرته بالمنحاز المباين لغيره كان نفي اللازم ممتنعا
فإن قلت قد قام الدليل على حدوث ما كان كذلك لأن ما كان كذلك لم يخل من الحوادث والأعراض أو كان مختصا بقدر أو صفة أو تميز منه شيء عن شيء وهذا تركيب عاد الكلام إلى هذه المواد الثلاثة وقد علم أنها مادة الكلام الباطل
وقد بين فساد ذلك بوجوه وحينئذ بوجوه وحينئذ فلا يمكنك نفي شيء من موارد النزاع إلا بنفي ذلك فيعود الكلام إلى نفي ذلك
وأما الحجة الثانية فقول القائل إن الجوهر إنما صح قيام الصفة به لكونه متحيزا
فيقال أولا لا نسلم أن قيام الصفة بمحلها يحتاج إلى علة أعم من المحل بل صفة لازمة لمحلها وهي محتاجة إلى ذلك المحل المعين لمعنى يخص ذلك المعين لا يعلل كونها فيه بأعم منه لأن العلة إذا كانت أعم من المعلول كانت منتقضة
وإن قيل نحن نعلل جنس قيام الصفات لا يحتاج إلى غير محل يقوم به وإن لم يخطر بالقلب كونه متحيزا
وإن قيل إن التحيز لازم للمحل الذي تقوم به الصفات
قيل وقيام الموصوف بنفسه لازم أيضا وغير ذلك
ثم الكلام في التحيز على ما تقدم وبالجملة فهذا كلام في جنس الصفات لا في خصوص الحوادث ولا ريب أن نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة كلامهم الموضعين واحد وفساد اصولهم مبين في غير هذا الموضع
طريقة الامدي في إثبات امتناع حلول الحوادث بذات الله تعالى
قال الآمدي والمعتمد في المسألة حجتان تقريرية وإلزامية أما التقريرية فهو أن يقال لو جاز قيام الصفات الحادثة بذات الرب تعالى فغما أن يوجب نقصا في ذاته أو في صفة من صفاته أو لا يوجب شيئا من ذلك فإن كان الأول فهو محال باتفاق العقلاء وأهل الملل وإن كان الثاني فإما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان الرب تعالى ناقصا قبل اتصافه بها وهو محال أيضا بالاتفاق ولا جائز أن يقال بالثاني لوجهين اتفاق الأمة وأهل الملل قبل الكرامية على امتناع اتصاف الرب بغير صفات الكمال ونعوت الجلال والثاني أن وجود كل شيء أشرف من عدمها فإذا كان اتصاف الرب بها لا يوجب تقصا في ذاته ولا في صفة من صفاته على ما وقع به الفرض فاتصافه إذا بما هو في نفسه كمال لا عدم كمال ولو كان كذلك لكان ناقصا اتصافه بها وهو محال كما سبق
الرد عليه من وجوه
قلت : فهذا عمدته وهو من أفضل هؤلاء المتأخرين وهي من أضعف الحجج كما قد بسط في غير هذا الموضع
الوجه الأول
وبيان ذلك من وجوه : الوجه الأول : أن عمدته في ذلك على مقدمة زعم أنها إجماعية فلا تكون المسألة عقلية ولا ثابتة بنص بل بالإجماع المدعي ومثل هذا الإجماع عنده من الأدلة الظنية فكيف يصلح أن يثبت بها مثل هذا الأصل ؟
وإذا كانت هذه المسألة مبنية على مقدمة إجماعية لم يكن العلم بها قبل العلم بالسمع لأن الإجماع دليل سمعي وهم بنوا عليها كون القرآن غير مخلوق
قالوا : لأنه لو خلقه في ذاته لكان محلا للحوادث وحينئذ فقبل العلم بهذا الإجماع يمكن تقدير قيام كلام حادث بذاته وإرادات حادثة بذاته وغير ذلك فلا يكون شيء من هذه المسائل من المسائل العقلية وإذا لم تكن من العقلية لم تكن من العقليات التي يتوقف صحة السمع عليها بطريق الأولى وحينئذ فلا يجوز معارضة نصوص الكتاب والسنة بها ويقال قد عارض الظواهر النقلية قواطع عقلية فليس هنا عقلي لا قاطع ولا غير قاطع بل غاية ما هنا دعوى المدعي للإجماع
وهؤلاء إذا احتج عليهم المحتج في إثبات الاستواء والنزول والمجيء والإتيان وغير ذلك بنصوص الكتاب والسنة أدعوا أن هذه المسائل لا يحتج فيها بالسمع وأن الأدلة السمعية قد عارضها العقل
فإذا اعترفوا بأنه لم يعارضها إلا ما ادعوه من الدليل المبنى على مقدمة زعموا أنها معلومة بالإجماع كان عليهم أن يسمعوا من الأدلة السمعية ما هو أقوى من هذا ويذكروا من الإجماعات ما هو أبين من هذا الإجماع لا سيما والأدلة السمعية المثبتة للصفات الخبرية ولقيام الحوادث به أضعاف ما يدل على كون الإجماع حجة من السمع وهي أقوى دلالة
فإذا كانت الأدلة السمعية المثبتة لهذه الصفات أقوى مما يدل على كون الإجماع حجة امتنع أن تعارض هذه النصوص بنصوص الإجماع فضلا عن نفس الإجماع فضلا عما هو مبني على مقدمة مبنية على الإجماع لو كان البناء حقا فكيف إذا كان باطلا ؟
الوجه الثاني
أن يقال : هذا الإجماع لم ينقل بهذا اللفظ عن السلف والأئمة لكن لعلمنا بعظمة الله في قلوبهم نعلم أنهم كانوا ينزهونه عن النقائص والعيوب
وهذا كلام مجمل فكل من رأى شيئا عيبا أو نقصا نزه الله عنه بلا ريب وإن كان من هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إنه موصوف بكل النقائص والعيوب كما هو موصوف عنده بكل المدائح إذ لا موجود إلا هو فله جميع النعوت محمودها ومذمومها
وهذا القائل يدعي أن هذا غاية الكمال المطلق كما قال ابن عربي وغيره لعلي لذاته هو الذي يكون له الكمال المطلق الذي يتضمن جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عقلا وشرعا وعرفا أو مذمومة عقلا وشرعا وعرفا وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة
وجمهور العقلاء الذين يتصورون هذا القول يقولون هذا معلوم الفساد بالحس والعقل كما هو كفر باتفاق أهل الملل
ومن المعلوم أن كل متنازعين في هذا الباب فإن أحدهما يزعم أنه وصف الحق تعالى بصفة نقص لكن منازعه لا يسلم له ذلك
فإذا قال أنت وافقتني على تنزيهه عن النقص والعيب
قال له : هذا الذي نازعتك فيه ليس هو عندي نقصا ولا عيبا فأي شيء تنفعك موافقتي لك على لفظ أنازعك في معناه
وإن قال بل اتفقنا على كل ما هو نقص في نفس الأمر فالله منزه عنه وهذا نقص في نفس الأمر فيجب تنزيه الله عنه
قال له : أنا وافقتك على أن كل ما هو نقص في نفس الأمر منزه عنه ولم أوافك على أن كل ما أثبت أنت أنه نقص بدليل تدعي صحته فإنه منزه عنه
وحاصله أن الإجماع لم يقع بلفظ يعلم به دخول مورد النزاع فيه ولكن يعلم أن كل ما عتقده الرجل نقصا فإنه ينزه الله عنه وما تنازعا في ثبوته يقول المثبت أنا لم أوافقك على انتقاء هذا ولكن أنت تقول هذا نقص فعليك أن تنفيه كما نفيت ذلك النقص الآخر وانا أقول ليس هذا بنقص وذلك الأمر الآخر الذي نفيته نفيته
لمعنى منتف فيما أثبته وأنا ما نفيت ذاك إلا لمعنى يختص به فإن كان ذلك المأخذ صحيحا لم تجب التسوية وإن كان باطلا لزم خطئ في نفي ذاك وحينئذ فإن كانا مستويين لزم خطئ في الفرق بينهما وليس خطء في إثبات ما أثبته بأولى من خطيء في نفي ذاك وحينئذ فإن كمانا مستويين لزم خطئ في لافرق بينهما وليس خطئ في إثبات ما أثبته بأولى من خطئ في نفي ما نفيته فإنما يفيدك هذا تناقضي إن صح التسوية لا يفيدك صحة مذهبك وإن ثبت الفرق بطل قولك
فتبين ان هذا الإجماع هو من الإجماعات المركبة التي ترجع إلى حجة جدلية ولو كانت صحيحة لم تفد إلا تناقض الخصم
الوجه الثالث
أن يقال : ما ذكرته من الحجة معارض بتجويزك على الله إحداث الحوادث بعد أن لم تكن وهو كونه فاعلا فالفاعلية : إما أن تكون صفة كمال وإما أن لا تكون صفة كمال فإن كانت كمالا كان قد فاته الكمال قبل الفعل وإن لم تكن كمالا لزم اتصافه بغير صفات الكمال وهذا محال لهذين الوجهين
وإذا قلت إن الفعل نسبة وإضافة
قيل لك : وإضافة هذا الحادث إليه نسبة وإضافة ولا فرق بينهما إلا كون أحدهما متصلا والآخر منفصلا
ومعلوم أن الإجماع على تنزيه الله تعالى عن صفات النقص متناول لتنزيهه عن كل نقص من صفاته الفعلية وغير الفعلية وأنت وجميع الطوائف تقسمون الصفات إلى صفات ذاتية وصفات فعلية ومتفقون على تنزيهه عن النقص في هذا وفي هذا
وأيضا فهذا منقوص بسائر ما جوزوه من تجدد الإضافات والسلوب فإن الرب منزه عن الاتصاف بالنقائص في الثبوت والسلب والإضافة فما كان جوابهم في المتجددات كان جوابا لمنازعيهم في المحدثات
وهم يجيبون في المتجددات بأنه لا يمكن ثبوتها في الأزل
فيقال لهم : وكذلك الحوادث المتعاقبة لا يمكن ثبوتها في الأزل وهو وأمثاله يجيبون الدهرية بمثل ذلك في مسألة حدوث العالم
فإن من حججهم شبة برقلس قالوا إن الجود صفة كمال وعدمه صفة نقص فلو كان العالم قديما لكان الرب تعالى في الأزل جوادا ولو كان حادثا لما كان الرب تعالى في الأزل جوادا لعدم العالم عنه وهو محال
ثم قال في الجواب وأما الشبهة الرابعة فحاصل لفظ الجود فيها يرجع إلى صفة فعلية وهو كون الرب تعالى موجدا وفاعلا لا لغرض يعود إليه من حلب نفع أو دفع ضر وعلى هذا فلا نسلم أن الصفات الأفعال من كمالاته تعالى وليس ذلك من الضروريات فلا بد له من دليل كيف وأنه لو كان من الكمالات لقد كان كمال واجب متوقفا على وجود معلوله عنه ومحال أن يستفيد الأشرف كماله من معلوله كما قرروه في كونه موجودا بالإرادة وإن سلمنا أنه كمال لكن إنما يكون عدمه في الأزل نقصا ان لو كان وجود العالم في الأزل ممكنا وهو غير مسلم وهو على نحو قولهم في نفي النقص عنه بعدم إيجاده للكائنات الفاسدات كالصور الجوهرية العنصرية والأنفس الإنسانية لتعذر وجودها أزلا من غير توسط ولا يلزم من كون العالم غير ممكن الوجود إزلا أن لا يكون ممكن الحدوث لما حققناه
فهذا الجواب الذي أجاب به في هذا الموضع إذا أجابته به الكرامية كان جوابهم له أحسن من جوابه لأولئك وأدنى أحواله أن يكون مثله فإنه قال صفة الإحداث والفعل مطلقا ليست بصفة كمال مع كونه اتصف بها بعد أن لم يكن
فيقال له لا فرق بينهما إلا من جهة أن أحدهما بنفسه والآخر مباين عنه ومن المعلوم أن ما يتصرف بنفسه أكمل ممن لا يتصرف بنفسه
الوجه الرابع
أن يقال قول القائل إما أن تكون في نفسها صفة كمال أو لا صفة كمال
قلنا ليست في نفسها صفة كمال قوله فيلزم اتصاف الرب بما ليس من صفات الكمال وذلك ممتنع
قلنا متى يكون الممتنع إذا كان ذلك مع غيره صفة كمال أو إذا لم يكن مع غيره صفة كمال وذلك أن الشيء وحده قد لا يكون صفة كمال لكن هو مع غيره صفة كمال وما كان كهذا لم يجز اتصاف الرب به وحده لكن يجوز اتصافه به مع غيره ولا يلزم من كونه ليس صفة كمال منع قيامه بالرب مطلقا
وهذا كالإرادة للفعل الخالية عن القدرة على المراد ليست صفة كمال فإن من أرادة شيئا وهو عاجز عنه كان ناقصا ولكن إذا كان قادرا على ما أراد كانت الإرادة مع القدرة صفة كمال
فلو قال قائل : مجرد الإرادة هل هو كمال أو لا ؟
فإن قيل هو كمال انتقض بإرادة العاجز المتمني المتحسر
وإن قيل ليس بكمال لزم اتصافه بما ليس بكمال
قيل له الإرادة مع القدرة كمال
وكذلك قوله كن إما أن يكون صفة كمال أولا فإن كان صفة كمال فينبغي أن يكون كمالا للعبد ومعلوم أن العبد لو قال للمعدوم كن كان هاذيا لا كاملا وإن لم يكن كمالا فلا يوصف به الرب
فيقال له كن من القادر على التكوين الذي إذا قال للشيء كن فيكون كمال ومن غيره نقص وكذلك الغضب إما أن يكون صفة كمال أولا فغن كان كمالا فيحمد كل غضبان وإن كان نقصا فكيف اتصف الرب به ؟
فيقال الغضب على من يستحق الغضب عليه من القادر على عقوبته صفة كمال وأما غضب العاجز أو غضب الظالم فلا يقال إنه كمال ونظائر هذا كثيرة
وإذا كان كذلك فكونه قادرا على الأفعال المتعاقبة وفعله لها شيئا بعد شيء صفة كمال وكل منها بشرط غيره كمال وأما الواحد منها مع عدم غيره فليس بكمال فإنه من المعلوم أنا إذا عرضنا على العقل الصريح ذاتا لا تقدر أن تتصرف بنفسها وذاتا تتصرف دائما شيئا بعد شيء كانت هذه الذات أكمل من تلك وكان الكمال قدم هذا النوع
وكذلك إذا قدرنا شيئا يتكلم إذا شاء بما شاء وهو لم يزل كذلك وآخر لا يمكنه الكلام وإلا بعض الأحيان أو حدث له الكلام بعد أن لم يكن كان الأول أكمل
ونكتة الجواب : أن الواحد منها إذا لم يكن وحده كمالا لا يلزم ان لا يكون مع سائر النوع كمالا
لكن هذا الجواب إنما يناسب قول من يقول : لم يزل متصفا بهذا النوع
والكرامية لا تقول بذلك بل تقول حدث له النوع بعد أن لم يكن لكن الكرامية تقول قولنا في هذا النوع كقول غيرنا في الحوادث المنفصلة وهو أن دوام هذا لما كان ممتنعا لامتناع الحوادث في الأزل لم يلزم أن لا يكون متصفا بصفات الكمال لأن عدم الممتنع ليس بنقص
الوجه الخامس
وتحقيق هذا : أن يقال : قول القائل : إذا كان هذا كمالا كان الرب ناقصا قبل اتصافه
يقال له : متى يكون ناقصا إذا وجوده قبل ذلك ممكنا أو لم يكن ممكنا والأول ممتنع فإن عدم الممتنعات لا يكون نقصا والحوادث عندهم يستحيل وجودها في الأزل فلا يكون عدمها نقصا
الوجه السادس
ان يقال : متى يكون عدم الشيء نقصا إذا عدم في الحال التي يصلح ثبوته فيها او إذا عدم في حال لا يصلح ثبوته فيها الأول مسلم والثاني ممنوع
وهم يقولون كل حادث فإنما حدث في الوقت الذي كانت الحكمة مقتضية له وحينئذ فوجوده ذلك الوقت صفة كمال وقبل ذلك صفة نقص مثال ذلك تكليم الله لموسى صفة كمال لما أتى وقبل أن يتمكن من سماع كلام الله فصفة نقص
الوجه السابع
أن يقال الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة أو متعاقبة أيما أكمل عدمها بالكلية او جودها على الوجه الممكن ؟
ومعلوم أن وجودها على الوجه الممكن أكمل من عدمها وهكذا يقولون في الحوادث
الوجه الثامن
أن يقال : قول القائل اتفاق الملل قبل الكرامية على امتنع اتصاف الرب بغير صفات الكمال كلام مجمل
فإن أريد بذلك أن الناس ما زالوا يقولون إن الله موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائض فالكرامية تقول بذلك وإن أردت أن الناس قبل الكرامية كانوا يقولون إن الله لا يقوم به شيء من مقدوراته ومراداته فهذا غلط
فإن جمهور الخلائق على جواز ذلك قبل الإسلام وبعد الإسلام فالتوراة مملوءة من وصف الله بمثل ذلك وكذلك الإنجيل وسائر نبوات الأنبياء مثل الزبور ونبوة أشعيا وأرميا وأساطين الفلاسفة كانوا يقولون بذلك والسلف من الصحابة والتابعين وأهل الحديث متواتر عنهم ذلك
ثم هذا الرجل لما أوردت عليه الدهرية هذا في صفة الخالقية قال صفة الخالقية لا صفة نقص ولا صفة كمال
الوجه التاسع
قوله إن وجود الشيء أشرف من عدمه
يقال له : وجوده أشرف مطلقا أم في الوقت الذي يمكن وجوده فيه ويصلح وجوده فيه ؟
أما الأول فممنوع فإن وجود الجهل المركب ليس أشرف من عدمه ولا وجود تكذيب الرسول أشرف من عدمه ولا وجود الممتنع أشرف من عدمه
وإن أريد وجود الممكن الصالح
قيل فلا نسلم أن ما حدث كان يمكن حدوثه ويصلح حدوثه قبل وقت حدوثه وحينئذ فلا يلزم من كونه وقت وجوده كمالا أن يكون قبل وجوده نقصا
ومدار الدليل على مقدمتين مغلطتين إحداهما أن ما وجد من الكمال كان عدمه قبل ذلك نقصا وهذا فيه تفصيل كما تبين والثاني أن ما لا يكون وحده كمالا يجب نفيه عن الرب مطلقا وهذا فيه تفصيل كما سبق فإنه يقال إن كان الحادث كمالا فعدمه قبل ذلك نقص وإن لم يكن كمالا لم يتصف الرب بما ليس بكمال وكلا المقدمتين فيها من التموية والإجمال ما قد بين ويحتمل من البسط أكثر من هذا
رد الآمدي على الكرامية من ثمانية أوجه
قال الآمدي الحجة الثانية من جهة المناقضة للخصم والإلزام وذلك من ثمانية أوجه
الأول
أن من مذهب الكرامية انهم لا يجوزون إطلاق اسم متجدد على الله تعالى فيما لا يزال
كما بيناه من قبل فلو قامت بذاته صفات حادثة لا تصف بها وتعدي إليه حكمها كالعلم فإنه إذا قام بمحل وجب اتصافه بكونه عالما
وكذا في سائر الصفات القائمة بمحالها وساء كان المحل قديما أو حادثا وسواء كانت الصفة قديمة أو حادثة إذ لا فرق بين القديم والحادث من حيث أنه محل قامت به صفته إلا فيما يرجع إلى أمر خارج فلا أثر له وإذا ثبت ذلك فيلزم أن يقال إنه قائل بقول ومريد بإرادة ويلزم من ذلك تجدد اسم لم يكن له قبل قيام الصفة الحادثة به وهو مناقض لمذهبهم
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول : هذا أمر اصطلاحي لفظي ليس بحثا عقليا فإن كونهم لا يسمونه إلا بما هو لازم لذاته دون ما يعرض لها أمر اصطلحوا عليه ولا يرد عليهم العلم والقدرة ونحوهما فإنه من لوازم ذاته ولعلهم يدعون في ذلك توقيفا كما يدعي غيرهم في كثير مما لا يطلقه من الأسماء
وأيضا فيقال : هذا إما أن يكون لازما لهم وإما أن لا يكون لازما فإن لم يكن لازما بطل النقض به وإن كان لازما أمكن التزامه وليس فيه إلا تجدد أسماء له مما تجدد من أفعاله
والمنازع يقول بمثل ذلك في جميع الأفعال فإنه تجدد استحقاقه لأسمائها عند تجدد الأفعال كالخالق والرازق ونحو ذلك
وحينئذ فيمكن إذا كان هذا صوابا أن يجمع بين الصوابين فيقال بتجدد الحادث وتجدد الاسم أيضا
وأيضا فيقال : الكرامية قالوا هذا لكونه عندهم متصفا في الأزل بصفات الكمال وكون أسمائه كلها الأسماء الحسنى التي تتضمن مدحا له وثناء عليه وكون ذلك الحادث لا يمكن أن يمكن ازليا فلا يكون مما يوجب أسما
وحينئذ فيقال : إما أن يمكن دوام نوع ذلك الحادث وإما ان لا يمكن فإن أمكن كانوا قد أخطأوا في نفي دوامه وإن لم يمكن فإما أن يكون تجدد اسم له ممكنا اولا يكون فإن كان ممكنا أخطاوا في نفي ذلك الاسم وإن لم يكن ممكنا كانوا مصيبين فبتقدير خطئهم على بعض التقديرات لا يلزم صواب قول منازعيهم
الثاني
قال الآمدي أن الكرامية موافقون على أن القول والإرادة لا يقومان إلا بحي كالسمع والبصر وقد وافقوا على ان الحي إذا خلا عن السمع والبصر لا يخلو عن ضده وعند ذلك فإما أن يقولوا بأن الله يخلو عن القول الحادث والإرادة الحادثة وعن ضده فلا يجدون إلى الفرق بينه وبين السمع والبصر سبيلا وغن قالوا بأنه لا يخلو الرب عن القول والإرادة وعن ضده فلا يخلو ذلك الضد إما أن يكون قديما أو حادثا فإن كان الأول فيلزم من ذلك عدم الموجود القديم ضرورة حدوث ضده وهو محال بالاتفاق وبالدليل على ما سيأتي وإن كان الثاني فالكلام في ذلك الضد كالكلام في الأول ويلزم من ذلك تعاقب الحوادث على الرب تعالى علىوجه لا يتصور خلوه عن واحد منها والحوادث المتعاقبة لا بد وأن تكون متناهية علىما سبق في إثبات واجب الوجود وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ضرورة
تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : نظير الحادث والإرادة الحادثة عندهم التسمع الحادث والتبصر الحادث فإنهم يقولون : إنه عند وجود المسموعات والمرئيات تجدد ما يسمونه التسمع والتبصر فهذا الحادث نظير ذلك الحادث وعندهم أنه يخلو من وجود مثل هذا وضده العام بخلاف نفس السمع والبصر فإن ذاك عندهم بمنزلة القائلية والمريدية وعندهم انه لا يخلو عن القائلية والمريدية وضدها العام كما لا يخلو عن نفس السمع والبصر وضده العام
فإن قيل : منهم من يفرق بين القول والإرادة وبين التسمع والتبصر
فيقال قد قيل إن هذا ليس هو المشهور عنهم وسواء كان هو المشهور أو لم يكن فإنه يقال : إن كانت صورة الإلزام كصورة الوفاق لزم خطأ من فرق بين الصورتين منهم وإن كان بينهما فرق مؤثر في الحكم لزم خطأ المسوى منهم وعلى التقديرين لا يلزم صواب المنازع لهما
وأيضا فإنه يقال : إما أن يكون تعاقب الحوادث ممكنا وإما ان يكون ممتنعا فإن كان ممكنا كانوا أخطأوا في قولهم : يخلو عن القول والإرادة وعن ضدها إذ يمكن تعاقب ذلك عليه دائما وإن كان ممتنعا كان هذا الامتناع هو الفرق بين ذلك وبين السمع والبصر فإنه يمكن اتصافه في الأزل بالسمع والبصر دون اتصافه بالحادث من القول والإرادة
لكن على هذا لا يلزم تناقضهم في أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده فإنهم يقولون ليس هو قابلا في الأزل للاتصاف بالحوادث
لكن يقال لهم : هذا فرع إمكان اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممكن
فيقولون : وهذا الإلزام والمعارضة فرع امتناع اتصافه بالحوادث فلم قلتم إن ذلك ممتنع ؟
فعلم أن مثل هذا الإلزام لا ينقطع به لا هم ولا خصومهم المسلمون لهم امتناع تسلسل الحوادث
وأما من يقول إنه يمكن تسلسل الحوادث فإنه يبين خطأهم في هذا التفريق ويقول : إذا كان الحي لا يخلو عما يقبله وعن ضده والرب تعالى قابل للاتصاف بالقول والإرادة لزم ان لا يخلو عن ذلك وعن ضده لكن ضده صفة نقص كضد السمع والبصر فيلزم انه ما زال متصفا بالقول والإرادة والاتصاف بنوع ذلك ممكن
ولهم جواب ثالث عما ذكره من الإلزام وهو ان يقال نحن قلنا الحي القابل لهذا لا يخلو عنه وعن ضده العام الذي يدخل فيه عدم هذه الصفات لم نقل إنه لا يخلو عنه وعن ضد وجودي فإن هذا ليس قولنا فإن القابل للشيء ولضده الوجودي قد يخلو عنهما عندنا
ولكن الأشعرية يقولون : إن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده الوجودي وإذا كان كذلك فضد القول والإرادة عدم ذلك فلا يقال : القول في ضد ذلك كالقول فيه ويلزم تسلسل الحوادث لأن ضد ذلك عدم والعدم لا يفتقر إلى فاعل عندنا
ولا يضر عدم الشيء في الأزل ووجوده فيما لا يزال كالأفعال المحدثة
وهذا جواب محقق لهم لكنه لا يتم ألا بأن يكون عدم القول والإرادة في الأزل ليس صفة نقص
وقولهم في ذلك كقول المعتزلة وهم خير من المعتزلة من وجهين :
من جهة انهم يجعلون القول والإرادة قائمة بذاته وهذا بحث آخر لا يختص بهذه المسألة
ومن جهة أنهم يثبتون مشيئة أزلية وقابلية أزلية
وأيضا فما ادعاه من انه أثبت أن الحوادث لا بد وأن تكون متناهية ليس كما ذكر
وقد عرف الكلام فيما ذكر هو وغيره وضعف ذلك
الثالث
قال أبو الحسن الآمدي يعني في بيان تناقضهم أن من مذهبهم أن القول الحادث والإرادة الحادثة عرض كاللون والطعم والرائحة وأنه يجوز في الشاهد تعري الجواهر عن الأقوال والإرادات والطعوم والرائح والألوان مع جواز اتصافها بها وقد أحالوا قيام الألوان والطعوم والرائح بذات الله تعالى وجوزوا ذلك في القول والإرادة ولو قيل لهم لم قضيتم بجواز قيام الطعوم والألوان والروائح بذات الله تعالى من غير أن يلزم استحالة التعري عنها كما في القول الحادث والإرادة الحادثة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا
تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : جوابهم في هذا كجواب الأشعرية والسالمية إذا قيل لهم : لم وصفتم الرب بالقول والإرادة ولم تصفوه بالطعم واللون والريح ؟
فإذا قالوا : لأن القول والإرادة من الصفات المشروطة بالحياة وهي صفة كمال بخلاف الطعم واللون والريح أو غير هذا من الفرق قالت الكرامية نظير ذلك فالفرق بين هذا وهذا ليس من خصائص مسألة حلول الحوادث فإن نفي ذلك عند من ينفيه واجب سواء قال بحلول الحوادث أو لم يقل وإنما يفترقان في أن هذا يجوز حدوث ذلك بخلاف الآخر فحاصله أنهم لم ينفوا الطعم واللون والريح لكونه لو قبلها لم يخل منها فإن هذا الأصل عندهم فاسد بل نفوها لما فارقت به صفات الحي
وأيضا فيقال الفرق الذي فرقوا به بين اللون والريح وبين القول والإرادة إما أن يكون مؤثرا وإما أن لا يكون فإن كان مؤثرا بطل الإلزام وإن لم يكن مؤثرا لزم خطؤهم في إحدى الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة الصورتين لا بعينها فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيما نفوه لا فيما أثبتوه فلا يدل على صحة قول المنازع لهم فيما أثبتوه فإن أقام المنازع لهم دليلا عقليا أو سمعيا على نفي اللون والريح دون القول والإرادة كان ذلك فرقا مؤثرا وإن أقام دليلا على نفي حلول الجميع كان ذلك حجة كافية دون الإلزام
الوجه الرابع
قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن الرب متحيز وانه مقابل للعرش وأكبر منه وليس مقابلا لجوهر فرد من العرش وقد قالوا : بأن العرض الواحد لا يقوم بجوهرين ن والصفة الحادثة في ذات الله تعالى وهي القول أو الإرادة كما هو مذهبهم يوجب قيامها مع اتحادها بجزئين فصاعدا وهو مناقض لمذهبهم
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول قولهم : إن العرض لا يقوم بجوهرين مع قولهم بقيام القول والإرادة بالله تعالى أمر لا يختص بمسألة الحوادث فإن العلم والقدرة والمشيئة القديمة عندهم بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة بذات الله تعالى فالقيام بذاته لا يفترق الحال فيه بين أن يكون قديما أو حادثا من جهة كونه صفة واحدة قامت بجزأين بل هذا بحث يتعلق بمسألة الصفات مطاقا ولها موضع آخر
وأيضا فيقال : إذا كان من مذهبهم أن الرب متحيز كما حكاه عنهم مع أن ابن الهيصم وغيره منهم ينكر أن يكون متحيزا فما ذكر من حجة المعتزلة عليهم غايتها إلزامهم إذا قامت به الصفات والحوادث أن يكون متحيزا فإذا كانوا ملتزمين لذلك كان هذا طرد قولهم ويبقى البحث ليس هو في هذه المسألة بل يبقى الكلام مع المعتزلة يعود إلى مسألة التحيز
والكلام إذا عاد إلى أصل واحد كان الكلام فيه أخف مع انهم يمكنهم أن يلزموا المعتزلة بقيام الحوادث به وإن لم يكن متحيزا إذا كان لكل من المسألتين مأخذ يخصه وبينهما اتفاق وافتراق
وأيضا فإن ذكر قولهم في العرش ههنا لا يظهر له وجه إلا أن يقال هم يقولون بالتحيز والمتحيز مركب من الجواهر المنفردة والعرض الواحد لا يقوم بجوهرين فلا تقوم به إرادة ولا قول
وهذا القول إن توجه كان سؤلا عليهم في أصل إثبات الصفات لله سواء كانت قديمة أو حادثة لا يختص هذا بمسألة حلول الحوادث
والكرامية لهم في إثبات الجوهر الفرد قولان فمن نفى ذلك لم يلزمه هذا الإلزام ومن أثبته كان جوابه عن هذا كجواب غيره من الصفاتية في الصفات القائمة بالملائكة والآدميين وغيرهم وكان لهم أيضا أجوبة أخرى كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
الوجه الخامس
قال الآمدي هو أن من مذهبهم أن مستند المحدثات إنما هو القول الحادث أو الإرادة الحادثة ومستند القول والإرادة القدرة القديمة والمشيئة الأزلية ولا فرق بين الحادث والمحدث من جهة تجدده وهو إنما كان مفتقرا إلى المرجح من جهة تجدده وقد استويا في التجدد فلو قيل لهم لم لا أكتفي بالقدرة القديمة والمشيئة الأزلية في حدوث المحدثات من غير توسط القول والإرادة كما اكتفى بها في القول والإرادة لم يجدوا إلى الفرق سبيلا
تعليق ابن تيمية
فيقال : ولقائل أن يقول : من الصفات ما يثبت بالسمع وقد يكون أثبتوا ذلك بالسمع كما أثبت الصفاتية من السلف والخلف كابن كلاب والأشعري والقاضي أبي بكر والقشيري والبيهقي تكوين آدم باليدين بالسمع مع أن غيره لم يحتج إلى ذلك كما أثبت أيضا الأشعري وغيره التكوين يكن سمعا مع أن العقل يكتفي بالقدرة
ونقل ذلك عن أهل السنة والحديث وقال عنهم إن الله لم يخلق شيئا إلا قال له : كن وذكر أنه : بقولهم يقول
والقرآن قد أخبر أنه إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون وأن تخلص الفعل المضارع للاستقبال وكذلك إذا ظرف لما يستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالبا
فلما رأوا السمع دل على أن المحدث يتعلق بقول وإرادة يكون المحدث عقبه مع علمهم بأن قول الرب وإرادته لا يقوم إلا بذاته قالوا ذلك
وأيضا فجميع الطوائف فرقوا بين حادث وحادث وشرطوا في هذا ما لم يشرطوه في الآخر
فالفلاسفة يقولون : كل حادث مشروط بما قبله من الحوادث ولا يسوون بين الحوادث
والمعتزلة البصريون يقولون كل المحدثات لا تحدث إلا بإرادة ولا تقوم الصفات إلا بمحل
وقالوا إن الإرادة حدثت بلا إرادة وقامت في غير محل وكذلك الفناء عندهم
والأشعرية فرقوا بين خلق وغيره
وأيضا فلا يخلو : إما أن يكون بين هذين الحادثين فرق مؤثر وغما أن لا يكون فإن كان بينهما فرق مؤثر بطل الإلزام وإن لم يكن فرق مؤثر لزم خطؤهم في أحد القولين : إما في الاكتفاء في الحدوث بالقدرة القديمة وغما في إثبات شيء حادث للمحدثات المنفصلة
وحينئذ فقد يكونون إنما أخطأوا في الاكتفاء بمجرد القدرة والإرادة القديمة كما يقوله من يقول إن الحوادث لا بد لها من سبب حادث وحينئذ فيلزمهم القول بدوام الحوادث كما هو قول من قاله من السلف وأهل الحديث والكلام والفلسفة
وفي الجملة هذا الإلزام إذا صح يلزم الخطأ في أحد الموضعين لا يلزم صحة قول المنازع
الوجه السادس
قال الآمدي يخص القائلين بحدوث القول وذلك انهم وافقوا على أن القول مركب من حروف منتظمة والحروف متضادة فإنا كما نعلم استحالة الجمع بين السواد والبياض نعلم استحالة الجمع بين الحروف ن وأنه يتعذر الجمع بين الكاف والنون من قوله : كن وقد وافقوا على استحالة تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها به وعند ذلك فإما أن يقال باجتماع حروف القول في ذات الباري تعالى أولا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها : فإما أن يقال بتجزىء ذات الباري تعالى وقيام كل حرف بجزء منه وإما أن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين : الأول : أنه يلزم منه التركيب في ذات الله تعالى وقد أبطلناه في إبطال القول بالتجسيم الثاني : أنه ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس وإن كان الثاني فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد وهو محال وإن لم نقل باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب تعالى يستحيل عروه عنه بعد اتصافه به والحرف السابق الذي عدم عند وجود اللاحق قد كان صفة للرب وقد زال بعد وجوده له
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول : هذا غايته ان يستلزم خطأهم في قولهم : إن ما يقوم به من الحوادث لا يخلو منه
ولا ريب أن أكثر الناس يخالفونهم في هذا ولا يقولون بدوام الحادث المعين
فمن قال بإثبات الاستواء والنزول وغيرهما من الأفعال القائمة بذاته المتعلقة بمشيئته وقدرته لا يقول : إن ذلك يدوم
وكذلك أكثر القائلين بأن الله كلم موسى بنداء بصوت سمعه موسى والنداء بالصوت قائم بذات الله تعالى لا يقولون : إن ذلك النداء بعينه دائم أبدا ونظائره كثيرة
وإذا كان كذلك فيقال إما أن يكون بقاء الحادث الذي هو الحروف والأصوات ممكنا أو ممتنعا
فإن كان ممكنا صح قول الكرامية وإن كان ممتنعا صح قول من ينازعهم في دوام الحادث ويقول : إنه لا يبقى مع اتفاق الجميع على قيام الحوادث به
وحينئذ فعلى التقديرين لا يلزم صحة قول المنازع النافي لقيام الحوادث به
وأيضا فيقال قول القائل إنه يستحيل الجمع بين الحروف هو من موارد النزاع
فذهب طوائف إلى إمكان اجتماعها من القائلين بقدم الحروف والقائلين بحدوثها
وهذا قول السالمية وغيرهم من القائلين باجتماعها مع قدمها وقول من قال باجتماعها مع حدوثها كالكرامية
وقد قال بالأول : طوائف من أهل الحديث والفقه والكلام من أصحاب مالك والشافعي واحمد وغيرهم
وإذا كان هذا من موارد النزاع فإذا قال مثل هذا القائل نحن نعلم استحالة اجتماع الحروف كما نعلم استحالة اجتماع الضدين كالسواد والبياض
قيل له فالذي تنصرهم أنت من الكلابية والأشعرية قالوا بأن المعاني التي هي معاني الحروف المنتظمة هي معنى واحد في نفسه والأمر والنهي والخبر صفات لموصوف واحد فالذي هو الأمر هو الخبر ن والذي هو الخبر هو النهي وقالوا إن ذلك بالسريانية كان إنجيلا
ولا ريب أن جمهور العقلاء من الأولين والأخرين القائلين بأن القرآن غير مخلوق والقائلين بأنه مخلوق ن يقولون : إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة من عدة أوجه :
منها كون الأمر هو عين الخبر
ومنها كون الخبر عن الخالق بمثل آية الكرسي هو الخبر عن المخلوق بمثل { تبت يدا أبي لهب وتب }
ومنها كون معاني التوراة إذا عربت تكون معاني القرآن إلى أمثال ذلك
ولهذا لم يقل هذا القول من طوائف المسلمين ولا غير المسلمين إلا ابن كلاب ومن اتبعه
وهذا القول يتضمن أن تكون المعاني المتنوعة معنى واحدا ولو قال : إن المعاني التي للحروف يمكن اجتماعها في زم واحد كان أقرب إلى المعقول من كونها معنى واحد
ولو قال قائل إن الحروف المجتمعة هي حرف واحد في الحقيقة وغنما الحروف المتفرقة صفات للحرف لا أقسام له كان هذا شبيها بقول من يقول إن تلك المعاني المتنوعة معنى واحد
وذلك انه من المعلوم بالاضطرار أن الحروف المنتظمة مطابقة لمعانيها المدلول عليها بها تحدث بحدوثها في نفس المتكم
وإذا قال القائل إن الحروف متضادة يمتنع اجتماع اثنين منها في محل واحد أمكن أن يقال إن المعاني متضادة يمتنع اجتماع اثنين في محل واحد
فإن غاية ما يقال إن محل المعاني واحد بخلاف محل الحروف فإنه متعدد لكن تعدد المحل واتحاده لا ينفي التضاد فإن المثلين متضادان وغن كانا متماثلين في الحقيقة والمحل فالباء والتاء تتضادان أعظم من تضاد الباء والحاء إذ الحرفان يتعدد محلها يمكن اجتماعها ن بخلاف ما يتحد محلهما والضدان إنما يمتنع اجتماعهما في محل واحد لا في محلين
فإذا قدر أن الحروف لا تكون إلا في محل واحد كانت بمنزلة معانيها التي لا تكون إلا في محل واحد وإذا قدر أن لها محلين أمكن اجتماعها كما تجتمع أصوات المتكلمين جميعا
لكن الواحد منا لا يقدر منا لا يقدر على ذلك لكون حركة بعض آلاته مستلزما لحركة الآخر وإلا فلو قدر أنا يمكننا تحريك الجميع كالذي ينفخ بيديه في هذه نفاخة وفي هذه نفاخة أمكن اجتماع الحروف واجتماع الأصوات في زمن واحد مع تعدد المحل وإنما الذي يظهر امتناعه اجتماع حرفين في محل واحد في زمن واحد
ولكن هذا قد يقال فيه إنه بمنزلة معاني الكلام فإن الواحد منا يجد من نفسه أنه لا يمكنه جمع معاني الكلام في زمن واحد في قلبه
وإذا كان كذلك فمن قال باجتماع المعاني لزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف فكيف من قال إن المعاني تكون معنى واحدا
والفضلاء من أصحاب اعري يعترفون بضعف لوازم هذا القول مع نصرهم لكثير من أقواله الضعيفة
استطرادات مقالة الآمدي في مسألة كلام الله تعالى
حتى الآمدي لما تكلم في مسألة الكلام قال فإن قيل وإذا ثبت أنه متصف بصفة الكلام وان كلامه قديم وأنه ليس بحرف ولا صوت فهو متحد لاكثره فيه في نفسه بل التكثر إنما هو في تعلقاته ومتعلقاته فإن قيل عاقل ما لا يماري نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ونهي وغيره من أقسام الكلام وإن ما انقسم إليه حقائق مختلفة وأمور متمايزة وانها من أخص أوصاف الكلام لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات والتعلقات والمتعلقات ولهذا فإنا لو قطعنا النظر عن العبارات والتعلقات والمتعلقات ورفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما وأيضا فإن ما أخبر به عن القص الماضية والأمور السالفة مختلفة متمايزة وكذلك المامورات والمنهيات مختلفة أيضا فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى هو نفس الخبر عما جرى لعيسى ولا الأمر بالصلاة هو نفس الأمر بالزكاة وغيرها ولا أن ما تعلق بزيد هو نفس ما تعلق بعمرو ولا ما سمى خبرا هو عين ما سمى أمرا إذ الأمر طلب والخبر لا طلب فيه بل هو حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجابا أو سلبا فثبت ان الكلام انواع مختلفة والكلام عام للكل فيكون كالجنس لها
قلنا قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ومعلوم واحد قائم بالنفس وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعا إلى اخص صفة الكلام بل إلى أمر خارج عنه وعلى هذا نقول إنه لو قطع النظر عن التعلقات والمتعلقات الخارجة فلا سبيل إلى توهم اختلاف في الكلام النفساني أصلا ولا يلزم منه رفع الكلام في نفسه وزوال حقيقته
قال وعلى هذا فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر واختلاف المخبر واتحاد الأمر واختلاف المأمور وكذلك اختلاف الأمر والخبر مع اتحاد صفة الكلام
قال فإن قيل إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة والقدرة والعلم وباقي الصفات راجعة إلى معنى واحد ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات لا بسبب اختلافه في ذاته وذلك بأن تسمى إرادة عند تعلقه بالتخصيص وقدرة عند تعلقه بالإيجاد وهكذا سائر الصفات وإن جاز ذلك فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات
وقال أجاب الأصحاب عن ذلك بأنه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة والإرادة بسبب التعلقات والمتلقات إذ القدرة معنى من شانه تأتي الإيجاد به والإرادة معنى من شانه تأتي تخصيص الحادث بحال دون حال وعند اختلاف التأثيرات لا بد من الاختلاف في نفس المؤثر وهذا بخلاف الكلام فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثرا فضلا عن كونه مختلفا
قال وفيه نظر وذلك انه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد مع إمكان النزاع فيه فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة وذلك لأن القدرة مؤثرة في الوجود والوجود عند أصحابنا نفس الذات لا انه زائد عليها وإلا كانت الذوات ثابتة في العدم وذلك مما لا نقول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات ثابتة في العدم وذلك مما لا قول به وإذا كان الوجود هو نفس الذات فالذوات مختلفة فتأثير القدرة في آثار مختلفة فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه وليس كذلك وأيضا فإن ما ذكروه من الفرق وإن استمر في القدرة والإرادة فغير مستمر في باقي الصفات كالعلم والحياة والسمع والبصر لعدم كونها مؤثرة في أثر ما
قال والحق ان ما أورده من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل وعسى أن يكون عند غيري حله ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بان كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء
تعليق ابن تيمية
هذا كلامه فيقال : قول القائل : إن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزال ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام
وقد رأيت انه يلزم من قال باتحاد معنى الكلام اتحاد الصفات كلها ثم رفعها بالكلية وجعلها نفس الذات وهذا يعود إلى قول القائلين بان الوجود واحد ولا يميزون بين الواحد بالعين والواحد بالنوع وذلك لأنه من جوز على الحقائق المتنوعة أن تكون شيئا واحدا غلا فرق بين هذا وهذا وذلك من جنس من يقول إن العالم هو العلم والعلم هو القدرة
ولهذا كان منتهى هؤلاء النفاة إلى أن يجعلوا الوجود الذي هو نوع واحد واحدا بالعين فيجعلون وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات ووجود زيد هو عين وجود عمرو ووجود الجنة هو عين وجود النار ووجود الماء هو عين وجود النار
ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم أنهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان وهو الجنس اللغوي فيجدونه واحدا في الذهن فيظنون أن ذلك هو وحدة عينية ولا يميزون بين الواحد بالجنس والواحد بالعين وأن الجنس العام المشترك لا وجود له في الخارج وإنما يوجد في الأعيان المتميزة
ولهذا شبه بعض أهل زماننا الكلام في أنه جنس واحد مع تعدد أنواعه بالنوع الواحد وعلى قوله لا يبقى في الخارج كلام أصلا ولو اهتدى لعلم أن هذا الكلام ليس هذا الكلام كما أن هذه الحركة ليست هذه الحركة وأن اشترك أنواع الكلام في الكلام كاشتراك أنواع الحركة في الحركة بل اختلاف معاني الكلام أعظم من اختلاف أنواع الحركات من بعض الوجوه والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا ان يقال : من جوز أن تكون القدرة والإرادة والعلم حقيقة واحدة كما أن الطلب والخبر حقيقة واحدة فلماذا لا يجوز أن تكون حقيقة الحروف المختلفة حقيقة واحدة وكذلك حقيقة الأصواب ؟ لست أعني واحدة بالنوع بل واحدة بالعين كما جعل الكلام واحدا بالعين وكما سوغ ان تكون الصفات المتنوعة واحدة بالعين
والذين قالوا : إن الكلام حروف وأصوات متقارنة قديمة لا يسبق بعضها بعضا وهو مع ذلك واحد إنما قالوه تبعا لأولئك وجريا على قياس قولهم وهو لازم لهم مع ظهور فساده وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم
ويلزم من قال ذلك أن يجعل الطعم واللون والريح شيئا واحدا
وإذا قيل : هذا كالسواد والبياض
قيل له : ويلزمك ان تجعل السواد والبياض شيئا واحدا كما جعلت العلم والقدرة والحياة شيئا واحدا
فإذا قال : نحن تكلمنا فيما يمكن اجتماعه من المعاني والسواد والبياض متضادان
قيل : الجواب من وجهين
أحدهما : أنه يلزمك هذا في المعاني المختلفة التي يمكن اجتماعها كالطعم واللون والريح فقل إنها شيء واحد كما أن العلم والإرادة والقدرة والطلب والخبر والأمر والنهي شيء واحد
الثاني : أن يقال : تضاد الحروف كتضاد معاني الكلام أو تضاد الحركات لا كتضاد السواد والبياض فإن المحل الواحد لا يتسع لحركتين ولا لمعنيين فلا يتسع لحرفين وصوتين وفرق بين ما يتضادان لأنفسهما وما يتضادان لضيق المحل
وإذا كان كذلك كان تضاد الحروف والحركات كتضاد معاني الكلام
فإن قلب الإنسان يعجز في الساعة الواحدة عن جمع جميع معاني الكلام فإلحاق حروف الكلام بأسبابها وهي الحركات ومضموناتها ومدلولاتها وهي المعاني أولى من إلحاقها بالمتضادات لنفسها كالسواد والبياض
وحينئذ فإذا جعلت معاني الكلام شيئا واحدا فاجعل حروف الكلام شيئا واحدا وإلا فما الفرق ؟
وقد يقال في الفرق : إن الحروف مقاطع الأصوات والأصوات تابعة لأسبابها وهي الحركات والحركات : إما متماثلة وإما مختلفة وكل من الحركات المختلفة والمتماثلة متضادة لا يمكن اجتماع حركتين في محل واحد في زمن واحد فلا يجتمع صوتان فلا يجتمع حرفان
والحركات هي من الأكوان والأكوان كالألوان فكما لا يجتمع لونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد فلا يجتمع كونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد
بخلاف معاني الكلام كالطلب الذي يتضمن الحب للمأمور به والبعض للمنهى عنه والخبر الذي يتضمن العلم والاعتقاد للمخبر عنه فإنها وإن كانت حقائق متنوعة لكن لا يمنع اجتماعها فإن الأمر بالشيء لا يضاد النهي عن غيره ولا العلم بثالث فلم تتضاد لأنفسها ولكنها لعجز العبد عن جمعها
فالأمور ثلاثة أنواع : ما امتنع اجتماعها لنفسها كالألوان المختلفة وما امكن اجتماعها وقد تجتمع كالعلم والإرادة والقدرة والطعم واللون والريح وما يعجز بعض الأحياء عن جمعها كجمع الإرادات الكثيرة والاعتقادات الكثيرة في زمن واحد فهذه ليس بين حقائقها منافاة تمنع اجتماعها ولكن العبد يعجز عن جمعها كما أنه لا يمتنع ان يعمل بلسانه عملا وبيده عملا وبرجله عملا وأن يسمع كلام هذا القارئ وهذا القارئ وهذا القارئ فالجمع بين هذه الأمور قد يتعذر العبد لا لامتناع اجتماعها في نفسه فإن سمع هذا لا ينافي سمع هذا لذاته ولا هذه الحركة تنافي هذه الحركة لذاتها ولهذا يعقل اجتماع هذه بخلاف اجتماع الضدين
وكذلك رؤية المرئيات المختلفة لا تتضاد ولكن يتضاد تحريك الأجفان إلى جهتين مختلفتين فنفس الحركات متضادة وأما ما يحصل عنها من إدراك فليس هو في نفسه متضادا
فإذا قدر إدراك لا يفتقر إلى حركة أو يحصل بحركة واحدة كمن ينظر إلى السماء بتحديق واحد لم يكن إدراكه لهذه المدركات في آن واحد متضادا فهل يمكن أن يقال في الصوت مثل ذلك وأنه يمكن حصول أصوات بلا حركات وحينئذ فلا تتضاد تلك الأصوات المجتمعة في محل واحد في زمن واحد ؟
فيه نزاع وجمهور العقلاء على امتناعه فإن كان هذا مما يمكن اجتماعه صار كمعاني الكلام والصفات وإن لم يمكن اجتماعه صار كالمتضادات
وعلى هذا التقدير : فمن قال بإمكان اجتماع هذه الأمور لم يكن في قوله من الاستبعاد اعظم من قول من يقول : تكون تلك الحقائق المختلفة شيئا واحدا
وليس اجتماع ما يظهر تضاده بأعظم من اتحاد ما يعلم اختلافه
وإذا قال القائل : الأمور الإلهية لا تشبه بأحوال العباد بل العبد يختلف علمه باختلاف المعلومات وإرادته باختلاف المرادات ويتعدد ذلك فيه والباري ليس كذلك
قيل : فإذا جوزتم أن يكون ما يعلم تعدده واختلافه في المخلوقين واحدا لا تعدد فيه ولا تنوع في حق الخالق أمكن منازعكم أن يقول كذلك فيقول : ما يمتنع اجتماعه في حقنا لا يمتنع اجتماعه في حقه لأنه واسع لا يقاس بالمخلوقين بل اجتماع الأمور التي يظهر تضادها فينا أقرب من اتحاد الأمور التي نعلم اختلافها فإن كون الشيء هو نفس ما يخالفه أمر فيه قلب الحقائق
وأما اجتماع الشيء وغيره في حق الخالق مع امتناع اجتماعهما في حق المخلوقات فيدل على أنه يمكن في حقه ما لا يمكن في حق الخلق وذلك يدل على عظمته وقدرته
وأيضا فقد يقول الكرامية وأمثالهم : إن محل هذه الحروف والأصوات ليس هو بعينه محل الأخرى والله واسع عظيم لا يحيط العباد به علما ولا تدركه أبصارهم
وبالجملة فالناس متنازعون في إمكان اجتماع الحروف وإمكان قدمها والنزاع في ذلك قديم ذكره الأشعري في المقالات وأصحاب أحمد متنازعون في ذلك وكذلك أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الطوائف وكذلك أهل الحديث والصوفية
وحينئذ فيقال : إما أن يكون ذلك ممتنعا وغما ان يكون ممكنا فغن كان ممتنعا لم يكن ظهور امتناعه أعظم من ظهور امتناع قول الكلابية الذي يوجب قدم المعاني المتنوعة التي هي مدلول العبارات المنتظمة ويجعلها مع ذلك معنى واحدا فإن الألفاظ قوالب المعاني ونحن كما لا نعقل الحروف إلا متوالية متعاقبة فلا تعقل معانيها إلا كذلك وبتقدير أن نعقل اجتماع معانيها فهي معان متنوعة ليست شيئا واحدا
ولهذا لما قالت الكلابية لهؤلاء : الحروف متعاقبة والسين بعد الباء وذلك يمنع قدمها
أجابوهم بثلاثة أجوبة كما ذكر ابن الزاغوني وقالوا هذا معارض بمعارض الحروف فإنها متعاقبة عندنا وانتم تقولون بقدمها
الثاني أن التعاقب والترتيب نوعان : أحدهما ترتيب في نفس الحقيقة والثاني ترتيب في وجودها فإذا كانت موجودة شيئا بعد شيء كان الثاني حادثا وأما الترتيب الذاتي العقلي فهو بمنزلة كون الصفات تابعة للذات وكون الإرادة مشروطة بالعلم والعلم مشروطا بالحياة
وادعوا أن تقدم الحروف من هذا الباب وهذا الذي يقال له تقدم بالطبع وهو تقدم الشرط على المشروط كتقدم الواحد على الإثنين وجزء المركب على جملته ومثل هذا الترتيب لا يستلزم عدم الثاني عند وجود الأول
فقول هؤلاء إن كان باطلا فكون العلم هو الحياة والحياة هي الإرادة ومعنى القرآن هو معنى التوراة ومعنى آية الكرسي وقل هو الله أحد هو معنى آية الدين وتبت يدا أبي لهب هو باطل أيضا سواء كان مثله في البطلان أو أخفى بطلانا منه او أظهر بطلانا منه
وحينئذ فيقال : هب أن قول السالمية والكرامية باجتماع الحروف محال فقول الكلابية أيضا محال فلا يلزم من بطلان ذاك صحة هذا وقول المعتزلة والفلاسفة أبطل من الكل
وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو انه لم يزل متكلما بحروف متعاقبة لا مجتمعة وهذا يستلزم قيام الحوادث به فمن قال بهذا لم يكن تناقض الكرامية حجة عليه ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل وإن كان اجتماع الحروف ممكنا بطل أصل الاعتراض
ومعلوم أن القسمة العقلية أربعة لأن الحروف : إما أن يمكن قدم أعيانها وحينئذ يلزم إمكان اجتماعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها بل قدم أنواعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها ولا أنواعها
وأما القسم الرابع : وهو قدم أعيانها لا أنواعها فهذا لا يقوله عاقل وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها وإما ان لا يمكن فهذه خمسة أقسام
وأيضا فإذا أمكن الاجتماع فإما ان يكون بقاؤها ممكنا وإما أن لا يكون فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث اعيانها وأنواعها لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث وهذا قول من أقوال متعددة
وبإزاء ذلك من يقول : يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها إما مع إمكان الاجتماع وإما مع عدم إمكان الاجتماع
ومن يقول يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها قد يقول بإمكان الاجتماع وقد لا يقول
والناس متنازعون في تكليم الله لعباده : هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدد تكليم من جهته أو لا بد من تجدد تكليم ؟ على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة و مالك والشافعي و أحمد وغيرهم
فالأول : قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بان الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته بل هو بمنزلة الحياة
والثاني : قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم
قالوا : ونصوص الكتاب والسنة تدل على هذا القول ولهذا فرق الله بين أيحائه وتكليمه كما ذكر في سورة النساء وسورة الشورى
والأحاديث التي جاءت بأنه يكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم وأنه إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان إلى غير ذلك مما يطول ذكره
وإذا كان كذلك امتنع أن لا يقوم كلام الله به فإنه يلزم ان لا يكون كلامه بل كلام من قام به كما قد قرر في موضعه
والله سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا وكذلك إذا ناجوه ودعوه أجابهم كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين قال الله حمدي عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدي فإذا قال : مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يقول هذا لكل مصل والناس يصلون في ساعة واحدة والله تعالى يقول لكل منهم هذا
وقد روي ان أبن عباس قيل له : كيف يحاسب الله الخلق في ساعة واحدة ؟ فقال كما يرزقهم في ساعة واحدة وأمثال ذلك كثير
وحينئذ فمن قال : إن هذه أقوال قائمة بنفسه تتعلق بمشيئته وقدرته يلزمه أحد أمرين إما أن يقول باجتماعها في محل واحد وإما أن يقول إن ذاته واسعة تسع هذه الأقوال كلها
ونحن نعقل ان يقوم بالذات الواحدة حروف كثيرة في آن واحد
وأصوات مجتمعة في آن واحد لكن لا يكون هذا حيث هذا إذ لا يعقل في الشاهد أنهما يجتمعان في محل واحد
وقد يقال : إن مثل هذا يجيء على قول من يقول : إنه يقوم بذاته لا نهاية لها وإرادات لا نهاية لها وقدر لا نهاية لها فإن ذلك كقيام أفعال وأقوال لا نهاية لها وهذا على وجهين : فمن قال : إن ذلك يقوم به على سبيل التعاقب فهو كمن يقول إنه تقوم به الكلمات والأفعال على سبيل التعاقب
ومن قال إنها كلها أزلية كما تقوله طائفة يقولون إنه تقوم به علوم لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله أبو سهل الصعلوكي وغيره فإن هذا يشبه قول من يقول : تقوم به حروف لا نهاية لها في آن واحد
لكن قد يقال : اجتماع العلوم بمعلومات والإرادات بمرادات قد يقال إنه لا يتضاد كاجتماع معاني الكلام بخلاف اجتماع حروف فإنه كاجتماع أصوات واجتماع أصوات كاجتماع حركات
وجماع ذلك ان الحقائق : إما أن تكون متماثلة وإما أن لا تكون وإذا لم تكن متماثلة فإما أن يمكن اجتماعها في محل واحد في زمن واحد وإما أن لا يمكن فالأولى المختلفة التي ليست بمتضادة كالعلم والقدرة وكالطعم واللون والثاني المتضادة كسواد والبياض وكالعجز مع القدرة كالعلم بمعلومات والقدرة على مقدورات والإرادة ليست هي متضادة بل يمكن اجتماع ذلك لكن قد يضيق عنه المحل كما يضيق قلب العبد عن إجتماع أمور كثيرة من ذلك وإن كان قد يجتمع في قلبه من ذلك ما يسعه قلبه
والقلوب تختلف أيضا بذاتها ولهذا يمكن بعض الناس أن يقرأ ويفعل بيده ورجله وآخر لا يمكنه ذلك كما يمكن هذا الحركة القوية الشديدة والآخر لا يمكنه ذلك ويمكن هذا أن يرى ويسمع من المختلفات ما لا يمكن الآخر رؤيته او سماعه
وإذا كان كذلك فالكلام في الصوت في شيئين : أحداهما : في بقائه وقدمه كما في بقاء الحركة وقدمها ولا ريب في إمكان بقاء نوع الصوت والحركة بمعنى حدوث الحركة والصوت شيئا فشيئا كحركة الفلك والكواكب
وأما إمكان قدم نوع الصوت والحركة ففيه قولان مشهوران للنظار فالجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم تنكر إمكان قدم ذلك وكثير من أئمة أهل الحديث والفقه والتصوف الفلاسفة يجوزون قدم ذلك ومنهم من يجوز قدم نوع الصوت لا نوع الحركة
وأما بقاء الصوت المعين والحركة المعينة فجمهور العقلاء يحيلون بقاء ذلك وقدمه بل امتناع قدم ما يمتنع بقاؤه اولى فإن ما وجب قدمه وجب بقاؤه وامتنع عدمه ومن الناس من جوز بقاء الصوت المعين والحركة المعينة وبعض هؤلاء جوز قدم الصوت المعين
ولا فرق بين الحركة والصوت وأما الحروف المنطوق بها فالناس متنازعون : هل هي طرف للصوت أم يمكن وجود حروف منظومة بلا صوت على قولين
وإذ قيل : لا يمكن وجود حرف منطوق له إلا بصوت فالحرف قد يعبر به عن نهاية الصوت وتقطعه وقد يعبر به عن نفس الصوت المقطع كما يعبر بلفظ الحرف عن الحرف المكتوب ويراد به مجرد الشكل تارة مجردا عن المادة ويراد به مجموع المادة والشكل وهو المداد المصور
والمسألة الثانية : أن الأصوات المتنوعة سواء قيل بوجوب تعقبها شيئا بعد شيء أو قيل بإمكان بقاء الصوت المعين : هل تقوم بالصائت الواحد إذا كان محل هذا الصوت ليس هو بعينه محل هذا الصوت وإن كان الصائت واحدا ؟
و لا ريب أن هذا أولى من قيام الحركات المتنوعة بالمتحرك الواحد إذا قامت كل حركة بمحل غير محل الأخرى
وأما اجتماع الصوتين والحركتين في محل واحد فهو متعذر للتضاد عند اكثر العقلاء أو لضيق المحل عند بعضهم كاجتماع العلمين والقدرتين والإرادتين المختلفتين والإدراكين ثم إذا قدر ان محل هذه الصفات لا يكون إلا جسما فيبقى الكلام في الجسم هل هو مركب هل مركب من الجواهر المنفردة ؟ أو من المادة والصورة ؟ اولا من هذا ولا من هذا ؟
لنظار ثلاثة أقوال في تركيب الجسم
وفي ذلك للنظار ثلاثة أقولا :
فمن قال بالمركب من الجواهر المنفردة اضطربوا في محل العلم ونحوه من العبد : هل هو جزء مفرد في القلب كما يذكر عن ابن الرواندي ؟ او أن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة كما يقوله المعتزلة ؟ أو حكم العرض لا يتعدى محله بل يقوم بل يقوم بكل جوهر فرد عرض يخصه من العلم والقدرة ونحو ذلك كما يقوله الأشعري ؟ على ثلاثة أقوال
ومن لم يقل بالجوهر الفرد لم يلزمه ذلك بل يقول : إن العرض القائم بالجسم ليس بمنقسم في نفسه كما أن الجسم ليس بمنقسم وأما قبوله للقسمة فهو كقبول الجسم للقسمة وهؤلاء يقولون : إن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس بجميع بدنه ويقولون : إن بدن الإنسان ليس مركبا من الجواهر المنفردة فلا يرد عليهم ما ورد على أولئك
وأما الأعراض القائمة بروحه من العلم والإرادة ونحو ذلك فهي أبعد عن الأنقسام من الأعراض ببدنه وروحه أبعد عن كونها مركبة من الجواهر المنفردة من بدنه وإن قيل إنها جسم
وعلى هذا فإذا قيل : يقوم بها علم واحد بمعلوم واحد كان هذا بمنزلة أن يقال يقوم بالعين إدراك واحد لمدرك واحد وبمنزلة أن يقوم بداخل الأذن سمع واحد لمسموع واحد
وهذا وغيره مما يجيبون به المتفلسفة الذين قالوا إن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن ولا تصعد ولا تنزل وليست بجسم فإن عمدتهم على ذلك كونها يقوم بها مالا ينقسم كالعلم بما لا ينقسم فيجب أن لا ينقسم وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما وكلا المقدمتين ممنوعة كما قد بسط الجواب عن هذه الحجة التي هي عمدتهم في غير هذا الموضع
ولما عسر جواب هذه على الرازي ونحوه من أهل الكلام اعتقدوا أن القول بالمعاد مبني على إثبات الجوهر الفرد لظنهم أنه لا يمكن الجواب عن هذه إلا بإثبات الجوهر الفرد وأن القول بالمعاد يفتقر إلى القول بان أجزاء البدن تفرقت ثم اجتمعت
وليس الأمر كذلك فإن إثبات الجوهر الفرد مما أنكره أئمة السلف والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وجمهور العقلاء وكثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية
والقول بمعاد الأبدان مما اتفق عليه أهل الملل فكيف يكون القول بمعاد الأبدان مستلزما للقول بالجوهر الفرد ؟ وبسط هذه الأمور له موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على ما ذكره من البحث مع الكرامية وحينئذ فيقال قول الكرامية الذي حكاه عنهم من انه يستحيل تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها قول لا يوافقهم عليه كل من وافقهم على أصل هذه المسألة فإن الموافقين لهم على أصل المسألة هم أكثر الناس وأئمتهم من الطوائف كلها حتى من أئمة أهل السنة والحديث وأئمة الفلاسفة أهل الشرع وأهل الرأي وأما هذا القول فموافقهم عليه قليل
عود إلى مناقشة كلام الأمدي في مسألة كلام الله تعالى
قال وعند ذلك فإما ان يقال باجتماع حروف القول في ذاته تعالى أو لا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها : فإما ان يقال بتحري ذات الباري وقيام كل حرف بجزأ منه وإماأن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين : أحدهما انه يلزم منه التركيب في ذات الله وقد أبطلناه في أبطال لقول بالتجسيم
قلت : ولقائل أن يقول : قول القائل : إما أن يتجزأ ويلزم منه التركيب لفظ مجمل كما قد عرف غير مرة فإن هذا يفهم منه إما جواز الافتراق عليه أو أنه مفترقا فاجتمع أو ركبه ونحو هذه المعاني التي لا يقولونها
فإن أراد المريد بقوله إما أن يقال بتجزي ذات الباري تعالى هذا المعنى فهم لا يقولون بتجزئة ولكن لا يلزم من رفع امتناع كون الذات واسعة تسع هذا وهذا وهذا وأن كل واحد يقوم لا يقوم الآخر وهذا هو الذي عناه بلفظ التجزي والتركيب
كلام الآمدي في نفي التجسيم وتعليق ابن تيمية
وقوله إنه أبطل هذا في أبطال القول بالتجسيم فهم يقولون ليس فيما ذكرته في نفي التجسيم حجة على نفي قولهم
وذلك أنه قال والمعتمد في نفي التجسيم أن يقال لو كان الباري جسما فإما أن يكون كالأجسام وإما أن لا يكون كالأجسام فغن قيل إنه لا كالأجسام كان النزاع في اللفظ دون المعنى والطريق في الرد ما أسلفناه في كونه جوهرا وإن قيل إنه كالأجسام فهو ممتنع لثمانية اوجه : منها أربعة وهي ما ذكرناها في استحالة كونه جوهرا وهي الأول والثالث والرابع والخامس ويختص الجسم بأربعة أخرى
قلت والذي ذكره في إبطال كونه جوهرا هو أن المعتمد هو أنا نقول لو كان الباري جوهرا لم يخل إما أن يكون جوهرا كالجواهر أولا كالجواهر والأول باطل لخمسة أوجه وإن قيل إنه جوهر لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظي فالنزاع لفظي ولا مشاحة فيه إلا من وجهة ورد التعبد من الشارع به ولا يخفي أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته
قال وعلى هذا فمن قال إنه جوهر بمعنى أنه موجود لا في موضوع والموضوع هو المحل المقوم ذاته المقوم لما يحل فيه كما قاله الفلاسفة أو أنه جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره كما قاله أبو الحسين البصري مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر فقد وافق في المعنى وأخطأ في الإطلاق من حيث إنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بأزاء القائم بنفسه لا ورد فيه إذن من الشرع
فيقال : إذا كان قول القائل : إنه جوهر لا كالجواهر وجسم لا كالأجسام موافقا لقولك في المعنى وإنما النزاع بينك وبينهم ف ياللفظ قامت حجته عليك لفظا ومعنى أما اللفظ فمن وجهين : أحداهما أنه كما أن الشارع لم يأذن في إثبات هذه الألفاظ له فلم يأذن في نفيها عنه وأنت لم تسمه سخيا لعدم إذن الشرع فليس لك أن تقول ليس بسخي لعدم إذن الشرع في هذا النفي بل إذا لم يطلق إلا ما إذن فيه الشرع لا يطلق لا هذا ولا هذا
ثم أنت تسميه قديما وواجب الوجود وذاتا ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع والشارع يفرق بين ما يدعي به من الأسماء فلا يدعي إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاة عنه ناف لما يستحقه من الصفات كما انه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبرا عنه بما يستحقه إنه قديم وواجب الوجود فإن كان النزاع مع من يقول هو جوهر وجسم في اللفظ فعذرهم في الإطلاق أن النافي ما يستحقه الرب من الصفات في ضمن نفي هذا الاسم فأثبتنا له ما يستحقه من الصفات بإثبات مسمى هذا الاسم كما فعلت أنت وغيرك في اسم قديم وذات و واجب الوجود ونحو ذلك
الثاني : أنك احتججت على نفي ذاك العرب لم ينقل عنها إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه
فيقال لك : ولم ينقل عنها إطلاقة بإزاء كل متحيز حامل للأعراض ولا نقل عنها إطلاق لفظ ذات بإزاء نفسه وإنما لفظ الذات عندهم تأنيث ذو فلا تستعمل إلا مضافة كقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } الأنفال 1 وقوله { إنه عليم بذات الصدور } الأنفال 43 وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله ]
وقول خبيب
( وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع )
وأمثال ذلك أي في جهة الله أي لله تعالى
ولهذا أنكر ابن برهان وغيره على المتكلمين إطلاق لفظ ذات الله
وإذا كان كذلك فأنت أطلقت لفظ الذات على ما لم تطلقه العرب بغير إذن من الشرع ولو قال لك قائل : إن الله ليس بذات نازعته فهكذا يقول منازعك في اسم الجوهر والجسم إذا كان موافقا لك على معناهما
وأيضا فإن لفظ الجوهر والجسم قد صار في أصطلاحكم جميعا أعم مما استعملت فيه العرب فإن العرب لا تسمي كل متحيز جوهرا ولا تسمي كل مشار إليه جسما فلا تسمي الهواء جسما
وفي أصطلاحكم سميتم هذا جسما كما سميتم في اصطلاحكم باسم الذات كل موصوف أو كل قائم بنفسه أو كل شيء فلستم متوقفين في الاستعمال لا على حد اللغة العربية ولا على إذن الشارع لا في النفي ولا في الإثبات
فإن لم يكن لك حجة على منازعك إلا هذا كان خاصما لك وكان حكمه فيما تنازعتما فيه كحكمكما فيما اتفقتما أو فيما انفردت به من هذا الباب
وأيضا فحكايتك عن الفلاسفة أنهم يسمونه جوهرا والجوهر عندهم الموجود لا في موضوع إنما قاله ابن سينا ومن تبعه
وأما أرسطو وأتباعه وغيرهم من الفلاسفة فيسمونه جوهرا فالوجود كله ينقسم عندهم إلى جوهر وعرض والمبدأ الأول داخل عندهم في مقوله الجوهر
والأظهر أن النصارى إنما أخذوا تسميته جوهرا عن الفلاسفة فإنهم ركبوا قولا من دين المسيح ودين المشركين الصابئين
وأما النزاع المعنوي فيقال : قول القائل إنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام لفظ مجمل فإنه قد يراد به أنه مماثل لكل جوهر وكل جسم فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه وقد يريد به أنه مماثل لها في القدر المشترك بينها كلها بحيث يجب ويجوز ويمتنع عليه ما يجب ويجوز ويمتنع على ما حصل فيه القدر المشترك منها ولو أنه واحد
فأما الأول فإنه إما أن يقول مع ذلك بتماثل الأجسام والجواهر وإما أن يقول باختلافها فإن قال بتماثلها كان قوله هو القول الثاني إذ كان يجوز على كل منها ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه باعتبار ذاته
وإن قال باختلافها امتنع مع ذلك أن يقول إنه كالأجسام فإنه من المعلوم على هذا التقدير أن كل جسم ليس هو مثل الآخر ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فكيف يقال في الخالق سبحانه إنه يجوز عليه ما يجوز على كل مخلوق قائم بنفسه حتى في الجماد والنبات والحيوان
هذا لا يقوله عاقل حتى القائلون بوحدة الوجود فهؤلاء عندهم هونفس وجود الأجسام المخلوقة ولكن هم مع هذا لا يقولون إنه يجوز على وجود جميع الموجودات ما يجوز على وجود هذا
وهذا وإن قال : إنه كالأجسام المخلوقة في القدر المشترك بينها بحيث يجوز عليه ما يجوز على المجموع لا على كل واحد واحد فهذا أيضا قول معلوم الفساد ولا نعرف قائلا معروفا يقول به فإن هذا هو التشبيه والتمثيل الذي يعلم تنزه الله عنه إذ كان كل ما سواه مخلوقا والمخلوقات تشترك في هذا المسمى فيجوز على المجموع من العدم والحدوث والافتقار ما يجب تنزيه الله عنه بل لو جاز ووجب وامتنع عليه ما يجوز ويجب ويمتنع على الممكنات والمحدثات لزم الجمع بين النقيضين فإنه يجب له الوجود والقدم فلو وجب ذلك للمحدث مع أنه لا يجب له ذلك لزم أن يكون ذلك واجبا للمحدث غير واجب له ولو جاز عليه الإمكان والعدم مع أن الواجب بنفسه القديم الذي لا يقبل العدم لا يجوز عليه الإمكان والعدم للزم أن يمتنع عليه العدم لا يمتنع عليه وأن يجب له الوجود لا يجب له وذلك جمع بين النقيضين
فتنزيه الله عما يستحق التنزيه عنه من مماثلة المخلوقين يمنع أن يشاركها في شيء من خصائصها سواء كانت تلك الخاصة شاملة لجميع المخلوقات أو مختصة ببعضها
فعلم أن القول بأنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام سواء جعل التشبيه لكل منها أو بالقدر المشترك بينها لم تقل به طائفة معروفة أصلا فإن كان النزاع ليس إلا مع هؤلاء فلا نزاع في المسألة فتبقى بحوثه المعنوية في ذلك ضائعة وبحوثه اللفظية غير نافعة مع أني إلى ساعتي هذه لم أقف على قول لطائفة ولا نقل عن طائفة أنهم قالوا جسم كالجسام مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي وبصر كبصري مقالة معروفة وقد ذكرها الأئمة كيزيد ابن هارون و احمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وغيرهم وأنكروها وذموها ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله
ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الجسام بل ببعضها ولا مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه والاختلاف من وجه لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال
وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون يد كيدي وبصر كبصري وقدم كقدمي
وقد قال الله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 وقال تعالى { ولم يكن له كفوا أحد } الإخلاص : 4 وقال { هل تعلم له سميا } مريم : 65 وقال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا } البقرة : 22
وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع ن وأفردنا الكلام على قوله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 في مصنف مفرد
وأما الكلام في الجسم والجوهر ونفيهما أو إثباتهما فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك لا نفيا ولا إثباتا
والنزاع بين المتنازعين في ذلك بعضه لفظي وبعضه معنوي اخطأ هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه فإن كان النزاع مع من يقول هو جسم أو جوهر إذا قال لا كالأجسام ولا كالجواهر إنما هو اللفظ فمن قال هو كالأجسام والجواهر يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى
فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى كان قوله مردودا وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله فكل قول تضمن هذا فهو باطل
وإن فسر قوله جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه
فلا بد أن يلحظ في هذا المقام إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا وذلك مثل أن يقول أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات وبين كل حي عليم سميع بصير وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات وإلا فلو قال الرجل هو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين وعليم لا كالعلماء وسميع لا كالسمعاء وبصير لا كالبصراء ونحو ذلك واراد بذلك نفي خصائص المخلوقين فقد أصاب
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه وهو من صفات كماله فقد أخطأ
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته يقع من جهة المعنى في شيئين أحدهما انهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين
فمن قال بتماثلها قال كل من قال إنه جسم لزمه التمثيل
ومن قال إنها لا تتماثل قال إنه لا يلزمه التمثيل
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة بحسب ما ظنوه لازما لهم كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية وغثاء وغثراء ونحو ذلك ما ظنوه لازما لهم
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم لم يجز نسبتها إليه على إنها قول له سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة بل إن كانت لازمة مع فسادها دل على فساد قوله
وعلى هذا النزاع بين هؤلاء وهؤلاء في تماثل الأجسام وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبين الكلام على جميع حججهم
والثاني أن مسمى الجسم في اصطلاحهم قد تنازعوا فيه هل هو مركب من أجزاء منفردة أو من الهيولى والصورة أو لا مركب لا من هذا ولا من هذا ؟
وإذا كان مركبا فهل هو جزآن أو ستة أجزاء أو ثمانية أجزاء أو ستة عشر جزءا أو اثنان وثلاثون ؟
هذا كله مما تنازع فيه هؤلاء فمثبتوا التركيب المتنازع فيه في الجسم يقولون لأولئك إنه لازم لكم إذا قالوا هو جسم وأولئك ينفون هذا اللزوم
وقد يكون في المجسمة من يقول إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة وينازعهم في امتناع مثل هذا التركيب عليه ويقول لا حجة لكم على نفي ذلك إلا ما اقمتموه من الأدلة على كون الأجسام محدثة أو ممكنة وكلها أدلة باطلة كما بسط في موضعه
وبينهم نزاع في أمور أخرى ينازعهم فيها من لا يقول هو جسم مثل كونه فوق العالم أو كونه ذا قدر أو كونه متصفا بصفات قائمة به فالنفاة يقولون هذه لا تقوم إلا بجسم وأولئك قد ينازعونهم في هذا أو بعضه وينازعونهم في إتنفاء هذا المعنى الذي سموه جسما فهم ينازعون إما في التلازم وإما في انتفاء اللازم
إذا تبين أن هذه الأمور كلها ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة فإن الحجج الثمانية التي ذكرها الآمدي على نفي الجوهر وأربعة مختصة بالجسم
ذكر الآمدي أربعة حجج على نفي الجوهر مختصة بالجسم
الحجة الأولى
قوله لو كان جوهرا كالجواهر فإما أن يكون واجبا لذاته وإما أن لا يكون فإن كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود لذاتها ضرورة اشتراكها في معنى الجوهرية وإن كان ممكنا لزم أن لا يكون واجبا لذاته وإن كان لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب
الرد عليه
فيقال لا نسلم انه إذا كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود ولا يلزم أن الاشتراك في الجوهرية يقتضي الاشتراك في جميع الصفات التي تجب لكل منها وتمتنع عليه وتجوز له
وكذلك سيقال لا نسلم أنه إذا لم يكن كالجواهر كان تسليما للمطلوب وذلك انه إذا قيل لا كالأحياء وعالم لا كالعلماء وقادر لا كالقادرين لا يلزم من ذلك نفي هذه الصفات ولا إثبات خصائص المخلوقات
فمن قال هو جوهر وفسره إما بالمتحيز وغما بالقائم بذاته وغما بما هو موجود في موضوع لم يسلم أن الجواهر متماثلة بل يقول تنقسم إلى واجب وممكن كما ينقسم الحي والعليم إلى هذا وهذا
فإن قال إذا كان متحيزا فالمتحيزات مماثلة له كان هذا مصادرة على المطلوب لأنه نفي كونه جسما بناء على نفي الجوهر ونفي الجوهر بناء على نفي على نفي المتحيز والمتحيز هو الجسم أو الجوهر والجسم فيكون قد جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه وهذه هي المصادرة
الحجة الثانية
قال الآمدي انه إما أن يكون قابلا للتحيزية أو لا يكون فإن كان الأول لزم أن يكون جسما مركبا وهو محال كما يأتي وغن كان الثاني لزم أن يكون بمنزلة الجوهر الفرد
ولقائل أن يقول إن عنيت بالتحيزية تفرقته بعد الاجتماع أو اجتماعه بعد الافتراق فلا نسلم أن ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون حقيرا
وإن عنيت به ما يشار إليه أو يتميز منه شيء عن شيء لم نسلم أن مثل هذا ممتنع بل نقول إن كل موجود قائم بنفسه فإنه كذلك وأن ما لا يكون كذلك فلا يكون إلا عرضا قائما وانه لا يعقل موجود إلا ما يشار إليه أو ما يقوم بما يشار إليه كما قد بسط في موضعه وسيأتي الكلام على نفي حجته
الحجة الثالثة
قال لا يخلو غما ان يكون لذاته قابلا لحلول الأعراض المتعاقبة أولا فإن كان الأول فيلزم ان يكون محلا للحوادث وهو محال كما يأتي وإن كان الثاني فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها في المعنى وهو محال خلاف المحسوس
الرد عليه من وجوه
ولقائل أن يقول الجواب من وجوه
الأول أنا لا نسلم حلول الأعراض المتعاقبة وأنت قد اعتمدت في هذا الوجه الذي ذكرته من تناقض أهل هذا القول على نفي الجسم والجوهر فلو جعلت هذا حجة في ذلك لزم المصادرة على المطلوب إذ كنت في كل من المسألتين تعتمد على الأخرى وإن اعتمدت على نفيه بالوجوه الأخر فقد عرف فساد كلامك وكلام غيرك
الوجه الثاني
الثانية أن يقال ولم قلت إنه إذا امتنع حلول الحوادث على بعض الجواهر بعض وبعض القائمين بأنفسهم دون بعض وبعض الموصوفات دون بعض فلو قال لك قائل الاشتراك في كون كل من الشيئين ذاتا قائمة بنفسها موصوفة بالصفات يوجب اشتراكهما في حلول الحوادث لكان هذا القول إما أن يلزمك وإما أن لا يلزمك فإن لزمك كان هذا لازما لك ولمنازعك فليس لك أن تنفيه وإن لم يلزمك فما كان جوابك عن إلزام من يلزمك به هو جواب منازعك
فإن قلت الاشتراك في الجوهرية اشتراك في المعنى الذي لآجله جاز قيام الحوادث به
قال لك كل من الخصمين والاشتراك في الذاتية والموصوفية والقيام بالنفس اشتراك في المعنى الذي لجله جاز قيام الحوادث به وأنت إذا أنصفت علمت أن البابين واحد
الحجة الثالثة
الثالثة أن يقال ما تعنى بقولك الأعراض المتعاقبة أتعني به أحواله التي دلت النصوص على قيامها به أم غير ذلك ؟
الأول مسلم لكن لا نسلم مساواة المخلوقات له في خصائصه والثاني ممنوع
الحجة الرابعة
قال أنه لا يخلو إما ان تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها انها هنا أو هناك او لا تكون قابلة لذلك فإن كان الأول فيكون متحيزا إذ لا معنى للتحيز إلا هذا والتحيز على الله محال لوجهين
التحيز على الله محال لوجهين
الأول أنه إما ان يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه فيكون متحركاوإن لم يكن منتقلا عنه فيكون ساكنا والحركة والسكون حادثان على ما يأتي وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
الثاني
أن اختصاصه بحيزه إما ان يكون لذاته او لمخص من خارج فإن كان الأول فليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى وإن كان لغيره وجب أن يكون الرب مفتقرا إلى غيره في وجوده فلا يكون واجب الوجود وإن كان غير متحيز لزم في كل جوهر ان يكون غير متحيز ضرورة المساواة في المعنى وهو محال وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته فما لا يكون كذلك لا يكون جوهرا
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه إذا كان قابلا للإشارة كان متحيزا وقوله : لا معنى للمتحيز إلا هذا : إن أراد به أن المفهوم من كونه مشارا إليه هو المفهوم من كونه متحيزا كان قوله فاسدا بالضرورة وإن أراد أن ما صدق عليه هذا صدق عليه هذا
قيل له : من الناس من ينازعك في هذا ويقول : إنه سبحانه فوق العالم ويشار إليه وليس بمتحيز
فإن قال : هذا فساده معلوم بالضرورة
قيل له : ليس هذا بأبعد من قولك إنه موجود قائم بنفسه متصف بالصفات مرئي بالأبصار وهو مع هذا لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مداخل له
فإن قلت : إحالة هذا من حكم الوهم
قيل لك : وإحالة موجود قائم بنفسه يشار إليه ولا يكون متحيزا من حكم الوهم بل تصديق العقول بموجود يشار إليه ولا يكون متحيزا أعظم من تصديقها بموجود قائم بنفسه متصف بالصفات لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه
ثم يقال ثانيا : لم قلتم : أنه يمتنع أن يكون متحيزا ؟ قولك : إما أن يكون متحركا أو ساكنا يقال لك فلم لا يجوز أن لا يكون قابلا للحركة والسكون وثبوت أحدهما فرع قبوله له ؟
فإن قلت كل متحيز فهو قابل لهما
قيل لك : علمنا بهذا كعلمنا بأن كل موجود قائم بنفسه موصوف بالصفات إما مباين لغيره وإما محايث فإن جوزت موجودا قائما بنفسه لا مباين ولا محايث فجوز وجود موجود متحيز ليس يمتحرك ولا ساكن
فإن قلت : المتحيز إما أن يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه والأول هو الحركة والثاني هو السكون
قيل لك : ليس كل متحيز أمرا وجوديا فإن العالم متحيز وليس له حيز وجودي ومن قال إن الباري وحده فوق العالم أو سلم لك إنه متحيز لم يقل إنه في حيز وجودي وحينئذ فالحيز أمر عدمي فقولك إما أن يكون منتقلا عنه أو لا كقولك : إما أن يكون منتقلا بنفسه أولا وهو معنى قولك إما أن يكون متحركا أو ساكنا وهذا إثبات الشيء بنفسه
فإن قلت : هذا بين مستقر في الفطرة والعلم به بديهي
قيل لك : ليس هذا بأبين من قول القائل : إما أن يكون صانع العالم حيث العالم وإما أن لا يكون حيث العالم والأول هو المحايثة والدخول فيه والثاني هو المباينة والخروج عنه
فإن قلت : يمكن أن لا يكون داخلا فيه ولا خارجا عنه
قيل لك : ويمكن أن لا يكون المتحيز منتقلا ولا يكون ساكنا كما تقوله أنت فيما تقول إنه قائم بنفسه لا منتقل ولا ساكن فإن قلت : أنا أعقل هذا فيما ليس بمتحيز ولا أعقله في المتحيز
قيل : وكيف عقلت اولا ثبوت ما ليس بمتحيز بهذا التفسير ؟
والمنازع يقول أنا لا أعقل إلا ما هو داخل أو خارج
فإذا قلت أنت : هذا فرع قبول ذلك وقابل ذلك هو المتحيز فما لا يكون كذلك لا يكون قابلا للمباينة والمحاديثة والدخول والخروج
قال لك : نحن لا نعقل موجودا إلا هذا
فإن قلت بل هذا ممكن في العقل وثابت أيضا
قال لك : وكذلك متحيز لا يقبل الحركة والسكون هو أيضا ممكن في العقل وثابت
فإن قلت الفطرة تدفع هذا
قيل لك : وهي لدفع ذاك أعظم
فإن قلت ذاك حكم الوهم
قيل وهذا حكم الوهم
فإن قلت العقل أثبت موجودا ليس بمتحيز
قيل لك : إنما أثبت ذاك بمثل هذه الأدلة التي تتكلم على على مقدماتها فإن أثبت مقدمات النتيجة بالنتيجة كنت مصادرا على المطلوب فأنت لا يمكنك إثبات موجود ليس بمتحيز إلا بمثل هذا الدليل وهذا الدليل لا يثبت إلا ببيان إن مكان وجود موجود ليس بمتحيز فلا يجوز أن تجعله مقدمة حجة في إثبات نفسه
ويقول له الخصم : ثالثا هب أنك تقول : لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون فنحن نقول : إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه إما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا فإن كان منتقلا فهو متحرك وإلا فهو ساكن
فإن قلت : ثبوت الانتقال وسلبه فرع قبوله
قيل لك : هذا التقسيم معلوم بالضرورة في كل قائم بنفسه كما ذكرت أنه معلوم بالضرورة في كل ما سميته متحيزا وحيزه عدم محض فإنه إذا لم يكن إلا الانتقال وعدم الانتقال فالانتقال هو الحركة وعدمه هو السكون
وإذا قلت : هذان متقابلان تقابل العدم والملكة فلا بد من ثبوت القبول
كان الجواب من وجوه :
الأول : أن يقال مثل هذا فيما سميته متحيزا
الثاني : أن يقال هذا اصطلاح اصطلحته وإلا فكل ما ليس بمتحرك وهو قائم بنفسه فهو ساكن كما أن كل ما ليس بحي فهو ميت
الثالث أن يقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا اعتبرنا الموجودات فما يقبل الحركة أكمل مما لا يقبلها فإذا كان عدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها صفة نقص فكونه لا يقبل الحركة أعظم نقصا كما ذكرنا مثل ذلك في الصفات
ونقول رابعا الحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا كانت الأولى أكمل
ويقول الخصم : رأبعا قوله لم لا يجوز أن يكون متحركا قولك : الحركة حادثة
قلت : حادثة النوع او الشخص ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وقولك مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وانت لم تذكر حجة على حدوث نوع الحركة إلا حجة واحدة وهو قولك الحادث لا يكون أزليا وهي ضعيفة كما عرف
إذ لفظ الحادث يراد به النوع ويراد به الشخص فاللفظ مجمل كما أن قول القائل الفاني لا يكون باقيا لفظ مجمل فإن أراد به أن القائم بنفسه لا يكون باقيا فهو حق وإن أراد به أن ما كان فاني الأعيان لا يكون نوعه باقيا فهو باطل فإن نعيم الجنة دائم باق مع أن كل أكل وشرب ونكاح وغير ذلك من الحركات تفنى شيئا بعد شيء وإن كان نوعه لا يفنى
وأما قوله في الوجه الثاني : إن اختصاصه بحيزه : إما أن يكون لذاته أو لمخصص من خارج
فيقال أتعني بالحيز شيئا موجودا أو شيئا معينا سواء كان موجودا أو معدوما أو شيئا مطلقا فإن عنيت الأول فالرب سبحانه لا يجب أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار عند المنازع بل ولا عند طائفة معروفة وإن عنيت الثاني لم يسلم المنازع كونه متحيزا بهذا الاعتبار وإن عنيت الثالث فيقال لك حينئذ فليس اختصاصه بحيز معين من لوازم ذاته بل هو باختياره وإذا كان يخصص بعض الأحياز بما شاء من مخلوقاته فتصرفه بنفسه أعظم من تصرفه بمخلوقاته
وأما قولك ليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى
فكلام ساقط لوجوده :
الأولى : أن الله يخص ما شاء من الأحياز بما شاء من الجواهر ولا يقال ليس هذا أولى من هذا فكيف يقال إنه ليس أولى من بعض مخلوقاته بما هو قادر عليه مختار له ؟
والثاني إن يقال فما من جوهر إلا وله حيز يختص به دون غيره من الجواهر سواء قيل إنه حيزه الطبيعي أو لا فعلم أن مجرد الاشتراك في كل حيز
الثالث : أن كل جوهر مختص من غيره بصفة تقوم به ومقدار يخصه مع اشتراكها في الجواهرية فكيف لا يختص بحيزه ؟
الرابع : أن الحيز ليس أمرا وجوديا وإنما هو أمر عدمي والجواهر الموجودة لا بد أن يكون لبعضها نسبة إلى بعض بالعلو والسفول والتيامن والتياسر والملاقاة والمباينة ونحو ذلك وكل منها مختص من ذلك بما هو مختص به لا تشاركه فيه سائر الجواهر فكيف يجب أن يشارك المخلوق لخالقه ؟
الخامس : أن هذا مبني على تماثل الجواهر وهو ممنوع بل هو مخالف للحس وسيأتي كلامه في إبطاله
السادس : أنا لو فرضنا الجواهر متماثلة فالمخصص لكل منها بما يختص به هو مشيئة الرب وقدرته وإذا كان بقدرته ومشيئته يصرف مخلوقاته فكيف لا يتصرف هو بقدرته ومشيئته كما أخبرت عنه رسله وكما انزل بذلك كتبه حيث أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش وأمثال ذلك من النصوص
وأما قوله إن كان غير متحيز لزم ان يكون كل جوهر غير متحيز فعنه جوابان :
الأول : أن يقال له ولأمثاله كالرازي والشهر ستاني ونحوهما من المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية أو قالوا : إنه دليل على نفي ذلك : أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم فقلتم : لا نعلم دليلا على نفيها أو قلتم بإثباتها وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها والدلائل العقلية السليمة عن المعارض وقالوا : إن الخالق تعالى فوق خلقه سعيتم في نفي هذا القول لوازم هذا القول وموجباته وقلتم : لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين وحسن النظر والمناظرة عقلا وشرعا
والجواب الثاني : أنك قلت في أول هذا الوجه : إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها ههنا أو هناك أو لا تكون قابلة ثم قلت : فإن كان الأول فيكون متحيزا فكان حقك أن تقول : وإن لم تكن ذاته قابلة للإشارة إليه لزم في كل جوهر أن لا يكون مشارا إليه وأن لا يكون متحيزا
وإذا قلت ذلك قيل لك إثبات جوهرا لا يشار إليه هو قول المتفلسفة الذين يثبتون جواهر لا يشار إليها وقول النصارى الذين ينفون العلو
وحينئذ فيقولون : لا نسلم أن كل جوهر فإنه يجب ان يكون مشارا إليه وأنت قد اعترفت في بحثك مع الفلاسفة بهذا وهذا القول وإن كان باطلا لكن المقصود تبيين ضعف حجج هؤلاء النفاة نفيا يستلزم نفي الصفات
ويقال لك : إثبات جوهر لا يشار إليه كإثبات قائم بنفسه لا يشار إليه
وإن قال : أنا ذكرت هذا لنفي كونه جوهرا كالجواهر
فيقال : من قال هذا يقول : هو جوهر كالجواهر التي يدعي إثباتها من يقول بإثبات الجواهر العقلية المجردة فإنه هو جوهر كالجواهر العقلية المجردة فمن نفي هذه الجواهر أبطل قولهم وإلا فلا
الحجة الخامسة
قال الآمدي أنه لو كان جوهرا كالجواهر لما كان مفيدا لوجود غيره من الجواهر فإنه لا أولوية لبعض الجواهر بالعلية دون بعض ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولا او ان يكون كل جوهر معلولا للآخر والكل محال فإن قيل : الجواهر وإن تماثلت في الجوهرية ألا أنها متمايزة بأمور موجبة لتعين كل واحد منها عن الآخر وعند ذلك فلا مانع من اختصاص بأمور وأحكام لا وجود لها في البعض الأخر ويكون ذلك باعتبار ما به التعين لا باعتبار ما به الاشتراك فنقول والكلام في اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام في الأول فهو تسلسل ممتنع فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به لمخصص من خارج وذلك على الله محال
تعليق ابن تيمية
قلت : و لقائل أن يقول : قوله : لو كان جوهرا كالجواهر إن عني به أنه لو كان جوهرا مماثلا للجواهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم ينفعه هذا لوجوه :
الأول أن إذا لا يقوله عاقل يتصور لمافيه من الجمع بين النقيضين كما تقدم
الثاني انه إذا كان يقتضي هذا أنه يماثل كل جوهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم يلزم انتفاء مشابهته له من بعض الوجوه فغن نفي التماثل في مجموع هذه الأمور يكون بانتفاء التماثل في واحد من أفرادها فإذا قدر انه خالف غيره في فرد هذه الأمور لم يكن مثله في مجموها ولكن ذلك لا ينفي مماثلة في فرد آخر وحينئذ فلا يكون قول القائل : هو جوهر لا كالجواهر صحيحا ولا يكون النزاع معه في اللفظ بل لا بد ان ينفي عنه مماثلة المخلوقات في كل ما هو من خصائصها
الثالث : انه على هذا التقدير يكون مشابها لها من وجه مخالفا من وجه وليس في كلامه ما يبطل ذلك بل قد صرح في غير هذا الموضع بأن هذا هو الحق
ذكر الآمدي حجة من حجج القائلين بالقدم
فقال في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين بالقدم قال : الوجه العاشر أنه لو كان العالم محدثا فمحدثه إما ان يكون مساويا له من كل وجه او مخالفا له من كل وجه فإن كان الأول فهو حادث والكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل الممتنع وإن كان الثاني فالمحدث ليس بموجود وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه وهو خلاف الفرض وإذا لم يكن موجودا امتنع ان يكون موجبا للموجود كما سبق وإن كان الثالث فمن وجهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا والكلام فيه كالأول وهو تسلسل محال وهذه المحاولات إنما لزمت من القول بحدوث بالعالم فلا حدوث
رده عليها
ثم قال في الجواب : وأما الشبهة العاشرة فالمختار من أقسامها إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا بل لا مانع من الاختلافات بينهما في صفة القدم والحدوث وإن تماثلا بأمر آخر وهذا كما أن السواد والبياض مختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا في العرضية واللونية والحدوث واستحالة تماثلها من كل وجه وإلا كان السواد بياضا ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية
وإن عني به انه لو كان جوهرا مماثلا في مسمى الجوهرية فهذا مثل أن يقال : لو كان حيا مماثلا للأحياء في مسمى الحيية أو عالما مماثلا للعلماء في مسمى العالمية أو قادرا مماثلا للقادرين في مسمى القادرية أو موجودا مماثلا للموجودات في مسمى الموجودية وحينئذ فموافقته في ذلك لا تستلزم أن يكون مماثلا لها فيما يجب ويجوز ويمتنع إلا أن تكن الجواهر كلها كذلك
ومعلوم أن من يقول هو جوهر لا يقول إن الجواهر متماثلة بل يقول إنه مخالف لغيره بل جمهور العقلاء يقولون إن الجواهر مختلفة في الحقائق وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر والمنازع يمنع ذلك بل ربما قال العلم باختلافها ضروري
ودعوى تماثلها مخالف للحس والعلم الضروري فإنا نعلم أن حقيقة الماء مخالفة لحقيقة النار وأن حقيقة الذهب مخالفة لحقيقة الخبز وأن حقيقة الدم مخالفة لحقيقة التراب وأمثال ذلك وأن اشتراكهما في كونهما جوهرين هو اشتراكهما في كونهما قائمين بأنفسهما او متحيزين أو قابلين للصفات وهذا اشتراك في بعض صفاتها لا في الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
الثالث : أنه إن أراد بقوله : إنه جوهر كالجواهر أنه مماثل لكل جوهر في حقيقته ويجوز عليه ما يجوز على كل جوهر فهذا لا يقوله عاقل وأنما أراد المنازع انه إما قائم بنفسه وإما متحيز وإما نحو ذلك من المعاني التي يقول إن الاشتراك فيه كاشتراك في كون كل منهما حيا قائما بنفسه ونحو ذلك فيبقى النزاع في أن مسمى الجوهر عند هؤلاء يقتضي تماثل أفراده
وهؤلاء يقولون : لا بل هو اسم لما تختلف أفراده وفي أن هؤلاء يقولون : الاشتراك في التحيز الاصطلاحي يقتضي التماثل في الحقيقة وهؤلاء ينفون ذلك
ومعلوم عند التحقيق أن قول النفاة للتماثل هو الحق كما قد بسط في موضعه
وهؤلاء يقولون : قولنا جوهر كقولكم ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك
فتبين أن ما ذكره من الدليل على نفي الجوهر هو دليل على نفي ما اتفقت الطوائف على نفيه فإن أحدا من العقلاء لا يقول إنه جوهر بمعنى مماثلته لكل قائم بنفسه فيما يجب ويجوز ويمتنع وما قاله المثبتة منه ما سلم لهم معناه ومنه مالا حجة له على نفيه إلا حجته على نفي الجسم وحينئذ فيكون الكلام في نفي الجوهر مفرعا على الكلام في نفي الجسم
وقوله : إن الوجوه الأربعة التي نفي بها الجوهر ينفي بها الجسم لا يستقيم فإنه إنما نفي بها الجوهر بمعنى انه مماثل لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا مما يسلمه له من يقول إنه جوهر وجسم فإقامة الدليل عليه نصب للدليل في غير محل النزاع لم ينف بها الجوهر بالمعنى الذي يثبته من قال
وحرف المسألة أن كلامه مبني على تماثل الجواهر ومن يقول ذلك لا يقول إنه جوهر ولا جسم فالكلام في هذا الباب فرع على تلك المسألة ولو هذا صحيحا لكان العلم بحدوث الأجسام وإمكانها من اسهل الأمور فإن بعضها محدث بالمشاهدة والمحدث ممكن فإذا كانت متماثلة جاز على كل واحد منها ما جاز على الآخر فيلزم إما حدوثها وإما إمكان حدوثها وعلى التقديرين يحصل المقصود
والنافي لتماثلها لا يقول السؤال الذي أورده إنها متماثلة في الجوهرية لكنها متمايزة ومتغايرة بأمور موجبة للتعين هو الموجب للاختصاص بل تقول أنها مختلفة بحقائقها وأنفسها لكنها تشابهت في كونها قائمة بأنفسها أو كونها متحيزة قابلة للصفات وهذا معنى اتفاقها في الجوهرية كما ذكرة هو في الاعتراض على دليل القائلين بتماثلها
ويقول أيضا إن الأمور المتماثلة من كل وجه لا يجوز تخصيص أحدها بما يتميز به عن الآخر إلا لمخصص وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح ومشيئة الله تعالى ترجح أحد الأمرين لحكمة تقتضي ذلك وتلك الحكمة مقصودة لنفسها وإلا فنسبة الإرادة إلى المتماثلين سواء وتلك الحكمة المرادة تنتهي إلى حكمة تراد لنفسها كما بسط في موضعه
وأيضا فإن القائل : إن هذه الجواهر المشهودة متماثلة في الحقيقة ولكن الفاعل المختار خص كلا منها بصفات تخالف بها الآخر يقتضي أن لها حقيقة مجردة عن جميع الصفات التي اختلفت فيها فيكون الماء المشهود له حقيقة غير هذا الماء المشهود والنار المشهودة لها حقيقة غير هذه النار المشهودة ويكون ما خالف به هذا لهذا في الماء والنار أمرا عارضا لتلك الحقيقة لا صفة ذاتية لها ولا لازمة
وهذا مكابرة للحس وأيضا فعلى هذا القول لا يكن لشيء من الموجودات صفة ذاتية ولا صفة لازمة لذاته أصلا بل كل صفة يوصف بها عارضة له يمكن زوالها مع بقاء حقيقته لأن كل ما اختلفت به الأعيان أمر عارض لها ليس بداخل في حقيقتها عند من يقول بتماثل الجواهر والأجسام وحينئذ فيكون الإنسان الذي هو حيوان ناطق يمكن زوال كونه حيوانا وكونه ناطقا مع بقاء حقيقته وذاته وكذلك الفرس يمكن زوال حيوانيته وصاهليته مع بقاء حقيقته وذاته وهكذا كل الأعيان
ثم يقال : إذا قدرنا عدم هذه الصفات التي هي لازمة للأنواع وذاتية لها لم يبق هناك ما يعقل كونه جوهرا لا مماثلا ولا مخالفا فإنا إذا نظرنا إلى هذا الإنسان وقدرنا أنه ليس بحي ولا ناطق ولا ضاحك ولا حساس ولا متحرك بالإرادة لم يعقل هنالك جوهر قائم بنفسه غيره تعرض له هذه الصفات بل إثبات ذلك نوع من الخيال الذي لا حقيقة له وهذا الخيال في الجواهر المحسوسة نظير خيال من أثبت الجواهر المعقولة لكن تلك محلها العقل وهذه محلها الخيال فإنا يمكننا تقدير هذا الشكل مع عدم كونه حيوانا ناطقا لكن حينئذ يكون المقدور شكلا مجردا هو عرض ن الأعراض وهو الذي يسمى الجسم التعليمي كما نقدر أعدادا مجردة عن المعدات وهذه المقادير المجردة والأعداد المجردة لا وجود لها إلا في الأذهان واللسان وكل جسم موجود له قدر يخصه وهذه هي الجسمية والجوهرية التي يثبتها من يقول بعدم تماثل الجواهر وهي نظير الصورة فدعوى أولئك أن الصورة الجسمية جوهر وأن المادة جوهر آخر هو نظير دعوى هؤلاء أن الصورة الجسمية جواهر متماثلة وليس هنا إلا هذه الأعيان القائمة بأنفسها وما قام بها من الصفات والمقادير التي هي أشكالها وصورها
ثم من العجيب أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين كأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي وأمثالهم ممن يوافق أهل المنطق يوافقون أهل المنطق فيما يدعونه من انقسام صفات الجواهر والأجسام إلى ذاتي وعرضي وانقسام العرض إلى لازم للماهية وعارض لها وانقسام العارض إلى لازم و مفارق مع ما في هذا الكلام من الخطأ فإن الصفات في الحقيقة إنما تنقسم إلى لازم للماهية وعارض لها
وأما تقسيم اللازم إلى ذاتي وعرضي وإثبات شيئين في هذه الأعيان أحدهما الذات والثاني هذا الموجود المشاهد فكلام باطل كما قد بسط في موضعه
ثم إنهم في قولهم بتماثل الجواهر والأجسام يدعون ان جميع صفات الأجسام التي تختلف بها إنما هي عارضة لها قابلة لزوالها ليس منها شيء لازم للحقيقة ولا هو من موجبات الذات ومقتضياتها فيا سبحان الله أين ذلك التلازم الذي غلوتم فيه حتى تجعلون الحقيقة مؤلفة من صفاتها الذاتية وتقولون إن الذات هي المقتضية للوازم ولوازم اللوازم ؟
وهنا يقولون ليس لهذه الأعيان حقيقة قائمة بنفسها إلا ما تشترك كلها فيه وليس لشيء منها لازم يخصه ولا لازم يفارق به غيره بل ليست اللوازم إلا ما لزم جميع ما يسمى جوهرا وجسما
وهذا المعنى قد رأيت منه عجائب لهؤلاء النظار يتكلم كل منهم مع كل قوم على طريقتهم بكلام يناقض ما تلكم به على طريقة أولئك مع تناقض كل من القولين في نفس الأمر وهذا إما ان يكون لكونه لم يفهم أن هذا المعنى الذي أثبته بهذه العبارة هو الذي نفاه بتلك فلا يكون قد تصور حقيقة ما يقول بل تصور ما يتقيد باللفظ بحيث إذا خرج المعنى عن ذلك اللفظ لم يعرف أنه هو وهذا قبيح بمن يدعى النظر في العقليات المحضة التي لا تتقيد بلغة ولا لفظ وإما أن يكون مع نسيانه وذهوله في كل مقام لما قاله في المقام الآخر وهذا أشبه أن يظن بم له عقل وتصور صحيح لكنه يدل على ان له في المسألة قولين وأنه يقول في كل مقام ما ترجح عنده في ذلك المقام ولا يمشي مع الدليل مطلقا بل يتناقض وإما أن يكون مع فهمه التناقض وحينئذ فإما ان لا يبالي بتناقض كلامه وإما ان يرجح هذا في هذا الموطن وهذا في هذا الموطن
فصل
ومن العجب أنكلامه وكلام أمثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وأن القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على انها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة
ثم أنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر انه لا دليل على تماثلها فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاما بلا علم بل بخلاف الحق مع انه في الله تعالى
وقد قال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } الاعراف 33 وقال تعالى عن الشيطان { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } البقرة 169
كلام الآمدي في أن الجواهر متجانسة غير متحدة
قال في كتابه هذا الكبير الفصل الرابع في أن الجواهر متجانسة غير متحدة : اتفقت الأشاعرة وأكثر المعتزلة على أن الجواهر متماثلة متجانسة وذهب النظام والنجار من المعتزلة بناء على قولهما بتركب الجواهر من الأعراض إلى أن الجواهر إن تركبت من الأعراض المختلفة فهي مختلفة ولهذا فإنا ندرك الاختلاف بين بعض الجواهر كالاختلاف الواقع بين النار والهواء والماء والتراب ضرورة كما يدرك الاختلاف بين السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وسائر الأعراض المختلفة
قال وهو باطل اما كون الجواهر مركبة من الأعراض فيما سبق وأما ما ندركه من الاختلاف بين الجواهر كالأمثلة المضروبة فلا نسلم أنه عائد إلى اختلاف الجواهر في أنفسها بل هو عائد إلى الأعراض القائمة واختلاف الاعراض لا يدل على اختلاف المعروض له في نفسه
تعليق ابن تيمية
قلت : النجار ليس هو من المعتزلة بل هو رأس مقالة وهو يخالف المعتزلة في القدر فيثبته وفي غير ذلك من أصول المعتزلة لكنه يوافقهم على نفي الصفات ويخالفهم أيضا في تماثل الأسماء والأحكام والوعيد
وجمهور الناس على ان الأجسام مختلفة من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم وقد ذكر الأشعري في مقالاته النزاع في ذلك
تابع كلام الآمدي
والمقصود هنا اعترافه بأنه لا حجة للقائلين بالتماثل فإنه قيل ما ذكرتموه وإن دل على إبطال مأخذ القائلين بالاختلاف فما دليلكم في التماثل والتجانس فلئن قلتم : دليل التماثل اشتراك جميع الجواهر في صفات نفس الجوهر وهي التحيز وقبول الأعراض والقيام بنفسه فنقول وما المانع من كون الجواهر مختلفة بذواتها وإن اشتركت فيما ذكرتموه من الصفات ؟ فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات في عوارض عامة لها وإنما يثبت كون ما ذكرتموه صفات نفس الجوهر أن لو لم يكن الجواهر مختلفة وهذه أعراض عامة لها وإنما يمتنع كون الجواهر مختلفة وأن هذه أعراض عامة لها أن لو كانت هذه الصفات صفات نفس الجوهر وهو دور ممتنع
قال واعلم أن طرق أهل الحق في إثبات المجانسة وإن اختلفت عباراتها فكلها آيلة إلى ما ذكر وما قيل عليه من الإشكال فلازم لا مخلص منه إلا بان يقال : نحن لا نعنى بتجانس الجواهر غير كونها مشتركة فيما ذكرناه من الصفات وعند ذلك فحاصل النزاع يرجع إلى التسمية لا إلى نفس المعنى
تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا قوله مع اطلاعه على طرق القائلين بالتجانس ورغبته في نصرهم لو أمكنه فذكر أن جميع ما ذكروه من الطرق يرجع إلى ما ذكره وهو مما يعلم بالاضطرار أنه لا يدل على تماثلها بل يدل على اشتراكها في معنى من المعاني وليس جعل ما به الاشتراك هو الذات وما به الاختلاف من الصفات باولى من العكس وهذا على سبيل التنزل وإلا فنحن نعلم بالضرورة والحس اختلاف الأجسام المختلفة كما نعلم اختلاف الاعراض المختلفة وما ذكره من أن الاختلاف عائد إلى الاعراض لا إلى المعروض فمخالفة للحس فإن نفس النار مخالفة للماء ليس مجرد حرارة النار هي المخالفة لبرودة الماء بل نحن نعلم أن النار تخالف الماء أعظم مما نعلم أن الحرارة تخالف عرضا قائما بغيره وهو صفة محسوسة بالمس وكذلك بين السواد والبياض من الاشتراك في العرضية واللونية والقيام بالغير والرؤية بالبصر وغير ذلك من الصفات أعظم من الاشتراك بين الماء والنار ن فإن الاشتراك بينهما هو في القدر ونحو ذلك من الكميات والاشتراك في الكيفية أعظم من الاشتراك ف يالكمية فإذا كان ذلك لا يوجب التماثل فذاك بطريق الأولى
وأيضا فالحرارة قد تنكسر بالبرودة في مثل الفاتر فإنه لا يبقى حارا كحرارة النار ولا باردا برودة الماء المحض واما نفس الماء والنار فلا يجتمعان
وأيضا فالأعراض المختلفة تشترك في محل واحد واما نفس الأقسام فلا تشترك في محل واحد وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان اعتراف هؤلاء بفساد الأصول التي بنوا عليها ما خالفوه من النصوص وبيان تناقضهم في ذلك وأنهم يقولون إذا تكلموا في المنطق وغيره بما يناقض كلامهم هنا ويبعد أو يمتنع في العادة ان يكون هذا لمجرد اختلاف الاجتهاد مع الفهم التام في الموضعين بل يكون لنقص كمال الفهم والتصور وخوفا أن لا يكون القولان متنافيين فلا يهجم بإثبات التناقض أو لنوع من الهوى والغرض ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو مشهورات أقوالها ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا نوع تنبيه على أن ما يدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن بفزعه ذلك من الصبيان ومن هو شبيه بالصبيان وإذا أعطي النظر في المعقولات حقه من التمام وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح وأن من نفاه لجهله بحقيقة الأمر وفزعا باطنا وظاهرا كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان
قال تعالى عن الخليل صلوات الله عليه { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } الأنعام 80 - 81 قال الله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } الأنعام 82
ومن خالف الرسل لا يلم من الشرك والإفك { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } الصافات 180 - 182 { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } الاعراف 152 قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة
وما أشبه هؤلاء في رعبهم من الألفاظ الهائلة التي لم يعلموا حقيقتها بمن راى العدو المخذول فلما رأى لباسهم رعب منهم قبل تحقق حالهم ن ومن كشف حالهم وجدهم في غاية الضعف والعجز ولكن قال تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } آل عمران 151
وبسط هذا يطول والمقصود التنبيه فهذا ما ذكره في الجوهر وأما الجسم فإنه اعتمد في نفيه على هذه الوجوه الأربعة وقد عرف حالها
كلا الآمدي في الجسم
وقال ويختص بأربعة أوجه :
الوجه الأول : أنه إذا ثبت ان الرب غير متصف بكونه جوهرا امتنع أن يكون متصفا بكونه جسما لأن الجسم مركب من الجواهر ومفتقر إليها ويلزم من انتفاء ما لا بد منه في كونه جسما أن لا يكون جسما
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الوجه بين الضعف وذلك أنه لو قدر انتفاء كون الشيء جوهرا منفردا لم يلزم أن لا يكون جسما مؤلفا من الجواهر فإن الأجسام جميعها كل منها عنده ليس جوهرا منفردا مع كونها مؤلفة من الجواهر وهو لم يقم دليلا على نفي كونه جوهرا ولا نفى ما يستلزم الجوهر
وهذا كما لو أقام دليلا على أنه ليس بعلم أو قدرة أو كلام أو مشيئة لم يستلزم ذلك أن لا تكون هذه من لوازمه فنفى كون الشيء أمرا من الأمور غير نفي كونه ملزوما لذلك الأمر
وأيضا فيقال : أنت لم تقم دليلا على كون الجواهر متماثلة بل صرحت بأنه لا دليل على ذلك فبطل ما ذكرته في نفي الجوهر
وأيضا فيقال لفظ الجوهر فيه إجمال وله عدة معان أحدها الجوهر الفرد وعلى هذا فالجسم ليس بجوهر وفي كونه مركبا منه نزاع
الوجه الثاني : المتحيز وعلى هذا فالجسم جوهر ومن نفى الجوهر الفرد قال كل جسم جوهر وكل جوهر جسم ومن أثبته قال : الجوهر أعم من الجسم
والوجه الثالث : الجواهر العقلية عند من يثبت جوهرا ليس بمتحيز كالعقول والنفوس والمادة والصور فإن هؤلاء المتفلسفة المشائين يدعون ان الجوهر خمسة أقسام وجمهور العقلاء يدفعون هذا ويقولون : هذه الأمور التي سميتوها جواهر عقلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان
وقد يراد بالجواهر ما هو قائم بنفسه فمن كان الجوهر أعم عنده من الجسم فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص وكذلك من كان الجوهر عنده مرادفا للجسم وأما من كان الجوهر عنده لا يتناول معنى الجسم مثل أن يقدر أنه لا يستعمل لفظ الجوهر إلا في الفرد فهذا لا يلزم من نفي كونه جوهرا نفي كونه جسما إلا بالحجة التي ذكرها وهو ان يقال : الجسم مركب من الجواهر فالحجة لا تستقيم إلا على تقدير ثبوت هذا الاصطلاح مع أني لا أعرفه اصطلاحا لأحد مطلقا ولكن بعض الناس قد يخص به الفرد مع أنه هو وغيره دائما يسمون الجسم جوهرا
ولهذا قال هذا الآمدي وغيره ف ينفي كونه جوهرا : إما أن يكون قابلا للتجزية فيكون جسما مركبا وإما ان لا يكون قابلا للتجزية فيكون في غاية الصغر والحقارة وكثيرا ما يقع في كلامهم لفظ الجوهر متناولا للجسم وكثيرا ما يقع مختصا بالفرد فما ذكره اولا في نفي الجوهر بالمعنى العام فالجسم يدخل فيه فإن صح ما ذكره صح نفي الجسم لكن قد عرف ضعفه
وأما إذا كان المنفي هو الجوهر الفرد فقط فيحتاج ان يقول إن الجسم مركب منه لينفي الجسم لكن هذا فيه نزاع معروف وأكثر الناس على انه ليس بمركب من الجواهر المنفردة وهو الصواب كما قد بسط في موضعه
فمن الناس من يقول : إنه مركب من جواهر متناهية لا تقبل القسمة بوجه من الوجوه حتى ولا بالوهم ومنهم من يقول : هو مركب من جواهر غير متناهية كذلك ومنهم من يقول هو مركب من الهيولي والصورة لكنه يقبل القسمة إلى غير نهاية ومنهم من يقول ليس بمركب لكنه يقبل التقسيم إلى الجواهر المنفردة التي لا تتجزأ
ومنهم من يقول : بل كل موجود فلا بد أن يتميز منه شيء عن شيء فلا يتصور وجود جوهر لا يتميز منه شيء عن شيء لكن إذا تصغرت الأجزاء استحالت وقد لا تقبل القسمة الفعلية بل إذا قسمت استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تصير هواء فهي وإن كان يتميز منها شيء عن شيء لكن ليس لها من القوة ما يحتمل الانقسام الفعلي بل تستحيل إذا أريد بها ذلك وعلى هذا القول فلا نثبت شيئا لا يتميز منه جانب عن جانب ولا يثبت ما لا نهاية له في ضمن مالا يتناهى ولا انقسام إلى غير نهاية بل كل موجود فإنه يتميز منه شيء عن شيء وهو قد يستحيل قبل وجود الانقسامات التي لا تتناهى فتزول بهذا القول الإشكالات الواردة على غيره مع انه مطابق للواقع فتبين ضعف هذا الوجه
تابع كلام الآمدي الوجه الثاني في نفي الجسمية عن الله تعالى
الوجه الثاني
قال الآمدي أنه قد ثبت ان الرب متصف بالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات فلو كان جسما كالأجسام لزم من اتصافه بهذه الصفات المحال وذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه لو اتصف بهذه الصفات فإما أن يكون كل جزء من اجزائه متصفا بجميع الصفات وإما ان يكون المتصف بجملتها بعض الأجزاء وإما أن يكون كل جزء مختصا بصفة وإما أن تقوم كل صفة من هذه الصفات مع اتحادها بجملة الأجزاء فإن كان الأول يلزم منه تعدد الآلهة وأما الثاني فهو ممتنع لأنه لا أولوية لبعض تلك الأجزاء بان يكون هو المتصف دون الباقي ولأنه يلزم ان يكون الإله هو ذلك الجزء دون غيره لأن حكم العلة لا يتعدى محلها وإن كان الثالث فل أولولية أيضا وإن كان الرابع فهو محال لما فيه من قيام المتحد بالمعتدد
ولقائل أن يقول الاعتراض على هذا من وجوه
الرد عليه من وجه
الأول
قولك : لو اتصف بكل واحدة من هذه الصفات فإما ان يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع هذه الصفات إلى آخره فرع على ثبوت الأجزاء وذلك ممنوع فلم قلت إن كل كا هو جسم فهو مركب من الأجزاء ؟ فإن هذا مبني على ان الاجسام مركبة من الجواهر المنفردة وهذا ممنوع
وجمهور العقلاء على خلافة وهو لم يثبته هنا بالدليل فيكفي مجرد المنع وبسط ذلك في موضعه
وكل من أمعن في معرفة هذا المقام علم أن ما ذكروه من أن الجسم مركب من جواهر منفردة متشابهة عرض لها التركيب او من مادة وصورة وهما جوهران من أفسد الكلام وإذا كان كذلك أمكن أن يكون كل من الصفات القائمة بجميع المحل شائعة في جميع الموصوف ولا يلزم أن يكون الواحد قام بأجزاء بل القول في الصفة الحالة كالقول في المحل الذي هو الموصوف
الثاني
أن يقال : القول في وحدة الصفة وتعددها وانقسامها وعدم انقسامها كالقول في الموصوف وسواء في ذلك الصفات المشروطة بالحياة كالقدرة والحس ـ بل والحياة نفسها أو التي لا تشترط بالحياة كالطعم واللون والريح فإن طعم التفاحة مثلا شائع فيها كلها فإذا بعضت تبعض ولا يقال إنها قام طعم واحد بجملة التفاحة بل إن قيل : إن التفاحة أجزاء كثيرة قيل : أم بها طعوم كثيرة وإن قيل : هي شيء واحد قيل : قام بها طعم واحد فإن قيل فهذا هو التقدير الأول وهو اتصاف كل جزء من هذه الأجزاء بجميع هذه الصفات قيل : ليس كذلك
أما أولا : فلمنع التجزي وأما ثانيا فلأنه لم يقل بكل جزء إلا جزء من الصفة القائمة بالجمع لم تقم جميع الصفة بكل جزء وحينئذ فيطل التلازم المذكور وهو كون كل جزء إليها فإن الإله سبحانه هو المتصف بأنه بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير أما إذا قدر موصوف قام به جزء من هذه القدرة لا تنقسم هي ولا محلها لم يلزم أن يكون ذلك الجزء قادرا فضلا عن أن يكون ربا إذ القادر لا يجب أن يكون من قام به جزء من القدرة ولا الحي من قام به جزء من الحياة ولا العالم من قام به جزء من العلم
فإن قيل : كيف يعقل انقسام القدرة والحياة والعلم ؟
قيل : كما يعقل انقسام محل هذه الصفات فإن الإنسان تقوم حياته بجميع بدنه وكذلك الحس والقدرة ببدنه من صفاته فكما أن بدنه ينقسم فالقائم ببدنه ينقسم
فإن قيل إذا انقسم لم يبق قدرة ولا علما ولا حياة
قيل : وكذلك المحل لا يبقى يدا ولا عضوا لا قادرا ولا حيا ولا عالما ولا حساسا فإن الجزء المنفرد بتقدير وجوده هو أحقر من أن يقال إنه يد أو عضو أو بدن حي عالم قادر فكيف يقال فيه إنه إله
الثالث
أن ما ذكروه معارض بقيام هذه الصفات في الإنسان فإن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس ولم نذكر العلم ولا نحتاج أن نقول كما قالت المعتزلة : إن الاعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء في الجملة عاد حكمها إلى جميع الجملة بل نذكر من الاعراض ما يعلم قيامه بالبدن الظاهر كالحياة والحس والحركة والقدرة فإن هذا التقسيم الذي ذكروه يرد عليه فإنه إن قيل : إن كل جزء من أجزائه متصف بهذه الصفات لزم تعدد الإنسان وإن كان المتصف بجملتها بعض الأجزاء فلا اولوية وبزم أن لا يتعدى حكم الصفة محلها
والتقدير أن ظاهر البدن كله حي حساس وإن قيل كل واحد يختص بصفة فهو معلوم الفساد بالضرورة مع أنه لا أولوية
وإن قيل : تقوم الصفة الواحدة بالجملة لزم قيام الواحد بالمتعدد فإذا كان هذا التقسيم واردا على ما يعلم قيام الصفات به لم ينف قيامها به علم أنها حجة باطلة
الرابع
قوله والرابع محال لأنه يلزم منه قيام المتحد بالمتعدد
فيقال : لا نسلم التلازم فإن هذا القيام مبناه على أنه حينئذ يقوم الواحد بالمعتدد فإنه فرض قيام علم واحد وقدرة واحدة وحياة واحدة بجملة أجزاء
وهذا الأصل فاسد فإن المعلوم من وحدة الصفة الحالية وتعددها هو المعلوم من وحدة المحل وتعدده فالحياة القائمة بجسم حي إذا قيل : هي حياة واحدة قيل هو حي واحد وإذا قيل الحي أجزاء متعددة قيل : الحياة أجزاء متعددة فالحال ومحله سواء في الاتحاد والتعدد
وحينئذ فقولهم : أنه قام المتحد بالمتعدد كلام باطل بل ما فسروا به الاتحاد في احدهما كان موجودا في الآخر وما فسروا به تعدد أحدهما كان موجوا في الآخر
الخامس
أنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام بتقدير انقسام الجسم بل من الممكن أن يقال : قام كل جزء من أجزاء هذه الصفات بجزء من أجزاء الموصوف وكل جزء منه متصف بجزء من الصفة
وهذا التقسيم غير ما ذكره من الأقسام ليس فيه اتصاف كل جزء بجميع الصفة ولا المتصف بجميعها بعض الجملة ولا كل جزء مختصا بجميع صفته ولا قيام واحد بمتعدد
فإن قال : الصفة لا تنقسم ومحلها ينقسم
قيل : هذه مكابرة للحس والعقل بل انقسامها محلها يبين هذا أن من أعظم عمد مثبتي الجوهر الفرد قولهم : إن الحركة قائمة بالجسم والزمان مقدار الحركة والزمان فيه الآن الذي لا ينقسم فلا ينقسم قدره من الحركة فلا ينقسم الجزء الذي يحلها فإنما استدلوا على وجود الجزء الذي لا ينقسم إلا بوجود جزء من الحركة لا ينقسم فعلم أن انقسام الحال عندهم كانقسام محله مع أن هذا معلوم بالحس والعقل
وكذلك المتفلسفة القائلون بان النفس الناطقة ليست جسما :
عمدتهم انه يقوم بها مالا ينقسم ومالا ينقسم إلا بما لا ينقسم فقد اتفقت الطوائف على أن الصفة إذا لم تنقسم كان محلها لا ينقسم
السادس
أن قوله : إما أن يكون كل جزء من الأجزاء متصفا بهذه الصفات
يقال له : إن أردت أنه يتصف به كما تتصف به الجملة فهذا لا يقوله عاقل فإنه ليس في الأجسام ما يكون صفة جميعه صفة للجوهر الفرد منه على الوجه الذي هي به صفة لجمعية وإن أردت انه متصف به كما يليق بذلك الجزء فلم قلت إن ما اتصف به بالصفة على هذا الوجه يمكن انفراده عن غيره فضلا عن كونه إلها ؟
وهذا لأنه ليس في جميع ما يعلم من الموصوفين المنفردين بأنفسهم ما هو جوهر فرد ولا في شيء مما يشاهد من الموصوفين ما هو جوهر فرد بل والجوهر الفرد بتقدير وجوده لا يحس به ولا يوجد منفردا فما كان لا يوجد وحده حتى ينضم إليه أمثاله كيف يكون حيا فضلا عن أن يكون فرسا أو بعيرا ؟ فضلا عن أن يكون أنسانا أو ملكا أو جنبا فضلا عن أن يكون إلها ؟
وهل ذكر مثل هذا في حق الله إلا من أعظم الدليل على جهل قائله ؟
فإنهم لا يعلمون شيئا من الجواهر المنفردة يسمى باسم جملته لقيام الصفة بالجملة فكيف يجب في حق الله إذا قامت به الصفات الكمال أن يكون بتقدير ما ذكروه يجب فيه مثل ذلك ؟
السابع
أن يقال : كما أنه لا يجب في كل جزء من الإنسان ان يكون انسانا لأنه قام به من الصفات ما يقوم بالإنسان ولا في كل جزء من اجزاء الفرس وسائر الحيوان ان يكون فرسا لكونه من الجملة التي قامت بها الصفة فلماذا يجب في كل ما كان من الإله ان يكونإلها لقيام الإله بالإله الموصوف كله مع أن كل واحد من الموجودات لا يكون حكم جزئه حكم كله لقيام الصفة بالجميع وهل هذا إلا من أفسد الحجج وإن كان هو من اعظم عمد النفاة ؟
تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
قال : في بيان المحال من اتصافه بهذه الصفات هو أنه لا يخلو إما أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته او لغيره لا جائز ان يقال بالأول وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوبا لذاته ن للتساوي ف يالحقيقة على ما وقع به الفرض وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا إلى ما يخصصه بصفاته والمحتاج إلى غيره في إفادة صفاته لاه لا يكون إلها
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته ؟
قوله : يلزم اتصاف كل جسم بها للتساوي في الحقيقة على ما وقع به الفرض
قيل : الذي وقع به الفرض أنه جسم كالأجسام وذلك يقتضي الاشتراك في مسمى الجسمية فلم قلت : إن ذلك يستلزم التساوي في الحقيقة فإن هذا مبني على تماثل الأجسام وهو ممنوع وهو باطل
وإن قيل : إنه يقتضي مماثلة كل جسم في حقيقية بحيث يجوز عليه ما يجوز على كل جسم ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له فهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول ولا يعرف هذا قولا لطائفة معروفة وفساده ظاهر لا يحتاج إلى إطناب ولكن لا يلزم من فساده أن لا يكون النزاع إلا لفظا فإن المنازع يقول : ليس هو مثل كل جسم من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع ولكن شاركها غيره في مسمي الجسمية كما إذا قيل : هو حي وغيره حي شاركه في مسمى الحي وكذلك شارك غيره في مسمى العالم والقادر والموجود والموجود والذات والحقيقة فما كان من لوازم القدر المشترك ثبت لهما وما أخص بأحدهما لم يثبت للآخر
ومعلوم ان مسمى الجسمية إن قيل إنه يستلزم أن يجوز على كل جسم ما جاز على الآخر فلا يقول عاقل : إن الله جسم بهذا التفسير ومن قال : إنه جسم لم يقل : إن القدر المشترك إلا كالقدر المشترك في الذات والقائم بالنفس ومسمى التحيز ويقول مع ذلك : إن هذا المسمى وقع على أمور مختلفة الحقائق كالموصوف والقائم بالنفس ونحو ذلك
وبالجملة إن ثبت تماثل الأجسام في كل ما يجب ويجوز ويمتنع أغناه عن هذا الكلام وإن لم يثبت لم ينفعه هذا الكلام فهذا الكلام لا يحتاج إليه على التقديرين فالمنازع يقول : مسمى الجسم كمسمى الموصوف والقائم بنفسه والذات والماهية والموجود ينقسم إلى واجب بنفسه وواجب بغيره وإذا كان أحد النوعين واجبا بنفسه لم يجب أن يكون كل موصوف قائما بنفسه ولا كل موجود وكذلك لا يكون كل جسم فتبين أن كل ما ذكره مغلطة لأنه قال : إما أن يقال : إنه جسم كالأجسام وإما أن يقال : جسم لا كالأجسام فإن قيل بالثاني كان النزاع في اللفظ لا في المعنى فدل ذلك على أن قوله في المعنى موافق لقول من يقول : جسم لا كالأجسام ثم جعل القسم الأول هو القول بتماثل الأجسام فكان حقيقة قوله : إنه إما أن يقال إنه مماثل للأجسام في حقيقتها بحيث يتصف بما تتصف به من الوجوب والجواز والامتناع وإما أن لا يقال بذلك فمن لم يقل بذلك لم ينازعه في المعنى ومن قال بالأول فقلوه باطل
ومعلوم أن أحدا من الطوائف المعروفة وأهل الأقوال المنقولة لم يقل : إنه جسم مماثل للأجسام كما ذكر ومعلوم أيضا أن فساد هذا أبين من أن يحتاج إلى ما ذكره من الأدلة فإن فساد هذا معلوم بالأدلة اليقينية لما في ذلك من الجمع بين النقيضين إذ كان كل منهما يلزم أن يكون واجبا بنفسه لا واجبا بنفسه محدثا لا محدثا ممكنا لا ممكنا قديما لا قديما إذ المتماثلان يجب اشتراكهما في هذه الصفات
وإذا كان القول الذي نفاه لم يقله أحد ولم ينازعه فيه أحد والقول الذي ادعى أنه موافق لقائله في المعنى لا يخالف فيه قائلة بقي مورد النزاع لم يذكره ولم يقم دليلا على نفيه وهو قول من يقول : هو جسم كالأجسام بمعنى أنه مشارك لغيره في مسمى الجسمية كما يشاركه في مسمى الموصوفية والقيام بالنفس وأنه لم يثبت له لوازم القدر المشترك ولا يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يكون مماثلا لشيء من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه لأن الأجسام المخلوقة لها خصائص تختص باعتبارها ثبت لها ما يجب ويجوز ويمتنع عليه
والقدر المشترك عند هؤلاء لا يستلزم شيئا من خصائص المخلوقين وهذا القدر لم يتعرض له هنا بنفي ولا إثبات لكنه يقول : إن القدر المشترك يستلزم التماثل في الحقيقة وإن ما لزم كلا من الأجسام لزم الآخر وإنما يفترقان فيما يعرض لهما بمشيئة الخالق
لكن هذا القول لم يقرر هنا فبقي كلامه بلا حجة مع أن هذا القول فاسد في نفسه كما قد عرف وهو لما قرره في موضع آخر بناه على أصلين : على إثبات الجوهر الفرد وتماثل الجواهر وكلاهما منوع باطل قد قرر هو انه لا حجة عليه مع أن القول بانه جسم كالأجسام ما علمت أنه قاله أحد ولا نقله أحد عن أحد وهو مع هذا لم يذكر دليلا على نفيه فكيف قد أقام دليلا على نفي قول من يقول : هو جسم لا كالأجسام ؟
تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
الحجة الثالثة : قال : هو أنه لو كان جسما لكان له بعد وامتداد وذلك إما أن يكون غير متناه أو متناهيا فإن كان غير متناه : فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات أو من بعض الجهات دون بعض فإن كان الأول فهو محال لوجهين : الأول : ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني : يلزم منه أن لا يوجد جسم غيره أو أن تتداخل الأجسام وهو يخالط القاذورات وهو محال وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لوجهين : الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني : أنه إما أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر لذاته أو لمخصص من خارج فإن كان الأول فهو محال لعدم الأولوية وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء على ما تقدم فيكون الرب معلول الوجود وهو محال وإن كان متناهيا من جميع الجهات فله شكل ومقدار وهو إما أن يكون مختصا بذلك الشكل والقدر لذاته أو لأمر خارج فإن كان الأول لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة وإن كان الثاني فالرب محتاج في وجوده إلى غيره وهو محال
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون مختصا بالشكل والمقدار لذاته ؟ قوله : إن ذلك يستلزم اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة إنما يصح إذا سلم أن طبيعة الأجسام كلها متحدة وهذا ممنوع بل باطل بل معلوم الفساد بالضرورة والحس فإن طبيعة النار ليست طبيعة الماء ولا طبيعة الحيوان طبيعة النبات وهذا مبني على القول بأن الأجسام متماثلة في الحقيقة وهذا لو صح لأغنى عن هذه الوجوه كلها وهو في كتابه لما ذكر قول من يقول بتجانس الأجسام من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية قال : إنهم بنوا ذلك على أصلهم : أن الجسم هو الجوهر المؤلف أو الجوهر المؤتلفة وأن الجواهر متجانسة وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفة
ومعلوم أن هذين الأصلين اللذين بنوا عليهما تماثل الأجسام قد أبطلها هو وغيره وهي مما يخالفهم فيها جمهور العقلاء فأكثر العقلاء لا يقولون إن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة لا جمهور أهل الملل ولا جمهور الفلاسفة بل جمهور أهل الكلام من الهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والكرامية لا يقولون بذلك فكيف بمن عدا أهل الكلام من سائر أنواع أهل العلم ؟ فإنهم من أعظم الناس إنكارا لذلك
وكذلك القول بتماثل الجواهر قول لا دليل عله إذ المتنازعون في الجواهر المنفردة : منهم من يقول باختلافها ومنهم من يقول بتماثلها
وأيضا فقول القائل إما أن تكون مختصا بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج
يقال له أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره ؟
أما الأول فلا يقول عاقل فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأم المشترك فلا يقول عاقل إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما فإن القدر مستلزمة للمعلول الملزوم أعم من العلة فإذا لم يكن المشترك ملزوما للمختص كما أن لا يكون علة أولى وأحرى فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم
ومعلوم انه ليس حيث المشترك يوجد المختص إذ المشترك يوجد في هذا والمختص بالآخر منتف
وفي الجملة فهذا ما لا يتنازع فيه العقلاء فلا يكون اختصاص أحد الجسمين عن الآخر بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام
وحينئذ فيقال : معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة وذلك يمنع تماثل الأجسام لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمختص والمخصص إما الرب وإما غيره وتخصيص غيره ممتنع لأنه جسم من الأجسام فالكلام فيه كالكلام في غيره ولأن التقدير أنها متماثلة فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا وتخصيصه أيضا ممتنع لأنه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح وذلك ممتنع وإذا قيل المرجح هو القدرة والمشيئة
قيل نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر وحينئذ فذلك يستلزم تفاصيل المعلومات المرادات وذلك يمنع تساويها وهو المطلوب
وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمه الله في خلقه وأمره وهو مبسوط في غير هذا الموضع ونفاة ذلك غاية ما عندهم انهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير لأن من فعل شيئا لمراد كان مفتقرا إلى ذلك المراد مستكملا به والمستكمل بغيره ناق بنفسه
وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات وذلك أن لفظ الغير مجمل فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها لا يحتاج في شيء منها إلى غيره وإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له كان حقيقة ذلك انه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه
ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين له وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته فإذا قال القائل إنه مفتقر إلى نفسه كان حقيقته أنه لا يكون موجودا إلا بنفسه وهذا المعنى حق
وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة أو جزئه أو لوازم ذاته او نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته وهذا حق ومعلوم : إن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها ازليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون كل منها أزليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة فيكون وجود تلك المرادات للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقرا فيه إلى غيره أصلا بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين يصفونه بالنقائص ويسلبونه الحكمة التي هي محض بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة
وأيضا فيقال القول في استلزام الذات لقدرها الذي لم يقدره المشركون كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } الزمر 67 كاستلزام الذات لسائر صفاتها من العلم والقدرة والحياة فإنه لو كان مختص يحتاج إلى مخصص لزم الدور أو التسلسل الباطلان فلا بد من مختص بما يختص به يختص بذلك لنفسه وذاته لا لأمر مباين له
وهذا هو حقيقة الواجب لنفسه المستلزم لجميع نعوته من غير افتقار إلى غير نفسه مع أنما ذكره في وجوب تناهي الأبعاد قد أبطل فيه مسالك الناس كلها وأنشأ مسلكا ذكر أنه لم يسبقه إليه أحد وإذا حرر الأمر عليه وعليهم في تلك المسالك كان القدح فيها أقوى من مسالكهم في النفي فلو قدر ان أثنين أثبت احدهما موجودا قائما بنفسه لا يتناهى وأثبت الآخر موجودا لا يكون متناهيا ولا غير متناه كان قول الثاني أفسد والأول أقرب إلى الصواب وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول إلا وفي أقوالهم ما هو أفسد منها
والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما أو بطلان أحدهما او كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها أصول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله
وقد حكى الأشعري وغيره عن طوائف أنهم يقولون إنه لا يتناهى وهؤلاء نوعان : نوع يقول : هو جسم ونوع يقول ليس بجسم فإذا أراد النفاة أن يبطلون قول هؤلاء لم يمكنهم ذلك فإنهم إذا قالوا : يلزم أن يخالط اقاذورات والأجسام قالوا : كما أثبتم موجودا لا يشار إليه ولا هو داخل ولا خارج فنحن نثبت موجودا هو داخل ولا يخالط غيره فإذا قالوا هذا لا يعقل قالوا وذلك لا يعقل
ومذهب النفاة أبعد في العقل من مذهب الحلولية ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية وكذلك ما ذكره من امتناع النهاية من بعض الجوانب دون بعض فإن هذا قاله طائفة ممن يقول إنه على العرش
وقول هؤلاء وإن قيل إنه باطل فقول النفاة أبطل منه إما احتجاجه على هؤلاء بأن اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر محال لعدم الأولوية أو لافتقاره إلى مخصص من خارج فيقولون له أنت دائما تثبت تخصيصا من هذا الجنس كما تقول إن الإرادة تخصص أحد المثلين لا لموجب فإذا قيل لك : هذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح قلت هذا شان الإرادة والإرادة صفة من صفاته فإذا كانت ذاته مستلزمة لما من شأنه ترجيح أحد المثلين لذاته بلا مرجح فلأن تكون ذاته تقتضي ترجيح أحد المثلين بلا مرجح أولى
وهذا للمعتزلة والفلاسفة ألزم فإن المعتزلة يقولون إن القادر المختار يرجح بلا مرجح والفلاسفة يقولون : مجرد الذات اقتضت ترجيح الممكنات بلا مرجح آخر فقد اتفقوا كلهم على أن الذات توجب الترجيح لأحد المتماثلين بلا مرجح فكيف يمكنهم مع هذا ان يمنعوا كونها تستلزم تخصيص أحد الجانبين بلا مخصص
ولو قال لهم منازعهم الموجودان القائمان بأنفسهما لا بد أن يكون بينهما حد وانفصال فعلمنا التناهي من جانب هذا الموجود واما الجانب الآخر فلا نعلم امتناعه إلا إذا علمنا امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وهذا غير معلوم لنا أو هو باطل لكان قوله أقوى من قولهم
والمقصود هنا أن غايتهم في إبطال قول هؤلاء أن ينتهوا إلى أبطال بعد لا يتناهى أو إلى عدم الأولوية أو وجوب المخالطة
وهذه المقدمات يمكن منازعوهم أن ينازعوهم فيها أعظم مما يمكنهم هم منازعة أولئك في مقدمات حجتهم ويرد عليهم من المناقضات والمعارضات أعظم مما يرد على أولئك وهذا مبسوط في موضعه
فهذه الحجة وأمثالها من حجج النفاة يمكن إبطالها من وجوه كثيرة بعضها جهة المعارضة بأقوال أهل باطل آخر وبيان انه ليس أولئك بأبطل من قول هؤلاء فإذا لم يمكن الاستدلال على نفي أحد القولين إلا بالمقدمة التي بها نفي القول الآخر لم يكن نفي أحدهما أولى من نفي الآخر بل إن كانت المقدمة صحيحة لزم نفيهما جميعا وغن كانت باطلة لم تدل على نفي واحد منهما فكيف إذا كانت المقدمة التي استدل بها المستدل على نفي قول منازعه قد قال بها وبما هو أبلغ منها ؟ وبعض ما تبطل به هذه الحجة يكون من جهة أهل الحق الذين لم يقولوا باطلا
بطلان حجته من وجوه
ونحن نذكر ما يحضر من إبطالها بالكلام على مقدماتها والمواضع التي ينازعه فيها الناس
الوجه الأول
قوله لو كان جسما لكان له بعد وامتداد فإن هذا مما نازعه فيه طائفة ممن يقول هو جسم وهو مع ذلك واحد لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه فلا يشار إلى شيء منه دون شيء فإن هذا معروف عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم و الرازي قد ذكر ذلك عن بعضهم لكنه ادعى أن هذا القول لا يعقل وأن فساده معلوم بالضرورة
وكذلك قول من قال إنه فوق العرش وإنه مع ذلك ليس بجسم كما يذكر ذلك عن الأشعري وكثير من أهل الكلام والحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم وهو قول القاضي أبي يعلي وأبي الحسن الزاغوني وقول أبي الوفاء بن عقيل في كثير من كلامه وهو قول أبي العباس القلانسي وقبله أبو محمد بن كلاب وطوائف غير هؤلاء
فإذا قال القائل : كونه جسما مع كون غير منقسم أو كونه فوق العرش مع كونه غير جسم مما يعلم فساده بضرورة العقل
فيقال : ليس العلم بفساد هذا بأظهر من العلم بفساد قول من قال إنه موجود قائم بنفسه فاعل لجميع العالم وأنه مع ذلك لا داخل في العالم ولا خارج عنه ولا حال فيه ولا مباين له لا سيما إذا قيل مع ذلك إنه حي عالم قادر وقيل مع ذلك ليس له حياة ولا علم ولا قدرة أو قيل : هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وأن العلم والحب نفس العالم المحب ونفس الحب هو نفس العلم أو قيل مع ذلك إنه حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع يسمع بصير يبصر متكلم بكلام وقيل مع ذلك إنه لا داخل في مخلوقاته ولا خارج عنها ولا حال فيها ولا مباين لها وأن إرادته لهذا المراد ونفس رؤيته لهذا هو نفس رؤيته لهذا ونفس علمه بهذا هو نفس علمه بهذا وأن الكلام معنى واحد بالعين فمعنى آية الكرسي وآية الدين وسائر القرآن والتوراة والإنجيل وسائر ما تكلم به هو شيء واحد فإن كانت هذه الأقوال مما يمكن صحتها في العقل فصحة قول من قال هو فوق العرش وليس بجسم او هو جسم وليس بمنقسم أقرب إلى العقل
وإن قيل بل هذا القول باطل في العقل فيقال تلك أبطل في العقل ومتى بطلت تلك صح هذا
وإذا قيل النافي لإمكان تلك الأمور هو الوهم لا العقل وإلا فالعقل بجوز وجود ما ذكر قيل : والنافي لإمكان هذا هو الوهم وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر وإذا قيل البرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم قيل والبرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم هنا
ومن تأمل هذا وجده من اصح المعارضة وأبين التناقض في كلام هؤلاء النفاة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
الوجه الثاني
قوله وإذا كان له بعد وامتداد فإما أن يكون غير متناه وإما أن يكون متناهيا
فيقال من الناس من يقول إنه غير متناه وهؤلاء منهم من يقول جسم ومنهم من يقول غير جسم وقد حكى القولين أبو الحسن الأشعري في المقالات وحكاهما غيره أيضا ومن الناس من قال هو متناه من بعض الجهات وهذا مذكور عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وقد قاله بعض المنتسبين إلى الطوائف الأربعة من الفقهاء كما ذكره القاضي أبو يعلى في عيون المسائل فإن هذه الأقوال يوجد عامتها في بعض أتباع الأئمة منها ما يوجد في في بعض أصحاب أبي حنيفة ومنها ما يوجد في بعض أصحاب مالك ومنها ما يوجد في بعض أصحاب الشافعي ومنها مايو جد في بعض أصحاب أحمد ومنها ما يوجد في بعض أصحاب اثنين أو ثلاثة أو الأربعة
قوله إن كان غير متناه من جميع الجهات فهو محال لوجوه الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى
فيقال له أنت قد أبطلت أدلة نفاة ذلك ولم تذكر إلا دليلا هو أضعف من أدلة غيرك فبقيت الدعوى بلا دليل
قوله الثاني انه يلزم منه نفي الأجسام أو تداخلها ومداخلة القاذورات
فيقال هؤلاء يقولون لا يلزم منه شيء من ذلك بل هو غير متناه مع كونه جسما أو مع كونه غير جسم ويقولون لا يلزم نفي سائر الأجسام ولا مداخلتها فإذا قيل لهم هذا ينفيه العقل قالوا نفي العقل لهذا كنفيه وجوده قائما بنفسه فاعلا للعالم وهو مع ذلك لا حال في العالم ولا بائن من العالم بل نفي العقل لهذا أعظم من نفيه لهذا وما قيل من الاعتذار عن ذلك بالفرق بين الوهم والعقل يمكن في هذا بطريق الأولى كما بسط في موضعه
فإن هؤلاء ادعوا أن قول القائل كل موجودين غما أن يكونا متحايثين أو متباينين أو كل موجودين قائمين بأنفسهما فإما أن يكونا متبايني أو متلاصقين ن أو كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون مشارا إليه وان قول القائل بإثبات موجود لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا حال فيه ولا مباين له ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يبعد من شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من الصفات السالبة النافية هو محال في العقل
قالوا إن هذا الموجب لذلك التقسيم والمحيل لوجود هذا إنما هو الوهم دون العقل وأن الوهم يحكم غير المحسوس بحكم المحسوس وهذا باطل
فقيل لهم فأنتم لم تثبتوا بعد وجود مالا يمكن الإحساس به وحكم الفطرة أولى بديهي والوهم عندكم إنما يدرك الأشياء المعينة كإدراك العداوة والصداقة كإدراك الشاة عدواة الذئب وصداقة اكبش وهذه أحكام كلية والكليات من حكم العقل لا من حكم الوهم
فهذا وأمثاله مما أبطل به ما ذكروه من الاعتذار بأن هذا حكم الوهم لكن المقصود هنا أن ذلك العذر إن كان صحيحا فلمنازعيهم أن يعتذروا به ههنا فيقولون ما ذكرتموه من كونه لو كان فوق العرش أو لو كان جسما لكان ممتدا متناهيا أو غير متناه هو من حكم الوهم وهو فرع كونه قابلا لثبوت الامتداد ونفيه أو لثبوت النهاية ونفيها ونحن نقول هو فوق العرش أو هو فوق العرش وهو مع ذلك لا يقبل أن يكون ممتدا ولا غير ممتد ولا أن يكون متناهيا ولا غير متناه كما قلتم أنتم إنه موجود قائم بنفسه مبدع للعالم مسمى بالأسماء الحسنى وأنه مع ذلك لا يقبل أن يقال هو متناه ولا غير متناه بل ذاته لا تقبل إثبات ذلك ولا نفيه ولا تقبل أن يقال هو حال في العالم ولا خارج عنه فلا توصف ذاته بالدخول ولا بالخروج فإن ذاته لا تقبل الاتصاف لا بإثبات ذلك ولا بنفيه
فهذا ونحوه قولكم فغن كان هذا القول صحيحا أمكن من أثبت العلو دون التجسيم أو العلو والتجسيم ونفي ما يذكر من لوازمه أن يقول فيه ما تقولونه أنتم حيث أثبتم موجودا قائما بنفسه مبدعا للعالم ونفيتم ما يذكر من لوازمه فإن لزوم تلك اللوازم لما أثبتوه أظهر في صريح العقل من لزوم هذه اللوازم لما أثبته هؤلاء فإن أمكنكم نفي اللزوم وادعيتم أن القول باللزوم وإحالة ما أثبتموه من حكم الوهم دون العقل أمكن خصومكم أن يقولوا مثل ذلك ما قلتموه بطريق الأولي
وهذا يفهمه من تصور حقيقة قول الطائفتين وأدلتهم العقلية فإنه إذا قابل بين قول هؤلاء وقول هؤلاء تبين له صحة الموازنة وان الإثبات أقرب إلى صريح المعقول وأبعد عن التناقض كما أنه أقرب إلى صحيح المنقول
الوجه الثالث
وكذلك يقال في الوجه الثالث فإن لإثبات النهاية من أحد الطرفين دون الآخر أبعد عن الإحالة من إثبات موجود قائم لا يمكن أن يقال فيه هو متناه ولا أن يقال غير متناه
وكذلك إثبات موجود لا نهاية له من الطرفين أقرب إلى المعقول من كونه لا يقبل إثبات النهاية ولا نفيها
قوله فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء فيكون الرب معلولا لغيره
يقال ما من أحد من النفاة إلا وقد قال نظير هذا فالكلابية والأشعرية يقولون الذات اقتضت صفات معدودة دون غيرها من الصفات فإنهم وغن تنازعوا في كون صفاته كلها معلومة للبشر فإنهم لم يتنازعوا في إثبات صفات لا تناهي بل لا بد إن تكون صفاته متناهية فجعلوا الذات مقتضية لعدد معين دون غيره من الأعداد ولصفات معينة دون غيرها من الصفات بل واقتضت الأمر بشيء دون غيره من المأمورات وبإرادة شيء دون غيره من المرادات مع أن نسبتها إلى جميع المرادات والمأمورات نسبة واحدة
وأصلهم أنه يجوز تخصيص أحد المثلين دون الآخر بغير مخصص بل بمحض الإرادة ن وأن الذات اقتضت تلك الإرادة على ذلك الوجه دون غيرها لا لأمر آخر
فإذا قيل الذات اقتضت تناهيا من جانب دون جانب أو قدرا مخصوصا لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون إن هذه الإرادة اقتضت أن تكون الحوادث متناهية من أحد الطرفين دون الآخر فالحوادث عندهم لا تناهي من جانب المستقبل مع تناهيها من جانب الماضي ومع إمكان تقدم الحوادث على مبدأ حدوثها وتأخرها عن ذلك المبدأ ولكن الإرادة هي المخصصة لأحد المثلين والذات هي المخصصة لتلك الإرادة المعينة دون غيرها من الإرادات وهي المخصصة للكلام المعين الذي هو أمر بشيء معين دون غيره من الكلام والأوامر
والمعتزلة يقولون إن تلك الذات هي المخصصة لأحد المقدورين دون أمثاله من المقدورات وكذلك هي المخصصة لكونها آمرة ومتكلمة وفاعلة بالأمر المعين والكلام المعين والفعل المعين دون غيره من الأوامر والكلام والفعل وهي المخصصة للإرادة أو لكونه مريدا دون غير تلك الإرادة أو غير تلك المريدية
والفلاسفة يقولون إن الذات أو الوجود الذي لا اختصاص له بحقيقة من الحقائق ولا صفة من الصفات هو المخصص للعالم كله بما هو عليه من الحقائق والصفات والمقادير وأنه علة تامة موجبة للمعلول مع أن الحوادث من المعلولات ليست أعيانها أزلية ولم يكن فيه ما يوجب تأخر شيء من المعلولات ولا قام به صفة ولا معنى ولا فعل يوجب التخصيص لا بحقيقة دون حقيقة ولا بصفة دون صفة ولا لحادث دون حادث ولا لتأخير ما يتأخر
والعالم يشهد فيه من الحقائق والحوادث الحادثة ما يعلم معه بالضرورة أنه لا بد له من مخصص وهم لا يثبتون إلا وجودا مطلقا ليس فيه اختصاص وجودي بوجه من الوجوه فضلا عن إن يكون مقتضبا لتخصيص حقيقة دون حقيقة ن وصفة دون صفة والحدوث من غير سبب يقتضي الحدوث وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود أن هؤلاء القائلين بعدم التناهي أو بالتناهي من جانب دون جانب مع كون قولهم فاسدا فنفاة كون الرب على العرش الذين يحتجون على نفي ذلك بنفي الجسم وعلى نفي الجسم بهذه الحجج يلزمهم من التناقض أعظم مما يلزم المثبتين والمقدمات التي يحتجون بها هي أنفسها وما هو أقوى منها من جنسها تدل على فساد أقوالهم بطريق الأولى فإن كانت صحيحة دلت على فساد قولهم ومتى فسد قولهم صح قول المثبتة لامتناع رفع النقيضين وإن كانت باطلة لم تدل على فساد قول المثبتة فدل ذلك على أن هذه المقدمات مستلزمة فساد قول النفاة دون قول أهل الإثبات
وهذه الطريق هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة لرؤية والنفاة فرق العرش ونحوهم من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة هي نقيض قولهم وهكذا أيضا عامة ما يحتجون به من الأدلة العقلية إذا وصلت معهم فيها إلى آخر كلامهم وما يجيبون به معارضهم وجدت كلامهم في ذلك يدل على نقيض قولهم وأن ما يذكرونه من المناظرات العقلية هو على قول أهل الإثبات أدل منه على قولهم
الوجه الرابع
قوله إذا كان متناهيا من جميع الجهات فاختصاصه بالشكل والمقدار إن كان لذاته لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة
فيقال له لا نسلم اشتراك جميع الأجسام في ذلك ولا نسلم أن االأجسام متحدة في الطبيعة وقد عرف أن النزاع في هذه المسألة من النظار من أشهر الأمور وهذا المصنف نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج القائلين بالاتحاد في الطبيعة كان قد أفسد حجته بما ذكره هو من الأدلة العقلية على فسادها فضلا عما يذكره غيره من العقلاء وقد بسط هذا في موضعه وإنما المقصود هنا التنبيه على أن كل مقدمة في هذه الحجة يمكن منعها ويكون قول المانع فيها أقوى من قول المحتج
تابع كلام الأمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
قال أنه لو كان جسما لكان مركبا ممن الأجزاء وهو محال لوجهين الأول أنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه وما افتقر إلى غيره كان ممكنا لا واجبا لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول هذا باطل من وجوه
بطلان هذا من وجوه
الأول
أن الذين قالوا إنه جسم لا يقول أكثرهم إنه مركب من الأجزاء بل ولا يقولون إن كل جسم مركب من الأجزاء فالدليل على امتناع ما هو مركب من الأجزاء فقط لا يكون حجة على من قال إنه ليس بمركب وإن كان بناء على أن كل جسم مركب فهذا ممنوع
وإن قيل لا نعني بالأجزاء أجزاء كانت موجودة بدونه وإنما نعني بها أنه لا بد أن يتميز منه شيء عن شيء
قيل فحينئذ لا يلزم أن يكون ذلك الذي يمكن أن يصير جزءا غير مفتقر إليه إذ هو لا بد منه في وجود الجملة وليس موجودا دونها فالجملة لا تستغني عنه وهو أيضا لا يستغني عنها فتكون الحجة باطلة
الثاني
أن يقال ما تعني بقولك إنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء
أتعني انه يكون مفعولا للجزء أو معلولا لعلة فاعلة أو تعني انه يكون وجوده مشروطا بوجود الجزء بحيث لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر فإن ادعيت الأول كان التلازم باطلا فإنه من المعلوم أن الأجسام التي خلقها الله تعالى ليس شيء من أجزائها فاعلا لها ولا علة فاعلة لها فإذا لم يكن شيء من المركبات المخلوقة جزؤه فاعلا له ولا علة فاعلة له كان دعوى أن ذلك قضية كلية من أفسد الكلام فإنه لا يعلم ثبوتها في شيء من الجزئيات المشهودة فضلا عن أن تكون كلية
وإن قيل نعني بالافتقار أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا
قيل ولم قلتم إن مثل هذا ممتنع على الواجب بنفسه فإن الممتنع عليه أن يكون فاعلا أو علة فاعلة إذ قيل بإمكان علة فاعلة لا تفعل بالاختيار فأما كونه لا يكون وجوده مستلزما للوازم لا يكون موجودا إلا بها فالواجب بنفسه لا ينافي ذلك سواء سميت صفات أو أجزاء أو ما سميت
الثالث
ويظهر هذا بالوجه الثالث وهو أن النافي لمثل هذا التلازم إن كان متفلسفا فهو يقول إن ذاته مستلزمة للممكنات المنفصلة عنه فكيف يمتنع أن تكون مستلزمة لصفاته اللازمة له أو لما هو داخل في مسمى اسمه وهو أيضا يسلم أن ذاته تستلزم كونه واجبا وموجودا
وعاقلا ومعقولا وعقلا ولذيذا وملتذا به ن ومحبا لذاته ومحبوبا لها وأمثال ذلك من المعاني المتعددة
فإذا قيل هذه كلها شيء واحد
قيل : هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة لكونه تضمن أن العلم هو الحب وأن العالم المحب هو العلم والحب فإن قدر إمكانه فقول القائل إن الجسم ليس بمركب من الهيولي والصورة ولا من الجواهر المنفردة بل هو واحد بسيط أقرب إلى العقل من دعوى اتحاد هذه الحقائق
وإن كان من المعتزلة وامثالهم فهم يسلمون ذاته تستلزم أنه حي عالم قادر وإن كان من الصفاتية فهم يسلمون استلزام ذاته للعلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات فما من طائفة من الطوائف إلا وهي تضطر إلى أن تجعل ذاته مستلزمة للوازم وحينئذ فنفي هذا التلازم لا سبيل لأحد إليه سواء سمي افتقارا أو يسم وسواء قيل إن هذا يقتضي التركيب أو لم يقل
الرابع
أن يقال قول القائل إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء أتعنى بالمركب تلك الأجزاء أو تعني به اجتماعها آو الأمرين أو شيئا رابعا فإن عنيت الأول كان المعنى أن تلك الأجزاء مفتقرة إلى تلك الأجزاء وكان حاصله أن الشيء المركب مفتقر إلى المركب وان الشيء مفتقر إلى نفسه وان الواجب بنفسه مفتقر إلى الواجب بنفسه
ومعلوم أن الواجب بنفسه لا يكون مستغنيا عن نفسه بل وجوبه بنفسه يستلزم أن نفسه لا تستغني عن نفسه فما ذكرتموه من الافتقار هو تحقيق لكونه واجبا بنفسه لا مانع لكونه واجبا بنفسه
وإن قيل إن المركب هو الاجتماع الذي هو اجتماع الأجزاء وتكبها
قيل فهذا الاجتماع هو صفة وعرض للأجزاء لا يقول عاقل إنه واجب بنفسه دون الأجزاء بل إنما يقال هو لازم للأجزاء والواجب لنفسه هو الذات القائمة بنفسها وهي الأجزاء لا مجرد الصفة التي هي نسبة بين الأجزاء وإذا لم يكن هذا هو نفس الذات الواجبة بنفسها وإنما هو صفة لها فالقول فيه كالقول في غيره مما سميتموه أنتم أجزاء وغايته أن تكون بعض الأجزاء مفتقرة إلى سائرها وليس هذا هو افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه
وإن قيل إن المركب هو المجموع أي الأجزاء واجتماعها فهذا من جنس أن يقال المركب هو الأجزاء لكن على هذا التقدير صار الاجتماع جزءا من الأجزاء
وحينئذ فإذا قيل هو مفتقر إلى الأجزاء كان حقيقته انه مفتقر إلى نفسه أي لا يستغني عن نفسه وهذا حقيقة وجوبه بنفسه لا مناف لوجوبه بنفسه وإن عنيت به شيئا رابع فلا يعقل هنا شيء رابع فلا بد من تصويره
ثم هذا الكلام عليه وإن قال بل المجموع يقتضي افتقاره إلى كل جزء من الأجزاء
قيل افتقار المجموع إلى ذلك الجزء كافتقار إلى سائر الأجزاء وذلك الجزء وسائر الأجزاء هي المجموع فعاد الأمر إلى انه مفتقر إلى نفسه
فإن قيل فأحد الجزأين مفتقر إلى الآخر أو قيل الجملة مفتقرة إلى كل جزأ إلى آخره
قيل أولا ليس هذا هو حجتكم فإنما ادعيتم افتقار إلى الآخر أن أحدهما فاعل للآخر آو علة فاعلة له فهذا باطل بالضرورة فإن المركبات الممكنة ليس أحد أجزائها علة فاعلة للآخر ولا فاعلا له باختياره فلو قدر أن في المركبات ما يكون جزؤه فاعلا لجزئه لم يكن كل مركب كذلك فلا تكون القضية كلية فلا يجب أن يكون مورد النزاع داخلا فيما جزؤه مفتقر إلى جزئه فكيف إذا لم يكن في بعض أجزائه علة فاعلة للجزء الآخر ؟
وإن عنيت أن أحد الجزأين لا يوجد إلا مع الجزء الآخر فهذا غنما فيه تلازمهما وكون أحدهما مشروطا بالآخر وذلك دور معي اقتراني وهو ممكن صحيح لا بد منه في كل متلازمين وهذا لا ينافي كون المجموع واجبا بالمجموع
وإذا قيل في كل من الأجزاء هل هو واجب بنفسه أم لا ؟
قيل إن أردت هل هو مفعول معلول لعلة فاعلة أم لا ؟ فليس في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها ما يوجد بدون وجود الآخر فليس فيها ما هو مستقل فيها ما هو مستقل دون الآخر ولا هو واجب بنفسه بهذا الاعتبار والدليل دل على إثبات واجب بنفسه غنى عن الفاعل والعلة الفاعلة لا على أنه لا يكون شيء غني عن الفاعل مستلزما للوازم
فلفظ الواجب بنفسه فيه إجمال واشتباه دخل بسببه غلط كثير فما قام عليه البرهان من إثبات الواجب بنفسه ليس هو ما فرضه هؤلاء النفاة فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده والواجب هو الذي يكون بنفسه لا بموجد يوجده فكونه بنفسه مستلزما للوازم لا ينافي أن يكون ذاتا متصفة بصفات الكمال وكل من الذات والصفات ملازم للأخر وكل من الصفات ملازمة للأخرى وكل ما يسمى جزءا فهو ملازم للآخر
وإذا قيل هذا فيه تعدد الواجب
قيل إن أردتم تعدد الإله الموجود بنفسه الخالق للممكنات فليس كذلك وغن أردتم تعدد معان وصفات له أو تعدد ما سميتموه أجزاء له فلم قلتم إنه كان كل من هذه واجبا بنفسه ن أي هو موجود بنفسه أي هو موجود بنفسه لا بموجد يوجده مع أن وجوده ملزوم لوجود الآخر يكون ممتنعا ولم قلتم إن ثبوت معنيين أو شيئين واجبين متلازمين يكون ممتنعا ؟
وهذا كما تقوله المعتزلة إنكم إذا أثبتم الصفات قلتم بتعدد القديم
فيقال لهم إن قلتم إن ذلك بتضمن تعدد آلهة قديمة خالقة للمخلوقات فهذا التلازم باطل
وإن قلتم يستلزم تعدد صفات قديمة للإلهة القديم
فلم قلتم إن هذا محال ؟
فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة إذا فسرت معانيها وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات
الخامس
أن يقال قولك إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه ليس فيه ما يدل على افتقار المركب إلى أجزائه فإن كونه يستحيل وجوده دون الأجزاء يقتضي أنه لا يوجد بدونها بل لا يوجد إلا وهي موجودة
وكون الشيء لا يوجد إلا مع الشيء لا يقتضي افتقاره إليه بل إنما يكون مفتقرا إليه إذا كان لا يوجد إلا به ألا ترى أن المتضايفين لا يوجد أحدهما دون الآخر ولا يقال إن أحدهما مفتقر إلى الآخر كالنبوة والأبوة بل كلاهما معلول علة منفصلة فمعلولا العلة لا يوجد أحدهما دون الآخر وهما جميعا مفتقران إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإذا قدر انه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإذا قدر أنه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى الآخر ولا إلى علة
السادس
أن يقال قولك وكل منهما غير مفتقر إليه خطأ ظاهر فإنه ليس من ضرورة كون المركب متوقفا على كل من أجزائه أن لا يكون شيء من تلك الجزاء متوقفا عليه وذلك أن المركب إن أريد به نفس الجزاء المجتمعة كان المعنى أن المجتمع متوقف على أو أن كل جزء متوقف على سائر الأجزاء أو على جزء آخر أو المجتمع على نفسه وأي شيء فرض من ذلك لم يلزم أن يكون أحد الجزأين هو المفتقر دون الآخر وإن قدر أن المركب هو الاجتماع أو الاجتماع مع الأجزاء فإنه إذا قدر أنها متلازمة لم يكن أحد الأجزاء واجبا بنفسه بمعنى إمكان وجوده دون سائر الأجزاء لا الاجتماع ولا غيره بل لا يوجد شيء منها إلا بالآخر فلا يكون شيء من الأجزاء غير مفتقر إلى المركب بل كل منها مفتقر إليه
وهذا لا يقاس بالواحد مع العشرة الذي يمكن وجوده دون وجود العشر فإن أجزاء العشرة ليست متلازمة وغنما الكلام في أمور متلازمة لا يمكن وجود بعضها دون بعض كالصفات اللازمة للرب تعالى
وما سماه النفاة أجزاء فإنه لا يمكن وجود صفة من تلك الصفات دون الذات بل ولا دون الصفة الأخرى وكذلك ما سموه جزءا لا يمكن وجوده دون الجميع ولا دون جزءا آخر فامتنع أن يقال إن كل جزء من الأجزاء غير مفتقر إلى المجموع المركب مع أن المجموع المركب مفتقر إليه بل إذا سمي هذا التلازم افتقارا فافتقار الصفة وما سموه جزءا إلى المجموع اعظم من افتقار الذات الواجبة بنفسها أو ما سموه المجموع المركب الواجب بنفسه إلى الصفة أو الجزء فإن المجموع هو الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم أصلا وكل جزء من أجزائه فلا يتصور وجوده بدون وجود الآخر وهذا كما يقولون إن الحيوانية والناطقية جزء من الإنسانية ومع هذا يمتنع وجود الجزء دون هذه الماهية المركبة وكذلك يقولون إن الجسم مركب من المادة والصورة ويمتنع وجود أحدهما بدون الجسم بل والجوهر الفرد عند عامة القائلين به يمتنع وجوده بدون وجود الجسم
السابع
أن يقال قولك إن المركب الواجب بنفسه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه كلام باطل وهو بالعكس أولى
وذلك أن ما قدر انه جزء إذا كان مفتقر إليه لزم أن يكون واجبا بنفسه وإذا كان واجبا بنفسه فإما أن يكون مستقلا لا يتوقف على وجود الجزء الآخر ولا الجملة أو لا بد له من ذلك فإن كان مستقلا بنفسه لا يتوقف على جزء آخر ولا على المجموع لزم تعدد الأمور الواجبة بنفسها المستقلة التي يستغني بعضها عن بعض ولا يتوقف واحد منها على الآخر ولا على الجملة
ومعلوم أنه إذ كان هذا جائزا لزم أن يكون هناك مجموع كل منه واجب بنفسه والمجموع واجب بتلك الواجبات فإذا قدر تعدد الواجب بنفسه كان هذا مبطلا لأصل هذا الكلام فضلا عن فروعه
ومع تقدير تعدده يمتنع عدم تعدده فيكون الدليل الذي استدل به على نفي التركيب مستلزما لثبوت التركيب فيكون دليله يدل على نقيض مطلوبه وهذا أبلغ ما يكون في بطلان قوله
وإن قدر أن للمجموع غير تلك الأفراد فإن ما لزم الواجب كان واجبا ويبقى حينئذ الكلام في أن المجموع إن كان زائدا على العدد غنما وجوبه بالعدد نزاع لا فائدة فيه فإنه إذا قدر عشرة كل منهم واجب بنفسه لزم أن تكون العشرة واجبة قطعا وإذا كان كل من العشرة لا يقبل العدم لنفسه فالعشرة لا تقبل العدم بطريق الأولى والأحرى
وانضمام الواجب بنفسه إلى الواجب بنفسه إذا قدر ذلك لا يوجب ضعفا لأحدهما بل نفس ذلك الاجتماع هو من لوازم وجودهما بطريق الأولى والأحرى وإذا قدر أن اتصال بعضها ببعض من لوازم وجودها الواجب بنفسه لم يكن ممتنعا فإن الواجب بنفسه على هذا التقدير لا يمتنع أن يكون له لوازم وملزومات واجبة
ومن العجب أن هؤلاء القوم كهذا وأمثاله من الخائضين في واجب الوجود على طريقة ابن سينا الذين جعلوا التركيب عمدتهم في نفي ما ينفونه يوردون في طريق إثبات واجب الوجود أسولة تفسد ما ذكروه في انتفاء التركيب بالضرورة وهي لا تفسد امتناع التسلسل وهو مع ذلك يوردونها في طريق إثباته إشكالا على إبطال القول بالتسلسل الذي جعلوه مقدمة من مقدمات إثباته حتى يبقوا دائما في نصرة التعطيل بالباطل وهم إذا نصروا الإثبات ببعض ما نصروا به التعطيل كان فيه كفاية وبيان لفساد التعطيل
وبيان ذلك أنهم لما أثبتوا واجب الوجود جعلوا إثباته موقوفا على إبطال التسلسل لما قالوا إن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل ممكن مرجح ممكن فتتسلسل العلل والمعلولات الممكنة أو ينتهي الأمر إلى واجب لنفسه ثم قالوا لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزا كما قد تكلم على هذا في غير هذا الموضع
ومن أعظم أسولتهم قولهم لم لا يكون المجموع واجبا بأجزائه المتسلسلة وكل منها واجب بالآخر وهذا السؤال ذكره الآمدي وذكر انه لا يستطيع أن يجيب عنه ومضمونه وجوب وجود أمور ممكنة بنفسها ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه لكن كل منها معلول للآخر والمجموع معلول بالأجزاء
ومن المعلوم أنا إذا فرضنا مجموعا واجبا بأجزائه الواجبة التي لا تقبل العدم كان أولى في العقل من مجموع يجب بأجزاء كل منها ممكن لا يوجد بنفسه فإن المحتاج إلى الممكنات أولى بالإمكان أما الذي يكون وجوده لازما للواجبات فلا يمكن عدمه
والعقل الصريح الذي لم بكذب قط يعلم أن المركب المجموع من أجزاء كل منها ممكن لا وجود له بنفسه هو أيضا ممكن لا وجود له وأما المركب من أجزاء كل منها واجب بنفسه فإنه لا يمتنع كونه واجبا بنفسه أي بتلك الأجزاء التي منها واجب
وإذا قيل الإجتماع نفسه مفتقر إلى الأجزاء التي كل منها واجب بنفسه كان ذلك نزاعا لفظيا
والمقصود أن العقل يصدق بإمكان هذا ولا يصدق بإمكان أجزاء كل منها ممكن ن والمجموع واجب بها وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية فقالوا إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة فإذا تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجبا لامتناع المركب الذي جعلوه مانعا من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات ولا يوردون على أنفسهم ما أوردوه في إثبات واجب الوجود وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدلة العقل مع تصديق ما جاءت به الرسل وما في ذلك من إثبات صفات الكمال لله تعالى بل وإثبات حقيقته التي لا يكون موجودا إلا بها فكان بمكنهم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب أو المركب الواجب أو الجملة الواجبة واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم ؟
وكان هذا خيرا من أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه هو واجبا بنفسه أو واجبا بأجزائه ؟
وهذا الآمدي مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور وأعرفه بالكلام والفلسفة اضطرب وعجز عن الجواب عن الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود هو دائما يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها على نفي العلو وغيره من الأمور الثابتة بالشرع والعقل ويقول إن ذلك يستلزم التجسيم وأن المخالفين في الجسم جهال
ولو أعطى النظر حقه لعلم أن الجهل المركب فضلا عن البسيط أجدر بمن سلك مثل تلك الطريق فإن من شك في أوضح الأمرين وأبينهما في العقل وفي أمر لم يشك أحد من الأولين والآخرين فيه كان أولى بالجهل ممن قال بما قات به الأنبياء وارسل وأتباعهم وسائر عقلاء بني آدم من الأولين والآخرين وعلم ثبوته بالبراهين اليقينية
وذلك أنه لم يجوز أحد من بني آدم وجود فاعل للعالم ولذلك الفاعل فاعلة إلى ما لا نهاية له من غير أن يكون هناك فاعل موجود بنفسه فمن شك في جواز هذا أو عجز عن جواب شبهة مجوزة كان جهلة بينا وكان أجهل من افحش الناس قولا بالباطل المحض من التشبيه والتجسيم حتى لو فرض القول الذي يحكى عن غالية المنتقضة لله من اليهود وغيرهم مثل الذين يصفونه بالبكاء والحزن وعض اليد حتى جرى الدم ورمد العين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فإذا قدر واجب بنفسه موصوف بهذه النقائص لم يكن هذا أبعد في العقل من وجود فاعل ليس موجودا بنفسه له فاعل ليس موجودا بنفسه إلى ما لا يتناهى فإن هذا وصف لجميع الفاعلين بالعدم الذي هو غاية النقص فإن غاية النقص أنه يرجع إلى أمور عدمية فكيف عدم ما يقدر فاعلا للعالم ؟
فتبين أن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المريل وأن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق التي توافق ما جاء به الرسول لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول لسلموا عن التناقض وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة
كلام الأمدي في مسألة هل وجوده تعالى زائد على ذاته أم لا ؟ والتعليق عليه
ومن أعجب الأشياء أن هذا الآمدي لما تكلم على مسألة هل وجوده زائد على ذاته أم لا ذكر حجة من قال لا يزيد وجوده على ذاته فقال احتجوا بأنه لو كان زائدا على ذاته لم يخل إما أن يكون واجبا أو ممكنا لا جائز أن يكون واجبا لأنه مفتقر إلى الذات ضرورة كونه صفة لها ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا فإذا وجوده لو كان زائدا على ذاته لم كان واجبا فلم يبق إلا أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فلا بد له من مؤثر والمؤثر فيه إما الذات أو خارج عنها والأول ممتنع لأنه يستلزم كون الذات قابلة وفاعلة ولأن المؤثر في الوجود لا بد أن يكون موجودا فتأثيرها في وجودها يفتقر إلى وجودها فالوجود مفتقر إلى نفسه وهو محال وإن كان المؤثر غيرها كان الوجود الواجب مستفادا له من غيره فلا يكون الوجود واجبا بنفسه
ثم قال وهذه الحجة ضعيفة إذ لقائل أن يقول ما لا مانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه قولكم لأنه مفتقر إلى الماهية والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا لنفسه قلنا لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره بل الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقر إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقوله الفيلسوف في العقل الفعال بانه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة
قال وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ممكنا ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر بل الممكن هو المفتقر إلى الغير والافتقار إلى الغير أعم من الافتقار إلى المؤثر وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة
فيقال ففي هذا الكلام جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير وإن كونه ممكنا بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية
وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا حيث قال إن المجموع مفتقر إلى كل من أجزائه والمفتقر إلى الغير لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن
فيقال له : لا نسلم أن المفتقر إلى الغير على الإطلاق لا يكون واجبا بنفسه بل المفتقر إلى المؤثر لا يكون واجبا بنفسه وافتقار المجموع إلى كل من أجزائه ليس افتقارا إلى مؤثر بل إلى الغير كافتقار الوجود إلى الماهية إذا فرض تعددها
ويقال : قولك إن المجموع يكون ممكنا اتعني بالممكن ما يفتقر إلى مؤثر أم ما يفتقر إلى الغير ؟
فإن قلت الأول كان باطلا وإن قلت الثاني فلم إن الواجب بنفسه الذي لا يفتقر إلى فاعل لا يكون ممكنا بمعنى انه يفتقر إلى غير لا إلى فاعل ؟
فهذا الكلام الذي ذكره هو بعينه يجيب به نفسه عما ذكره هنا بطريق الأولى والاحرى فإن توقف المجموع الواجب باجزائه على كل من أجزائه لا ينفي وجوبه بنفسه التي هي المجموع مع الأجزاء اما توقف الوجود على الماهية المغايرة له فإنه يقتضي توقف الوجود الواجب على ما ليس داخلا فيه
ومعلوم ان افتقار الشيء إلى جزئه ليس هو كافتقاره إلى ما ليس جزاه بل الأول لا ينفي كمال وجوبه إذ كان افتقاره إلى جزئه ليس أعظم من افتقاره إلى نفسه والواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه فلا يستغني عما هو داخل في مسمى نفسه أما إذا قدر وجود واجب وماهية مغايرة له كان الواجب مفتقرا إلى ما ليس داخلا في مسمى اسمه فمن جوز ذاك كيف يمنع هذا
ولهذا كان قول مثبتة الصفات خيرا من قول أبي هاشم وأمثاله من المعتزلة وأتباعهم الذين قالوا : إن وجود كل موجود في الخارج مغاير لذاته الموجود في الخارج وأن وجود واجب الوجود زائدا على ماهيته وإن كان قد وافقه على ذلك طائفة من أهل الإثبات في إثناء كلامهم حتى من أصحاب الأئمة الأربعة احمد وغيره كأبن الزاغواني وهو احد قولي الرازي بل هو الذي رجحه في أكثر كتبه وكذلك أبو حامد
فإبطال مثل هذا التركيب أولى من إبطال ذاك وأدنى الأحوال ان يكون مثله فإن من قال : إن الوجود زائد على الماهية لزمه ان يجعل الماهية قابلة للوجود والوجود صفة لها فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره والصفة مفتقرة إلى محلها وهذا الافتقار أقرب إلى أن تكون الصفة ممكنة من افتقاره إلى صفته اللازمة له وإلى ما يقدر أنه جزؤه الذي لا يوجد إلا في ضمن نفسه ؟ وأما افتقار الصفة إلى الموصوف فإدل على إمكان الصفة بنفسها فإذا كان الوجود الواجب لا يمتنع ان يكون صفة لماهية فكيف يمتنع أن يكون مجموعا ؟
وغاية ما يقال : إن الاجماع صفة للأجزاء المجتمعة الموجودة الواجبة ومعلوم أن صفة الأجزاء الواجبة بنفسها أولى أن تكون موجودة واجبة من صفة الماهية التي هي في نفسها ليست وجودا
فهذا الذي ذكره هناك حجة عليه هنا مع انه يمكن تقريره بخير مما قرره فإنه قد يقال : إن هذا تقرير ضعيف
وذلك أنه قال : لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره فإن الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع ان يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقول الفيلسوف في العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة
فقد يقال إن هذا التقدير ضعيف لوجوه
الوجه الأول : أن الكلام فيما هو واجب بنفسه لا فيما هو موجب لغيره أو فاعل له وإذا قدر ان الموجب الفاعل يقف على غيره لم يلزم أن يكون الواجب بنفسه يقف على غيره
الوجه الثاني : أن الموجب الفاعل لا تقف نفسه على غيره وإنما يقف تأثيره ولا يلزم من توقف تأثيره على غيره توقفه وهذا كما ذكره من التمثيل بالعقل الفعال فإن أحدا لا يقول : إن نفسه تتوقف على غيره الذي يقف عليه تأثيره فإذا كان هذا في الموجب فكيف بالواجب
بل هم يقولون : إن نفس إيجابه يتوقف على غيره بل وصول الأثر إلى المحل يتوقف على استعداد المحل
الوجه الثالث : ان هذا التمثيل يمكن في غير الواجب بنفسه أما هو سبحانه وتعالى فلا يتصور أن تقف ذاته على غيره ولا فعله على غيره فإن القوابل هي أيضا من فعله فالكلام في فعله للمقبول لها كالكلام في فعله للقابل فكل ما سواه فقير إليه مفعول له وهو مستغن عن كل ما سواه من كل وجه بخلاف الفاعل المخلوق الذي يتوقف فعله على قابل فإنه فعل مفتقر إلى شيء منفصل عنه لكن يمكن ان يجاب عنه بان يقال : إذا كان الموجب لغيره المتوقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون موجبا بنفسه كما قالوا في العقل الفعال فإن يكون توقف إيجابه على غيره لا يمنع ان يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى فإن الموجب لغيره واجب وزيادة إذ لا يوجد إلا ما هو موجود ولا يوجب إلا ما هو واجب
والعقل الفعال يقولون : هو واجب بغيره وهو موجب بغيره لا واجب بنفسه ومقصوده أن الوجوب والإيجاب بالذات لا يمنع توقف ذلك على غيره وإنما يمنع كونه مفعولا للغير
وتلخيص الكلام : أنه إذا قيل : إن الوجود زائد على الماهية كانت الماهية محلا للوجود الواجب فيكون الواجب لنفسه مفتقرا إلى قابل لا إلى فاعل
فنقول : الواجب هو الذي لا يكون مفتقرا إلى فاعل ليس هو الذي لا يكون مفتقرا إلى قابل فإن الذي قام عليه قطع التسلسل أن الواجب لا فاعل له ولا علة
أما كون الوجود الواجب له محل هو موصوف به أم لا ؟ فذاك كلام آخر لكنه عضد ذلك بأن الإيجاب بالذات لا ينافي كون الموجب له محل يقبله فكذلك الواجوب بالذات لا ينفي أن يكون له محل يقبله واستشهد بالعقل الفعال لكنهم يقولون العقل الفعال ليس بموجب بالذات واما الرب الموجب بالذات فليس له محل يقبله
فتبين ان الاستشهاد بهذا لا يصح وليس التمثيل به مطابقا
والمقصود هنا أن الذي يعتمد عليه هو وأمثاله في نفي ما يسمونه التركيب هم أنفسهم قد أبطلوه في مواضع أخر واحتجوا به في موضع آخر وهو حيث احتجوا به أضعف منه حيث أبطلوه
وكذلك ما ذكره من الوجه الثاني على إبطال التركيب فإنه قال :
كلام الأمدي عن إبطال التركيب
الوجه الثاني في امتناع كونه مركبا من الأجزاء أن تلك الأجزاء إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها أو ممكنة أو البعض واجبا والبعض ممكنا لا جائز أن يقال بالأول على ما سيأتي تحقيقه في إثبات الوحدانية وإن كان الثاني أو الثالث فلا يخفي أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان والاحتياج والممكن المحتاج لا يكون واجبا لذاته ومالا يكون واجبا لذاته لا يكون إلها
رد ابن تيمية عليه من وجوه
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الوجه أيضا فاسد من وجوه :
الوجه الأول
أن يقال : لم لا يجوز أن تكون تلك الأجزاء كلها واجبة
قوله : على ما سيأتي تحقيقة في مسألة التوحيد
يقال له : الذي ذكرته فيما بعد مسألة التوحيد هي الطريقة المعروفة لأبن سينا وأتباعه من الفلاسفة وهي وجهان :
الوجه الأول : مبناه على أن المركب يفتقر إلى أجزائه وهذا هو الوجه الأول الذي ذكرته هنا فصار مدار هذا الوجه الثاني على الأول فلم يذكر إلا الأول وقد نبين فساده
الوجه الثاني : الذي ذكرته في التوحيد : مبناه على كون الوجوب يصير معلولا وهذا هو الذي ذكرته في كون الوجود الواجب لا يزيد على الماهية لئلا يكون معلولا للماهية وأنت قد أفسدت هذا الوجه وبما أفسدته به يفسد الآخر أيضا
فتبين أن ما ذكرته في مسألة التوحيد يعود إلى وجه واحد وأنت قد قدمت فساده فالحوالة على ما سيأتي وما سيأتي منه ما هو مكرر فكلاهما فاسد
وهو دائما في كلامه يذكر فساد هذه الطريقة حتى أنه لما استدلت الفلاسفة أتباع ابن سينا وغيرهم على أن الأجسام ممكنة بهذه الطريقة واستدل بها طائفة على حدوث العالم وهذا أول طريقة ذكرها في حدوث العالم فقال قد احتج الأصحاب بمسالك : الأول قولهم : العالم ممكن الوجود بذاته وكل ممكن بذاته فهو محدث
وقرر الإمكان بأن قال أجسام العالم مؤلفة ومركبة لما سبق بيانه في الأجسام وكل ما كان مؤلفا مركبا فهو مفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بذاته فالأجسام ممكنة لذواتها والأعراض قائمة بالإجسام ومفتقرة إليها والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا
ثم ضعف هذا المسلك : قال وقولهم : إن العالم مركب مسلم ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة ؟ وما ذكروه من الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها وأحال على ما ذكره في الوحدانية فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة ويحيل على ما ذكره في التوحيد
ومعلوم انه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك لكان مع ما فيه من التناقض أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفي لوازم نصوص الكتاب والسنة ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء
الوجه الثاني
أن يقال : أنت أيضا قد بينت في الكلام على إثبات وحدانية الله تعالى فساد هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا وغيره من الفلاسفة التي أحلت عليها هنا وذلك أنه قال الفصل الثاني في امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر وقد احتج النافون للشركة بمسالك ضعيفة : المسلك الأول : وهو ما ذكره الفلاسفة وذلك أنهم قالوا : لو قدر وجود واجبين كل واحد منهما واجب لذاته فلا يخلو : إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو باختلافهما من كل وجه أو باتفاقهما من وجه دون وجه فغن كان الأول فلا تعدد في مسمى واجب الوجود إذ التعدد والتغاير دون مميز محال وإن كان الثاني فما اشتركا في وجوب الوجود وإن كان الثالث فما به الاشتراك غير ما به الأفتراق وما به الاشتراك إن لم يكن هو وجوب الوجود فليسا بواجبين بل أحدهما دون الآخر وإن كان الاشترك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين : الوجه الأول : هو أن ما به الاشتراك من وجوب الوجود : إما أن يتم تحققه في كل واحد من الواجبين بدون ما به الافتراق أو لا يتم دونه فغن كان الأول فهو محال وإلا كان المعنى المشترك المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وهو محال وإن كان الثاني وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به وهو ما قيل بوجوب وجوده أولى أن يكون ممكنا الوجه الثاني : أن مسمى واجب الوجود إذا كان مركبا من أمرين وهو وجوب الوجود المشترك وما به الافتراق فيكون مفتقرا في وجوده إلى كل واحد من مفردية وكل واحد من المفردين مغاير للجملة المركبة منهما ولهذا يتصور تعقل كل أحد من الأفراد مع الجهل بالمركب منها والمعلوم غير المجهول وكل ما كان مفتقرا إلى غيره في وجوده إلى غيره ممكنا لا واجبا لذاته إذ لا معنى لواجب الوجود لذاته إلا ما لا يفتقر في وجوده إلى غيره وهذه المحالات إنما لزمت من القول بتعدد واجب الوجود لذاته فيكون محالا
قال : وربما استروح بعض الأصحاب في إثبات الوحدانية إلى هذا المسلك أيضا وهو ضعيف إذ لقائل أن يقول وإن سلمنا الاتفاق بينهما من وجه والافتراق من وجه وأن ما به الاتفاق هو وجوب الوجود ولكن لم قلتم بالامتناع ؟ وما ذكرتموه في الوجه الأول إنما يلزم ان لو كان مسمى وجوب الوجود معنى وجوديا وأما بتقدير أن يكون امرا سلبيا ومعنى عدميا وهو عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة فلا فلم قلتم بكونه أمرا وجوديا
ثم بسط الكلام في كونه عدميا بما ليس هذا موضع الكلام فيه
تابع كلام الآمدي
قال وعلى هذا فقد بطل القول بالوجه الثاني فإنه إذا كان حاصل الوجوب يرجع إلى صفة سلب فلا يوجب ذلك التركيب من ذات واجب الوجود وإلا لما وجد بسيط أصلا فإنه ما من بسيط إلا ويتصف بسلب غيره عنه وإن سلمنا أن وجوب الوجود أمر وجودي ولكن ما ذكرتموه من لزوم التركيب فهو لازم وإن كان واجب الوجود واحدا من حيث ان مسمى واجب الوجود مركب من الذات المتصفة بالوجوب ومن الوةجوب الذاتي فما هو العذر عنه مع اتحاد الوجود فهو العذر مع تعدده
تعليق ابن تيمية
قلت : الوجه الأول ذكره الرازي قبله في إبطال هذا والوجه الثاني ذكره الرازي كما ذكره الشهرستاني قبله وهو أن هذا منقوض بمشاركة واجب الوجود لسائر الموجودات في مسمى الوجود وامتيازه عنها بوجوب الوجود فقد صار فيه على أصلكم ما به الاشتراك وما به الامتياز
والآمدي يقول : إن وجوب الوجود بالاشتراك اللفظي وقاله قبله الشهرستاني و الرازي وأتباعه في ذلك يبين بطلان ما أحال عليه في قوله لا يجوز أن تكون الأجزاء كلها واجبة على ما سيأتي تحقيقه في مسألة التوحيد
ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق وتقويتها إذا نصر بها باطل : أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد والمدلول حق لا ريب فيه وإن قدر ضعف الحجة ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علو الله على خلقه بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد
وأيضا فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضا فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما فإن لا يمتنع جزءان كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والآحرى
واعلم أن الوجهين اللذين أبطلا بهما الحجة : أحدهما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا والثاني المعارضة : أما المعارضة فوارده على هؤلاء الفلاسفة لا مندوحة لهم عنها ومعارضة الشهرستاني و الرازي وأظن الغزالي أجود من معارضة الآمدي ومن اعتذر عن ذلك بان الواجب لفظ مشترك لزم بطلان توحيد الفلاسفة بطريق الأولى فإنه لا محذور حينئذ في إثبات أمور متعددة كل منها يقال له واجب الوجود بمعنى غير ما يقال للآخر
فبكل حال يلزم : إما لزوم التركيب وإما بطلان توحيدهم وأيهما كان لازما لزم الآخر فإنه إذا لزم التركيب بطل توحيدهم وإذا بطل توحيدهم أمكن تعدد الواجب وهذا يبطل امتناع التركيب
ولا ريب أن أصل كلامهم بل وكلام نفاة العلو والصفات مبنى على إبطال التركيب وإثبات بسيط كلي مطلق مثل الكليات وهذا الذي يثبتونه لا يوجد إلا في الأذهان والذي أبطلوه هو لازم لكل الأعيان فأثبتوا ممتنع الوجود في الخارج وأبطلوا واجب الوجود في الخارج
ونحن نبين بطلان ذلك بغير ما ذكره هؤلاء : فنقول : قول القائل إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو اختلافهما من كل وجه أواتفاقهما من وجه دون وجه إن أريد به انهما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج ولكن يشتبهان من بعض الجوه مع أن كلا منها مختص بما قام به نفسه كالبياضين أو الأبيضين المشتبهين مع أنه ليس في أحدهما شيء مما في الآخر وغن أراد بقوله أو اختلافهما من كل وجه أنهما لا يشتبهان في شيء ما ولا يشتركان في شيء ما فليس في الوجود شيئان إلا بينهما اشتراك في شيء وتشابه في شيء ما ولو انه مسمى الوجود وإن أراد امتياز أحدهما عن الآخر فكل منهما ممتاز عن الآخر من كل وجه وإن كانا مشتركين في أشياء بمعنى اشتباهما لا بمعنى أن في الخارج شيئا بعينه اشتركا فيه كما يشترك الشركاء في العقار
وإذا عرف أن هذه الألفاظ مجملة فنقول هم مشتبهان مشتركان في وجوب الوجود كما أن كل متفقين في اسم متواطئ بالمعنى العام سواء كان متماثلا وهو التواطؤ الخاص أو مشككا وهو المقابل للتواطؤ الخاص كالموجودين والحيوانين والإنسانين والسوادين اشتركا في مسمى اللفظ الشامل لهما مع أن كلا منهما متميز في الخارج عن الآخر من كل وجه فهما لم يشتركا في أمر يختص بأحدهما بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه وإنما اشتركا في مطلق الوجود
والوجود المطلق المشترك الكلي لا يكون كليا لا في هذا ولا في هذا بل هو كلي في الأذهان مختص في الأعيان وإذا قيل : الكلي الطبيعي موجود فمعناه أن ما كان كليا في الذهن يوجد ف بالخارج لكن لا يتصور إذا وجد أن يكون كليا كما يقال العام موجود في الخارج ن وهو لا يوجد عاما
وقوله : غما أن يختلفا من كل وجه أو يتفقا من كل وجه
قلنا : إذا أريد بالاختلاف ضد الاشتباه فقد يقال : ليسا مختلفين من كل وجه وإن أريد الامتياز فهما مختلفان من كل وجه
وقوله : إذا كانا متفقين من كل وجه زال الامتياز يصح إذا أريد بالاختلاف ضد الأمتياز فإنهما إذا لم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه بطل الامتياز وأما إذا أريد بالاتفاق التشابه والتماثل فقد يكونان متماثلين من كل وجه كتماثل أجزاء الماء الواحد
والتماثل لا يوجب أن يكون أحد المثلين هو الآخر بل لا بد أن يكون غيره
وحينئذ فقوله : ما به الاشتراك غير ما به الامتياز
قلنا : لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجا أشتراكهما فيه إلى الامتياز بل هما ممتازان بأنفسهما وإنما تشابها أو تماثلا في شيء والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما بل كل منهما ممتاز عن الأخر بنفسه
وقوله : ما به الاشتراك : إما وجوب الوجود أو غيره
قلنا : كل منهما مختص بوجوب وجوده الذي يخصه كما هو مختص بسائر صفاته التي تخص نفسه وهو أيضا مشابه الآخر في وجوب الوجود فما اشتركا فيه من الكلي لا يقبل الاختصاص وما اختص به كل منهما عن الآخر لا يقبل الاشتراك فضلا عن أن يكون ما اشتركا فيه محتاجا إلى مخصص وما اختص به كل منهما يقاربه فيه مشترك وحينئذ فالاشتراك في وجوب الوجود المشترك والامتياز بوجوب الوجود المختص والاشتراك أيضا في كل مشترك والامتياز بكل مختص
وقوله : إن كان الاشتراك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين : الوجه الأول : أن المشترك غما أن يتم بدون ما به الافتراق وذلك محال وإلا كان المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وإن لم يتم إلا بما به الافتراق كان وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره
قلنا : أن أريد بالمشترك بينهما المعنى المطلق الكلي فذاك لا يفتقر إلى ما به الامتياز وليس له ثبوت في الأعيان حتى يقال : إنه يلزم أن يكون المطلق في الأعيان من غير مخصص وإن أريد به ما يقوم بكل منهما من المشترك وهو ما يوجد في الأعيان من الكلي فذاك لا اشتراك فيه الأعيان فإن كل ما لأحدهما فهو مختص به لا اشتراك فيه وحينئذ فالموجود من الوجوب هو مختص بأحدهما بنفسه لا يفتقر إلى مخصص فلا يكون الوجوب الذي لكل منهما في الخارج مفتقرا إلى مخصص وإذا لم يكن ذلك بطل ما احتجوا به على كونه ممكنا وأما المشترك الكلي المطلق من الوجوب فذاك ليس موجودا لهذا ولا لهذا ولا متحققا في الأعيان وحينئذ فلا يلزم أن الكلي يتحقق في الأعيان بلا مخصص
وأيضا فيقال : هب أن المشترك لا يتحقق في الأعيان إلا بالمختص فهذا لا يمنع وجوب وجوده إذا الواجب هو مالا فاعل له ليس هو مالا لازم ولا ملزوم له
وهذا الآمدي ذكر هذا فيما تقدم وبين أن الوجود الواجب لا يمتنع توقفه على القابل وإنما يمتنع توقفه على الفاعل
وبهذا يبطل الوجه الثاني وهو كون الوجود الواجب مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز فإن ما به الاشتراك لم يوجد في الخارج وما به الامتياز لم يقع فيه اشتراك فليس في أحدهما ما به الاشتراك وما به الامتياز ولكن كل منهما موصوف بصفة يشابهه بهذا الآخر وهو الوجوب واتصاف الموصوف بصفة يشابهه بها غيره من وجه وأمر يختص به إنما يوجب ثبوت معان تقوم به وأن ذاته مستلزمة لتلك المعاني وهذا لا ينافي وجوب الوجود بل لا يتم وجوب الوجود إلا به ولو سلم أن مثل هذا تركيب فلا نسلم أن مثل هذا التركيب ممتنع كما تقدم بيانه
فقد تبين بطلان الوجه الأول من وجهين وبطلان الوجه الثاني من وجهين غير ما ذكروه والله اعلم
والوجه الأول من الوجهين هو الذي اعتمده ابن سينا في إشارته وقد بسطنا الكلام عليه في جزء مفرد شرحنا فيه أصول هذه الحجة التي دخل منها عليهم التلبيس في منطقهم وإلهياتهم وعلى من أتبعهم كالرازي والسهرورودي والطوسي وغيرهم
وقد ذكرنا عنه هناك جوابين :
الأول : أن هؤلاء عمدوا إلى الصفات المتلازمة في العموم والخصوص ففرضوا بعضها مختصا وبعضها عاما بمجرد التحكم كالوجود والثبوت والحقيقة والماهية ونحو ذلك
فإذا قيل : الواجب والممكن كل منهما يشارك الآخر في الوجود ويفارقه بحقيقته أو ماهيته
قيل لهم : معنى الوجود يعمهما ومعنى الحقيقة يعمهما وكل منهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما يمتاز عنه بحقيقته التي تختص به فليس جعل هذا مشتركا وهذا مختصا باولى من العكس
وهكذا إذا قدر واجبان لكل منهما حقيقة فهمما مشتركان في مطلق الوجوب ومطلق الحقيقة وكل منهما يمتاز عن الآخر بما يخصه من الوجوب والحقيقة فما قلتم به الامتياز متلازم وما قلتم به الاشتراك متلازم ولا يفتقر ما جعلتم به الاشتراك إلى ما جعلتم به الامتياز ولا ما جعلتم به الامتياز إلى به الاشتراك بل كل منها موصوف بما به الامتياز وهو ما يخصه وتلك الخصائص تشابه خصائص الآخر من بعض الوجوه فذلك القدر المشترك الذي لا يختص بأحدهما هو ما به الاشتراك
فإذا قيل هذا لون وهذا لون كانت لونية كل منهما مختصة به واللونية العامة مشتركة بينهما
وكذلك إذا قيل : هذا حيوان وهذا حيوان وهذا إنسان وهذا إنسان وهذا أسود وهذا أسود وأمثاله ذلك فليس شيء من الموجودات في الخارج مركبا من نفس ما ب الاشتراك وما به الامتياز بل هو مختص بوصف وذلك الوصف يشابه غيره لكن هو مشتمل على صفات بعضها اعم عن بعض أي بعضها يوجد نظيره في غيره أكثر مما يوجد نظير الآخر وأما هو نفسه فلا يوجد في غيره
وأما الجواب الثاني : فلا ريب أن كلا منهما فيه وجوب وفيه معنى آخر غير الوجوب بل نفس الواجب الواحد فيه الوجوب وفيه ذاته وهذا هو النقض الذي عارضهم به الآمدي
لكن قول القائل : وجوب الوجود حينئذ يكون ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به أولى أن يكون ممكنا كلام مجمل
فإنه يقال : ما تعني بكون الوجوب مفتقرا إلى غيره : أتعني به انه مفتقر إلى مؤثر أم مستلزم لغيره ؟
فإن عنيت الأول فهو باطل فإنه لا يحتاج الوجوب سواء فرض مختصا أو مشتركا إلى فاعل ولكن لا بد له من محل يتصف به فإن الوجوب لا يكون إلا لواجب وافتقار الوجوب إلى محله الموصوف به لا يمنع المحل أن يكون واجبا بل ذلك يستلزم كونه واجبا
وقول القائل : إن الوجوب يكون ممكنا إن أراد به افتقار \ ه إلى محل فهذا حق لكن هذا لا يستلزم كونه مفتقرا إلى فاعل ولا كون المحل مفتقرا إلى فاعل
فقوله وإن كان الثاني كان الوجوب ممكنا فالموصوف به أولى مغلطة فإن الإمكان الذي يوصف به الوجوب إنما هو افتقاره إلى محل لا إلى فاعل ومعلوم أنه إذا كانت صفة الموصوف تفتقر إليه لكونه محلا لها لا فاعلا لم يلزم أن يكون الموصوف أولى بان يكون محلا ولو قدر أن الوجوب يفتقر إلى مميز غير المحل فهو من افتقار الشرط إلى المشروط واللازم إلى الملازم ليس هو من باب افتقار المعلول إلى العلة الفاعلة
ومثل هذا لا يمتنع على وجوب الوجود بل لا بد لوجوب الوجود من تلك إذ وجوب الوجود ليس هو الواجب الوجود بل هو صفة له مع أن الواجب الوجود له لوازم وملزومات وذلك لا يوجب افتقاره إلى المؤثر فالوجوب أولى أن لا يفتقر إلى مؤثر لأجل ما له من اللوازم والملزومات فهذان وجهان غير ما ذكره هو وأمثاله هنا
الوجه الرابع : أن يقال : لم لا يجوز أن يكون بعض تلك الأجزاء واجبا وبعضها ممكنا ؟
قوله الموقوف على الممكن أولى بالإمكان
قيل : متى إذ كان الجزء الممكن من مقتضيات الجزء الواجب أو بالعكس وهذا كما أن مجموع الوجود : بعضه واجب لنفسه وبعضه ممكن والممكن منه من مفعولات الواجب لنفسه ولا يلزم من ذلك أن يكون مجموع الموجودات أولى بالإمكان من الموجودات الممكنة
وهذا الجواب يقوله من يقوله في مواضع أحدها في الذات مع الصفات
فإذا قيل له : الذات والصفات مجموع مركب من أجزاء فغما أن تكون واجبة كلها أو بعضها واجب وبعضها ممكن أمكنه أن يقول : الذات الجبة والصفات ممكنة بنفسها وهي واجبة بالذات كما يجيب بمثل ذلك طائفة من الناس
فإذا قيل : المجموع متوقف على الممكن
قال : إن ذلك الممكن من مقتضيات الواجب بنفسه
وهذا يقوله هؤلاء إذا فسر إمكان الصفات بأنها تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى فاعل ولا محل والصفات لا بد لها من محل وإن فسر الواجب بما لا يفتقر إلى موجب فالصفات أيضا لا تفتقر إلى موجب لكنه قد يسلم لهم هؤلاء أن الصفات لها موجب وهو الذات
وقولهم : إن الشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا من أفسد الكلام كما قد بسط في موضعه فيقول هؤلاء الذات موجبة للصفات ومحل لها والذات واجبة بنفسها والصفات واجبة بها والمجموع واجب وإن توقف على الممكن بنفسه الواجب بغيره لأن الواجب بنفسه مستلزم للصفات ولا اجتماع المجموع
وأيضا فيقوله من يقول : إنه يقوم بذاته أمور متعلقة بمشيئة وقدرته فإن تلم أيضا ممكنة بنفسها وقد تدخل في مسمى أسمائه
ففي الجملة ليس معهم حجة تمنع كون الجموع فيه ما هو واجب موجب لغيره
وإذا قيل : المحتاج إلى الغير أولى بالاحتياج
قيل : هب أن الأمر كذلك لكن إذا كان الغير من لوازم الجزء الواجب بنفسه كان المجموع من لوازم الجزء بنفسه وحاصلة أن في الأمور المجتمعة ما هو مستلزم لسائرها
وإذا قيل فحينئذ لا يكون الواجب بنفسه إلا ذلك الملزوم
قيل : هذا نزاع لفظي فإن الممكنات لا بد لها من فاعل عن الفاعل والدليل دل على هذا وليس فيما ذكرتموه ما ينفي أن تكون ذاته مستلزمة لأمور لازمة له واسمه يتناول الملزوم واللازم جميعا وغن سمى الملزوم واجبا بنفسه واللازم واجبا بغيره كما قاله من قاله في الذات والصفات
فيقول المنازع له فهذه مجموع الأدلة التي ذكرها هو وغيره على نفي كون الواجب بنفسه جسما أو جوهرا قد تبين انه لا دلالة في شيء منها بل هي على نقيض مطلوبهم أدل منها على المطلوب
وهذا ذكرناه لما أحال عليه قوله إن الحروف إذا قام كل منها بمحل غير محل الآخر يلزم التركيب وقد أبطلناه في إبطال التجسيم
ثم قال الوجه الثاني انه قال ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس
ولقائل أن يقول هذا الوجه في غاية الضعف وذلك انه إذا كانت الحروف مقدورة له حادثة بمشيئته كما ذكرته عن منازعيك فتخصيص كل منها بمحله كتخصيص جميع الحوادث بما اختصت به من الصفات والمقادير والأمكنة والأزمنة
وهذا إما أن يرد إلى محض المشيئة وإما إلى حكمة جلية أو خفية وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص على قولين مشهورين وأما اختصاصها بمحالها في حق الأدميين بسبب يقتضي الاختصاص فهذا لا نزاع فيه فعلم أن الاختصاص منه بالمحل أولى منه بالمعنى
واما قوله إن قالوا باجتماع الحروف بذاته مع اتحاد الذات فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد فهذا قد تقدم أن للناس فيه قولين وان القائلين باجتماع ذلك إن كان قولهم فاسدا فقول من يقول باجتماع المعاني المتعاقبة وأنها شيء واحد وأن الصفات المتنوعة شيء واحد أعظم فسادا
وأما قوله وغن لم يقولوا باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب يستحيل عروه عنه فكلام صحيح ولكن تناقضهم لا يستلزم صحة قول منازعيهم إذا كان ثم قول ثالث وهذا اللازم فيه نزاع معروف وقد حكي النزاع عنهم أنفسهم
فمن قال إن ما اتصف به من الأصوات والأفعال ونحو ذلك يجوز عروه لم يكن مناقضا
والذين قالوا منهم إنه لا يجوز عروه عما اتصف به عمدتهم أنه لو جاز عروه عنه لم يكن ذلك إلا بحدوث ضد ثم ذلك الضد الحادث لا يزول إلا بضد حادث فيلزم تسلسل الحوادث بذاته وهذا يجيب عنه بعضهم بأنه يجوز عدمه بدون حدوث ضد ويجيب عنه بعضهم بالتزام التسلسل في مثل ذلك في المستقبل
عود إلى كلام الآمدي في الرد على الكرامية : السابع
قال الآمدي في تناقض الكرامية أنهم جوزوا اجتماع الإرادة الحادثة مع الإرادة القديمة ومنعوا ذلك في العلم والقدرة ولو سئلوا عن الفرق لكان متعذرا
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول إن كانوا هم فرقوا فغيرهم لم يفرق بل جوز تجدد علوم وقدر وحينئذ فهم في الفرق على ما اعتمدت عليه المعتزلة في الفرق بين كونه عالما قادرا وبين كونه متكلما مريدا حيث قالوا العلم والقدرة عام في كل معلوم ومقدور فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وإلإرادة والكلام ليسا عامين في كل مراد ومقول بل لا يقول إلا الصدق ولا يأمر إلا بالخير ولا يريد إلا ما وجد ولا يريد إرادة محبة إلا لما أمر
فهذا مما احتجوا به على حدوث كونه مريدا متكلما دون كونه عالما قادرا قالوا لأن الاختصاص يتعلق بالمحدثات بخلاف العموم فإنه يكون للقديم
فصل
ومما يبين الأمر في ذلك وان الأدلة التي يحتج بها هؤلاء على نفي لوازم علو الله على خلقه هم يقدحون فيها ويبينون فسادها في موضع آخر أن عامة هذه الحجج التي احتج بها الآمدي وغيره على نفي كونه جسما هم أنفسهم أبطلوها في موضع آخر
تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
والمقصود هنا ذكر ما قاله الآمدي وذلك انه لما ذكر مسالك الناس في إثبات حدوث الأجسام أبطل عامتها ن واختار الطريقة المبنية على أن الجسم لا يخلو من الأعراض وان العرض لا يبقى زمانين فتكون الأعراض حادثة ويمتنع حدوث ما لا نهاية له وما لا يخلو عن الحوادث التي لها أول فله أول وذكر أن هذه الطريقة هي المسلك المشهور للأشعرية وعليه اعتماده
والرازي وامثاله لم يعتمدوا على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وهذه مقدمة خالف فيها جمهور العقلاء وقالوا إن قائليها للحس ولضرورة العقل فرأي أن الاعتماد عليها في حدوث الأجسام في غاية الضعف
والآمدي قدح في الطرق التي اعتمد عليها الرازي كلها والمقصود هنا ذكر طعن الآمدي في حجج نفسه التي احتج بها على نفي كونه جسما ونفي قيام الحوادث به وقد تقدم ان حججه المبنية على تماثل الجواهر والأجسام قد قدح فيها وبين أنه لا دليل لمن أثبت ذلك وحجته المبنية على التركيب قد قدح هو فيها في غير موضع كما ذكر بعضه
وأما حجته المبنية على نفي المقدار والشكل وانه لا بد له من مخصص وكل ما له مخصص فهو محدث فإنه قال المقدمة الأولى وغن كانت مسلمة غير أن الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق في في المسلك الأول
قال وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات المتعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه فقد ذكر هنا وغن كان لا بد للمختص من مخصص فلا يلزم أن يكون حادثا بل جاز ان يكون قديما في ذاته وصفاته أو قديما في الذات مع تعاقب الصفات المحدثة من المقادير وغيرها عليه إلا إذا قيل ببطلان حوادث لا تتناهى
وحينئذ فيقال القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره فإن كان واجبا بنفسه بطلت حجته وغن كان واجبا بغيره لزم من كون المعلول مختصا أن تكون علته مختصة أيضا وإلا فبتقدير أن تكون العلة الموجبة وجودا مطلقا لا تختص بشيء من الأشياء كما يقوله من يقول هو وجود مطلق تكون نسبته إلى جميع أجناس الموجودات ومقاديرها وصفاتها نسبة واحدة وحينئذ فلا يخص مقدارا دون مقدار بالاقتضاء والإيجاب إلا أن يقال لا يمكن غير ذلك المقدار وإذا قيل ذلك لزم أن يكون من المقادير ما هو واجب لا يمكن غيره فإذا قيل هذا في الممكن ففي الواجب بنفسه أولى فإن تطرق الجواز إلى الممكن بنفسه أولى من تطرقه إلى الواجب بنفسه فإذا قدر في الممكن مقدار لا يمكن وجود ما هو أكبر منه فتقدير ذلك في الواجب بنفسه أولى
ونكته الجواب أن الموجب الذي يسمونه علة إن كان له مقدار بطل أصل قولهم وإن لم يكن له مقدار فإما أن تكون جميع المقادير ممكنة بالنسبة إليه وإما أن لا يكون كذلك فإن كان الأول لم يخص بعضها دون بعض بلا مخصص لما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وإن لم يمكن إلا بعضها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة فحينئذ لزم أم يكون من المقادير ما هو ممتنع لنفسه ن بل منها ما هو متعين لا يمكن وجود غيره
وإذا جاز أن يمتنع بعضها لنفسه فوجوب بعضها لنفسه أولى وأحرى وإذا جاز أن يتعين ممكن من المقادير دون غيره لنفسه فتعين مقدار واجب لنفسه أولى وأحرى
وهذا كلام لا محيص لهم عنه فإن العالم إن كان واجبا بنفسه فقد ثبت أن الواجب بنفسه يختص بمقدار وإن كان ممكنا فوجد ما هو أكبر منه أو أصغر إما أن يكون في نفسه ممكنا وغما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا ثبت امتناع بعض المقادير لنفسه دون بعض في الممكنات في الواجب اولى
وحينئذ فبطل قول القائل : إنه ما من مقدار إلا ويمكن ما هو أكبر منه وأصغر وإن كان غير هذا المقدار ممكنا فتخصيص أحد الممكنين بالوجود يفتقر إلى مخصص والوجود المطلق لا اختصاص له بممكن دون ممكن فلا بد أن يكون المخصص أمرا فيه اختصاص وذلك الاختصاص واجب بنفسه وإذا كان الواجب لنفسه فيه اختصاص واجب لم يمكن أن يقال : كل اخصاص فلا بد له من مخصص إذ الاختصاص ينقسم إلى : واجب بنفسه وممكن
يوضح هذا أن المتفلسف إذا قال إن الموجب لتخصيص الفلك بمقدار دون مقدار كون الهيولى لا تقبل إلا ذلك المقدار مثلا أو امتناع بعد وراء العالم أو ما قيل من الأسباب
قيل له ما ذكرته من الهيولى وامتناع وجود موجود وراء العالم وإن كان باطلا فيقال ما الموجب لكون الهيولى لا تكون على غير تلك الصفة ولم لا كانت الهيولى غير هذه بحيث تقبل شكلا أكبر من هذا ثم إذا زعمت ان الممكن له مقدار لا يمكن ان يكون أكبر منه لعدم القابل مع انه لا يعلم وجود مخصص لمقدار دون مقدار ولا لكون حيز هذا المقدار يقبل الوجود دون الحيز الذي يجاوره فإن الأحياز المجردة المحضة متشابهة أبلغ من تشابه المقادير
فإذا ادعيت التخصيص في هذا ففي الواجب بنفسه اولى وأحرى ثم بتقدير ان تكون المقادير والصفات حادثة فالحجة المبنية على نفي حوادث لا تناهي قد عرف ضعفها وقد أبطل هو جميع أدلة الناس التي ذكرها إلا حجة واحدة اختارها وهي أضعف من غيرها كما قد ذكر غير مرة
وإذا كانت هذه الحجة لا تمنع جواز تعاقب الحوادث على القديم لم يمتنع كون القديم محلا للحوادث فبطل استدلالهم على نفي ذلك بمثل هذه الحجة0
فهذه الحجج الثلاث قد قدح هو فيها واما الرابعة وهي تعدد الصفات فالقدح فيها تبع للقدح في هذه الثلاث فإنها مبنية عليها إذ عمدة النفاة هي هذه الثلاث وكلامهم كله يدور عليها حجة التركيب وحجة الأعراض بأن مالا يخلو عن الحادث فهو حادث وحجة الاختصاص
وحججه الأولى على نفي الجوهر مبنية على نفي تماثل الجواهر وهو قد بين ان جميع ما ذكروه فإنه يرجع إلى ما قاله وقال إنه لا دليل فيه على نفي تماثلها
وأما الثانية وهي قوله إما أن يكون مركبا فيكون جسما أو لا يكون على نفي الجسم وقد عرف كلامه وقدحه في حجج نفي ذلك
واما حجته الثالثة فإنها مبنية على تماثل الجواهر أيضا وهو قد أبطل أدلة ذلك ومبنية على امتناع حلول الحوادث به أيضا وقد أبطل هو أيضا جميع حجج ذلك واستدل بحجة الكمال والنقصان كما احتج بها الرازي وهو أيضا قد أبطل هذه الحجة لما استدل بها الفلاسفة على قدم العالم كما ذكر عنه
وأما حجته الرابعة على نفي الجوهر فبناها علي نفي التحيز وبنى نفي التحيز على حجتين على حجة الحركة والسكون وعلى تماثل الجواهر
وهو قد بين انه لا دليل على تماثل الجواهر وأبطل أيضا حجة الحركة والسكون لما أحتج بها من احتج على حدوث الأجسام فإنه قال المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا يعني به الرازي وهذا المسلك آخذ الرازي عن المعتزلة ذكره أبو الحسين وغيره : أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل إما أن تكون متحركة او ساكنة والقسمان باطلان فالقول بأزليتها باطل
ثم اعترض عليه بوجوه متعددة :
قال ولقائل أن يقول إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمرا وجوديا ولا مخلص عنه
قلت : هذه مسألة نزاع بين أهل النظر : أن الجسم في أوقات حدوثه : هل يوصف بأحدهما أو يخلو عنهما ؟ والذي قاله الرازي هو قول أبي هاشم وغيره من المعتزلة ومضمونه : أنه في أوقات حدوثه ليس متحركا ولا ساكنا
واعترض عليه بتقسيم حاصر فقال : إن كانت الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز والسكون البقاء في حيز بعد حيز فالجسم في أوقات حدوثه : لا متحرك ولا ساكن وإن لم يكن الأمر كذلك فقد بطل ما ذكره من كون السكون أمرا وجوديا فإنه اعتمد في ذلك على أن السكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد ان كان في ذلك الحيز
تابع كلام الآمدي
قال الآمدي فإن قيل : الكلام إنما هو في الجسم ف يالزمان الثاني والجسم في الزمان الثاني لا يخلو عن الحركة والسكون بالتفسير المذكور فهذا قول ظاهر الإحالة فإنه إذا كان الكلام ف يالجسم إنما هو الزمان الثاني فوجود الجسم بالزمان الثاني ليس هو حالة الأولية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون
تعليق ابن تيمية
قلت : بل بتقدير قدمه لا يخلو عن الحركة والسكون لأنه حينئذ إما أن يبقى في حيز او ينتقل عنه والأول : السكون والثاني الحركة
وما ذكره الآمدي من جواز خلوه عنهما على أحد التقديرين فإنما هو بتقدير حدوثه ومعلوم انه إذا كان بتقدير قدمه لا يهخلو عنهما وكلاهما ممتنع كان بتقدير قدمه مستلزما لأمر ممتنع وهو الجمع بين النقيضين فإنه إذا صحت المقدمتان لزم أن يكون حادثا بتقدير قدمه وهو انه لو كان قديما لم يخل من حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
وما ذكره الأمدي إنما يتوجه إذاقيل الجسم مطلقا لا يخلو عن الحركة والسكون وحينئذ فإما أن يخلو عنهما أو لا يخلو فإن خلا عنهما لم يكن ذلك إلا حال حدوثه فيكون حادثا وإن لم يخل عنهما لزم ان يكون حادثا فيلزم حدوثه على كل تقدير
ونحن نذكر ما يقدح به الآمدي وأمثاله في حججهم التي احتجوا بها في موضع آخر وإن كان بعض ذلك القدح ليس بحق ولكن يعطي كل ذي حق حقه قولا بالحق واتباعا للعدل
وقد ذكرنا كلام الآمدي على سائر ما ذكره ف يامتناع كن الحركة أزلية مثل قوله : لم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية ؟ وما ذكروه من الوجه الأول فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى بكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات الشخصية حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى انها متعاقبة إلى غير نهاية إلى آخر كلامه
والمقصود هنا التنبيه على أنه نقص في موضع آخر عامة ما احتج به هنا
فصل
ومما ينبغي معرفته في هذا الباب أن القائلين بنفي علو الله على خلقه الذين يستدلون على ذلك أو عليه وعلى غيره بنفي التجسيم فإنهم ينقضون الحجج التي يحتجون بها فتارة ينقض أحدهم الحجج التي يحتج كما ذكرناه عن الرازي والآمدي وأمثالهما من حذاق النظار الذين جمعوا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام بل يعارضون ما يجب تصديقه بما يعلم بصريح العقل موافق لها بما يعلم الصريح انه باطل وتارة كل طائفة تبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى ن بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح وليسوا متفقين على طريقة واحدة
وهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين : من جهة العقل الصريح الذي بين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون ومن جهة انه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلا عن أن يكون من صريح المعقول
بل المقدمة التي تدعى طائفة النظار النظار صحتها تقول الآخرى هي باطلة وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء السليمي الفطرة التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليما من غيره لا من موجب فطرته فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية لا ترجع إلى العقل الصريح وهو يدعى أنها عقلية فطرية
ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه بل قد علم جواز الخطأ عليه وعلم وقوع الخطأ منه فيما هو دون الإلهيات فضلا عن الإلهيات التي يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بادلألة المجلة والمفصلة
والمقصود هنا التنبيه على جوامع قدح كل طائفة في طريق الطائفة الأخرى من نفاة العلو أو العلو وغيره من الصفات بناء على نفي التجسيم ففحول أهل الكلام كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري ومحمد بن الهيثم وأبي المعالي الجويني وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم يبطلون طرق الفلاسفة التي بنوا عليها النفي منهم من يبطل أصولهم المنطقية وتقسيم الصفات إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية وعارض لها ودعواهم ان الصفات اللازمة للموصوف منها ما هو ذاتي داخل في الماهية ومنها ما هو عرضي خارج عن الماهية وبناءهم توحيد واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات على هذه الأصول
وهم في هذا التقسيم جعلوا الماهيات النوعية زائدا في الخارج على الموجودات العينية وليس هذا قول من قال : المعدوم شيء فإن أولئك يثبتون ذواتا ثابتة في العدم تقبل الوجود المعين وهؤلاء يثبتون ماهيات كلية لا معينة وأرسطو وأتباعه غنما يثبتونها مقارنة للموجودات المعينة لا مفارقة لها وأما شيعة أفلاطون فيثبتونها مفارقة ويدعون أنها أزلية أبدية وشيعة فيثاغورس تثبت أعدادا مجردة
وما يثبته هؤلاء إنما هو في الأذهان ظنوا ثبوته في الخارج وتقسيمهم الحد إلى حقيقي ذاتي ورسمي أو لفظي أو تقسيم المعرف إلى حد ورسم هو بناء على هذا التقسيم
وعامة نظار أهل الإسلام وغيرهم ردوا ذلك عليهم وبينوا فساد كلامهم وأن الحد إنما يراد به التمييز بين المحدود وغيره وأنه يحصل بالخواص التي هي لازمة ملزومة لا يحتاج إلى ذكر الصفات العامة بل منعوا أن يذكر في الحد الصفات المشتركة بينه وبين غيره بل وأكثرهم منعوا بتركيب الحد كما هو مبسوط في موضعه وقد صنف في ذلك متكلمو الطوائف كأبي هاشم وغيره من المعتزلة وأبن النوبخت وغيره من الشيعة و القاضي أبي بكر وغيره من مثبتة الصفات
واما أبو حامد الغزالي فإنه وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق وأتبعه على ذلك من سلك سبيله كالرازي وذويه وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه فقد بين في كتابه تهافت الفلاسفة وغيره من كتبه فساد قولهم في الإلهيات مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية حتى انه بين انه لا حجة لهم على نفي التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفي الصفات مطلقا وإن كان أبو حامد قد يوجد كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى وبهذا تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام ومن الفلاسفة أيضا كابن رشد وغيره حتى أنشد فيه
( يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن لقيت معديا فعدناني )
فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل وليس ذلك إلا فيما وافق فيع الرسول صلى الله عليه و سلم فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول البتة
وهذا كما أن ابن عقيل يوجد في كرمه ما يوافق المعتزلة والجهمية تارة وما يوافق به المثبتة للصفات بل للصفات الخبرية أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل وهو الموافق لما جاء به الرسول
والمقصود هنا أن نبين ان فحول النظار بينوا فساد طرق من نفي الصفات أو لاعلو بناء على نفي التجسيم وكذلك فحول الفلاسفة كابن سينا وأبي البركات وابن رشد وغيرهم بينوا فساد أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية التي نفوا بها التجسيم حتى أن ابن رشد في تهافت التهافت بين فساد ما أعتمد هؤلاء كما بين أبو حامد في التهافت فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة
ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق أهل الإثبات على إثبات الصفات بل وعلى قيام الأمور الاختيارة في ذاته وعلى العلو كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق افعال العباد فأخذق متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري ومن عرف حقيقة كلامه علم انه يوافق على إثبات كونه حيا عالما قادرا وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس كونه قادرا لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون : ليست موجودة ولا معدومة
وهذا الذي اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات فنزاعه معهم نزاع لفظي كما انه يوافق على أن الله يخلق الداعي في العبد وعند وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور
وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون : إن الله خالق أفعال العباد وهو أيضا يقول : إنه سبحانه مع علمه بما سيكون فإنه إذا كان يعلمه كائنا فعالميته متجددة
وابن عقيل يوافق على ذلك وكذلك الرازي وغيره وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به
وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية وأظنه من أصحاب أبي الحسين
وقد حكى ابن رشد ذلك عن أئمة الفلاسفة أبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمي الفلاسفة كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع وتقدم بعضها
والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحا يبين بطلانه كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة
كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم
قال أبو حامد مسالة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم فنقول هذا إنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث وكل حادث فيفتقر إلى محدث فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما لا أول لوجوده مع أنه لا يخلو عن الحوادث فلم يمتنع أن يكون الأول جسما إما الشمس وإما الفلك الأقصى وإما غيره فإن قيل لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين بالكمية وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الأجسام وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام وواجب الوجود واحد لا يقيل القسمة بهذه الوجوه
قلنا وقد أبطلنا هذا عليكم وبينا أنه لا دليل لكم عليه سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولا وقد تكلمنا عليه وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجود له لم يبعد تقدير مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب ونفي التركيب على نفي الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه
فإن قيل الجسم إن لم يكن له نفس لا يكون فاعلا وإن كان له نفس فنفسه علة له فلا يكون الجسم أولا
قلنا أنفسنا ليست علة لوجود أجسامنا ولا نفس الفلك بمجردها علة لوجود جسمه عندكم بل هما يوجدان بعلة سواهما فإذا جاز وجودهما قديما جاز أن لا يكون لهما علة
فإن قيل كيف اتفق اجتماع النفس والجسم ؟
قلنا هو كقول القائل كيف اتفق وجود الأول فيقال هذا سؤال عن حادث فأما ما لم يزل موجودا فلا يقال كيف اتفق فكذلك الجسم ونفسه إذا لم يزل كل واحد منهما موجودا لم يبعد أن يكون صانعا
فإن قيل لأن الجسم من حيث إنه جسم لا يخلق غيره والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل إلا بواسطة الجسم ولا يكون الجسم واسطة للنفس في خلق الأجسام ولا في إبداع النفوس والأشياء لا تناسب الأجسام
قلنا ولم لا يجوز أن يكون في النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها لن توجد الأجسام وغير الأجسام منها فاستحالة ذلك لا تعرف ضرورة ولا برهان يدل عليه إلا أنه لم يشاهد من هذه الأجسام المشاهدة وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة فقد أضافوا إلى الموجود الأول مالا يضاف إلى موجود أصلا ولم يشاهد من غيره وعدم المشاهدة من غيره لا يدل على استحالته منه فكذا في نفس الجسم والجسم
فإن قيل الفلك الأقصى أو الشمس أو ما قدر من الأجسام فهو متقدر بمقدار يجوز أن يزيد عليه وينقص منه فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز إلى مخصص فلا يكون أولا
قلنا بم تنكرون على من يقول إن ذلك الجسم يكون على مقدار يجب أن يكون عليه لنظام الكل ولو كان أصغر منه أو اكبر لم يجز كما أنكم قلتم إن المعلول الأول يفيض الجرم الأقصى منه متقدرا بمقدار وسائر المقادير بالنسبة إلى ذات المعلول الأول متساوية ولكن يعين بعض المقادير ليكون النظام متعلقا به فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول الأول الذي هو علة الجرم الأقصى عندهم مبدأ للتخصيص مثل إرادة مثلا لم ينقطع السؤال إذ يقال ولم أراد هذا المقدار دون غيره كما ألزموه على المسلمين في إضافتهم الأشياء إلى الإرادة القديمة وقد قلبنا عليهم ذلك في تعين جهة حركة السماء وفي تعيين نقطتي القطبين فإذا ظهر انهم مضطرون إلى تجويز تمييز الشيء عن مثله في الوقوع بعلة فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة إذ لا فرق بين إن يتوجه السؤال في نفس الشيء فيقال لم اختص بهذا القدر وبين أن يتوجه في العلة فيقال ولم خصص هذا القدر عن مثله فإن أمكن دفع السؤال عن العلة بان هذا المقدار ليس مثل غيره إذ النظام مرتبط به دون غيره أمكن دفع السؤال عن نفس الشيء ولم يفتقر إلى علة وهذا لا مخرج عنه فإن هذا المقدار المعين الواقع إن كان مثل الذي لم يقع فالسؤال متوجه أنه كيف ميز الشيء عن مثله خصوصا على أصلهم وهم ينكرن الإرادة المميزة وغن لم تكن مثلا له فلا يثبت الجواز بل يقال وقع كذلك قديما كما وقعت العلة القديمة بزعمهم
قال وليستمد الناظر في هذا الكتاب مما أوردناه لهم من توجيه السؤال في الإرادة القديمة وقلبنا ذلك عليهم في نقطة القطب وجهة حركة الفلك وتبين بهذا أن من لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم أصلا
تعليق ابن تيمية
فهذا أبو حامد هو وغيره يبينون فساد ما ذكروه من نفي كون الأول جسما ويقولون لا طريق إلى ذلك إلا الاستدلال على حدوث الجسم وقد سبقهم الأشعري إلى بيان فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الجسم
والرازي وأتباعه يبينون حدوث الجسم في كتبه الكلامية كالأربعين ونهاية العقول والمحصل وغير ذلك ثم يبينون فساد كل ما يحتج به على حدوث الأجسام في مواضع أخر مثل المباحث المشرقية وكذلك في المطالب العالية التي هي آخر كتبه بين فساد حجج من يقول بحدوثها وانه فعل بعد ان لم يكن فاعلا ويذكر حججا كثيرة على دوام الفاعلية ويورد عليها مع ذلك ما يدل على فسادها ويعترف بالحيرة في هذه المواضع العظيمة مسائل الصفات وحدوث العالم ونحو ذلك
وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالا تستلزم الجمع بين النقيضين تارة ورفع النقيضين تارة بل نستلزم كليهما والأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين يذكرون فيه إلا أقوالا ضعيفة
والقول الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه كما في مسألة حدوث العالم فإنهم لا يذكرون إلا قولين قول من يقول بقدم الأفلاك وإن كانت صادرة عن علة توجبها فالمعلول مقارن ازلا وقول من يقول بل تراخى المفعول عن المؤثر التام وأنه يمتنع انه لم يزل متكلما إذا شاء ويفعل ما يشاء
والقول الصواب الذي هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه وهو القول بأن الأثر يتعقب التأثير التام فهو سبحانه إذا كون شيئا كان عقب تكوينه له كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس : 82 وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والعتاق عقب التطليق والاعتاق والانكسار والانقطاع عقب الكسر والقطع فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويذكرون في كونه موجبا بذاته وفاعلا بمشيئته وقدرته قولين فاسدين أحدهما قول من يقول المتفلسفة وان معلوله يجب ان يكون مقارنا له في الزمان أزلا وأبدا
وهذا القول من أفسد أقوال بني آدم فإنه يستلزم ان لا يحدث في العالم حادث فإنه إذا كانت علة تامة ازلية ومعلولها معها والعالم كله معلوله إما بواسطة وإما بغير واسط لزم ان لا يكون في العالم شيء إلا أزليا فلا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة
ثم إنهم لما أثبتوا الواجب بالممكن إنما استدلوا على الممكن بالحادث الذي يفتقر إلى محدث فإن لم يكن في العالم حادث بطل الإمكان الذي به أثبتوا الواجب ولزم إما أن لا يكون في العالم واجب الوجود ولا ممكن الوجود وهو إخلاء للوجود عن النقيضين وإما أن يكون جميعه واجب الوجود فيكون الحادث الذي كان بعد أن لم يكن واجب الوجود
وأيضا فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له وغن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد وهو تسلسل في العلل وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث فهذا فيه نزاع مشهور
والناس فيه على أربعة أقوال قيل يمتنع في الماضي والمستقبل كقول جهم وابي الهذيل ولهذا قال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما
وقيل : يمتنع في الماضي دون المستقبل وهو قول كثير من طوائف أهل الكلام كأكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم
وقيل : يجوز فيهما فيما هو مفتقر إلى غيره كالفلك سواء قيل : إنه محتاج إلى مبدع كقول أبن سينا وأتباعه أو قيل : إنه محتاج إلى ما يتشبه به كقول أرسطو وأتباعه
وقيل : يجوز فيهما لكن لا يجوز ذلك فيما سوى الرب فإنه مخلوق مفعول وحوادثه القائمة به لا تحصل إلا من غيره فهو محتاج في نفسه وحوادثه إلى غيره والمحتاج لا يكون إلا مربوبا والمربوب لا يكون إلا مخلوقا محدثا والمحدث لا يقوم به حوادث لا أول لها فغن ما لم يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة فهو محدث مثلها باتفاق العقلاء إذ لو كان لم يسبقها فإما أن يكون معها أو بعدها وعلى التقديرين فهو حادث بخلاف الرب القديم الأزلي الواجب بنفسه فإنه إذا كان لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء كان ذلك من كماله وكان هذا كما قاله أئمة السنة والحديث
والثاني : قول من يقول : انه فاعل مختار لكنه يفعل بوصف الجواز فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح إما بمجرد كونه قادرا أو لمجرد كونه قادرا عالما أو لمجرد إرادته القديمة التي ترجج مثلا على مثل بلا مرجح ويقولون : إن الحوادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر التام
وهذا وإن كان خيرا من الذي قبله ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام ففساده أيضا بين فإنه إذا قيل : إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول كان حاله بعد حصول الأثر وقبله حالا واحدة متشابهة ثم اختص أحد الحالين بالأثر من غير ترجيح مرجح وحدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا معلوم الفساد بصريح العقل
والقول الثالث : قول أئمة السنة : إنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأه امتنع لعدم مشيئته له فهو موجب بمشيئته وقدرته لا بذات خالية عن الصفات وهو موجب له إذا شاءه لا موجب له في الأزل كما قال { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس 82 : وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته لا مناف لذلك بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء وهو موجب له بمشيئته وقدرته والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الوجه العشرون
متابعة الملاحدة للنفاة في إنكار النصوص وتأويلها
أن نقول : ما سلكه هؤلاء نفاة الصفات من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر اله به عباده من أمور اليوم الآخر حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج فجعلوها للعامة دون الخاصة فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل كما قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 62
فأفضى الأمر بمن سلك سبيل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم والآخر والعمل الصالح وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحدا وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وهذا تعطيل للخالق
وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن وهو قول فرعون ولهذا كانوا معظمين لفرعون ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها كما يتنعم أهل الجنة في الجنة فكفروا بحقيقة اليوم الآخر ثم ادعوا أن الولاية أفضل من النبوة وأن خاتم الأولياء وهو شيء لا حقيقة له زعموا أنه أفضل من خاتم الأنبياء بل ومن جميع الأنبياء وأنهم كلهم يستفيدون من مشكاته العلم بالله الذي حقيقته عندهم أن وجود المخلوق هو وجود الخالق
وكان قولهم كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فإن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس والأنبياء أفضل من غيرهم فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع وآخر تحقيقهم استحلال المحرمات وترك الواجبات كما كان يفعل أبرع محققيهم : التلمساني وأمثاله
هذا وشيوخ التصوف المشهورون من أبرأ الناس من هذا المذهب وأبعدهم عنه وأعظمهم نكيرا عليه وعلى أهله وللشيوخ المشهورين بالخير كالفضل بن عياض وأبي سليمان الداراني والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية مالا يتسع هذا الموضع لعشره
بل قد قيل للشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل ؟ فقال : لا كان ولا يكون والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع وإلا فهو كتاب الله وسنة ورسوله حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف : معرفته والإيمان به وتبليغه والذب عنه كما قال بعض أكابر الشيوخ الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة والظهور لأحمد ابن حنبل
وذلك لأنه كان بعد القرون الثلاثة لما ظهرت بدعة الجهمية ومحنتهم المشهورة وأرادوا إظهار مذهب النفاة وتعطيل حقائق الأسماء والصفات ولبسوا على من لبسوا عليه من الخلفاء ثبت الله الإسلام والسنة بأحمد بن حنبل وغيره من أئمة الدين فظهرت بهم السنة وطفئت بهم نار المحنة فصاروا علما لأهل الإسلام وأئمة لمن بعده من علماء المسلمين : أهل السنة والجماعة وصار كل منتسب إلى السنة لا بد أن يواليه وإياهم ويوافقهم في جمل الاعتقاد إذ كان ذلك اعتقاد أهل الهدى والرشاد المعتصمين بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان
وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت ولهذا كان جمل الاعتقاد الذي يذكره أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة هو قول أحمد وأمثاله من أئمة السنة
كلام الأشعري في الإبانة عن متابعته للإمام أحمد
ولهذا قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة فإن قال قائل : قد أنكرتم قول الجهمية والقدرية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين : التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وبما روي عن الصحابة والتابعين وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد أحمد بن حنبل قائلون ولما خالف قوله مجانبون فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام معظم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين
والمقصود هنا ان صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم في الأمة لسان صدق من سلف الأمة وخلفها هو على مذهب أهل السنة والجماعة أهل الإثبات للأسماء والصفات وهم من أبعد الناس عن مذهب أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد وإن كان كثير من متأخري الصوفية دخلوا في مذهب الإباحة والحلولية وخلطوا التصرف بالفلسفة اليونانية كما خلطه بعضهم بشيء من أقوال أهل الكلام الجهمية
ومبدأ هذا من أقوال الذين يعارضون النصوص بآرائهم كما ذكر الشهرستاني في أول كتابه في الملل والنحل أن مبدأ انواع كل الضلالات هو من تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على الشرع فسرى في المنتسبين إلى لا علم والدين من أهل الفقه والكلام والتصوف من أقوال الملاحدة بسبب هذا الأصل مالا يعلمه إلا الله وأما ملاحدة الشيعة من القرامطة الباطنية والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم فأولئك أمرهم أظهر من أن يخفى على من عرف حالهم ممن فيه نوع إيمان بالله ورسوله ولهذا كثر الكاشفون لأسرارهم الهاتكون لأستارهم من جميع أصناف أهل القبلة حتى الشيعة والمعتزلة ونحوهم فإنهم متفقون على تكفيرهم كما اتفق على تكفيرهم أئمة السنة ومن انتسب إليهم من متكلمة الإثبات وغيرهم
وصنف القاضي أبو بكر كتابه المشهور فيهم ووصف فضائحهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو يعلي وأبو الوفا بن عقيل وأبو حامد الغزالي والشهرستاني والخبوشاني وغير واحد من العلماء وتكلموا في العبيديين الذين كانوا بالمغرب ومصر الذين ادعوا النسب العلوي وأضمروا مذهبهم تكلموا فيهم بما بينوا فيه بطلان نسبهم كما عرفوا بطلان مذهبهم وأن باطن مذهبهم أعظم كفرا من أقوال كفار أهل الكتاب ومن أقوال الغالية الذين يدعون نبوة علي أو إلهيته ونحوهم إذ كان مضمون مذهبهم : تعطيل الخالق وتكذيب رسله والتكذيب باليوم الآخر وإبطال دينه
وقد ذكروا منتهى دعوتهم في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي لهم وأن أقرب الطوائف إليهم الفلاسفة مع أنهم خالفوا الفلاسفة في إثبات واجب الوجود فإن الفلاسفة الإلهيين يثبتونه وهؤلاء أصحاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم أنكروه كما فعلت الدهرية الطبيعية
وقول الاتحادية كصاحب الفصوص وأمثاله يؤول إلى قول هؤلاء وهو القول الذي أزهره فرعون وأما المشاؤون أرسطو وأتباعه ومن اتبعهم من المتأخرين : كالفارابي وابن سينا وأمثالهم فهم يقرون بالعلة الأولى المغايرة لوجود الأفلاك لكن دليلهم الذي احتجوا به على الطبيعيين منهم هو دليل الحركة الذي احتج به أرسطو وقدماؤهم أو دليل الوجود الذي احتج به أبن سينا ومتأخروهم وهو منهم دليل ضعيف إذ مبناه على حجة التركيب وهي حجة ضعيفة كما قد بين في غير هذا الموضع
وكان أهل بيت ابن سينا من أتباع هؤلاء القرامطة من المستجيبين للحاكم الذي كان بمصر قال ابن سينا : وبسبب ذلك دخلت في الفلسفة
كما كان أصحاب رسائل إخوان الصفا من الموافقين لهم وصنف الرسائل على طريقتهم في الزمان الذي بنيت فيه القاهرة في أثناء المائة الرابعة وكان أمر المسلمين قد اضطرب ف يتلك المدة اضطرابا عظيما
كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات والإعراض عن دلالة الآيات كما ذكر ذلك أبن سينا في الرسالة الأضحوية التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليهم ليعطوه مطلوبة منهم من الجاه والمال وصرح بذلك في أول هذه الرسالة قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن وان الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات فقال : وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد : وهو أن الشرع والملة الآتية على نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد : من الإقرار بالصانع : موحدا مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع ولا داخلة فيه ولا حيث تصح الإشارة إليه أنه هنا أو هناك : ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور ولو ألقي هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف لتسارعوا إلى العناد واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم أصلا ولهذا ورد ما في التوراة تشبيها كله ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيء ولا إلى صريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل بل إلى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له وأما الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تحصى ولكن لقوم أن لا يقبلوه فإذا كان الأمر في التوحيد هذا فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية ؟ ولبعض الناس أن يقولون : إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا وان الألفاظ التشبيهية مثل : اليد والوجه والإتيان في ظلل من الغمام والمجيء والذهاب والضحك والحياء والغضب صحيحة ولكن نحو الاستعمال وجهة العبارة يدل على استعمالها مستعارة مجازا
قال ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة بل محققة أن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع في مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس وأما قوله { في ظلل من الغمام } البقرة 210 وقوله { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } الأنعام 158 على القسمة المذكورة وما جرى مجراه فليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا وأما قوله { يد الله فوق أيديهم } الفتح 10 وقوله { ما فرطت في جنب الله } الزمر 56 فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب ولا يلتبس على ذي معرفة في لغتهم كما يلتبس في تلك الأمثلة فإن هذه الأمثلة لا يقع شبهة في أنها مستعارة مجازية كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مرادا فيها شيء غير الظاهر ثم ذهب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد ؟ والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة ؟
وقد قال في ضمن كلامه إن الشريعة الجائية على لسان نبينا محمد صلى الله عليه و سلم جاءت أفضل ما يمكن أن تجئ عليه الشرائع وأكمله ولهذا صلح أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل
قال : وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد : مثل أنه عالم بالذات أو عالم بعلم قادر بالذات أو قادر بقدرة واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة تعالى عنها بوجه من الوجوه متحيز الذات أو منزهها عن الجهات ؟ فإنه لا يخلو : إما أن تكون هذه المعاني واجبا والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل التصريح المستقصي فيه والمنبه عليه : والموفي حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف على معانيه فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتذكية أفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه ولعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم ثم سامه أن يتنجز منهم الإيمان والإجابة غير مهمل فيه ثم سامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة حتى تستعد للوقوف عليها لكلفه شططا وأن يفعل ما ليس في قوة البشر اللهم إلا أن تدركهم خاصة إلهية وقوة علوية وإلهام سماوي فتكون حينئذ وساطة الرسول مستغى عنها وتبليغه غير محتاد إليه ثم هبك الكتاب العزيز جائيا على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف ؟ وليس لقائل أن يقول : إن ذلك الكتاب محرف كله وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم لا يطاق تعديدهم وبلادهم متنائية وأوهامهم متباينة منهم يهود ونصارى وهم أمتان متعاديتان ؟ فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقربا مالا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة
قال فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب يعني أمر المعاد واو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة بعيدة عن إدراك بدائة الأذهان لحقيقتها لم يكن سبيل الشرائع في الدعوة إليها والتحذير عنها منبها بالدلالة عليها بل بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الإفهام فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب
قلت فهذا كلام ابن سينا وهو ونحوه كلام أمثاله من القرامطة الباطنية مثل صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله من الملاحدة والكلام على هذا من فنين :
أحدهما : بيان لزوم ما ألزمه لنفاة الصفاة الذين سموا نفيها توحيدا من الجهمية المعتزلة وغيرهم
والثاني بيان بطلان كلامه وكلامهم الذي وافقوهم عليه
أما الأول فإن هؤلاء وافقوه على نفي الصفات وأن التوحيد الحق هو توحيد الجهمية المتضمن أن الله لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا رحمة ولا يرى في الآخرة ولا هو فوق العالم فليس فوق العرش إله ولا على السماوات رب ومحمد لم يعرج به إلى ربه والقرآن أحسن أحواله عندهم أن يكون مخلوقا خلقه في غيره أن لم يكن فيضا فاض على نفس الرسول وأنه سبحانه لا ترفع اليدي إليه بالدعاء ولم يعرج شيء إليه ولم ينزل شيء منه : لاملك ولا غيره ولا يقرب أحد إليه ولا يدنو منه شيء ولا يتقرب هو من أحد ولا يتجلى لشيء وليس بينه وبين خلقه حجاب وأنه لا يحب ولا يبغض ولا يرض ولا يغضب وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا مباينا للعالم ولا حالا فيه وإنه لا يختص شيء من المخلوقات بكونه عنده بل كل الخلق عنده بخلاف قوله تعالى { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } الأنبياء 19 وأنه إذا سمي حيا عالما قادرا سميعا بصيرا فهو حي بلا حياة عالم بلا علم قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر إلى أمثال هذه الأمور التي يسمي نفيها الجهمية توحيدا ويلقبون أنفسهم بأهل التوحيد كما يلقب الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنفسهم بذلك وكما لقب ابن التومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا وأمثالهما
ويقال إنه تلقى ذلك عن من يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا ف بالتوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات ولا أثبت الرؤية ولا قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد كما يقال إن أن التومرت ذكره في فوائده المشرقية إن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا
والمقصود أن هؤلاء لما سموا هذا النفي توحيداصوهي تسمية ابتدعها الجهمية النفاة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا أحد من السلف والأئمة بل أهل الإثبات قد بينوا أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وعبادة الله وحده لا شريك له كما ذكر الله ذلك في سورتي الإخلاص وعامة آيات القرآن فلما وافقه هؤلاء الجهمية من المعتزلة وغيرهم على نفي الصفات وأن هذا هو التوحيد الحق احتج عليهم بهذه المقدمة الدلية على أن الرسل لم يبينوا ما هو الحق في نفسه من معرفة توحيد الله تعالى ومعرفة اليوم الآخر ولم يذكروا ما هو الذي يصلح أو يجب على خاصة بني آدم وأولو الألباب منهم أن يفهموه ويعقلوه ويعلموه من هذا الباب وأن الكتاب والسنة والإجماع لا يحتج بها في باب الإيمان بالله واليوم الآخر لا في الخلق ولا البعث لا المبدأ ولا المعاد وأن الكتب الإلهية غنما أفادت تخييلا تنفع به العامة لا تحقيقا يفيد العلم والمعرفة وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها وهو العلم بالله لم تبينه الرسل أصلا ولم تنطق به ولم تهد إليه الخلق بل ما بينت لا معرفة الله ولا معرفة المعاد لا ما هو الحق في الإيمان بالله ولا ما هو الحق في الإيمان باليوم الآخر بل ليس عندهم في كلام الله ورسوله من هذا الباب علم ينتفع به أولو الألباب وإنما فيه تخييل وإبهام ينتفع به جهال العوام ولما كان هذا حقيقة قول الملاحدة القرامطة الباطنية صاروا يجعلون أحد رؤوسهم مثل الرسول أو أعظم من الرسول ويسوغون له نسخ شريعة محمد صلى الله عليه و سلم كما زعموا أن محمد ابن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعته
وصار كل من هؤلاء يدعي النبوة والرسالة أو يريد أن يفصح بذلك لولا السيف كما فعل السهروردي المقتول فإنه كان يقول لا أموت حتى يقال لي : قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول : لقد زرب أبن آمنة حيث قال : لا نبي بعدي ويقال إنه كان يتحرى غار حراء لينزل عليه فيه الوحي
وابن عربي ادعى ما هو أعظم من النبوة عنده وهو ختم الولاية وخاتم الأولياء عنده أفضل من خاتم الأنبياء في العلم بالله وهو يقول إن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون من مشكاة هذا الخاتم المدعي بمعرفة الله التي حقيقتها وحدة الوجود وهي تعطيل الصانع سبحانه التي هي سر قول فرعون
وأما أئمة القرامطة والإسماعلية كابن الصباح الذين تلقوا أركان الدعوة عن المستنصر أطول خلفائهم مدة وفي زمنه كانت فتنة البساسيري وأمثاله وأما سنان وأمثاله من الملاحدة فتظاهروا بإظهار الكفر بين أصحابهم وقالوا قد أبحنا لكم كل ما تشتهونه من فرج وشراب عنكم ونسخنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة
وهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الملاحدة على نفاة الصفات لإثبات إلحادهم هي من حجج أهل الإثبات عليهم لإثبات إيمانهم فإن الله سبحانه أخبر أنه { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } التوبة : 33 وقال تعالى { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } إبراهيم : 1
وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } المائدة : 15 - 16 وقال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } الشورى : 52 - 53 وقال تعالى { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } البقرة : 1 - 2 وقال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } النحل : 89 وقال تعالى { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء } يوسف : 111 وقال تعالى { قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا } النساء : 174 وقال تعالى { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } الأعراف : 157 وقال تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } العنكبوت : 18 وقال تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } النحل : 44 وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } المائدة : 3 وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } التوبة : 115
وأمثال هذه النصوص التي تبين أن الرسول هدى الخلق وبين لهم وانه أخرجهم من الظلمات إلى النور لا أنه لبس عليهم وخيل وكتم الحق فلم يبينه ولم يهد إليه لا للخاصة ولا للعامة فإنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان اعظم موافقة له وتصديقا له على ما أظهره وبينه فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره للزم إما أن يكون جاهلا به أو كاتما له عن الخاصة والعامة ومظهرا خلافه للخاصة والعامة
وكل من كان عارفا بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي انه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة التي لا يتنازع أهل المعرفة في صحتها عن علي رضي الله عنه أنه لما قيل له هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب ؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسر إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا كتمه عن غيرنا إلا فهما يؤتيه الله لعبد في كتابه وما في هذه الصحيفة وفيها عقول الديات وفكاك الأسير أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ في الصحيح هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا لم يعهده إلى الناس ؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة الحديث
وقد اجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق ولهذا كانت ملاحدة الشيعة والصوفية يسبون إلحادهم إلى علي وهو بريء من ذلك فأهل البطاقة من أهل الإلحاد ينسبون ذلك إلى علي وكذلك باطنية الشيعة من الإسماعلية والنصيرية وكذلك جعفر الصادق نسبوا إليه من الكلام في المجوم واختلاج الأعضاء والتفاسير المحرفة وأنواع الباطل ما برأه الله منه حتى رسائل إخوان الصفا زعم بعض رؤوسهم أنها كلامه وهذه إنما فيها من حوادث الإسلام التي حدثت بعد المائة الثالثة مثل دخول النصارى بلاد الإسلام ونحو ذلك ما يبين إنها صنفت بعد جعفر بنحو مائتي سنة
ومن هذا الباب ما ينقله آخرون عن عمر رضي الله عنه أنه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر يتحدثان كالزنجي بينهم فهذا وأمثاله من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة
وملاحدة الزهاد والعباد وجهالهم يرون من هذه الأمور فنونا مثل روايتهم أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار النبي صلى الله عليه و سلم لما لم يكن النصر معه ليحتجوا بذلك على أن العارف يكون مع من غلب وإن كان كافرا ويروون أن أهل الصفة عرفهم الله تعالى بالسر الذي اوحاه إلى نبيه صلى الله عليه و سلم صبيحة المعراج الأباطيل لم يكونوا خبيرين بالكذب فإن الصفة إنما كانت بالمدينة والمعراج كان بمكة بالنص والإجماع وقد علم كل عالم يعلم سيرة النبي صلى الله عليه و سلم بالاضطرار أن أهل الصفة كانوا كسائر المؤمنين مع النبي صلى الله عليه و سلم وانه لم يكن لأحد من الصحابة إلى الله طريق إلا متابعة رسوله وان أفضل الصحابة كان أقومهم بالمتابعة كأبي بكر وعمر وأبو بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما وهو أفضل الصديقين
وقد ثبت في الصحيحين انه قال إنه قد كان في الأمم قبلك محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
فعمر وإن كان محدثا فالصديق الذي يأخذ من مشكاة النبوة أفضل منه واكمل منه لأن ما استقر مجيء الرسول به فهو معصوم لا يتطرق إليه الخطأ وما يلقي إلى المحدث يقع فيه خطأ يحتاج إلى تقويمه بنور النبوة ولهذا كان أبو بكر يقوم عمر يرى أشياء ثم يتبين له الحق بخلافها كما جرى له هذا في عدة مواطن
وهذا وأمثاله مما يبين حاجة أفضل الخلق بعد الرسول واكملهم إلى الاهتداء بالرسول والتعلم منه ومعرفة الحق مما جاء به فكيف بمن يقول ليس في كلامه في معرفة الله واليوم الآخر علم ولا هدى ولا معرفة ينتفع بها أولو اللباب الذين هم دون عمر وأمثال عمر ؟
وقد قال الله تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } النساء : 59
وكيف يحكم بين الناس في مواطن الخلاف والنزاع كلام وخطاب ليس فيه علم ولا هدى ينتفع به أولو الألباب ؟
كما زعم هؤلاء الملاحدة من الفلاسفة المشائين المتأخرين وأتباعهم أن الشرائع لا يحتج بها في مثل هذه الأبواب فما لا يحتج به كيف يحتج به الناس فيما اختلفوا فيه ؟
وأي اختلاف أعظم من اختلافهم في اعظم الأمور وهي معرفة الله تعالى واليوم الآخر لا سيما ومن المعلوم أن الخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخيرية التي لا تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ فتلك تتنوع في الشريعة الواحدة فكيف بالشرائع المتنوعة ؟
وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه له حقيقة فإنه إن كانا مشروعين في وقتين أو رسولين فكلاهما حق وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو فهذا يعلم بالخبر المنقول عن الكتاب المنزل والكتاب المنزل هو نفس الأمر والنهي والخبر وفيه الشرع الذي لا يكون خلافه شرعا
وحينئذ فما ذكره ابن سينا وأمثاله من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيء فكلام صحيح وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال
وكذلك ما ذكره من أن من المواضع ما لا يحتمل اللفظ فيها إلا معنى واحدا لا يحتمل ما يدعونه من الاستعارة والمجاز كما ذكر في قوله تعالى { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } البقرة : 21 وقال تعالى { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } الأنعام : 158 على القسمة المذكورة وانه ليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد بها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة فهذا حجة على من نفى مضمون ذلك من نفاة الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعا وموافقتهم له لا تنفعه فغن ذلك حجة جدلية لا علمية إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له فإذا بين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعا
وكذلك قوله ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان الحكماء قاطبة ؟ كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقا فإنه حينئذ على قولهم لا يكون التوحيد الحق قد يبين أصلا وهذا التوحيد لينقاد لهم الجمهور في صلاح دنياهم
وقد بينا في غير موضع توحيد ابن سينا وأمثاله وبينا أنه من أفسد الأقوال التي بصريح العقل فساده ولنا في ذلك مفرد مكتوب في غير هذا الموضع
وأما قوله وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل انه عالم بالذات أو عالم بعلم أو قادر بالذات أو قادر بقدرة إلى آخره
فهو خطاب لمن وافقه على ضلاله وإلحاده حيث ظن أن التعطيل هو التوحيد وان الباري تعالى لا علم له ولا قدرة ولا صفات
فأما من لم يوافقه على خطئه فإنه يعلم أن الكتاب بين دقائق التوحيد الحق الذي جاءت به السل ونزلت به الكتب على احسن وجه
فإن الله تعالى أخبر عن صفاته وأسمائه بما لا يكاد يعد من آياته وذكر علمه في غير موضع
كقوله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } البقرة : 255
وقوله تعالى { أنزله بعلمه } النساء : 166
وقوله تعالى { وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } فصلت : 47 وغير ذلك
وقد قال تعالى { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } الذاريات : 58
وقال تعالى { والسماء بنيناها بأيد } الذاريات : 47 أي بقوة وقال تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } فصلت : 15
وفي الحديث الصحيح حديث الاستخارة اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك فأي بيان لعلم الله وقدرته أبين من هذا ؟
وأما قول القائل هنا هو عالم بالذات أو عالم بعلم فغن كان يظن أن الذات التي تكون إلا عالمة قادرة يمكن وجودها مجردة عن العلم والقدرة كما يقوله النفاة فهو كلام ضال متناقض فغن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة وحي بلا حياة وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر مما يعلم فساده بالضرورة عقلا وسمعا
وهذا بمنزلة متكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومتحرك بلا حركة ومحب بلا محبة ومصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وحاج بلا حج وأبيض بلا بياض وأسود بلا سواد وحلو بلا حلاوة ومر بلا مرارة وطويل بلا طول وقصير بلا قصر ونحو ذلك من الألفاظ المشتقة : كاسم الفاعل واسم الفعول والصفة المعدولة عنهما
فإن لم يكن هذا باطلا في بدائه العقول عقلا وسمعا لم يكن لنا طريق إلى معرفة الحق من الباطل ولهذا كان هؤلاء النفاة يعودون في آخر الأمر إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
وغن كان معنى قوله هل هو عالم بالذات أو بعلم ان هنا ذاتا مجردة موجودة بدون العلم وان العلم زائد عليها ن فهذا تصور فاسد فإن الذات المجردة عن العلم اللازم لها غنما تقدر في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان
ولفظ الذات يراد به الذات الموصوفة بالعلم وحينئذ فقولنا هل هو عالم بالذات أو بالعلم كلام واحد لأن لفظ الذات متضمن للعلم على هذا التفسير فلا يكون قولنا أو بالعلم قسما آخر
ويراد بالذات المجردة عن العلم فهذه لا حقيقة لها إذا كانت الذات لاتكون إلا عالمة كما أن ما لا يكون إلا حيا لا يمكن وجوده منفكا عن كونه حيا وما لا يكون إلا متحيزا لا يمكن وجوده منفكا عن التحيز فما لا يمكن وجوده إلا عالما وقادرا ويمتنع وجوده غير عالم قادر كيف يكون تقديره غير عالم ولا قادر ممكنا في الخارج ؟
ونفس العلم والقدرة هو نفس كونه عالما قادرا على قول الجمهور الذين ينفون أن تكون الأحوال زائدة في الخارج على الصفات ومن أثبت الأحوال زائدة على الصفات كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وأبي المعالى في أول قوليه فهؤلاء يقولون ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال وإثبات الملزوم مع أن الصواب أن الأحوال كالكليات لها وجود في الأذهان في الأعيان
ومما يبين ذلك أن النزاع في كون الرب تعالى عالما لذاته أو بالعلم أو قادرا لذاته أو بالقدرة كثير منه نزاع لفظي بل عامة المتنازعين فيه إذا حرر عليهم الكلام لم يتلخص بينهم نزاع وإنما يحصل النزاع بين مثبتة الأحوال ونفاتها فإن أهل الإثبات متفقون على أن علمه وقدرته من لوازم ذاته وانه لا يمكن وجوده غير عالم ولا قادر وينكرون وجود ذات مجردة عن العلم والقدرة وإذا قالوا هي زائدة على الذات فلا يعنون أنها زائدة على ذات مجردة عن العلم والقدرة إلا من يقول منهم إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالما فهؤلاء مثبتوا الحال وأكثر الصفاتية هم من نفاة الأحوال
وأما النفاة فيسلمون ثبوت الأحكام وهي انه عالم قادر وينازعون في ثبوت الصفات ويتنازعون بينهم في ثبوت الأحوال ثم الأحكام التي يثبتونها لا يجوز أن يراد بها مجرد حكمنا بأنه عالم قادر واعتقادنا لذلك وخبرنا عنه وهو الوصف بالقول فإن هذا الوصف والحكم إن لم يكن مطابقا لمضمونه كان باطلا فكونه حيا عالما قادرا ليس هو مجرد الحكم بذلك والخبر عنه ووصفه بالقول ولا هو نفس الذات التي هي العالمة القادرة فإن كون الذات حية عالمة قادرة ليس هو نفس الذات فتعين أن يكون هو الصفة
وأئمة المعتزلة يعترفون بذلك لكن يشنعون على الصفاتية بكلام لم يحققوا قولهم فيه بل ذكروا عنهم ما يفهم منه معنى فاسد إما لكونهم لم يفهموا قول أولئك أو لكونهم ألزموهم ما ظنوه لازما لهم أو لنوع من الهوى الموجب للافتراق الذي ذمه الله ورسوله
كلام أبي الحسين البصري في عيون الأدلة
واعتبر ذلك بما ذكره أبو الحسين البصري أفضل متأخري المعتزلة فإنه قال في كتاب عيون الأدلة قال باب القول في أن الله قديم وحده عندنا أنه لا قديم إلا الله وذهب قوم إلى إثبات قديم أكثر من قديم واحد فالكلابية والأشعرية أثبتوا ذواتا قديمة قائمة بذات الباري تعالى منها ذات توجب أن يكون عالما ولولاها لم يكن عالما وذات توجب كونه قادرا ولولاها لم يكن قادرا وذات توجب كونه حيا ولولاها لم يكن حيا وكذلك القول في السمع والبصر والإرادة
وأثبتت كلامه قديما وقالوا هذه المعاني لا هي الله ولا غيره ولا بعضه وكل منها ليس هو الآخر ولا غيره ولا بعضه وقالوا لو لم يكن في ذات الباري تعالى وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي وعندنا أن الله تعالى قادر عالم حي لذاته ونعني بذلك أن ذاته متميزة عن سائر الذوات تمييزا يجب معه أن يعلم الأشياء ويقدر على ما لا نهاية له ويحيا ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم وإلى معنى به يحيا ولو لم يكن في الوجود إلا ذات الله تعالى فقط لكان عندنا عالما حيا قادرا سميعا بصيرا
قال فإن قالوا لله علم وقدرة وحياة قيل لهم إن أردتم بذلك أنه قادر عالم حي فنعم لله علم بكل شيء وقدرة على كل شيء مما لا نهاية له بمعنى أنه عالم قادر حي وإن أردتم بالعلم ذاتا كان بها عالما ولولاها ما كان عالما تسمونها علما وأردتم بالقدرة ذاتا بالعلم قادرا تسمونها قدرة وأردتم بالحياة ذاتا بها كان حيا تسمونها حياة فالله تعالى مستغن عن ذلك
قال وذهبت الثنوية إلى إثبات قديمين لا يقوم أحدهما بذات الآخر نور وظلمة ونسبوا الخير كله إلى النور ونسبوا الشر كله إلى الظلمة وقالوا إنهما لم يزالا متباينين ثم امتزجا فحدث من امتزاجهما العالم فكل خير في العالم فمن النور وكل شر فيه فمن الظلمة ولم يقل أحد بإثبات قديمين مثلين حكيمين ونحن نفسد ذلك وغن لم يذهب إليه ذاهب ومن المجوس من يقول بحدوث الشيطان وقدم الله تعالى وأما النصارى فإنها تقول إن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم وذهبوا بذلك إلى قريب من مذهب الكلابية ونسخة أمانتهم يعني النصارى تدل على انهم أثبتوا ذواتا فاعلة
قال ونحن نفسد هذه المذاهب كلها ليصح ما ذهب إليه شيوخنا من أنه لا قديم إلا الله
تعليق ابن تيمية
فيقال هذا الكلام يقتضي أنه ليس بينه وبين أئمة الكلابية والأشعرية وسائر الصفاتية خلاف معنوي فأما نقله عنهم أنهم أثبتوا أكثر من قديم واحد وانهم أثبتوا ذاتا قديمة قائمة بذات الله تعالى فيقال له أما الكلابية ومن سلك سبيلهم من أهل الحديث والفقه كأبي الحسن التميمي وأبي سليمان الخطابي وغيرهما من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم فإنهم لا يقولون عن الصفات وحدها إنها قديمة فلا يقولون العلم قديم ولكن يقولون الرب بعلمه قديم ومن أطلق منهم على الصفات أنها قديمة فلا يقول إن الذات والصفات قديمان ومن أطلق القدم على الصفات فإنهم لا يطلقون عليها لفظ الذوات فإن الذات إذا أطلقت يفهم منها أنها الذات القائمة بنفسها الموصوفة بالصفات ولهذا يفرق بين الذات والصفات
وأصل الذات تأنيث ذو ومعناه الصاحبة أي صاحبة الصفة فهم لا يسمون الصفات ذوات بهذا الاعتبار وإنما يسمونها معاني
وإذا قال بعضهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما إن العلة ذات من الذوات موجودة لا يصح أن يوجب الحكم إلا لذات موجودة فمرادهم بذلك أنها شيء موجود كما بينوه بقولهم إن العلة لا يجوز أن تكون معدومة ولا حكمها معدوما مع أن هذا ينازعهم فيه نفاة الحال
لكن المقصود أن مرادهم بهذا اللفظ ليس هو أنها ذات قائمة بنفسها بل معنى من المعاني وأما نقلك عنهم أنهم يثبتون ذاتا نوجب أن يكون عالما ولولاها لما كان عالما فهذا أولا ليس هو قول أئمتهم ولا جمهورهم بل هذا قول من يثبت الحال منهم وأما جمهورهم فعندهم العلم هو نفس كونه لا يثبتون هناك ذاتا أوجبت كونه عالما
وأنت قد اعترفت بأن له علما وقدرة وحياة بمعنى انه عالم قادر حي لا بمعنى أن له ذاتا بها كان عالما فقولك موافق لقول جمهورهم ثم مثبتة الحال تقول قام به معنى هو العلم أوجب كونه عالما وأما نقلك عنهم أنهم يقولون لو لم يكن في الوجود إلا ذات الباري وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي فلبي الأمر على ما يفهم من هذه الشناعة فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت قولهم بلفظ الذات ولفظ الذات مجمل فإن أردت أنهم يقولون لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بهذه الصفات فإنه من المعلوم أنه لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بالعلم والقدرة لكانت عالمة قادرة وغن أردت انهم يقولون لو لم يكن إلا الذات المجردة عن الصفات فعندهم أن وجود ذات الرب مجردة عن هذه الصفات ممتنع فهو كما تقول أنت لو قدر انه ليس في الوجود إلا هو مع كونه غير عالم ولا قادر ومعلوم انه إذا قدر هذا التقدير الممتنع لذاته لزمه حكم ممتنع
ويقال له أنت قد قلت إن الله عندكم قادر حي لذاته
قلت ويعني بذلك أن ذاته متميزة من سائر الذوات تميزا يجب معه أن يعلم ويقدر هل نفس أن يعلم ويقدر هو الذات المتميزة أو نفس أن يعلم الذات ويقدر ليس هو نفس الذات ؟
فإن قلت إن نفس الذات هو نفس أن يعلم ويقدر فهذه مكابرة للضرورة فإن العلم ليس هو نفس العالم ولا القدرة نفس القادر وهذا أيضا متفق عليه بين المعتزلة وأهل الإثبات
وأيضا فيكون حقيقة قولك إن الذات متميزة تميزا تجب معه الذات وأنت لو قلت الذات أوجبت الذات لم يصح فكيف إذا كان تميزها هو الموجب لها وإن قلت ليس هذا هو هذا فهذا قول الصفاتية والعلم الذي يثبتونه هو قولك أن تعلم فإن أن والفعل هو بتأويل المصدر فقول القائل علم علما وله علم كقوله هو موصوف بأن يعلم يعلم وإذا قالوا عالم بالعلم لا بذاته لم يرد جمهورهم بذلك أن العلم هو أوجب صفة غير العلم وهو كونه عالما بل نفس علمه هو كونه عالما فيقولون عالم بصفة له هي العلم لا بذات مجردة عن العلم ومعلوم أن ذاته هي الموجبة لكونه عالما فلا ينازعون في انه عالم بالذات بمعنى أن ذاته أوجبت كونه عالما وأنه نفسه مستغن عما يجعله عالما وليس هناك شيء غيره جعله عالما
وأما قولك ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم فهذا لفظ مجمل فإن هذا إنما يصلح أن يكون حجة على مثبتة الأحوال الذين يقولون هناك معنى هو العلم أوجب كونه عالما فقولك هذا كقول القائل لا يحتاج إلى كونه عالما قادرا ولا يحتاج إلى أن يعلم ويقدر وانتم تسلمون لهم انه لا بد أن يعلم ويقدر وهذا هو عندهم العلم والقدرة فقول القائل بعد هذا يحتاج إلى هذا أو لا يحتاج سؤال لا يرد عليهم ولا على أحد وذلك أن معنى الحاجة إن أريد به أن اتصافه بصفات الكمال لا يستلزم كونه عالما قادرا فهذا باطل وإذا قيل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى صفة فهو كقول القائل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى ذاته وهو غني بنفسه عن كل ما سواه ولا يقال هو غني عن نفسه فغن نفسه المقدسة الموصوفة بصفة الكمال المستلزمة لذلك هي الغنية فإذا قيل هو غني عن ذلك كان مثل قول القائل هو غني عن نفسه أو غني عن غناه أو غني عما لا يكون غنيا إلا به وكقوله الحي الذي تجب الحياة له غني عن حياته أو واجب الوجود غني عن وجوده والقديم عن قدمه ونحو ذلك
فإن قال هم يقولون عالم بعلم ولا يقولون موجود بوجود ولا باق ببقاء ولا قديم بقدم
قيل منهم من يقول ذلك ومنهم من لا يقول به ويفرق بأن نفس الذات القديمة الباقية إذا قدرت غير قديمة ولا باقية لم يرجع الخلاف في ذلك إلى معنى ثبتي قام بها فإن البقاء هو الدوام والشيء الباقي إذا قدر أنه لم يتغير فحاله مع البقاء ودونه سواء بخلاف العلم والقدرة فإن الذات العالمة القادرة إذا قدر أنها غير عالمة ولا قادرة علم ذلك اختلاف حالها في نفسها بتقدير عدمه ليس هو مجرد نسبة وإضافة كالبقاء ونحوه
وأيضا فجمعك بين هؤلاء الصفاتية وبين المجوس والنصارى فيه من التحامل مالا يخفى على منصف
وقولك عن النصارى إنهم ربما أومأوا إلى مذهب الكلابية فيقال له لو كان قول النصارى ليس فيه إلا إثبات أن الله حي بحياة عالم بعلم لكان قولهم وقولك وقول الكلابية سواء والنصارى لم يكفرهم الله بهذا وغنما كفرهم الله بما ذكره عنهم في كتابه مما لا يقول به أحد من الصفاتية المسلمين وقول النصارى فيه من التناقض والاضطراب ما يتبين لكل عاقل ساده حيث يثبتون الابن صفة أقنوما ويجعلونه مع ذلك إلها فاعلا ويجعلون مع ذلك الإله واحدا ويقولون إن المتحد بالمسيح هو الابن وهو الكلمة دون الأب فهو مذهب متناقض كتناقض الفلاسفة بل والمعتزلة متناقضون ايضا في نفي الصفات وإثبتها كما تراه وهذا كلام افضل متأخريهم
ثم إنه لم يحتج على الصفاتية إلا بحجتين إحداهما انه لو كان له علم لكان علمه مثل علمنا والمثلان لا يكون أحدهما محدثا والآخر قديما
والثانية أن كونه عالما قادرا واجب والصفة إذا كانت واجبة استغنت بوجوبها عن معنى يوجبها فقد سمى ذلك صفة وهذه الحجة غنما تلزم مثبتة الحال وهم يقولون يعلل الواجب بالواجب وأما الأولى ففسادها ظاهر جدا لا سيما وأبو الحسين لا يسلم لهم أن الواحد منا عالم لمعنى ولهذا عدل عن طريقتي شيوخه المذكورتين في نفي الصفات إلى طريقة ثالثة أضعف منهما فقال إنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني ومالا طريق إليه لا يجوز إثباته فكان مضمون كلامه نفي الشيء انتفاؤه في نفس المر بل النافي عليه الدليل لا ينعكس ولا يلزم متى انتفى الدليل على الشيء انتفاؤه في نفس الأمر بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات فعليه أن لا ينفي ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته يبين ذلك أنه ذكر في حجة أهل الإثبات أن الواحد منا عالم لمعنى لا يكون عالما إلا به فوجب مثل ذلك للباري سبحانه وتعالى
قال والجواب يقال لهم ولم وجب أن يكون حكم الباري سبحانه وتعالى ؟ فما أنكرتم أن يكون الواحد منا عالما لمعنى ويكون الباري عالما لذاته على أن الواحد منا عالم لا لمعنى وغن لم يكن ذلك مذهب أصحاب أبي هاشم وقد فرق أصحاب أبي هاشم بين الواحد منا وبين الباري تعالى في ذلك فقالوا الواحد منا علم مع جواز أن لا يعلم فلم يجز أن يكون عالما إلا لمعنى يرجح به كونه عالما على كونه غير عالم والباري تعالى علم الأشياء ويستحيل أن لا يعلمها فلم يحتج إلى معنى يترجح به كونه عالما على كونه غير عالم
تعليق ابن تيمية
فيقال لأبي الحسين إذ كان مذهبك ومذهب نفاة الأحوال أن الواحد منا عالم لا لمعنى والباري عالم لا لمعنى فقد صحت حجة الصفاتية وتبين أن إثبات الصفة لأحد العالمين دون الآخر باطل وأما ما ذكرته من قول أبي هاشم فهو قول مثبتة الحال وحينئذ فيخاطبه مثبتة الحال من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ومن تبعهما فيقولون كونه علم مع وجوب أن يعلم لا يمنع استلزام ذلك علما به صار عالما بل الحال الواجبة تستلزم علة واجبة والحال الجائزة تستلزم علة جائزة وإنما الفرق بينهما أن الواحد منا علم مع جواز أن لا يكون له علم وان لا يكون عالما والباري علم مع وجوب أن يكون له علم وأن يكون عالما فالفرق بينهما من جهة وجوب الصفة والحال وجواز الصفة والحال أما ثبوت الصفة والحال في أحدهما دون الآخر وهذا كله مما تبين لمن علم وانصف أنه لا يمكن أبا الحسين وأمثاله من المعتزلة أن يذكروا فرقا معقولا بين قولهم وقول أئمة الصفاتية وإذا قدر أنهم يذكرون فرقا فحجتهم على النفي في غاية الفساد والتناقض فهم يتناقضون لا محالة في نفس المذهب أو في حجته ونقلهم عن منازعيهم فيه من التحريف والمجازفة والشناعة بغير حق ما يتبين لمن تأمله مثل تشنيعهم على أهل الإثبات بأنكم تقولون بتعدد القديم والقديم لفظ مجمل يوهمون به بعض الناس أنهم يقولون بتعدد الآلهية لا سيما مع قول اكثر شيوخهم كالجبائي ومن قبله إن أخص وصف الرب هو القدم وإن الاشتراك فيه يوجب التماثل فلو شاركت الصفة الموصوف في القدم لكانت مثله وهذا وإن كان في غاية الفساد فإن خصائص الرب التي لا يوصف بها غيره كثيرة مثل كونه رب العالمين وانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم القائم بنفسه القديم الواجب الوجود المقيم لكل ما سواه ونحو ذلك من الخصائص التي لا تشركه فيها صفة ولا غيرها
فيقال القدم هو من خصائصه هو قدم القائم بنفسه وكذلك وجوبه الذي هو وجوب وجود القائم بنفسه ونحو ذلك
وأما الصفات التي لا تقوم إلا به فإن قيل بقدمها أو وجوبها فلا ريب أنها ليست قائمة بنفسها بل لا تقوم إلا بالموصوف وحقيقة الأمر أن القديم الواجب بنفسه هو الذات المستلزمة لصفات الكمال وأما ذات مجردة عن هذه الصفات أو صفات مجردة عنها فلا وجود لها فضلا عن أن تكون واجبة بنفسها أو قديمة فقولهم مع فساده أوجب أن صار كثير من الناس يحترزون عن إطلاق لفظ القديم على الموصوف والصفة جميعا وإن كانوا يطلقون ذلك على أحدهما عند الانفراد وهذه طريقة ابن كلاب وأكثر أئمة متكلمي الصفاتية وعلى هذا جرى كلام أبي الحسن التميمي و الخطابي وغيرهما ممن سلك هذا المسلك
كلام أبي الحسن التميمي في جامع الأصول
كما قال أبو الحسن في كتاب الإشارة له في جامع الأصول قال مسألة إن سأل سائل فقال هل يقال إن الصفات قديمة قيل له هذا سؤال ضعيف لا يسأل عنه من عرف حقائق الكلام لآن القديم الأزلي لم يكن قديما بغير صفة وغنما كان قديما بصفاته التي هي مضافة إليه في نفسه فإثبات القديم قديما بصفاته يسقط المسألة عن قدم الصفات لإضافة الصفة إلى الموصوف فكل صفة للقديم في نفسه لم يزل بها ألا ترى أن المحدث جميعه محدث فإذا سألت عنه مفرقا كانت كل طائفة منه محدثة وكل شيء منه محدث لأنه كله محدث بكماله أو لا ترى أن الإنسان محدث بجميع جوارحه وآلته فيقال هو محدث عند المسألة عنه في الجملة ويقال يده محدثة عند المسألة عنها في التفسير ولا يقال إن الإنسان ورأسه محدثان فكذلك أيضا يقال القديم بجميع صفاته قديم وكل شيء من القديم فهو قديم غير محدث
فإن قال قائل يقولون إن الموصوف قديم وصفته القديمة قديمان قيل له هذا خطأ لا يجوز أن يقال كما أنه لما لم يجز حين كان المحدث محدثا بجميع صفاته أن أجبت من سألني عنه منفردا وعن صفاته مفردة أن أقول إنه وصفته محدثان لنه واحد هو وصفاته فهو كله محدث وهي على حالها محدثة ولا يجوز أن أقول هما جميعا محدثان لأن في قولنا إنهما جميعا محدثان فسادا لإثبات الواحد المحدث وإيهام أنه اثنان وليس بواحد فكذلك في قولي في الأول الواحد القديم الذي له صفات إنه قديم وصفاته قديمة فإذا قلت هو وصفاته قديمان ففيه إثبات تعطيل لتوحيده وقدمه وإيجاب أنه اثنان دون واحد ففسد من ذلك أن يقال هو وصفته قديمان كما فسد أن يقال للمحدث هو وصفته محدثان وكان الواجب أن يقال إن القديم الأزلي لم يزل موصوفا فمن سأل عن صفة صفة مفردة جاز أن يقال له هي قديمة صفة لقديم لم يزل بها ولم تزل به كما لا تكون صفة المحدث إلا محدثة فما جرى على القديم في شرط القدم فهو واقع عليه بصفاته وليس بواقع عليه دون صفاته
فإذا قال القائل الموصوف قديم فقد قال إن صفاته قديمة كما إذا قال الموصوف محدث فقد أوجب أن صفاته محدثة
تعليق ابن تيمية
قلت فهذه الطريقة التي سلكها هؤلاء في انهم يقولون عن الذات إنها قديمة وعن الصفات إنها قديمة ولا يقولون عن الذات والصفات إنهما قديمان من الإشعار بالتغاير وهم لا يطلقون على الصفات إنها غير الذات
ولهم في لفظ المغايرة ثلاث طرق احدها وهي طريق الأئمة كالإمام احمد وغيره وأظنها قول ابن كلاب وغيره وقد ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني انهم لا يقولون عن الصفة إنها الموصوف ولا يقولون غنها غيره ولا يقولون ليست هي الموصوف ولا غيره لأن لفظ الغير مجمل فلا ينفونه عند الإطلاق ولا يثبتونه
والطريقة الثانية وهي المحكية عن الأشعري نفسه انه قال أقول مفرقا إن الصفة ليست هي الموصوف وأقول غنها ليست غير الموصوف لكن لا أجمع بين السلبين فأقول ليست الموصوف ولا غيره وهكذا أبو الحسن التميمي ومن سلك هذه الطريقة يقولون في العلم ونحوه من الصفات إنه ليس غير الله وان الصفات ليست متغايرة كما يقولون إنها ليست هي الله كما يقولون إن الموصوف قديم والصفة قديمة ولا يقولون عند الجمع قديمان كما لا يقال عند الجمع لا هو الموصوف ولا غيره
والثالثة قول من يجمع بين السلبين كما هي طريقة ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلي وغيرهما وهؤلاء قد يطلقون القول بإثبات قديمين : أحدهما الصفة والآخر الموصوف كما ذكروا ذلك في كتيهم وإذا احتج عليهم المعتزلة بانه إذا كانت صفاته قديمة وجب إثبات قديمين ولو كان علمه قديما لكان إلها أجابوهم بان كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما كالسواد والبياض اشتركا في كونهما مخالفين للجوهر ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله لأن القديم هو ما بولغ له في الوصف بالتقدم ومنه بناء قديم ودار قديمة إذا بولغ له في الوصف بالتقدم وليس معنى الإله مأخوذا من هذا ولأن النبي محدث وصفاته محدثة وليس إذا كان الموصوف نبيا وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونها محدثة كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديما أن تكون إلهة لكونها قديمة وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر
كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية في مسألة الصفات وتعليق ابن تيمية عليه
وأما قول ابن سينا وهل هو : واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة ؟ تعالى عنها بوجه من الوجوه
فيقال له : الكتاب الإلهي مملوء بإثبات الصفات لله تعالى كالعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ولم يتنازع اثنان من العقلاء أن النصوص ليست دالة على نفي الصفات بل إنما هي دالة على قول أهل الإثبات لكن غاية ما تدعيه النفاة أن ظاهرها دال على ذلك وأنه يمكن تأويله للدليل المعارض
ولا ريب أن ما ذكره لازم لنفاة الصفات إذ لو كان قولهم هو الحق لكان الواجب بيان ذلك وإن لم يبين فلا أقل من السكوت عن الحق ونقيضه فأما ذكر ما يدل ظاهره على نقيض الحق من غير ذكر للحق فهذا ممتنع في حق من قصده هدى الخلق وإن كان هذا جائزا فهو حجة لهؤلاء الملاحدة عليهم في المعاد بل وفي الشرائع أيضا فإن أجابوا الملاحدة في المعاد بانا نعلم بالاضطرار معاد الأبدان من أخبار الرسول فلا يحتاج أن نتلقاه من ألفاظ السمع لئلا يقدح في دلالة السمع بالتأويل كان هذا جوابا بعينه لأهل الإثبات فإنهم يقولون : إنا نعلم بالاضطرار أن إثبات الصفات مما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم وأنه أخبر الأمة أن ربهم الذي يعبدونه فوق العالم وأنه عليم قدير رحيم له العلم والقدرة والرحمة إلى أمثال ذلك من الصفات
والعلم بإثبات الصفات من قول الله ورسوله بعد تدبر النصوص الإلهية علم ضروري لا يرتاب فيه وهو أبلغ من العلم بثبوت الشفعة وميراث الجدة وتحريم المرأة على عمتها وخالتها وسجود السهو في الصلاة ونحو ذلك من الأحكام المعلومة عند الخاصة دون العامة فإن ما في الكتب الإلهية من إثبات علو الله تعالى وإثبات صفاته وأسمائه هو من العلم العام الذي علمته الخاصة والعامة كعلمهم بعدد الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وغير ذلك من الشرائع الظاهرة المتواترة ولا تجد أحدا من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين وإنما ينقل قوله في النفي عمن هو معروف بتقليد أو بدعة أو إلحاد وعلى قدر بدعته وإلحاده يكون إيغاله في النفي وبعده عن الإثبات
وقوله : أو قابل لكثرة تعالى عنها لفظ مموه فإنه إن عني كثرة الآلهة وهو لم يعن ذلك فقد علم أن الله سبحانه قد بين أن الإله إله واحد في غير موضع والقرآن ملآن من نفي تعدد الآلهة ونفي الشرك بكل طريق وإن عني كثرة صفاته التي دلت عليها أسماؤه آياته فتعليته الرب عنها كتعلية المشركين له أن يدعى ويعبد بلا واسطة وتعليتهم له عن أن يرسل رسولا من البشر فتنزيهه له عن صفاته كتنزيه المشركين له عن أن يكون إلها واحدا وأن يكون له رسول من البشر
وقد أنكر الله تعالى على المشركين نفيهم اسم الرحمن كما قال تعالى { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } الفرقان 60 وقوله تعالى { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن } الرعد 30
ومعلوم أن الاسم العلم لا ينكره أحد ولو كانت أسماؤه أعلاما لم يكن فرق بين الرحمن والجبار كيف وقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المعروف في السنن : يقول الله : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتته
فإذا كانت الرحم مشتقة من اسم الرحمن امتنع أن يكون علما لا معنى فيه
وفي الصحيح عنه الرحم شجنة من الرحمن
فإذا كان هذا قوله سبحانه فيمن ينكر الرحمن فما الظن بمن ينكر جميع معاني أسمائه وصفاته ؟ وحمية هذا الملحد وأمثاله أن يكون له صفات حمية جاهلية شر من حمية الذين قال الله فيهم { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } الفتح 26 فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما اصطلح هو والمشركون عام الحديبية أمر عليا أن يكتب في أول كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو وكان إذ ذاك مشركا لا نعرف الرحمن ولكن اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم فأمر عليا فكتب باسمك اللهم ثم قال اكتب هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله فقالوا لو علمنا أنلك رسول الله ما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله
فهؤلاء أخذتهم حمية جاهلية في إثبات أسماء الله ونبوة رسوله والملاحدة شاركوهم في ذلك من وجوه كثيرة فإنهم ينفون حقائق أسماء الله وحقيقة رسالة رسوله صلى الله لعيه وسلم وغايتهم أن يؤمنوا بها من وجه ويكفروا من وجه كالذين قالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويقال له ذات لا صفة لها لا وجود إلا في الذهن بل لفظ ذات تأنيث ذو ولا تستعمل إلا مضافا وذات معناه صاحبة كقوله تعالى { عليم بذات الصدور } آل عمران 119 وقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } الأنفال 1 وقوله خبيب
( وذلك في ذات الإله )
أي في سبيل الإله وجهته
ثم استعملها أهل الكلام بالتعريف فقالوا الذات أي الصاحبة والمعنى صاحبة الصفات
فتقدير المستلزم للإضافة بدون الإضافة ممتنع وهذا كما أثبته ابن سينا وأمثاله من هؤلاء الملحدة حيث جعلوه وجودا مطلقا إما بشرط النفي وإما بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فكيف بالمطلق المشروط بالنفي فإنه أبعد عن الوجود من المشروط بالإطلاق وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
وقوله أهو متحيز الذات أم منزهها عن الجهات ؟
هو أيضا من حججهم على نفاة الصفات فإن الكتب الإلهية وصفته بالعلو والفوقية ولم تنف أن يكون فوق العالم كما تقوله النفاة
وإذا كانت النصوص الإلهية قد بينت أن لعلي الأعلى الذي يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الذي تعرج الملائكة والروح إليه الذي نزل منه القرآن والملائكة تنزل من عنده الذي خلق السماوات والأرض في ستته أيام ثم أستوى على العرش ونحو ذلك من النصوص المبينة لمباينته لخلقه وعلوه عليهم فأي بيان للمقصود أعظم من هذا ؟
وأما لفظ التحيز والجهة فلفظان مجملان ومراد النفاة منهما غير المراد في اللغة المعروفة فإن المتحيز اسم فاعل من تحيز يتحيز فهو متحيز مثل تعوذ وتكبر وتجبر ونحو ذلك والحيز ما يحوز الشيء ويحوطه والمفهوم من ذلك في اللغة الظاهرة أن يكون هناك شيء موجود بحوز غيره
ولا ريب أن الخالق مباين للمخلوقات عال عليها كما دلت النصوص الإلهية واتفق عليه السلف والأئمة وفطر الله تعالى على ذلك خلقه ودلت عليه الدلائل العقلية
وإذا كان كذلك وليس ثم موجود إلا خالق ومخلوق فليس وراء المخلوقات شيء موجود يكون ميزا لله تعالى فلا يجوز أن يقال هو متحيز بهذا الاعتبار
وهم قد يريدون بالحيز أمرا عدميا حتى يسموا العالم متحيزا وإن لم يكن في شيء آخر موجود غير العالم وإذا كان كذلك فكونه متحيزا بهذا الاعتبار معناه انه في حيز عدمي والعدم ليس بشيء وما ليس بشيء فليس في كونه فيه أكثر من كونه وحده لا موجود معه وانه منحاز عن الخلق متميز عنهم بائن عنهم ليست ذاته مختلطة بذات المخلوق فإذا أريد بالمتحيز المباين لغيره وقد دلت النصوص على أن الله تعالى عال على الخلق بائن عنهم ليس مختلطا بهم فقد دلت على هذا المعنى فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها كما قال الشعبي ما ابتدع أحد بدعه إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن قصر عنه
ولما كان لفظ المتحيز فيه إجمال وإبهام امتنع طوائف من أهل الإثبات عن إطلاق القول بنفيه أو إثباته ولا ريب أنه لا يوجد عن أحد من السلف والأئمة لا إثباته ولا نفيه كما لا يوجد مثل ذلك في لفظ الجسم والجهر ونحوهما
وذلك لأنها ألفاظ مجملة يراد بها حق وباطل وعامة من أطلقها ف بالنفي أو الإثبات أراد بها ما هو باطل لا سيما النفاة فإن الصفات كلهم ينفون الجسم والجوهر والمتحيز ونحو ذلك ويدخلون في نفي ذلك صفات الله وحقائق أسمائه ومباينته لمخلوقاته بل إذا حقق الأمر عليهم وجد نفيهم متضمنا لحقيقة نفي ذاته إذ يعود الأمر إلى وجود مطلق لا حقيقة له إلا في الذهن والخيال أو ذات مجردة لا توجد إلا في الذهن والخيال أو إلى الجمع بين المتناقضين بإثبات صفات ونفي لوازمها
فعامة من يطلق ذلك إما متناقض في نفيه وإثباته يثبت الشيء بعبارة وينفيه بأخرى أو يثبته وينفي نظيره أو ينفيه مفصلا ويثبته مجملا أو بالعكس أو يتكلم في النفي والإثبات بعبارات لا يحصل مضمونها ولا يحقق معناها
وهكذا كثير في الكبار فضلا عن الصغار وكثير منهم لا يفهم مراد أكابرهم بهذه العبارات وهم يعلمون أن عامتهم لا يفهمون مرادهم وإنما يظنونه تعظيما وتسبيحا من حيث الجملة والواجب على المسلمين أن يتلقوا الأقوال الثابتة عن الرسول بالتصديق والقبول مطلقا في النفي والإثبات
وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام فلا تتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يعرف مراد المتكلم بها فإن وافق ما قاله الرسول كان من القول المقبول وإلا كان من المردود ن ولا يكون ما وافق قول الرسول مخالفا للعقل الصريح أبدا كما لا يكون ما خالف قوله مؤيدا ببرهان العقل أبدا كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع
وكذلك لفظ الجهة لفظ مجمل فإن الناطقين به من أهل الكلام والفلسفة وقد يريدون بلفظ الجهة أمرا وجوديا غما جسما وغما عرضا في جسم
وقد يريدون بلفظ الجهة ما يكون معدوما كما وراء الموجودات
فقول القائل إن الحق في جهة
إن أراد به ما هو موجود مباين له فلا موجود مباين له إلا مخلوقاته فإذا كان مباينا لمخلوقاته فكيف تكون محتوية عليه ؟
وإن أراد بالجهة ما فوق العالم فلا ريب أن الله فوق العالم وليس هناك إلا هو وحده وليس فوق المخلوقات إلا خالقها هو العلي الأعلى
فصل
وقول ابن سينا فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفاة وهم المخاطبون بهذه الجملة واما أهل الإثبات فهم يقولون إن ذلك كله مما صرح به في الشريعة
وكذلك قوله وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل بالتصريح المستقصي فيه والموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفات الجهمية وأما أهل الإثبات فيقولون إنه قد صرح بالتوحيد الحق التصريح المستقصي فيه الموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف وهذه نصوص القرآن والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف فيها من البيان للإثبات ما لا يحصيه إلا رب السماوات
وقوله فإن المبرزين المنفقين أيامهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وشرح وعبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب ؟
فهذا الكلام حجة له على إخوانه الجهمية من المعتزلة وأتباعهم نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات ولا ريب أن فهم قولهم فيه غموض ودقة لأنه قول متناقض فاسد أعظم تناقضا من قول النصارى كما قد بين في موضعه فما يفهمه إلا الذكي الذي مرن ذهنه على تسليم المقدمات التي بها يفسدون ذهنه أو على تصور أقوالهم المتناقضة فإن كان من متابعيهم نقلوه من درجة إلى درجة كما تفعل القرامطة بنقل المستجيبين لهم من درجة إلى درجة وكذلك هؤلاء الجهمية النفاة لا يمكنهم أن يخاطبوا ذكيا ولا بليدا بحقيقة قولهم إن لم يتقدم قبل ذلك منه تسليم لمقدمات وضعوها تتضمن ألفاظا مجملة يلبسون بها لعيه الحق بالباطل فيبقى ما سلمه لهم من المقدمات مع ما فيه من التلبيس والإبهام حجة لهم عليه فيما ينازعهم فيه إلى أن يخرجوه أن تمكنوا من العقل والدين كما تخرج الشعرة من العجين فإن من درجات دعوتهم الخلع والسلخ وأمثال هذه العبارات
وقد رأيت كتبهم فرأيتهم يحتجون على طوائف المسلمين الذين فيهم بدعة بما وافقوهم عليه من البدعة كما احتج ابن سينا على المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات بما وافقوه عليه من هذه الأقوال المبتدعات وإلا فالفطر السليمة تنكر أقوال النفاة إذ قد توافق على إنكارها الفطر والمعقول والسمع المنقول وإنما يخالف بنوع من الشبه الدقيقة التي هي من أبطل الباطل في الحقيقة
ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء الذين فيهم نوع من التهجم عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة لما ظهر قول الإثبات في بلدهم بعد ان كان خفيا واستجاب له الناس بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئا فريا فقال هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ثلاثين سنة ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه لم ينزل في حلقه إلا بكلفة
وهو كما قال : فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما ان في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك
وهذا كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق يحتاج إلى أعمال عظيمة وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات ومفارقة الشهوات والعادات ثم آخر امرهم الشك بالرحمن وعبادة الطاغوت والشيطان وعمل الذهب المغشوش والفساد في الأرض والقليل منهم من ينال بعض غرضه الذي لا يزيده من الله إلا بعدا وغالبهم محروم مأثوم يتمنى الكفر والفسوق والعصيان وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان سماعون للكذب أكالون للسحت عليهم ذلة المفترين
كما قال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } الأعراف 152 ولهذا تجد أهل هذه الأباطل الصعبة الشديدة في الغالب : إما ملحدا من أهل النفي والتكذيب وإما جاهلا قد أضلوه ببعض شبهاتهم
وأما قوله : فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب ؟ فيقال له : نحن لا ننكر أن في العبرانيين والعرب من يكون ذهنه مقصرا عن بعض دقيق العلم لكن إذا وازنت من كان من محمد صلى الله لعيه وسلم من العرب الخاصة والعامة ومن كان مع موسى عليه الصلاة و السلام أيضا بمن فرضته من الأمم وجدتهم أكمل منهم في كل سب ينال به دقيق العلم وجليله فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية وعوام الفلاسفة الدهرية وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم فإنك تجد بين أدنى اولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين حتى اعتقدوا فيمن هو من أكفر الناس وأكذبهم : انه إمام معصوم يعلم علم الأولين والآخرين بل عوام النصارى مع فرط جهلهم وضلالهم احذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم
وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤسها فلاسفة أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان ؟
أو ليس من أعظم علومهم السحر الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم ويصلي ويقرب له القرابين حتى ينال بذلك عرضا من الدنيا فساده أعظم من صلاحه وأثمه أكبر من نفعه ؟
أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة ؟ أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة ؟ وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى فضلا عن مدينة من المدائن ؟ وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع ؟
ثم يقال له : أنت وأمثالك أئمة أتباعكم وهذا قولك وقول أرسطو وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواكم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواهم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم وأشبههم بالبهائم من الحيوان
وكون الواحد منكم حاذقا في طب أو نجوم أو غرس أو بناء هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وافعاله وعبادته وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب الذي هو أجل المطالب وأرفع المواهب فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى : إما عجزا وغما تفريطا
ولا ريب أن أئمة اليهود والنصارى بعد أن بدلوا الكتاب ودخلوا فيما نهوا عنه احذق وأعرف بالله من أئمتكم وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلا وإدراكا وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف
واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية والعرباء وعوام التتر المشركين الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى تجد عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدنيا والدين من أولئك وتجد أولئك أفسد عقلا ودينا
وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم ففيهم من الجهل والضلال والكذب والمحال مالا يحصيه إلا ذو الجلال وهل كان الطوسي وامثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين ومكايد المحتالين المنافية للعقل والدين ؟
وأما أئمتكم البارعون كأرسطو وذويه فغايته ان يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار كالإسكندر بن فيلبس وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وإنما صار فيهم ما صار من الهدى والفلاح لما دخلت فيهم النصرانية بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة وتسع وعشرة سنة او اكثر منها وقد قيل إن ذلك كان على عهد آخر ملوكهم بطليموس صاحب المجسطي فناهيك ممن تكون النصارى أعقل منهم وأعلم وأهدى إلى الدين الأقوم
ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره وهذا جهل فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير وكان مسلما موحدا حنيفا وقد قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة أو ما يقارب ذلك
وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل لمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفضلاء الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء ؟
فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم
وابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة لما كانوا إنما يخاطبون من المسلمين من هو ناقص في العلم والدين : إما رافضي وإما معتزلي وإما غيرهما صاروا يتكلمون في خيار القرون بمثل هذا الكلام
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ثم يقال لهذا الأحمق : أن كل أمة فيها ذكي وبليد بالنسبة إليها لكن هل رأى في أجناس الأمم امة أذكى من العرب ؟
واعتبر ذلك باللسان العام وما فيه من تفصيل المعاني والتمييز بين دقيقها وجليلها بالألفاظ الخاصة الناصة على الحقيقة ويليه في الكمال اللسان العبراني فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم الذين يسردون ألفاظا طويلة والمعنى خفيف ؟ ولولا أن مثلك وأمثالك ممن شملته بعض سعادة المسلمين والعرب فصار فيكم بعض كمال الإنسان في العقل واللسان فعربتم تلك الكتب وهذبتموها وقربتموها إلى العقول وإلا لكان فيها من التطويل والهذيان ما يشح بمثله على الزمان وهي كما قال فيها ابو حامد الغزالي هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن أثم فإن ما يقوم عليه الدليل من الرياضي ونحوه كثير التعب قليل الفائدة لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل
ثم يقال له : هب أن ما ذكرته من غتم العرانيين والعرب أهل الوبر لا يمكنهم معرفة الدقيق فهل يمكنك أن تقول ذلك في أذكياء العرب والعبرانيين وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس
واعتبر ذلك بأتباعهم فإن كنت تشك في ذكاء مثل مالك و الأوزاعي والليث بن سعد و أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي و البخاري و مسلم وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من امثالهم فإن شككت في ذلك فأنت مفرط في الجهل أو مكابر فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد خالفه صاحب آخر
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة أنهم فوقنا في كل عقل وعلم وفضل وسب ينال به علم أو يدرك به صواب ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كما قال رحمة الله عليه
وأما قوله لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم إلى آخر كلامه
فيقال : لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أمورا من الغيب بعضها يمكن التعريف به مطلقا وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال وبعضها لا يمكن مخلوقا أن يعلمه ولهذا قال تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } السجدة 17
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير وإلا لم يمكن التعريف على وجهه
وفي الدعاء المشهور : اللهم إني أسألك اسم هو لم سميت به نفسك أو انزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك فإذا كان من أسمائه ما استأثر بعلمه لم يعلمه غيره ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره
وفي الحديث الصحيح انه صلى الله عليه و سلم كان يقول في دعائه لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وفي حديث الشفاعة ينفتح على محامد أحمده بها لا احسنها الآن
فإذا كان اعلم الخلق بالله لا يحصى ثناء عليه فكيف غيره ؟ وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا فكيف حال غيره ؟
ونذكر في هذا قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكره البخاري حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون ان يكذب الله ورسوله ؟
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل تفسير أية فقال : ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها وكفرك بها تكذيبك بها فتبين انه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم
ولهذا قال تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } إلى قوله { يضرب الله الأمثال } الرعد 17 فإن هذا مثل ضربة الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر وشبه القلوب بالأودية والأودية منها صغار وكبار فكل واد يسيل بقدره
فهذا ونحوه حق ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية أعظم مما تنكرها قلوب العامة وكلما قوي عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه
وقوله : هبك الكتاب العزيز جاء على لغة العرب في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني هو من أوله إلى آخره تشبيه صرف ؟ إلى آخر كلامه
فيقال : هذا من أعظم حجج أهل الإثبات على نفاة الصفات ومن أعظم الحجج على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين اللذين لم يأت من عند الله كتاب أهدى منهما
قال تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } القصص 43 إلى قوله : { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا } القصص 48 إلى قوله { قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } الآيات القصص 49
وقال تعالى حكاية عن الجن { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } الأحقاف 30
وقال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها } الأنعام 91 92
وقال تعالى : { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } الأنعام 154 - 155 فقد قرن الله تعالى بين الكتابين العربي والعبري في غير موضع
ومن المعلوم ان موسى كان قبل محمد صلوات الله عليهما وسلامه ولم يأخذ عنه شيئا وكل من عرف حال محمد صلى الله عليه و سلم يعلم أنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا فإذا أخبر هذا بمثل ما أخبر به مرسل واحد من غير تواطؤ ولا تشاعر فيما يمتن في العادة التوافق فيه من غير تواطؤ كان هذا مما يدل على صدق كل من الرسولين في أصل الرسالة وعلى صدق خبر كل من الرسولين فيما أخبر به صفات ربه إذا كان كل منهما أخبر بمثل ما أخبر به الآخر وهب أن بعض ألفاظ أحد الكتابين قد يحرفها المحرف فالكتاب الآخر المصدق له يبطل ذلك التحريف ويبين أن المقصود واحد
وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق كما قال ويبين ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم بين من تحريف أهل الكتاب ما شاء الله وذمهم على ما وصفوا الله تتعالى به من النقائص كقولهم : إن الله فقير وإن الله بخيل وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض فاستراح فقال تعالى { وما مسنا من لغوب } ق 38
فلو كان ما في التوراة من إثبات الصفات مما بدلوه وافتروه لكان إنكار هذا من أعظم الواجبات ولكان الرسول يعيبهم بما ينكره النفاة متن التشبيه والتجسيم وأمثال هذه العبارات فلما كان الرسول العربي مقرا لما في التوراة من الصفات ومخبرا بمثل ما في التوراة كان ذلك من أعظم دليل على أن ما في التوراة من الصفات التي أخبر بها الرسول العربي أيضا ليس مما كذبه أهل الكتاب
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن خبرا من اليهود لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يوم القيامة يمسك السماوات على اصبع والأرضين على أصبع والجبال على اصبع والشجر والثرى على اصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك أنا الملك ضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم تعجبا وتصديقا لقول الخبر ثم قرأ قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر 67
وهذا الحديث رواه من هو من أعلم الصحابة وأعظمهم اختصاصا بالنبي صلى الله عليه و سلم : عبد الله بن مسعود ورواه عنه وعن أصحابه من هو أجل التابعين وأتباع التابعين قدرا ورواه أيضا عبد الله بن عباس الذي هو من أعلم الصحابة في زمانه وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من اعظم التباعين علما وقدرا عند الأمة
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيهما أيضا من حديث ابن عمر في تفسير هذه الآية { وما قدروا الله حق قدره } الزمر 67 ما يناسب هذا الحديث ويوافق قول أهل الإثبات ويبين أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ينكر على أهل الكتاب ما يخبرون به من الصفات التي تسميها النفاة تجسيما وتشبيها وإنما أنكر عليهم ما وصفوا الله تعالى به من النقائص والعيوب
ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين أنهم ذموا أهل الكتاب بما يذمهم به نفاة الصفات ولا يذكرون لفظ التجسيم ونحوه من الألفاظ التي أحدثها المحدثون : لا بمدح ولا ذم ولا يقولون ما تقوله النفاة إن التوراة فيها تشبيه كما قال ابن سينا الكتاب العبراني كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف
فإنه يقال له : ما تعني بقولك : إنه تشبيه أتعني أنه متضمن للإخبار بأن صفات الرب مثل صفات العباد أو متضمن لإثبات الصفات التي يوصف الخلق بما هو بالنسبة إليهم كتلك الصفات بالنسبة إلى الله ؟
فإن أردت الأول فهذا كذب على التوراة فليس فيها الإخبار بأن صفات كصفات عباده بل فيها نفي التمثيل بالله
وإن أردت الثاني فهذا أمر لا بد منه لك ولكل أحد فإنك وأمثالك تقولون : إن الله موجود مع قولكم : إن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وتقولون وتقولون إنه عقل وعاقل ومعقول مع قولكم : إن اسم العقل يقع على العقول العشرة وتقولون : إنه علة للعالم مع قولكم : إن العلة تنقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وتقولون : إن له عناية مع أن لفظ العناية يقال على صفات العباد وتقولون : إنه مبدأ ومبدع ونحو ذلك من العبارات التي تسمون بها غيره فإنكم تطلقون اسم المبادئ على العقول وتطلقون الإبداع على العقول وتقولون : إن كل عقل أبدع ما دونه والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر وتقولون : إنه موجب بالذات مع أن لفظ الإيجاب يطلق على غيره
ويقولون : إنه عاشق ومعشوق وعشق مع أن لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص مالا يخفى على عاقل وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ولا عاشق ولا معقول ولا معشوق
ويقولون أيضا : إنه يلتذ ويبتهج ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل ويقولون إنه مدرك وأن اللذة أفضل إدراك لأفضل مدرك فيسمونه مدركا ومدركا
ثم أعجب من هذا كله انكم تقولون : الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ومن هنا دخل من وافقكم في إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة والاتحاد وقالوا : إن الإنسان مثل الله وأن قوله : { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 المراد أنه ليس كالإنسان الذي هو مثل الله شيء ويقولون إن الفلك إنما يتحرك تشبها بما فوقه فيجعلون العبد قادرا على أن يتشبه بالله وأن الفلك يتشبه بالله أو يتشبه بالعقل المشبه لله
فإذا كان في التوراة : أنا سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا أو نحو هذا فغايته أن يكون الله خالقا لمن يشبهه بوجه وأنتم قد جعلتم العبد قادرا على أن يتشبه بالله بوجه فإن كان التشبه بالله باطلا من كل وجه ولا يمكن الموجود أن يشبهه بوجه من الوجوه فتشبيهكم أنكر من تشبيه أهل الكتاب لأنكم جعلتم العبد قادرا على ان يتشبه بالرب وأولئك أخبروا عن الرب أنه قادر على أن يخلق ما يشبهه
فكان في قولكم إثبات التشبيه وجعله مقدورا للعبد وأولئك مع إثبات التشبيه إنما جعلوه مقدورا للرب فأي الفريقين أحق بالذم والملام ؟ أنتم أم أهل الكتاب ؟ إن كان مثل هذا التشبيه منكرا من القول وزورا وإن لم يكن منكرا من القول وزورا فأهل الكتاب أقوم منكم لأنهم تبعوا ألفاظ النصوص الإلهية التي أثبتت مقدورا لرب البرية وانتم ابتدعتم ما ابتدعتم بغير سلطان من الله
وأيضا فيقال : إنه ما من موجودين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز فإنهما لا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان وأن كلا منهما له حقيقة : هي ذاته ونفسه وماهية حتى لو كان الموجودان مختلفين اختلافا ظاهرا كالسواد والبياض فلا بد أن يشتركا في مسمى الوجود والحقيقة ونحو ذلك بل وفيما هو أخص من ذلك مثل كون كل منهما لونا وعرضا وقائما بغيره ونحو ذلك وهما مع هذا مختلفان
وإذا كان بين كل موجودين جامع وفارق فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء : لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فلا يجوز ان يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها ولا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته ولا مشابهة في شيء من خصائصه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع فهو سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له وإذا أخذ القدر المطلق الذي يتفق فيه الخالق والمخلوق مثل : مسمى الوجود والحقيقة والعالم والقادر ونحو ذلك فهذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمخلوق لا يشارك مخلوقا في شيء من صفاته فكيف يكون للخالق شريك في ذلك ؟ لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته والله تعالى لا مثل له أصلا والقدر المشترك المطلق كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك لا يلزمه شيء من صفات النقص الممتنعة على الله تعالى فما وجب للقدر المطلق المشترك لا نقص فيه ولا عيب وما نفي عنه فلا كمال فيه وما جاز له فلا محذور في جوازه
وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والافات فهي ليست من لوازم ما يختص به ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب وهذه معاني شريفة بسطت في غير هذا الموضع
وما يذكره هؤلاء من تعظيم علوم الأسرار والأمر بكتمانها عن الجمهور وقصور الجمهور عن إدراك حقائق هو كلام مجمل يقوله الصديق والزنديق
والمخالفون من نفاة الصفات الخبرية أو نفي الأوامر الشرعية من المتفلسفة ومن دخل معهم من متصوفة النفاة ونحوهم يشيرون إلى ذلك ويحملون ما يروى من الآثار الصحيحة والسقيمة على ذلك فالأثر المروي : إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكروه إلا أهل الغرة بالله تعالى وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وأبو حامد الغزالي وغيرهما
لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات
و أبو حامد قد يحمل هذا إذا تفلسف على ما يوافق أقوال الفلاسفة النفاة
وكذلك ما في البخاري عن علي حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد حمله ابن رشد الحفيد على أقوال الفلاسفة الباطنية النفاة ومن المعلوم ان أقوال النفاة لا توجد في كلام الله ورسوله وإنما لا يحملها عقله أفضى إلى تكذيب الله ورسوله
والأمور الباطنة فيها إجمال فالملاحدة يدعون الباطن المخالف للظاهر وأما أهل الإيمان فالباطن الحق عندهم موافق للظاهر الحق فما في بواطنهم من المعارف والأحوال وتحقيق التوحيد ومقامات أهل العرفان موافق لما جاء به الكتاب والرسول يزداد صاحبها بأخبار الأنبياء إيمانا بخلاف الملاحدة كلما امعن الواحد منهم فيه بعد عن الله ورسوله
وقول ابن سينا هو الإقرار بالصانع مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون له شريك في النوع أو يكون له جزء وجودي كمي او معنوي إلى آخره
فكلامه هذا يتوهم الجاهل أنه تعظيم لله تعالى ومراده انه ليس لله علم ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام ولا محبة وأنه لا يرى ولا يباين المخلوقات
قلت : وقد تكلمنا على هذا وعلى ثبوت الكليات في الخارج التي ذكرها في إشارته وشرحها شارحو إشاراته كالرازي والطوسي وابن كمونه اليهودي وأمثالهم فإنه ذكر دليل توحيدهم وقدم قبله مقدمات
كلام ابن سينا عن الصفات الذاتية والعرضية تعليق ابن تيمية عليه
قال في الإشارات : كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها : فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما من لوازم ما تختلف فيه فيكون للمختلفات لازم واحد وهذا غير منكر وإما أن يكون ما تختلف فيه لازما لما تتفق فيه فيكون الذي يلزم الواحد مختلفا متقابلا وهذا منكر وإما أن يكون ما تتفق فيه عارضا عرض لما تختلف فيه وهذا غير منكر وغما أن يكون ما تختلف فيه عارضا عرض لما تتفق فيه وهذا أيضا غير منكر
قال الشارحون لكلامه : كل شيئين فلا بد أن يكونا متخالفين في هويتهما وتشخصهما لأن تشخص هذا لو كان حاصلا لذاك لكان هذا ذاك لا غيره والأشياء قد تكون متوافقة في شيء من المقومات كالأجناس العالية فإنها لا تكون متوافقة في شيء من المقومات وإن كانت ربما توافقت في شيء من الصفات العرضية
وإذا كان كذلك فإذا اتفقت في أمر مقوم لها كان ما به الاختلاف مغايرا لما به الاشتراك لا محالة فتكون هوية كل واحد منهما مركبة مما به شارك الآخر ومما به امتاز عن الآخر وعند ذلك فإما أن يكون ما به الاشتراك لازما لما به الاختلاف أو بالعكس أو يكون ما به الاشتراك عارضا لما به الاختلاف أو بالعكس
فأما الأول فهو غير منكر كفصول الأنواع الداخلة تحت جنس فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع تلك الفصول وكالوجود اللازمين للمقولات والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة المختلفة فإن السواد والبياض وإن كانا مختلفين لكنهما مشتركان في كون كل منهما ضد الآخر
وأما الثاني وهو كون ما به الاختلاف لازما لما به الاشتراك فهو محال كالناطق مع الحيوان لو كان لازما له لكان كل حيوان ناطقا
وأما الثالث والرابع فهما جائزان
قلت : وهذا الكلام مبني على أصول سلمها لهم من لم يفهمها مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات المقومة والعرضية اللازمة وكلامهم في تركب الأنواع من الأجناس والفصول ونحو ذلك
ونحن نبين ما يعرف الحق به فنقول : معلوم أن هذا الإنسان يشابه غيره في الإنسانية ويشابه سائر الحيوانات في الحيوانية وهذا معنى قولهم : متفقان في مسمى الإنسانية أو الحيوانية أو يشتركان في ذلك لكن نفس إنسانيته التي تخصه وحيوانيته التي تخصه لم يشركه فيها غيره أصلا وإن كان قد ماثله فيها وشابهه فمشابهة الشيء الشيء ومماثلته لا تقتضي أن يكون عين أحدهما يشاركه الآخر فيها أو في شيء من صفاتها القائمة بها فزيد المعين ليس فيه شيء من غيره أصلا ولا في شيء من صفاته القائمة به
فقول القائل : اشتركا في الإنسانية أو اتفقا فيها ونحو ذلك فيه إجمال فإن الاشتراك يراد به الاشتراك في الأمور الموجودة في الخارج كاشتراك الشركاء في العقار بحيث يكون لهذا بعضه ولهذا بعضه مشاعا أو مقسوما وإذا اقتسما ذلك كان لهذا بعضه ولهذا بعضه والمقسوم لا يصدق على كل من القسمين ولا يعمهما فهذا اشتراك في الكل وقسمة للكل إلى أجزائه كالقسمة التي ذكرها الفقهاء في كتبهم وقسمة النبي صلى الله عليه و سلم الغنائم والمواريث ومنه انقسام الكلام إلى اسم وفعل وحرف
ومعلوم أن اشتراك الأعيان ف بالنوع أو الجنس وانقسام الأجناس إلى الأنواع والأشخاص ليس من هذا فإن هذا قسمة الكلي إلى جزئياته واشتراك الجزئيات في كلي يتناولها فالكليات لا توجد في الخارج كليات فلا بد إلا مشخصة معينة
وإذا قال القائل : الكلي الطبيعي موجود في الخارج وهو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو والحيوان من حيث هو هو فإن أراد بذلك أنه يوجد ما يصدق عليه المعنى الذي يقال له إذا كان في الذهن كليا مثل أن يوجد الشخص الذي يقال له إنسان وحيوان وجسم ونحو ذلك فقد صدق وإن أراد أنه يوجد الكلي كليا فقد أخطأ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه والمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فكيف يكون ذاك جزءا من هذا منحصرا في هذا ؟ وهو يصلح لأن يدخل فيه من الأعيان أضعاف هذا ؟ وكيف يكون الكبير جزءا من لا قليل والعظيم جزءا من الصغير ؟ ولا ريب أن الذهن يتصور إنسانا مطلقا لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فيكون كليا في التصور والذهن فإذا وجد فلا يوجد إلا معينا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه
فمن أراد بقوله : الكلي يوجد في الأعيان ما يراد بوجود الصور الذهنية في الخارج مثل قول القائل : ما كان في نفسي فقد حصل ولله الحمد وما كان في نفسي فقد فعله زيد ونحو ذلك فإن أول الفكرة آخر العمل والإنسانية يتصور في نفسه أشياء ثم يفعل ما تصوره ولا يريد بذلك أن نفس الصورة الذهنية التي تصورها وقصدها وجدت في الخارج بعينها ولكن وجد في الخارج ما هو مطابق لها موافق لها
وقد يقال : إن هذا هو هذا كما يقال للمكتوب أنه الملفوظ وللملفوظ إنه المعلوم وللمعلوم إنه الموجود فإن الأشياء لها وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البيان : وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي فإذا كتب اسم زيد وقيل إن هذا هو زيد لم يرد بذلك أن الخط هو الصوت ولا أن الصوت هو العلم ولا أن العلم هو الشخص المعين بل الناس يعلمون أن القائل إذا قال : هذا هو زيد فالمراد هذا المكتوب اسمه زيد ونظائر هذا كثيرة فإذا قيل : إن الكلي وجد في الخارج بهذا الاعتبار فهو صحيح لأن الكلي يتصوره الذهن مطلقا غير مشروط بشرط فيوجد في الخارج ما يطابقه بمعنى انه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط فيوجد في الخارج ما يطابقه بمعنى انه يصدق عليه المطلق الذي لا يشترط فيه شرط إذا قيل : هذا حيوان هذا إنسان لكن إذا صدق عليه المطلق لا بشرط لم يلزم أن يكون قد وجد المطلق مطلقا لا بشرط فإن صدقه عليه يقتضي أن يكون صفة له ومحمولا عليه وهذا عين التقييد والتخصيص
وهذا كما إذا قلنا : هذا حيوان هذا جسم لم يلزم من ذلك أن يكون قد وجد حيوان مطلق فضلا عن أن يكون إنسانا أو فرسا أو نحو ذلك من الأنواع أو جسم معين مجرد عن أن يكون معينا من الأجسام المعينة
وقول القائل : المطلق لا بشرط ينفي اشتراط الإطلاق فإن ذلك هو المطلق بشرط الإطلاق وذاك ليس بموجود في الخارج بلا نزاع من هؤلاء المنطقيين أتباع أرسطو فإن المنطق اليوناني يضاف إليه ولهذا لا يذكرون فيه نزاعا وإنما يثبته في الخارج أصحاب أفلاطون وإذا لم يكن الإطلاق شرطا فيه لم يمتنع اقتران القيد به فيكون وجوده مقيدا وإذا كان وجوده مقيدا امتنع أن يكون مطلقا فإن الإطلاق ينافي التقييد
وإن قلت : المقيد يدخل في المطلق بلا شرط
قلت : وإذا دخل فيه هو إياه في الذات مغايرا له في الصفات كما إذا قلت : الناطق حيوان لم يكن هناك جوهران : أحدهما مطلق والآخر مقيد
وهذا أمر يشهد به الحس ولا ينازع فيه من تصوره فليس في الموجودات المعينة إلا صفاتها المعينة القائمة بها وكل ذلك مشخص معين وما ثم إلا عين قائمة بنفسها سواء سميت جوهرا أو جسما أو غير ذلك أو صفة لها : سواء سميت عرضا أو لم تسم بذلك
والمقصود أن الشيئين إذا اتفقا واشتركا في شيء كالإنسانية والحيوانية واختلفا وامتاز كل منهما عن الآخر بشيء كتعينة وتخصصه فكل ما اتفقا فيه واختلفا فيه يمكن أخذه مطلقا ومعينا فإذا أخذ معينا لم يكن واحد منهما شارك الآخر ووافقه في ما تعين فيه وإذا أخذ مطلقا أو كليا كان كل منهما قد شارك الآخر ووافقه في الكلي المطلق الذي يصدق عليهما ولكن الكليات في الأذهان وليس ف بالأعيان إلا ما هو معين مختص
لكن بين المعينات تشابه واختلاف وتضاد فإذا قيل : هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية ويمتاز عنه بالتعين
قيل له : يشاركه في إنسانيته التي تخصه أو في مطلق الإنسانية ؟ فالأول باطل ومخالف لقوله : ويمتاز عنه بالتعيين وإن أراد الثاني قيل له : وكذلك التعين فإنه يشاركه في مطلق التعين فلكل منهما تعين يخصه ويشتركان في مطلق التعين كما قلنا في الإنسانية
فقول هؤلاء : كل أشياء تختلف بأعيانها وتتفق في أمر مقوم لها فإما أن يكون ما تتفق فيه لازما لما تختلف فيه أو ملزوما له أو عارضا له أو معروضا له فالأول والثالث والرابع جائز والثاني يمتنع
يقال لهم : الأشياء المعينة كالإنسانيين والموجودين سواء قدرا واجبين أو ممكنين أو قدر أحدهما كذلك لم تتفق في أمر هو بعينه في هذا وفي هذا سواء سمي مقوما أو لم يسم فهذا الإنسان لم يوافق هذا في نفس إنسانيته وإنما وافقه في إنسانية مطلقة وتلك المطلقة يمتنع أن تقوم بالمعين فالتي وافقه فيها يمتنع أن تكون بعينها موجودة في الخارج فضلا عن أن تكون مقومة لشيء من الأشياء والأشياء المعينة لا تقوم بها ولا يقومها إلا ما هو مختص بها لا يشركها فيه غيره
فهذا الإنسان المعين لا يقومه ولا يقوم به ولا يلزمه ولا يعرض له قط إلا ما هو مختص به سواء كان جوهرا أو عرضا كما أن يده ورجله ورأسه مختصة به فما يقوم ببدنه ونفسه من الحياة والنطق والحس والحركة والجسمية وغير ذلك كل ذلك مختص به ليس بقائم بغيره
فليتدبر العاقل اللبيب هذا المكان الذي حصل بسبب الضلال فيه من فساد العقول والأديان ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى
وباشتباه هذا اشتبه الأمر على هؤلاء المنطقيين وعلى من قلدهم وأتبعهم فضلوا في العقليات المنطقيات والإلهيات ضلالا بعيدا وجعلوا الصور الذهنية الخيالية حقائق موجودة في الخارج حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا لواجب الوجود الخالق للسماوات والأرض رب العالمين وجودا مطلقا في إذ انهم وعرضا ثابتا في نفوسهم ليس له حقيقة في الخارج ولا وجود ولا ثبوت ويقولون : وجوده معقول لا محسوس وإنما هو معقول في عقولهم كما يعقلون الكليات الثابتة في العقول فالوجود المطلق : كالحيوان المطلق والإنسان والجسم المطلق والشمس المطلقة والقمر المطلق والفالك المطلق ونحو ذلك مما لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان
وهذا هو نهاية التوحيد الذي زعموا أن الرسل جاءت به ولا ريب أن أقل أتباع الرسل أصح وأكمل عقلا من أن يجعل هذا ثابتا ف بالوجود الخارج فضلا عن أن يجعله رب العالمين مالك يوم الدين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وقوله إما أن يكون المتفق لازما أو ملزوما أو عارضا أو معروضا
فيقال : ما سميته متفقا ومشتركا هو ما جعلته مختلفا مميزا لازما له وملزوما يشتركان في العموم والخصوص والإطلاق والتعيين فالاشتراك والامتياز والاتفاق والاختلاف إذا أخذته باعتبار الذهن والخارج فكل شيئين اشتركا في أمر فذلك المشترك هو في الذهن وكل منهما هو في الخارج متميز فالحيوانان المشتركان في الحيوانية هما مشتركا في الحيوانية المطلقة ويمتاز أحدهما عن الآخر بالحيوانية الموجودة التي تخصه كما يشترك الناطقان في الناطقية ويمتاز أحدهما عن الآخر بالناطقية التي تخصه
وأما الأمور الموجودة في الخارج فبينها تشابه وتماثل واختلاف وتضاد ليس فيها شيء يشارك شيئا لا في ذاته ولا في صفة من صفاته
فقولهم في القسم الأول هو مثل فصول الأنواع الداخلة تحت جنس واحد فإن طبيعة ذلك الجنس لازمة لطبائع الفصول كالوجود والوجود والوحدة والتماثل والاختلاف والتضاد والتغاير اللوازم للحقائق الكثيرة
يقال لهم : فصول الأنواع : كالناطقية والصاهلية ونحوهما التي هي فصول أنواع الحيوان كالفرس والإنسان وغيرهما مما يدخل تحت جنس الحيوان إذا قيل طبيعة الجنس وهو الحيوان لازمة لطبائع هذه الفصول كما هو لازم لهذه الأنواع فإذا أخذت عين اللازم والملزوم في الخارج كان التلازم من الطرفين يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه فلا يقال إن أحدهما أعم من الآخر ولا أخص
وإذا قيل : إنهما يشتركان في الحيوانية وكل منهما متميز عن الآخر بالناطقية والصاهلية فكل من هذه الموجودات متميزعن غيره بحيوانيته كما هو متميز بناطقيته وصاهليته ونوع الناطقية لا يميز معينا عن معين وإنما يميز نوعا عن نوع والأنواع إنما هي في الأذهان لا في الأعيان فإن الحيوان إذا لزم الناطق والصاهل فنفس الحيوان هو نفس الصاهل ونفس الناطق ليس الحيوان فيه
وهم قد يقولون : إن في الناطق والصاهل حيوانا وهذا غلط فإن الحيوان هو الموصوف بأنه صاهل وأنه ناطق وليس في الجوهر المعين جوهر آخر : لا مطلقا ولا معينا بل هو جوهر واحد موصوف بهذا وبهذا بل وهذا الصاهل المعين هو حيوان وليس هو هذا الصاهل المعين الذي هو حيوان فضلا عن أن يكون هذا الناطق المعين
ولو قيل : إن هذا الصاهل المعين فيه حيوان فليس الحيوان الذي فيه هو الحيوان الذي فيه الصاهل المعين فكيف بما في الناطق وأمثاله ؟
وإذا أراد أن الطبيعة العامة أو المطلقة أو الكلية لازمة لهذه الطبائع الخاصة فالمعنى الصحيح : أن هذا المعنى الذي يوجد في الذهن عاما مطلقا كليا والذي يوجد أعيانه في الخارج أكثر من أعيان الطبيعة الخاصة هو لازم للطبيعة الخاصة فحيث كان ناطق أو صاهل كان هناك ما هو حيوان وليس إذا كان حيوان يلزم أن يكون هناك ناطق أو صاهل
وهنا كلام ليس هذا موضعه وهو أن الحيوانية التي للإنسان مثلا هي مماثلة للتي للفرس مخالفة لها فهؤلاء يقولون : هي مماثلة والمختلفات يلزمها امور متماثلة وغيرهم يقولون : بل لوازم المختلفات مختلفة وليست الحيوانية التي في هذا النوع مثل الحيوانية التي في النوع الآخر
وهذا نظير اختلافهم في الحكم الواحد بالنوع : هل يجوز تعليله بعلتين مختلفتين ؟ فمن قال بالأول جوز ذلك
ومن قال بالثاني منع ذلك وقال : اختلاف العلل يقتضي اختلاف الأحكام ويجيبون عن قول من يقول إن الملك نوع واحد وهو يستفاد بالبيع والإرث والاتهاب ونحو ذلك بأن الملك أنواع مختلفة وليس هذا مثل هذا وإن اشتركا في كثير في كثير من الأحكام وكذلك حل الدم الثابت بالردة والقتل والزنا
وقد عورضوا بنقض الوضوء الثابت بأسباب مختلفة فأجابوا بأنه قد يختلف الحكم بالقوة والضعف
وهذا الآن كلام في تماثل الأحكام والعلل المختلفة وتماثل لوازم الأنواع المختلفة وأما كون هذا المعين ليس هو هذا المعين فهذا مما لا نزاع فيه
والمقصود هنا أن المتفقات في أنر من الأمور إذا قيل : إن ما به الاشتراك لازم لما به الامتياز فما اشتركا فيه لا يفارق ما به من الامتياز من جهة كونه مشتركا ولا يوجد معه فضلا عن أن يلزمه إذ الاشتراك إنما هو فيه إذا كان في الذهن وهو من هذه الجهة لا يوجد في الخارج ولكن الوصف الذي يقال إنهما تشاركا فيه معناه انه يوجد لهذا معينا ويوجد لهذا من نوعه آخر معين والمعين لا اشتراك فيه فلا يظن انه وجد في الخارج ما اشتركا فيه في الخارج وإن كان مشتركا فيه في الذهن
واعتبر عموم المعاني والاشتراك فيهما بعموم الألفاظ والاشتراك فيهما فإذا قلت : لفظ إنسان يشترك فيه هذا وهذا ويعمها ولفظ حيوان يشترك فيه أكثر مما يشترك في لفظ إنسان لم يكن بين المسميات في الخارج شيء اشتركت فيه فليس بين هذا الإنسان وهذا الإنسان ولا بينهما وبين الفرس في الخارج شيء مشترك بينهما لأجل الاشتراك والاتفاق في لفظ إنسان ولفظ حيوان فكذلك اتفاقهما واشتراكهما في المعنى المدلول عليه بهذا اللفظ
وكذلك اتفاقهم واشتراكهم في الخط المرقوم المطابق لهذا اللفظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والثلاثة تتناول الأفراد الموجودة في الخارج وتعمها والأعيان متفقة فيها مشتركة من غير أن يكون بين الأعيان في الخارج شيء اشتركت فيه لكن بينها تشابه بحسب ذلك المعنى الشامل لها واللفظ المطابق له والخط المطابق للفظ وبذلك يتبين الكلام في القسم الثاني وهو أن ما به الاختلاف لازم لما به الاشتراك انه قسم ممتنع فإنه ليس في الخارج إلا ما به الاختلاف الذي هو ضد الاشتراك إذ ليس في الخارج مشترك بل كل شيء فهو نفسه ليس مشاركا لغيره في شيء فيكون مخالفا له إذا جعل الاختلاف قسم الاشتراك وأما الاختلاف الذي هو قسيم التشابه ن فهذا قد يكون في الخارج وقد لا يكون فالبياضان المتماثلان هما غير مختلفين بهذا الاصطلاح وهما مختلفان بالاصطلاح الأول الذي هو بمعنى الامتياز فإذا كان كل من البياضين ممتازا عن الآخر ببياضه الذي يخصه فهو ممتاز عنه أيضا بلونيته وعرضيته التي تخصه وكذلك الإنسانان فما امتاز به كل منهما عن الآخر لازم للمشترك الكلي الذي في الذهن فذاك ليس بلازم ولا ملزوم إذ يمكن تقدير حيوان ولون مجردا في الذهن ليس له لازم ولا ملزوم وأما الحيوان الموجود في الخارج فهو حيوان معين يلزمه معين إما إنسان معين وإما فرس معين وإما نحو ذلك وهذا المعين حاصل مع هذا المعين أبدا ولكن ليس لازما لحيوان آخر فإذا عدم هذا الإنسان المعين عدم هذا الحيوان المعين فإذا وجد آخر لم يكن هو المستلزم لهذا المعين فالحاصل أن كل موجود في الخارج بعينه فجميع صفاته اللازمة متلازمة يلزم من وجود إنسانيته وجود حيوانيته ويلزم من وجود حيوانيته وجود إنسانيته
تابع كلام ابن سينا وتعليق ابن تيمية عليه
وأما المقدمة الثانية فإنه قال : قد يجوز أن تكون ماهية الشيء سببا لصفة من صفاته وأن تكون صفة له سببا لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة ولكن لا يجوز أن تكون الصفة التي هي الوجود للشيء إنما هي بسبب ماهيتة التي ليست هي الوجود أو بسبب صفة أخرى لأن السبب متقدم في الوجود ولا متقدم بالوجود قبل الوجود
فيقال له : هذه مبنية على أن ماهية الشيء مباينة لوجوده فنقول : إما أن تعني بالماهية والوجود : الماهية العلمية الذهنية والوجود العلمي الذهني وإما أن تعني بهما الماهية الموجودة في الخارج والوجود الثابت في الخارج وإما أن تعني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج وإما بالعكس
فإن عني الثاني فلا ريب أن الذي في الخارج هو الموجود المعين وهو الحقيقة المعينة والماهية المعينة ليس هناك شيئان ثابتان أحدهما هو الموجود والآخر ماهيته
ومن قال إن المعدوم شيء في الخارج أو أن الماهية مباينة للموجود الخارج كما قال هذا طائفة من المعتزلة وقال هذا طائفة من الفلاسفة فقوله في غاية الفساد كما هو مبسوط في موضعه
وإن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فلا ريب أن أحدهما مغاير للآخر وكذلك بالعكس وليس هذا مما يتنازع فيه العقلاء لكن لما غلب على مسمى الماهية الوجود الذهني وعلى مسمى الوجود الثبوت في الخارج وأحدهما غير الآخر توهم من توهم أن للموجود ماهية مغايرة للموجود المعين وهو غلط محض
وإذا كان كذلك فقول القائل يجوز أن تكون ماهية الشيء أو بعض صفاته سببا لصفة أخرى ولا يجوز أن تكون الماهية سببا للصفة التي هي الوجود لأن السبب متقدم على الوجود ولا يتقدم بالوجود على الوجود
كلام مبني على أصول فاسدة
أحدها كون الموجود الثابت في الخارج صفة لماهية ثابتة في الخارج وهذا غلط بل نفس ما في الخارج هو الموجود الذي هو ماهيته والوجود إن عني به المصدر فذاك قائم بالواحد وإن عني به الموجود فهو الموجود فليس في الموجود وجود يزيد على حقيقته الموجودة
والثاني قوله إن الماهية أو صفتها تكون سببا لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة
فإن عني بالماهية ما في النفس فليس هناك مسبب ولا سبب بل الذهن هو الذي يصور الجميع وإن عني بها ما في الخارج فالفاعل المعين مبدع لصفاتها اللازمة وصفاتها العارضة قد تكون موقوفة على شرط آخر وليست إحدى الصفتين اللازمتين سببا لها وإن كان قد يكون شرطا
الثالث أن لفظ السبب إن عني به الفاعل فالصفة لا تفعل الصفة ولا الماهية تفعل صفاتها اللازمة لا سيما عندهم حيث يقولون الواحد لا يكون فاعلا وقابلا وإن عني به ما يقف المسبب عليه ولو كان شرطا فالمحل حينئذ سبب وهم يزعمون أن الماهية قابلة لوجودها فتكون سببا لوجودها فتناقض قولهم
وأما عند التحقيق فيجوز أن تكون الماهية أو شيء من صفاتها شرطا في صفة أخرى ولو كنا ممن يقول إن في الخارج ماهية مغايرة لوجوده لجوزنا أن تكون الماهية شرطا لوجودها لأن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط بخلاف العلة فإنها تتقدم المعلول ولكن لما لم يكن في الخارج إلا الوجود الذي هو ماهية نفسه امتنع أن تكون هناك ماهية تكون شرطا لوجود نفسها أو لا تكون شرطا لوجود نفسها
ثم قال ابن سينا في تقرير توحيدهم واجب الوجود المتعين إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره وإن لم يكن تعينه لذلك بل لأمر آخر فهو معلول لأنه إن كان وجوب الوجود لازما لتعينه كان الوجوب لازما لماهية غيره أو صفة وذلك محال وإن كان عارضا فهو أولى أن يكون لعلة وإن كان ما تعين به لخصوصية ما لذاته يجب وجوده هذا محال وإن كان عروضه بعد تعين أول سابق فكلامنا في ذلك وباقي أقسامه محال
قلت وإيضاح هذا الكلام أنه إذا قدر واجبان كان قد اشتركا في مسمى الوجوب وامتاز كل منها عن الآخر بتعينه فإما أن يكون ما به الاشتراك لازما لما به الامتياز أو ملزوما أو عارضا أو معروضا فغن كان المشترك لازما كلزوم الحيوانية للإنسانية مثلا فهذا لا يجوز في هذا الموضع كما قال لأنه كان واجب الوجود لازما لتعينه كان الوجود الواجب لازما لماهية غيره وصفة وذلك محال
وإن كان المشترك وهو الوجوب عارضا للمختص وهو التعين الذي هو الماهية فهو أولى أن يكون لعلة والوجود الواجب لا يكون لعلة
وإن كان التعين عارضا للوجوب المشترك فهو لعلة كتعين آحاد النوع
ولهذا قال بعد هذا أعلم أن الأشياء التي لها حد نوعي واحد فإنما تختلف بعلل أخرى وأنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير على كثيرين فتعين كل واحد بعلة فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري العلل وهي المادة لم يتعين إلا أن يكون في طبيعة من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا وأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل مجراه
قال فإذا كان ما تعين به عارضا للوجوب المشترك بالعروض لعلة فإن كانت تلك العلة وما به تعين الماهية واحدا بحيث تكون علة العروض هي علة التعين كانت تلك العلة علة الخصوص ما لذاته يجب وجوده فيكون لذات واجب الوجود علة وهو ممتنع وإن كان عروضه للوجوب المشترك بعد تعين أول سابق فالكلام في ذلك التعين السابق
وبقي من الأقسام قسم رابع وهو أن يكون ما به التعين الذي امتاز به كل منهما عن الآخر لازما للمشترك بينهما وهذا ممتنع في جميع المواد كما تقدم بتعين امتناع واجبي وجود ووجب أن يكون وجوب الوجود مستلزما للتعين فيكون تعينه لأنه واجب الوجود والمعلول لازما لعلته فلا يكون وجوب الوجود لغير المعين فهذا مراده بهذه الحجة
وقد ظن أبو عبد الله الرازي أن مراده بقوله إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره هو القسم الأول من الأقسام الأربعة التي جعل فيها الوجوب بلزوم التعين على تقدير ثبوت واجبين
قال وأما قوله إن لم يكن تعينه لذلك بل لأمر آخر فهو معلول هو القسم الذي جعل الوجوب فيه معروض ذلك التعين قال وقوله وإن كان ما تعين به عارضا لذلك فهو لعلة هو هذا القسم وأنه لم يذكر في إبطاله إلا قوله لو كان تعينه لا لكونه واجبا بل لأمر آخر فهو معلول وأنه أعاد هذا الكلام مرة أخرى وزاد في بيان بطلانه ما ذكره آخرا وأنه لو ذكر هذا الكلام حينما تعرض لإبطال القسم الثاني كان أقرب إلى الضبط
قلت وليس الأمر على ما ظنه بل الرجل ذكر أول التقدير المستلزم لوحدة الواجب ثم ذكر أربعة أقسام على تعدده وأبطلها بقوله واجب الوجود المتعين إن كان تعينه أي ذلك التعين الخاص لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره لأنه يكون وجوب الوجود يستلزم التعين الخاص فلا يوجد الملزوم بدون لازمة فلا يتحقق الوجوب إلا في ذلك المعين وهو المطلوب وإن لم يكن ذلك التعين لأجل وجوب الوجود فهو معلول وكون واجب الوجود معلولا ممتنع وهذا يعم الأقسام الأربعة لأنه حينئذ يكون المتعين علة غير وجوب الوجود كما ذكر بعد هذا أن الأشياء التي لها حد نوعي إنما تتعدد لعلل وتتعين بعلل أخرى إلا أن يكون من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا وإذا كان للتعين علة غير وجوب الوجود فهو معلول كما أن تعين الإنسان معلول لغير الإنسانية ثم بين أنه يكون معلولا على التقديرات الأربعة فقال إن كان وجوب الوجود المشترك لازما للتعين أي لهذا التعين وهذا التعين الذي في الواجبين كما تلزم الإنسانية لهذا الإنسان وهذا الإنسان وهذا التعين الذي في الواجبين مما تلزم الإنسانية لهذا الإنسان وهذا الإنسان كان الوجود الواجب لازما أو صفة لماهية غيره وقد قال إن هذا محال في المقدمة الثانية وإن كان الوجود الواجب لازما أو صفة لماهية غيره وقد قال إن هذا محال في المقدمة الثانية وإن كان عارضا فهو أولى وإن كان معروضا فقد بين بطلانه وباقي أقسامه وهو كون التعين المتعدد لازما للمشترك فهو أولى وإن كان معروضا فقد بين بطلانه وباقي أقسامه وهو كون التعين المتعدد لازما للمشترك فهو ممتنع في جميع المواد كما يمتنع أن يكون تعين الإنسان لازما للإنسانية لا يلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المعين وهذا محال
قول الآمدي في الحقائق
وإذا عرف أن هذا مقصودة فاعلم أن هذه الحجة يصوغها بعبارات متنوعة والمعنى واحد كما صاغها الآمدي في دقائق الحقائق في الفلسفة فقال الفصل الثاني في وحدانية واجب الوجود وأنه لا ضد له ولا ند وأنه قديم أزلي أما أن واجب الوجود واحد لا تعدد فيه ولا اشتراك فذلك لأن مسمى واجب الوجود لو كان مشتركا بين شيئين فالشيئان إما متفقان من كل وجه أو مختلفان من كل وجه أو متفقان من وجه دون وجه فإن اتفقا من كل وجه فلا تعدد إذ التعدد دون مميز محال وإن اختلفا من كل وجه فما به وقع الافتراق إن كان هو مسمى واجب الوجود فلا اشتراك فيه أيضا وإن كان غيره فمسمى واجب الوجود يكون مشتركا بينهما وعند ذلك فإما أن يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصص والتمايز أو لا يتم دونه الأول محال وإلا كان الأمر المطلق المشترك متخصصا في الأعيان بدون ما به التخصص وهو محال والثاني يتوجب أن يكون واجبا لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته وهذه المحالات إنما لزمت من القول بالاشتراك في مسمى واجب الوجود فلا اشتراك فيه فإذا واجب الوجود لا تعدد فيه بل نوعه منحصر في شخصه
قال والناظر المتبحر يزداد بإمعان النظر في هذه الحجة المحررة والبحث فيها مع نفسه وضوحا وجلاء فإن ما طول به من التشكيكات وأنواع التخيلات على غيرها من الحجج المذكورة في هذا الباب فلا اتجاه له ههنا
هذا قوله هنا وهذه الحجة هي التي ذكرها الآمدي عنهم وعن بعض أصحابه في كتاب أبكار الأفكار واعترض عليها باعتراضين سبقه إلى أحدهما الرازي في شرح الإشارات وهو أن الوجوب أمر سلبي لا ثبوتي فلا يتم الدليل حينئذ والثاني أن هذه الحجة منتقضة بوجود الله سبحانه مع وجود الممكنات فإنهما اتفقا في مسمى الوجود وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه فإما أن يكون المطلق مع المعين لازما أو ملزوما أو عارضا أو معروضا واعترض الرازي بإعتراض ثالث وهو أنه منع كون التعين وصفا ثبوتيا كما منع كون الوجوب وصفا ثبوتيا
تعليق ابن تيمية
قلت أما إلزامهم لهم الوجود الممكن مع الواجب فهذا إلزام لازم لا محيد للفلاسفة عنه ولكن ليس فيه حل الشبهة واما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا فهو من نوع السفسطة فإن الوجود إذا كان ثبوتيا فوجوبه الذي هو توكده المانع من إمكان نقيضه كيف يكون عدميا ومعلوم أن اسم الوجود هو بالواجب أحق منه بالممكن
وأيضا فإن ما ذكره من التقسيم وارد سواء قيل إن المفهوم ثبوتي أو سلبي فإنه إذا كان سلبيا مشتركا امتنع أن يكون ملزوما للمختص فإن المشترك سواء كان وجوديا أو عدميا لا يستلزم المختص فإنه يقتضي أنه حيث وجد المشترك المطلق العام وجد كل واحد من أفراده الخاصة وامتنع أيضا أن يكون لازما للمختص إلا إذا كان الوجوب معلولا ولازما لغيره وهو قد ذكر إبطال هذا
وقد اعترض الرازي باعتراض آخر على احد قوليه في أن الوجود زائد على الماهية بان الماهية تكون علة للوجود وذكر أنه لا محذور في أن تكون الماهية إذا أخذت مطلقة لا بشرط وجود ولا عدم علة لوجود نفسها والماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة
قلت الحجة مدارها على أن المطلق المشترك الكلي موجود في الخارج وهذا هو الموضع الذي ضلت فيه عقول هؤلاء حيث اعتقدوا أن الأمور الموجودة المعينة اشتركت في الخارج في شيء وامتاز كل منها عن الآخر بشيء وهذا عين الغلط
قلت والشخص المعين ليس له تعين غير هذا الشخص المعين لا ثبوتي ولا عدمي فإنه لم يكن مشاركا لغيره في أمر خارجي حتى يحتاج تعينه وتميزه عنه إلى وصف آخر ثبوتي أو سلبي وقولهم في القاعدة الكلية إن الأشياء التي لها حد نوعي إنما تختلف بعلل أخرى وأنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين إلا أن يكون من حق نوعها أن توجد شخصا واحدا فأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فيعين كل واحد بعلة فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إلا إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه هو قول باطل وذلك أن الأشياء التي لها حد واحد نوعي لا وجود لها في الخارج مطلقة ولا عامة أصلا وإنما وجودها كذلك في الذهن فالسبب الفاعل للواحد منها هو الفاعل لذاته ولصفاته وهو الفاعل لذلك الواحد المعين وليس هنا شيئان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا وجودان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا وجودان أحدهما لنوعها والآخر لتشخصها بل ولا قابلان بل الموجود هو الأعيان المشهودة والفاعل إنما فعل تلك الأعيان لم يفعل أنواعا مطلقة كلية وإن كانت تلك تتصور في العلم فالكلام في الوجود الخارجي
وهذا مما يبين لك أن من قال المتفلسفة إنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي فحقيقة قوله إنه لم يعلم شيئا من الموجودات فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي والكليات إنما تكون في العلم لا سيما وهم يقولون إنما علم الأشياء لأنه مبدؤها وسببها والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية كالأفلاك المعينة والعقول المعينة وأول الصادرات عنه على أصلهم العقل الأول وهو معين فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا ؟
وقولهم إنه إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة لتأثير العلل وهي المادة لم يتعين كقول القائل إذا لم يكن مع الواحد منها القوة القابلة وهي المادة لم توجد فإن وجودها هو بعينها لم يكن لها تحقق في الخارج غير وجودها المعين
وقولهم فأما إذا كان يمكن في طبيعة نوعها أن تحمل على كثيرين فتعين كل واحد بعلة كقول القائل فموجود كل واحد بعلة ومعلوم أن الممكن وجوده بعلة سواء كان قد انحصر نوعه في شخصه كالشمس أو كان مما لم ينحصر نوعه في شخصه كالإنسان فليس للمعين علتان إحداهما لنوعه والأخرى لشخصه بل العلة الموجبة لشخصه كافية في وجوده كوجود ما أنحصر نوعه في شخصه
وقوله فلا يكون سوادان ولا بياضان في نفس الأمر إذا كان الاختلاف بينهما في الموضوع وما يجري مجراه كقول القائل لا يكون سوادان إلا إذا كان كل منهما قائما في محل وكذلك السواد الواحد لا يوجد إلا في محل يقوم به وإذا قيل السوادان يفتقران إلى محلين وكذلك السواد الواحد فذلك لأجل كون السواد لا بد له من محل ولا يعقل تعدد السوادين بدون تعدد المحل كما لا يعقل وجوده بدون وجود المحل وما لا يفتقر إلى محل فتعدده لا يفتقر إلى محل كما أن واحده لا يفتقر إلى محل والتعين كالوحدة والتكثر كالتعدد وليس للعدد والوحدة في الخارج وجود غير المعدودات والمتوحدات وإنما وجود العدد المطلق والوحدة المطلقة والتعين المطلق في الأذهان لا في الأعيان كسائر المطلقات
وعلى هذا التقدير فواجب المتعين ليس لتعينه علة ولا سبب كما أنه ليس لوجوده علة ولا سبب وليس هناك في الخارج تعين زائد على نفسه المعينة لا ثبوتي ولا سلبي حتى يقال إن ذلك له علة وإن علته إما وجوب الوجود فلا يتعدد وإما أمر آخر فيكون وجوب الوجود معلولا
وإذا قدر واجبا وجود وقال القائل إنهما اشتركا في وجوب الوجود وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه
قيل له اشتركا في وجوب الوجود المطلق أو شارك كل منهما الآخر فيما يخصه من وجوب وجوده فأي شيء قال في ذلك قيل له وكذلك التعين فإنهما اشتركا في التعين المطلق وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه الذي يخصه فإذا قدرت وجوبا مطلقا فخذ معه تعينا مطلقا وإذا قدرت وجوبا معينا فخذ معه تعينا معينا وإذا قلت التعين المطلق لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج قيل لك والوجوب المطلق لا يكون إلا في الذهن لا في الخارج
وحينئذ فقولك ما به الاشتراك يكون لازما لما به الامتياز أو ملزوما أو عارضا أو معروضا
جوابه أن ليس في الخارج ما به الاشتراك وإنما في الخارج ما به الامتياز فقط وما جعلته مشتركا هو نظير ما جعلته مميزا يمكن فرض كل منهما مطلقا ومعينا
فإذا قلت اشتركا في الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بتعينه
قيل لك اشتركا في وجوب مطلق كلي لا وجود له في الخارج كما اشتركا في تعين مطلق كلي وماهية مطلقة كلية وكل منهما ممتاز عن الآخر بما هو موجود فهو ممتاز عنه بوجوده الذي يخصه وهو حقيقته التي تخصه وهو نفسه وذاته وماهيته التي تخصه فما اشتركا فيه من الأمر الكلي الذهني لا يكون في الخارج فضلا عن أن يحتاج إلى مميز وما وجد في الخارج هو مميز عن غيره بنفسه المتناولة لذاته وصفاته المختصة به لا يحتاج إلى مميز آخر وإن شابهه أو ماثله
وإذا قيل : هو هو فهو باعتبار النوع لا باعتبار الشخص ومعنى ذلك أن الموجود في الخارج من هذا هو مثل الموجود في الخارج من هذا
فإذا قلت : هذان إنسانان اشتركا في الإنسانية وامتاز أحدهما عن الآخر بعينه أو بشخصه أو ما قلت من العبارات التي تؤدي هذا المعنى أمكن ان يقال : هذان الإنسانان اشتركا في أن كلا منهما له عين تخصه وله شخص ونحو ذلك فاشتركا في التعين والتشخيص وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه من الإنسانية
وحقيقة الأمر أن كلا منهما ماثل الآخر ووافقه في أنه إنسان معين مشخص وكذلك إذا قدرنا موجودين : واجبا وممكنا أو موجودين : واجبين أو ممكنين فهذا الموجود وافق هذا الموجود في الوجود المطلق المشترك بمعنى انه شابهه في ذلك فهذا موجود : أي ثابت متحقق في الخارج وهذا موجود : أي ثابت متحقق في الخارج وكل منهما يفارق الآخر في نفس وجوده الذي يختص به وهو ذاته الموجودة في الخارج وليس بينهما اشتراك إلا في الخارج سواء كانا متماثلين : كالسوادين وحبتي الحنطة أو كانا مختلفين : كالسواد مع البياض والفرس مع الإنسان
فإذا قيل : إن السواد والبياض أو السوادين اشتركا في الوجود فهو كقولنا : اشتركا في التحقيق والثبوت وأن لكل واحد ماهية ولا يقتضي هذا تماثلهما في شيء من الأشياء فإن ما وجد في الخارج لكل منهما أمر يخصه فإذا لم يكن الموجود في الخارج منهما متماثلا كالسواد مع البياض لم يكونا متماثلين
وكذلك إذا قدر واجبان وقيل : اشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بالتعين
قيل : ما في الخارج ليس فيه اشتراك وإنما اشتركا في وجوب مطلق كلي كما اشتركا في تعين مطلق كلي وهذا الواجب المعين لم يشركه غيره في وجوبه المعين كما لم يشركه في تعينه المعين بل كل منهما حقيقته الموجودة في الخارج هي الشيء الموجود في الخارج كما أن حقيقه الممكن المحدث الموجودة في الخارج هي نفس الموجود في الخارج وليس في الخارج حقيقة سوى الشيء المعين الموجود حتى يقال : إن الوجود عارض لها أو لازم بل إن كان الشيء الموجود في الخارج من المحدثات كان موجودا تارة ومعدوما أخرى والموجود هي حقيقته الثابتة في الخارج والمعدوم تلك الحقيقة وهي مجعولة مفعولة مصنوعة وأما الحقيقة المتصورة في الذهن فتلك هي وجوده الذهني العلمي وتلك تحصل بالأسباب المحصلة للعلم كما تحصل الخارجة بالأسباب المحصلة للوجود وما ثم إلا هذا أو هذا فتقدير حقيقة لا في العلم ولا في الوجود تقدير مالا حقيقة له بل هو فرض ممتنع يتصوره الذهن كما يتصور ما لا يمكن وجوده لا في العلم ولا في الخارج فإن تصور مالا يمكن وجوده أعظم من تصورنا ما لا يوجد وهو متصور من هذه الجهة العامة حتى يحكم عليه بنفي التصور الخاص ولولا تميزه في الذهن مجملا لما أمكن الحكم على أفراده بالامتناع
ويبين هذا بالكلام على النظم الذي ذكره لهم الآمدي وجعله الغاية التي لا يرد عليها شيء وهو قوله لو كان وجوب الوجود مشتركا بين شيئين فالشيئان إما متفقان من كل وجه أو مختلفان من كل وجه أو متفقان من وجه دون وجه
إلى قوله وإن اتفقا من وجه دون وجه ومسمى واجب الوجود هو ما اشتركا فيه فمسمى واجب الوجود يكون مشتركا فإما أن يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصيص والتايز أو لا يتم بدونه والأول محال وإلا كان الأمر المطلق المشترك مشخصا في العيان بدون ما به التخصيص وهو محال والثاني يوجب افتقار مسمى واجب الوجود إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه فلا يكون واجبا بذاته
قلت : فيقال لهم : قولكم إما أن يتم تحقيق مسمى واجب الوجود في كل واحد من الشيئين بدون ما به التخصيص أتعنون بذلك المسمى المطلق الكلي الذي لا يوجد إلا في الذهن ؟ أم تعنون به المسمى الثابت في الخارج ؟
أما الأول فلا يوجد في الخارج : لا فيهما ولا في أحدهما كما لا يوجد الحيوان المطلق الكلي ثابتا في الخارج : لا في هذا الحيوان ولا هذا الحيوان بل لا يوجد في الخارج إلا ما هو حيوان معين جزئي وإنسان معين جزئي وكذلك الإنسان المطلق الكلي وكذلك سائر المطلقات الكلية كالحيوان المطلق وهم يسلمون أنها لا توجد في الخارج كلية مطلقة وإنما يظنون أنها توجد جزءا من المعين وهذا أيضا غلط بل لا توجد إلا معينة مشخصة وليس في المعين المشخص ما هو مطلق ولا في الجزئي ما هو كلي فإن كون الكلي ينحصر في الجزئي والمطلق في المعين ممتنع
و الآمدي قد بين فساد هذا في غير موضع من كتبه مثل كلامه على الفرق بين المطلق والمقيد والكلي والجزئي وغير ذلك وزيف ظن من يظن أن الكلي يكون جزءا من المعين وبين خطأ من يقول ذلك كالرازي وغيره فلو رجع إلى اصله الصحيح الذي ذكره في الكلي والجزئي والمطلق والمعين لعلم فساد هذه الحجة ولكن لفرط التباس أقوالهم وما دخلها من الباطل الذي اشتبه عليهم وعلى غيرهم تزلق أذهان كثير من الأذكياء في حججهم ويدخلون في ضلالهم من غير تفطن لبيان فسادها كالرازي والآمدي ونحوهما : تارة يمنعون وجود الصور الذهنية حتى يمنعوا ثبوت الكلي في الذهن وتارة يجعلون ذلك ثابتا في الخارج
ففي هذا الموضع أثبت الآمدي المسمى المشترك الكلي في الخارج وفي موضع آخر ينفيه مطلقا كما قال في إحكامه لما أراد الرد على الرازي في الأمر بالماهية الكلية : هل يكون أمرا بشيء من جزئياتها ام لا ؟ فإن الرازي ذكر أن الأمر بشيء من المعينات أن لا يكون فاعل المعين ممتثلا بل الأمر بجميع الأفعال : كالأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج والعتق وإعطاء الفقراء فإنه أمر يشيء مطلق ومع هذا فإذا اعتق رقبة مما أمر به أجزأه ولو صام شهرين متتابعين في أول العام أو اوسطه أجزأه بخلاف آخره فإن فيه نزاعا لتخلل الفطر الواجب ومثل هذا كثير
وزعم الآمدي أن الأمر لا يكون بالماهية الكلية بل لا يكون إلا أمرا بالجزئيات وهذا صحيح باعتبار دون اعتبار فإذا أريد به أن لا يمكنه فعل المطلق إلا معينا فيكون مأمورا بأحد الجزئيات لا يعينه بطريق اللزوم كان صحيحا وأما إن أريد انه لم يؤمر إلا بمعين لا بمطلق فليس بصحيح
قول الآمدي في الإحكام
قال الآمدي إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقا غير مقيد في اللفظ بقيد خاص قال بعض أصحابنا : الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة ولا تعلق له بشيء من جزئياتها وذلك كالأمر بالبيع فإنه لا يكون أمرا بالبيع بالغبن الفاحش ولا ثمن المثل إذ هما متفقان في مسمى البيع ومختلفان بصفتهما والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك وهو غير مستلزم لما يخصص به كل واحد من الأمرين فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقا بالأخص إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد الأمرين
قال ولذلك قلنا : إن الوكيل في البيع المطلق لا يملك البيع بالغبن الفاحش
قال الآمدي وهذا غير صحيح وذلك لأن ما به الاشتراك في الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجودا في جزئياته فيلزم من ذلك انحصار ما يصلح لاشتراك كثيرين فيه مما لا يصلح لذلك وهو محال
قال وعلى هذا فليس معنى اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي سوى أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية بل إن تصور وجوده فليس في غير الأذهان وإذا كان كذلك فالأمر طلب إيقاع الفعل على ما تقدم وطلب الشيء يستدعي كونه متصورا في نفس الطالب وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه فلا يكون متصورا في نفس الطالب فإذا الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان لا بالأمر الكلي
قال وإن سلم أن الأمر يتعلق بالمعنى الكي المشترك وهو المسمى بالبيع فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الثاني صحيح فإن الآتي ببعض المعينات قد أتى بما امر به لكن الجمهور الذي يقولون : لا يصح بيعه بالغبن الفاحش يقولون لم يدخل هذا البيع المعين في المسمى المطلق في عرف الناس كما لم يدخل البيع بثمن مؤجل وثمن محرم ونحو ذلك
وأما قوله إنه لم يؤمر بكلي وإنه لا معنى لا اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي وإلا مطابقة حد الكلي لحد جزئياته فهذا إسراف في النفي فإن الجزئيات تطابق حد بعضها بعضا وليس بعضها عاما مشتركا لسائرها
وقوله إيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه صحيح إذا أريد به أن يجعل ذلك المعنى الذي في نفسه كليا هو نفسه موجودا في الخارج وهذا غير مراد فإن ما في النفس صفة قائمة بها لا يكون في الخارج وإنما المراد أن يوجد في الخارج ما يطابقه بحيث يكون ذلك المعنى الكلي الذهني متناولا له كما يقال : فعلت ما في نفسي كما قال تعالى { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } يوسف 68 فالحاجة التي في نفسه إنما في نفسه تصورها وقصدها وقضاؤها له فعل ذلك المراد المتصور وهو امره لهم بما امرهم به من الدخول من أبواب متفرقة ومثل هذا كثير في كلام سائر الناس
ومنه قول عمر بن الخطاب : زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها
ويقال : كان في نفسي أن أحج وقد فعلت ما كان في نفسي
والمقصود هنا أن الآمدي هنا متعرف بأن المعنى الكي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجودا في جزئياته
قال : يلزم من ذلك انحصار ما يصلح لا اشتراك كثيرين فيه مما لا يصلح له وهو محال وهو كما قال فإنه إذا قال : إن المطلق جزء من المعين والكلي موجود في الجزئي فقد جعل الكي بعض الجزئي وبعض الشيء ينحصر فيه ثم أنهم يقولون : هو جزء من هذا المعين وهذا المعين وسائر الجزئيات فيلزم انحصاره في كل جزئي من جزئياته وانحصاره في واحد يمنع وجوده في غيره كما يمتنع وجود الجزئي في جزئي آخر فكيف يكون منحصرا في جزئي مع انحصاره في جزئي آخر فإن هذا جمع بين النقيضين مرات متعددة بل لا ينحصر كثرة
فلو كان الآمدي ذكر هذا في هذا الموضع لعلم بطلان هذه الحجة التي حررها لأتباع ابن سينا في كتابيه الكبيرين ولم يبن علتها ولعرف حلها ولم يقتصر على معارضتها
وكذلك الرازي يحتج بمثل هذه كثيرا مع أنه ينقضها كثيرا كما قال في ملخصه حكاية عن المتفلسفة : أما الكلي العقلي فالمشهور أن الصورة الذهنية أي وجوده بما هو هو في الذهن فقط لا في الخارج قالوا في بيان ذلك إن الأمر الموصوف بالكلية موجود : إما في الذهن وإما في الخارج وإلا لكان عدما صرفا ولو كان كذلك لاستحال أن يكون مشتركا فيه بين كثيرين ومحال أن يكون موجودا في الخارج لأن كل موجود في الخارج فهو مشخص معين ولا شيء من المشخص المعين بمشترك فيه بين كثيرين ينتج لا شيء من الموجود في الخارج بمشترك فيه بين كثيرين وكل كلي مشترك فيه بين كثيرين فلا شيء من الموجود في الخارج بكلي ولما بطل كون الكي موجودا في الخارج تعين كونه موجودا في الذهن فهذا الكلام الذي ذكره الرازي وحكاه عن الحكماء هنا كلام صحيح ولو التزموا موجبه لم يقولوا : إن في الخارج شيئا مشتركا كليا ولا أن الإنسانية الكلية موجودة في الخارج ولا أن الواجبين أو الموجودين إذا اشتركا في مسمى الوجود والوجوب كان ذلك المشترك الكلي متحققا في الخارج واحتاج حينئذ إلى ما به الامتياز
وتناقض القوم أكثر من أن يمكن ذكره هنا ومن تصور هذا المعنى علم بالاضطرار أن هذا الإنسان المعين هو حيوان معين وجسم معين وناطق معين وأنه ليس فيه شيء كلي مطلق مشترك بينه وبين غيره ولا الكلي المطلق المشترك بين الأعيان جزء منه ثابت في الخارج ومن جعل المطلقات الكلية ثابتة في الخارج وجزءا من العينات وأثبت في المعينات أمورا مطلقة فلا ريب أنه لم يتصور ما قال أو هو فاسد العقل بأي عبارة عبر عن ذلك مثل أن يقول : الماهية الكلية يعرض لها التعين او هي معروضة التعين أو هي غير مانعة من التعين أو جعلوا الكلية عارضة للتعين كقولهم : معروض الكلي في الخارج فإنهم لما ظنوا أن في الخارج كليا ومعينا صاروا تارة يجعلون هذا عارضا لذاك وتارة يجعلون ذاك عارضا لهذا ويقولون : الماهية يعرض لها أن تكون كلية وجزئية
وحقيقة الأمر أن الماهية الكلية إنما تكون كذلك في الذهن وما في الذهن لا يوجد في الخارج إلا معينا ومعنى وجوده وجود ما يطابقه : مطابقة العلم للمعلوم والاسم للمسمى والإرادة للمراد وإلا فعاقل يتصور ما يقول لا يقول : إن الكليات توجد في الخارج إلا إذا أراد به أن ما هو كلي في الأذهان يكون ثابتا في الأعيان لكن معينا وهؤلاء ينكرون على من يقول : المعدوم شيء ثابت في الخارج
وقوله وإن كان باطلا فقولهم أفسد منه وإن كانا يشربان من عين واحدة وهو اشتباه ما في الأذهان بما في الأعيان وكذلك الذين أثبتوا الأحوال في الخارج وقالوا : هي لا موجودة ولا معدومة شربوا أيضا من هذه العين وكذلك من ظن اتحاد العالم بالمعلوم والمحب بالمحبوب والعابد بالمعبود كما وقع لأهل الاتحاد المعين قد شرب من هذه العين المرة المالحة أيضا وكذلك من قال بالاتحاد المطلق تصور وجودا مطلقا في نفسه فظن أنه في الخارج فهؤلاء كلهم شربوا من عين الوهم والخيال فظنوا أن ما يكون في وهمهم وخيالهم هو ثابت في الخارج
هذا وهم ينكرون على أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة إذا أنكروا وجود قائم بنفسه موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ويزعمون أن نفي هذا من حكم الوهم والخيال التابع للحس فإذا طولبوا بدليل يدل على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه كان ملجؤهم وغياثهم هي هذه الكليات كما فزع إليها ابن سينا ومن أخذ ذلك عنه الرازي وأتباعه مثل الأصبهاني وغيره
قول ابن سينا في الإشارات عن الكليات
قال ابن سينا في أول النمط الرابع الذي هو في الوجود وعلله اعلم أنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأن ما لا يناله الحس بجوهره ففرض وجوده محال وأن ما لا يتخصص بمكان أو بوضع بذاته كالجسم أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم فلا حظ له في الوجود وأنت يتاتى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء إنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد لا على سبيل الاشتراك الصرف بل بحسب معنى واحد مثل اسم الانسان فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود فذلك المعنى الموجود لا يخلو إما أن يكون بحيث يناله الحس أولا يكون فإن كان بعيدا من أن يناله الحس فقد أخرج التفتيش من المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا أعجب
وإن كان محسوسا فله لا محالة وضع وأين ومقدار معين وكيف معين لا يتأتي أن يحس بل ولا أن يتخيل إلا كذلك فإن كل محسوس وكل وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك لم يكن ملائما لما ليس بتلك الحال فلم يكن مقولا على كثيرين يختلفون في تلك الحال فإذا الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل هو من حيث حقيقته الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير محسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل كلي
قال ولعل قائلا منهم إن الإنسان إنما هو إنسان من حيث له اعضاء من يد ورجل وعين وحاجب ومن حيث هو كذلك فهو محسوس فننبهه ونقول إن الحال في كل عضو مما ذكرته أو تركته كالحال في الإنسان نفسه
تعليق ابن تيمية
قلت يقال له قولك قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس إما أن تريد أن الوجود هو ما أحس الشخص المعين أو ما يمكن إحساسه في الدنيا أو ما يمكن الإحساس به ولو بعد الموت فأما الأول فلا يقوله عاقل فإنه ما من عاقل إلا ويعلم إما بخبر غيره وإما بنظره وقياسه ما لم يعلمه بحسه ومن حكى عن الراهمة أو غيرهم من الأمم انهم حصروا الموجودات في المحسوسات بمعنى انه ما لم يحسه الشخص المعين لا يصدق به وانه لا يصدق بالأخبار المتواترة وغيرها فلم يفهم مرادهم فإن أمة من الأمم لها بلاد يعيشون فيها لا بد أن يميز الرجل بين أمة وأبيه وأن يعرف من حوادث بلده وسير ملوكهم وعاداتهم ما لا يعرفه إلا بالخبر وهذا نظير إلا بالخبر وهذا نظير حكاية من حكى أن أمة من الأمم يقال لهم السوفسطائية ينسبون إلى رجل يقال له سوفسطا يجحدون الحقائق أو علمهم بجميع الحقائق أو يقفون أو يجعلون الحقائق مطلقا تابعة للعقائد فإن هذا لا يتصور أن تكون عليه أمة من الأمم لهم بقاء في الدنيا وإنما السفسطة كلمة معربة أصلها سوفسقيا وهي كلمة يونانية أي حكمة مموهة بالسفسطة أي الكلام الباطل المشبه للحق وهذا يعرض لكثير من الناس أو لأكثرهم في كثير من الأمور لا في جميعها فإنه كما تعرض الأمراض للأبدان كذلك تعرض الأمراض للنفوس مرض الشبهات والشهوات
وفي الحديث المأثور : إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات رواه البيهيقي مرسلا وزاد فيه بعضهم : ويحب السماحة ولو بكف من تمرات ويحب الشجاعة ولو على قتل الحيات
ولكن البراهمة أنكرت ما سوى هذا الموجود المحسوس كما هو قول الطبيعية من الفلاسفة وقول الفرعونية ونحوهم وهذا هو المردود عليهم وسيأتي بيان ذلك في حكاية الإمام أحمد مناظرتهم لجهم ويمكن أن الراهمة أو بعضهم قال مالا يمكن معرفته بالحس ألبته فهو ممتنع وهذا قول أكثر أهل الأرض من أهل الملل وغيرهم وهو القول الذي أنكره ابن سينا وأراد إبطاله
لكن هؤلاء نوعان : منهم من أنكر مالا يحسه عموم الناس في الدنيا حتى أنكر الملائكة والجن بل وجحد رب العالمين سبحانه فهؤلاء هم الكفار الدهرية المعطلة المحضة
و ابن سينا وأمثاله يردون على هؤلاء لكن يردون عليهم أحيانا بحجج فاسدة
وهذا هو القسم الثاني وهو إنكار الإنسان مالا يحس في الدنيا
وأما القسم الثالث وهو أن الموجود هو ما يمكن الإحساس به ولو في الآخرة وأن ما أخبرت به الرسل من الغيب كما أخبرت به عن الجنة والنار وعن الملائكة بل وإخبارهم عن الله تعالى هو مما يمكن معرفته بالحس كالرؤية
فهذا قول جماهير أهل الإيمان بالرسل وسلف الأمة وأئمتها فإنهم متفقون على أن الله يرى في الآخرة عيانا كما يرى الشمس والقمر وأنه لا يلزم من تعذر رؤية الشيء في حال تعذر رؤيته في حال أخرى بل قد يرى الشيء في حال دون حال كما أن الأنبياء يرون مالا يراه غيرهم من الملائكة وغيرها بل والجن يراهم كثير من الناس
وإن ادعى أن من الموجودات القائمة بأنفسها مالا يمكن أن يعرف بالإحساس في حال من الأحوال فهذا قول باطل ولا دليل له لعيه وهذا قول الجهمية الذين ينكرون رؤية الله تعالى
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على بطلان قولهم وفساد قولهم يعلم بالعقل الصريح كما يعلم بالنقل الصحيح وهؤلاء في نفس الأمر من أجهل الناس وأضلهم وإن كانوا عند أنفسهم من أعقل الناس وأعرفهم فهم كما قال تعالى : { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } غافر 56
وكما قال تعالى { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } البقرة 13
وقوله : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } غافر 83
وأما حجته على إثبات وجود ما ليس بمحسوس فقد احتج بالكليات
فيقال له : قولك : إن هذه المحسوسات يقع عليها اسم واحد بحسب معنى واحد مثل اسم الإنسان فإن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود
فيقال له : لأتعني أن هذا المعنى الواحد الذي يشترك فيه زيد وعمرو هو معنى واحد قائم بالعالم كالإنسان ؟ كما أن لفظ إنسان قائم بالناطق وكما أن خط زيد قائم باللوح الذي فيه الخط ؟
أم تعني أن ذلك المعنى الواحد هو موجود في الخارج في زيد وعمرو أو في غيرهما ؟
أما الأول فصحيح ولاحجة لك فيه
وأما الثاني فقولك في المعنى كقول من يطرد قولك ويجعل لفظ الإنسان الواقع على زيد وعمرو موجودا في الخارج قائما بزيد وعمرو ويجعل الخط المطابق للفظ ثابتا في الخارج عن اللوح قائما بزيد وعمرو إذا كل عاقل يعلم أن الخط مطابق للفظ وأن اللفظ مطابق للمعنى وأن عموم المعنى الواحد كعموم اللفظ الواحد المطابق له
فإذا قال القائل إنسان كان للفظه وجود في لسانه وللمعنى وجود في ذهنه ووقوعه هذا على زيد وعمرو كوقوع هذا على زيد وعمرو وهذا هو المعنى الذي سميته معقولا وجعلته معقولا صرفا وهل يكون المعقول الصرف إلا في الحي العاقل ؟ فإن المعقول الصرف الذي لا يتصور وجوده في الحس هو مالا يوجد إلا في العقل وما لا يوجد إلا في لاعقل لم يكن موجودا في الخارج عن العقل فالتفتيش الذي أخرج من المحسوس ما ليس بمحسوس أخرج منه المعقولات المحضه التي يختص بها العقلاء وهي الكليات الثابتة في عقول العقلاء فإن الإنسان إذا تصور زيدا أو عمرا ورأى ما بينهما من التشابه انتزع عقله من ذلك معنى عاما كليا معقولا لا يتصور أن يكون موجودا في الخارج عن العقل
فهذا هو وجود الكليات وهذه الكليات المعقولة أعراض قائمة بالذات العاقلة بل يمكن وجود أعيان في الخارج من غير أن يعقل الإنسان كلياتها ويمكن وجود كليات معقولة في الأذهان لا حقيقة لها في الخارج كما يعقل الأنواع الممتنعة لذاتها وغير ذلك فمن استدل على إمكان الشيء ووجوده في الأعيان بإمكان تصوره في الأذهان كان في هذا المقام أضل من بهيم الحيوان
قال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل } الأعراف : 179 وقال تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات } الأنعام 39
وقال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } الحج 46
وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } الفرقان 44
وقال تعالى : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } الأحقاف 26
وقولهم : فالإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا يختلف فيها الكثرة غير محسوس بل معقول صرف وكذلك الحال في كل كلي هو من الأقوال الملبسة فإن هذه الحقيقة إما أن تعني بها ما يتصوره المعقول من الإنسان أو ما يوجد منه أو شيء ثالث
فأما شيء ثالث فلا حقيقة له فإن كان له حقيقة فبينوها فإنا نعلم بالاضطرار أنه ما في الوجود إلا ما هو موجود في نفسه أو ما هو متصور في الذهن إذ العقل أو العلم ونحو هذه الأمور مما ليس بحاصل في العلوم والأذهان ليس بموجود في الأعيان فلا حقيقة له البتة ولكن الناطق بهذه العبارة يتصور في نفسه مالا حقيقة له كتصور إنسان ليس بموجود في الخارج
فإذا قلت : الإنسان من حيث هو هو مع قطع النظر عن ثبوته في العلم أوالعين
قلت لك : تقديره مطلقا لا بشرط من حيث هو هو - هو أيضا من تقديرات الأذهان فإذا كان مالا يوجد إلا مقدرا في الأذهان وفرضته غير مقدر في الأذهان جمعت بين النقيضين
فإن قلت : أنا يمكنني أن أتصور إنسانا مطلقا مع قطع النظر عن وجوده في الذهن والخارج
قلت : تصوره مطلقا غير مقيد بالذهن ولا بالخارج شيء وتصوره مقيدا بسلب الذهن والخارج شيء آخر فأما الأول فأنت لم تتصور معه سائر لوازمه وتصور الملزوم دون لوازمه ممكن كما تتصور إنسانا مع قطع النظر عن وجوده وعدمه وإن كان لا يخلو عن واحد منهما فهذا تصور للشيء دون لوازمه
وأما تصوره مقيدا بسلب الوجود الذهني والخارجي فهو من باب تصور الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين وهو كتصور إنسانا مقيد بكونه لا موجودا ولا معدوما ومجرد فرض هذا ف بالذهن يوجب العلم بامتناعه
وأما الأول فلا يوجب تصور الملزوم بدون لازمة إمكان وجوده في الخارج بدون لازمة فكونه إما في الذهن وإما في الخارج هو من لوازمه ويمكن تصور الملزوم فإن عدم العلم بالشيء ليس علما بعدمه وهذا كما يمكنك تصور إنسان مع قطع النظر عن وجوده وعدمه وإن كان لا بد له إما أن يكون موجودا أو معدوما لامتناع الخلو عن النقيضين
وهؤلاء يجعلون تقدير الذهن للممتنعات حجة على ثبوتها ويشبهون الوجود الواجب بالوجود الممتنع وهذا كما أن الإنسان يتصور علما مطلقا وقدرة مطلقة مع علمه بان ذلك لا يكون إلا بذات حية عالمة قادرة
وكذلك يتصور الإنسان حيوانا مطلقا ولا يتصور مع ذلك انه ناطق أو بهيم ولا يخلد ولا يموت ولا يعلم ولا يجهل ولا يعجز ولا يقدر ولا يسكن ولا يتحرك فهل يستدل بتصوره ذلك في عقلة على أنه يوجد ؟ أو يمكن أن يوجد في الخارج حيوان مطلق يخلو عن هذه المتقابلات كلها فلا يموت ولا يخلد ولا يقدر ولا يعجز ؟
ومن المعلوم أن مقدرات الأذهان ومتصورات العقول يحصل فيها مالا وجود له في الخارج تارة بأن لا يوجد ما يطابقه وهو الوهم وتارة مع وجود ما يطابقه كمطابقة الاسم للمسمى والعلم للمعلوم وهو مطابقة ما في الذهن لما في الخارج ومطابقة الصورة العلمية لمعلوماتها الخارجية
وإذا قيل في هذه الصورة إنها كلية فهو كقولنا في الاسم إنه عام
والمراد بذلك أنها مطابقة لأفرادها مطابقة اللفظ العام والمعنى العام لأفراده ن وهي مطابقة معلومة متصورة لكل عاقل لا تحتاج إلى نظير وإذا شبهت بمطابقة الصورة التي في المرآة أو مطابقة نقش الخاتم للشمع ونحو ذلك كان ذلك تقريبا وتمثيلا وإلا فالحقيقة معلومة وكل عاقل يعلم مثل هذا من نفسه
واعلم أنه بالكلام على هذه الحجة التي لهؤلاء المتفلسفة في التوحيد يتبين الكلام على حجتهم الثانية وهي قولهم : لو كان واجبان لا يشتركان في مسمى الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه فكان كل منهما مركبا مما به الاشتراك ومما به الامتياز والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجبا
فإنه يقال لهم : إنما اشتركا في المطلق الذهني لم يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود في الخارج حتى يكون في ذلك الموجود تركيب وكل منهما يمتاز عن الآخر بالوجوب الذي يخصه كما امتاز عنه بحقيقته التي تخصه والوجود الذي يخصه
ويقال لهم : هذا كاشتراك الموجود الواجب والموجود الممكن في مسمى الوجود مع امتياز هذا بما يخصه وهذا بما يخصه فإن الوجوب المشترك الكلي ليس هو ثابتا في الخارج بل للواجب وجود يخصه وللممكن وجود يخصه كما أن لهذا حقيقة تخصه ولهذا حقيقة تخصه
وكذلك إذا قيل لهذا ماهية تخصه ولهذا ماهية تخصه فإنهما يشتركان في مسمى الماهية ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يختص به وإنما اشتركا في المسمى المطلق الكلي وامتاز كل منهما عن الآخر بالوجود الذي في الخارج وذلك لا يكون إلا في الذهن وما امتازا به هو موجود في الخارج وقد يتصور في الذهن فإن ما في الخارج يتصور في الذهن وليس كل ما يتصور في الذهن يكون في الخارج فلم يكن ما به الاشتراك مفتقرا إلى ما به الامتياز ولا ما به الامتياز مفتقرا إلى ما به الاشتراك بل لاشركة في الأعيان الموجودة الجزئيات ولا امتياز في الكليات المطلقة بالمعقولات أعني من حيث تناولها وشمولها لأفرادها بل تناولها لأفرادها تناول واحد وشمولها شمول واحد
وهذا المعنى الواحد الشامل هو كاللفظ الواحد الشامل العام واشتراك الموجودين في الوجود أو الواجبين في الوجوب مع ما بينهما ف بالخارج من الامتياز والاختصاص كاشتراك اللونين في اللونية مع أن هذا في الخارج سواد وهذا بياض فإذا قلت : السواد مركب من اللونية والسوادية كما تقول : الموجود مركب من الحيوانية والناطقية
قيل لك أتعني أنه مركب من لونية مطلقة لا تخصه ومن السوادية التي تخصه ومن الوجود المطلق الذي لا يخصه والوجوب الذي يخصه ومن الحيوانية المطلقة التي لا تخصه والناطقية التي تخصه ؟ أم مركب من نفس لونيته الخاصة وسواديته ومن نفس وجوده الخاص ووجوبه ومن الحيوانية التي تخصه وناطقيته ؟
فأما الأول فباطل فإنه ليس فيه شيء مطلق : لا لونية مطلقة ولا حيوانية مطلقة ولا وجودية مطلقة
وإن عنيت الثاني فلونيته الخاصة وسودايته متلازمان وكذلك حيوانيته الخاصة وناطقيته وكذلك وجوده الخاص ووجوبه فكما لا يمكن تقدير هذا اللون المعين الذي هو سواد بدون السواد فلا يمكن تقدير هذا الحيوان المعين الذي هو ناطق بدون النطق ولا يمكن تقدير هذا الموجود المعين الذي هو واجب بدون الوجود فإن هذا الحيوان هو الحيوان المعين والواجب هو الموجود المعين ولا يتميز في الخارج سواد من لون كما لا يتميز ناطق عن حيوان ولا وجود عن وجوب بل الذهن يعقل ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية ويميز بين ذلك ما يعقله ما بين هذا السواد وسائر الألوان من المشابهة في اللونية ويميز بين ذلك ما يعقله بينه وبين سائر السوادات من المشابهة ويضم هذا إلى هذا وهو تركيب عقلي اعتباري وكذلك يعقل ما بين هذا الإنسان وغيره من الحيوان من المشابهة في الحيوانية وما بينه وما بين سائر الإناسي من المشابهة في الإنسانية ويضم هذا إلى هذا وهو تركيب عقلي اعتباري
ومن قال : إن الإنسان مركب من الحيوان والناطق وهو يعقل ما يقول فإنما يعني هذا التركيب ونحوه وليس ذلك تركيبا في الوجود الخارجي ولا في الوجود الخارجي جزء لهذا المركب متميز عن كله ولا جزء سابق لكل بل هذه الأمور إنما توجد في الأذهان لا في الأعيان فهذه التركيبات مركبة من تلك الكليات والكليات الخمسة : الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان
كذلك التركيب الذي يوجد في بعض هذه مع بعض فإن أجزاء المركب التي هي الكليات لا تكون إلا في الذهن فالمركب من الكليات الذهنية أولى أن لا يكون إلا ذهنيا
وهؤلاء المتفلسفة المنطقيون نفوا حقيقة واجب الوجود وصفاته معتقدين أنهم موحدون لذاته وقالوا هو منزه عن التركيب لافتقار المركب إلى جزئية
والتركيب يقع عندهم كما ذكره ابن سينا وغيره وذكره الغزالي عنهم في تهافت الفلاسفة وغيره على خمسة أنواع أحدها : تركيب الموجود من الوجود والماهية
والثاني : تركب الحقيقة من الأمور العامة والخاصة : كالوجود العم والوجوب الخاص
والثالث : تركب الذات الموصوفة من الذات والصفات
والرابع : تركب الذات القائة بنفسها المباينة لغيرها المشار إليها : من الجواهر المنفردة التي يقال إنها مركبة منها
والخامس : تركبها من المادة والصورة التي يقال أنها مركبة منها
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا أنه يمتنع وجود موجود قائم بنفسه : سواء كان واجبا أو ممكنا بدون ثبوت هذه المعاني التي سموها تركيبا وإن تسميتهم لذلك تركيبا غلط منهم
وإن قالوا : هو أصطلاح اصطلحنا عليه فلا ترتفع بسب غلط الغالطين وأوضاعهم اللفظية الحقائق الموجودة والمعاني العقلية وأنه ليس في العقل ما يمنع ذلك بل العقل يصدق السمع الدال على إثبات صفات الله تعالى ومباينته لمخلوقاته وأن العقل أثبت موجودا واجبا بنفسه غنيا عما سواه
وأما كون ذلك الموجود لا يكون إلا حيا عالما قادرا أو لا يكون إلا موصوفا بصفات لازمة لذاته ولا يكون إلا مباينا لمخلوقاته فالعقل يوجب ذلك الوجود لا نحيله عليه وأن ما ذكروه من إثبات وجود مطلق بشرط الإطلاق أو بسلب الأمور الثبوتية عنه ليس له حقيقة ولا ماهية سواء مطلق الوجود أو الوجود المسلوب عنه الأمور الثبوتية وهو أمر يمتنع تحققه في الخارج وإنما يكون في الأذهان لا في الأعيان
وهذا هو الواحد الذي قالوا : لا يصدر عنه إلا واحد فإنه يمتنع تحققه في الخارج وكذلك الواحد البسيط الذي يتركب منه الأنواع هو أيضا مما لا يتحقق إلا في الأذهان
ومتكلموا أهل الإثبات إذا قالوا : وجوده عين حقيقته أو ماهيته أو ليس وجوده زائدا على ماهيته فليس مرادهم بذلك مراد المتفلسف الجهمي الذي يقول إنه وجود مطلق فإن الوجود المطلق لا حقيقة له في الخارج ولكن مرادهم بذلك ما يريدونه بقولهم : إن حقيقة الإنسان هي وجوده الموجود في الخارج وحقيقة السواد هو السواد الوجود في الخارج ونحو ذلك ومرادهم بذلك أن الشيء الموجود في الخارج الذي له حقيقة تخصه وجوده الثابت في الخارج هو تلك الحقيقة الخاصة فوجوده المختص به هو حقيقته المختصة كما أن الوجود المطلق كلي عام والحقيقة المطلقة كلية عامة ونفس حقيقة الإنسان والجسم وغيرهما ليست هي وجودا مطلقا وإن كانت حقيقته نفس وجوده فكيف يكون رب العالمين حقيقته وجود مطلق لا يتصور إلا في الذهن ؟
بل هو سبحانه وتعالى مختص بحقيقته التي لا يشركه فيها غيره ولا يعلم كنهها إلا هو وتلك هي وجوده الذي لا يشركه فيه غيره ولا يعلم كنهه إلا هو
والناس إذا علموا وجودا مطلقا أو حقيقة مطلقة فذلك هو الكلي العام الشامل ليس هو نفس الحقيقة الموجودة في الخارج
وكذلك تركب الحقيقة من الصفات العامة والخاصة إنما هو تركيب في الذهن تركيب ذهني عقلي اعتباري
وكذلك تركب الموصوف من الذات ولاصفات إنما يكون تركيبا لو كان هناك ذات مجردة عن تلك الصفات أو لو أمكن وجود ذلك فأما الذات التي لا تكون إلا حية عالمة فلا يتصور أنفكاكها عن الحياة والعلم حتى نقول إن الذات تركيب مع الصفات
وكذلك أيضا الماهية المشار إليها القائمة بنفسها المباينة لغيرها إنما يقال هي مركبة من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة ولو كان لهذا التركيب حقيقة فأما إذا كان الجوهر الفرد باطلا وتركب الجسم من الجوهرين : المادة والصورة باطلا والأمور المشار إليها المباينة لغيرها من المخلوقات : كالشمس والقمر ليس هو مركبا من أجزاء منفردة ولا من جوهرين : مادة وصورة فكيف يظن برب العالمين أنه مركب من ذلك ؟ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الأعيان القائمة بأنفسها خلقها الله تعالى كذلك ليس فيها أجزاء تركبت منها لكن يمكن أن يفرقها الله ويجزئها إلى أن يتصاغر جدا ثم يستحيل إلى نوع آخر من أن ذلك الجزء الصغير يتميز منه شيء عن شيء وليس في الوجود عين قائمة لا يتميز منها شيء عن شيء
والصورة إما صورة عرضية كشكل فالمادة هنا هو الجسم نفسه وغما الصورة التي هي المصور كالإنسان نفسه والمادة فيها ليس لها جوهر يحملها بل مادتها ما منه خلقت وتلك استحالت إلى صورة أخرى وفني الأول وعدم كما يفنى المني إذا صار إنسانا وليس بين ما استحال منه واستحال إليه شيء باق بعينه وإنما يشتركان في أمور نوعيه كالمقدار ونحوه
والمركب المعقول هو ما كان مفترقا فركبه غيره كما تركب المصنوعات من الأطعمة والثياب والأبنية ونحو من أجزائها المفترقة
والله تعالى أجل وأعظم من أن يوصف بذلك بل من مخلوقاته ما لا يوصف بذلك ومن قال ذلك فكفره وبطلان قوله واضح
وقد يقال المركب على ما له أبعاض مختلفة كأعضاء الإنسان وأخلاطه وإن كان خلق كذلك مجتمعا لكنه يقبل التفريق والانفصال والانقسام والله مقدس عن ذلك
وقد يقال المركب على ما يقبل التفريق والانفصال وإن كان شيئا بسيطا كالماء والله مقدس عن ذلك
فهذا هو التركيب المعقول في اللغة والاصطلاح فأما المركب في اللغة فهو الأول خاصة ولكن هذا المعنى لم يريدوه لفظ المركب
والثاني والثالث قد يسميه طائفة من أهل العلم مركبا فأما الذات المتصفة بصفات لازمة لها التي لها حقيقة تمتاز بها عن سائر الحقائق وتباين غيرها من الموجودات من غير أن يجوز عليها تفريق وتبعيض وتجزئة وتقسيم فهذه لو قدر أنها مخلوقة لم تكن مما يسمى مركبا في اللغة المعروفة والاصطلاح
وإذا سمى مسم هذه مركبا كان إما غالطا في عقله لاعتقاده اشتمالها على حقيقتين وجودها وحقيقتها المغايرة لوجودها أو على حقيقتين ذات قائمة بنفسها معقولة مستغنية عن صفاتها وصفات زائدة عليها قائمة بها أو على جواهر منفردة أو معقولة أو نحو ذلك من الأمور التي يثبتها طائفة من الناس ويسمونها تركيبا
وجمهور العقلاء يخالفونهم في إثبات ذلك فضلا عن تسميته تركيبا ولو سلم لهم ثبوت ما يدعونه لم تكن تسميته مركبا من اللغة المعروفة بل هو واضح اصطلحوا عليه فإن الجسم الذي له صفات كالتفاحة التي لها لون وطعم وريح لا يعرف في اللغة المعروفة إطلاق كونها مركبة من لونها وطعمها وريحها ولا تسمية ذلك أجزاء لها ولا يعرف في اللغة أن يقال إن الإنسان مركب من الطول والعرض والعمق بل ولا أنه مركب من حياته ونطقه إلى أمثال ذلك من الأمور التي يسميها من يسميها من أهل الفلسفة والكلام تركيبا إما غلطا في المعقولات وإما اصطلاحا انفردوا به عن أهل اللغات
فليس لهؤلاء أن ينفوا ما علم ثبوته بالشرع والدعاء ومضاهاة للمشركين والنصارى والصابئين الذين { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } التوبة : 31
وهذه الشفاعة التي أثبتها المشركون وأبطلها القرآن رأيت من هؤلاء المتفلسفة نفاة الصفات كابن سينا ومن ضاهاهم في بعض الأمور التي يجعلونها علوما مضنونا بها على غير أهلها قد أثبتوا هذه الشفاعة الشركية وهذه الوسائط الإفكية مع أن القرآن العزيز مملوء من ذم أهلها قال تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون } الزمر : 43 - 44
وقال تعالى { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } يونس : 18
وقال تعالى { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } الأنعام : 94
وقال تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } آل عمران : 80
وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } الإسراء : 56 و57
وقال تعالى { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } سبأ : 22 ، 23
فنفي أن يكون لغيره معه ملك أو شريك في الملك أو مظاهرة له ولم يثبت من الشفاعة النافعة إلا ما كان بإذنه وهذه الشفاعة التي يؤمن بها المؤمنين كشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم يوم القيامة فإنه بإتفاق أهل السنة والجماعة له شفاعات في القيامة حتى يشفع في أهل الكبائر من أمته كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة كما كان يدعو ويشفع لهم في حياته
وكذلك يشفع غيره ممن يأذن الله له في الشفاعة لكن ليست هي الشفاعة التي يثبتها أصناف المشركين من غير أهل الكتاب والصابئين ومن ضاهاهم من أهل الكتاب كالنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة كالمتفلسفة والملاحدة والإسماعلية وكأهال المضنون به وغيرهم فإنهم جعلوا الشفاعة تنفع بدون دعاء الشافع لله وبدون إذن الرب له في الشفاعة كما تقدم
والله تعالى يقول { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } البقرة : 255
وقال تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } الأنبياء : 28 وأمثال ذلك في كتاب الله عز و جل
وهنا جواب آخر عن أصل الحجة وهو أن يقال هب أن الشيئين يشركان في شيء موجود في الخارج ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وأن الكلي المشترك بينهما ثابت في الخارج وأن أحدهما إما أن يكون لازما للآخر أو ملزوما أو عارضا أو معروضا فلم لا يجوز أن يكون المشترك لازما للمعين بل وملزوما له بحيث يكون كل من المشترك والمختص مشروطا بالآخر والشرط لا يجب تقدمه على المشروط ؟
وهذا كما أن الحيوانية مع الناطقية والصاهلية كل منهما مشروط بالآخر فلا يوجد المختص الذي هو الناطقية والصاهلية إلا مع الحيوانية ولا توجد حيوانية إلا مع بعض ذلك
وليس المراد بكون المشترك مشروطا بالمختص أنه بهذا المعين بل مشروط إما بهذا وإما بهذا فالمشترك من حيث مشروط بأحدهما لا بعينه ومن حيث تشخصه وتعينه مشروط بما لقترن به من التعين
وهذا ثابت في كل شيئين اتفقا في شيء وافترقا في شيء ولا حيلة لهم فيه وذلك أن كون الشيء لازما للآخرين أعم من كونه علة أو معلولا أو لا علة ولا معلولا فليس كل لازم معلولا فإذا كان كل من الوجوبين لازما لمعينه لم يجب أن يكون الواجب معلولا ولا يكون الملزوم علة
وبهذا يتبين فساد مقدمته الثانية التي قال فيها يجوز أن تكون ماهية الشيء سببا لصفة من صفاته وأن تكون الصفة سببا لصفة أخرى ولكن لا يجوز أن يكون الوجود بسبب ماهيته التي ليست من الوجود أو بسبب صفة أخرى لأن السبب يتقدم في الوجود ولا يتقدم بالوجود قبل الوجود
فإنه يقال له لفظ السبب قد تعني به العلة الموجبة وقد تعني به الشرط فإن عنيت به الأول لم يجعل مسببا عن غيره لئلا يلزم تقدم غير الوجود الواجب عليه
وإن عنيت بالسبب الشرط فالشرط لا يجب تقدمه على مشروط بل يجوز مقارنته للمشروط فالأمور المتلازمة كالمتضايقات كل منها لا يوجد إلا مع الآخر فوجوده مشروط به من غير تقدم أحدهما على الآخر
وكذلك أنتم تقولون إن المادة مع الصورة كل منهما شرط في الآخر من غير تقدمه عليه والمسلمون يقولون إن العلم والقدرة مشروط بالحياة وكلاهما صفة لازمة لله تعالى لا يجوز تقدمها على الأخرى بالوجود
وإذا كان كذلك وقدر أن للواجب حقيقة مغايرة للوجوب فلم لا يجوز أن يكون وجوده الواجب مشروطا بتلك الحقيقة التي هي أيضا مشروطة به من غبر أن يكون الوجود الواجب مسبوقا بوجود غيره كما يقولون في وجود الممكن إذا قلتم إنه زائد على ماهيته إن ماهيته لا تنفك عن وجوده كما لا ينفك وجوده عن ماهيته
وهذا جواب لا حيلة لهم فيه وهو جواب عن تلازم الذات مع الصفات إذا قدر أحدهما مغايرا للآخر
عدم فصل الرازي العلة من الشرط
وأبو عبد الله الرازي اجاب بجواب لم يفصل فيه العلة من الشرط فقال قولكم لو كانت الماهية علة لوجود نفسها لكانت متقدمة بالوجود على نفسها فإن العلة متقدمة بالوجود على المعلول ممنوع فإنا لا نسلم وجوب تقدم العلة على المعلول بالوجود وقول القائل هي متقدمة عليه بالذات إن أريد به كونها مؤثرة فمسلم وإن أريد به أنها لا تؤثر فيه إلا بعد وجودها فهذا ممنوع ونحن أن المؤثر في وجود الله تعالى هو نفس ماهيته لا باعتبار وجود سابق وإن أريد بالتقدم أمر وراء التأثير فذلك غير متصور
ثم منع عموم الدعوى فقال نزلنا عن هذا المقام فلم قلتم إن كل علة فهي متقدمة بالوجود على المعلول ألا ترى أن ماهيات الممكنات قابلة لوجود ذاتها فماهياتها علل قابلية لوجود ذاتها ففي هذا الموضع العلل القابلية لا يجب تقدمها على المعلول بالوجود وإذا كان كذلك فلم لا يجوز مثله في العلة الفاعلية
وقال لا نقول المؤثر هو الماهية المعدومة بل الماهية من حيث هي هي مغايرة لوجودها وعدمها ونحن إنما نجعل المؤثر في الوجود تلك الماهية فقط
قال فإن قيل كما جوزتم أن تؤثر ماهيته قبل الوجود في وجود نفسها فلم لا يجوز ان تؤثر تلك الماهية قبل وجودها في وجود العالم وحينئذ لا يمكن الاستدلال بوجود الأفعال على وجود الفاعل قلنا البديهية فرقت بين الموضعين فإنا بالبديهية نعلم أن الشيء ما لم يوجد لا يكون شيئا لوجود غيره ونعلم أن لا استبعاد في أن يكون الشيء موجودا من ذاته والمعلوم من قولنا إنه موجود لذاته أن تقتضي وجود نفسه وإذا جزمت بالبديهية بالفرق صح كلامنا في هذه المسألة
وقد مانعه بعض أصحابه في هذا الموضع وقال العلم بأن العلة لو كانت موجبة للوجود لكانت موجودة علم ضروري لأن المفيد للوجود لا بد أن يكون له وجود بخلاف القابل فإنه مستفيد للوجود يمتنع أن يكون موجودا
تعليق ابن تيمية
قلت هذا الاضطراب إما نشأ من قولهم كون ذات فاعلة لوجوده أو علة مقتضية لوجوده إذا قدر أن وجوده مغاير لذاته وهذا لا يحتاج إليه بل إذا قيل ذاته مشروطة بوجوده كما أن وجوده مشروط بذاته وقيل إنهما متلازمان من غير أن يكون أحدهما هو الموجب للآخر كما قالوا مثل ذلك في ذات الممكن ووجوده زالت هذه الشبهة
وهؤلاء كثيرا ما تشتبه عليهم العلل بالشروط في مسائل الدور والتسلسل وغير ذلك ويجعلون الملزوم علة كما يقولون إن ماهية الثلاثة والأربعة علة للفردية والزوجية فيجعلون ذات الشيء علة لصفته اللازمة له وأن فاعل الذات فاعل صفتها فإن الدور في الشروط بمعنى توقف كل من الأمرين على وجود الآخر معه ممكن واقع وهو الدور المعي الاقتراني وأما الدور في العلل وهو أن يكون كل من الأمرين علة للآخر ومبدعا له
فهذا ممتنع باتفاق العقلاء
وكذلك التقدم فإن تقدم الشرط على المشروط غير واجب وأما تقدم الموجب على الموجب والفاعل على المفعول والعلة على المعلول فلا ريب فيه عند جماهير العقلاء
ومعارضة الرازي لهم بالماهية الممكنة القابلة لوجودها إذا قيل بتعددهما معارضة صحيحة وأما فرق المعارض له بأن الماهية في الواجب فاعلة للوجود فغلط فإن ماهية الواجب إذا قيل بمغايرتها لوجوده ليست فاعلة لوجوده بل هي أيضا قابلة لوجوده كالممكن لكن وجوده واجب مع هذا القبول
والقابل والمقبول كلاهما واجب بنفسه يمتنع عدمه بخلاف الممكن كما تقوله الصفاتية في الذات والصفات وكما تقوله الفلاسفة فيما يدعون قدم ذاته ووجوده من الممكنات كالفلك فإن ابن سينا وأتباعه يقولون : إن ماهيته محل لوجوده وكلاهما قديم يمتنع عدمه لكن وجوده بغيره فإذا عقل هذا في الواجب بغيره ففي الواجب بنفسه أولى إذا قيل إن نفسه محل لوجوده وكلاهما واجب بماهيته ووجوده يمتنع نفي واحد منهما
وبهذا يظهر الجواب عن النظم الذي حرره الآمدي فإن قوله إذا لم يتم تحقق مسمى واجب الوجود في كل من الشيئين إلا بما به التخصيص والامتياز وجب افتقار مسمى واجب الوجود إلى أمر خارج عن المفهوم من اسمه فلا يكون واجبا بذاته
جوابه على تقدير كون الوجود مغايرا للذات أن يقال لفظ الافتقار يراد به افتقار المعلول إلى العلة ويراد به : افتقار المشروط إلى الشرط وإن قيل : يراد به معنى ثالث له فإن قلت : يجب افتقار مسماه إلى علة فاعلة لم يسلم لك ذلك فإن تحقق المشترك في المميز لا يستلزم كون المميز هو الفاعل المبدع المشترك وإن أردت بانه لا يوجد إلا بما هو شرط في وجوده فلم قلت إن هذا محال ؟
وقوله لا يكون واجبا بذاته باطل حينئذ لأنه إذا قدر أن الذات غير الوجود فلا يد في قوله واجب بذاته من تحقق الوجود والذات معا فلا يتقدم أحدهما على الآخر ولا يستغني أحدهما عن الآخر فصار معنى وجوب الوجود بالذات إذا قدر أن الذات عين الوجود أمرا متضمنا لتلازم الوجود الواجب والذات الموصوفة بذلك فلا يكون موجود بذاته إلا كذلك وهذا كله بتقدير ثبوت شيئين
ثم على هذا التقدير فيها قولان إما أن يقال الوجود الملازم للماهية هو أيضا مختص كما أن الماهية مختصة به وهذا هو القول المأثور عن أبي هاشم ونحوه وقد تقوله طائفة من أهل الإثبات كما يوجد في كلام أبي حامد و وابن الزاغوني
وإما إن يقال الوجود مشترك في الخارج ولكن الماهية هي المختصة التي تميز وجودا عن غيره وهذا هو الذي يحكيه الرازي عن أبي هاشم وغيره وهو غلط عليهم كما غلط على الأشعري وأبي الحسين حيث حكى عنهم ان لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي وهذا لغلط منه حيث ظن أن الكلي الذي هو مورد التقسيم يكون ثابتا مشتركا في الخارج وهذا أصل للمنطقيين يخالفهم فيه أئمة الكلام بحسب ما فهمه من كلام أهل المنطق فغلط
والمقصود هنا أن قول أبي هاشم وأتباعه خير من قول ابن سينا وأما إذا كان الوجود هو الماهية ولا مشترك في الخارج كما هو قول الأشعري وعامة المثبتة للصفات وهو الصواب فلا يحتاج إلى هذا الجواب
وليس المراد أن ماهيته وجود مطلق مجرد كما يقوله ابن سينا وابن التومرت وغيرهما من الجهمية ولكن المراد أن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وليس ذلك وجودا مطلقا ولا مجردا وكذلك يقول في كل موجود إن حقيقته المختصة به هي وجوده المختص به وقد ذكرنا هذا الجواب على تقدير مغايرة وجوده لماهيته لنه نافع في عامة ما يوردونه لنفي الصفات
كلام الإمام أحمد عن تعلق الصفات بذت الله تعالى
قال الإمام أحمد باب بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى فقلنا لم أنكرتم ذلك ؟ قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم إنما كون شيئا يعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وشفتين ولسان
فقلنا : هل يجوز لمكون أو غير الله أن يقول { يا موسى * إني أنا ربك } طه 11 - 12 أو يقول { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } طه 14 فمن قال ذلك زعم ان غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون يا موسى إن الله رب العالمين
إلى أن قال فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من احد إلا سيكلمه ربه الحديث وأما قوله إن الكلام لا يكون إلا من جوف وشفتين ولسان أليس الله قد قال للسماوات والأرض { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } فصلت 11 اتراها قالت بجوف وفم وشفتين وأدوات ؟
وقال تعالى { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } الأنبياء 79 أتراها أنها تسبحن بجوف وفم وشفتين ولسان ؟ والجوارح إذا شهدت على الكفار فقالوا : { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } فصلت 21 أتراها نطقت بجوف وفم وشفتين ؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء
إلى أن قال فلما خنقته الحجج قال : ان الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره فقلنا وغيره مخلوق ؟ نعم فقلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة وحديث الزهري قال لما سمع موسى كلام ربه قال يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشر آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت قال فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أسطتيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه قال هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله
وقلنا للجهمية من القائل للناس يوم القيامة { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } المائدة 116 أليس الله هو القائل ؟ قالوا : يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون شيئا فعبر لموسى قلنا فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم } الآية الأعراف 6 أليس هو الله تعالى ؟ قالوا هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله فقلنا قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم انه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان
فلما ظهرت عليه الحجة قال إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا وكذلك بنو آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله تعالى بخلقه حين زعمتم ان كلامه مخلوق ففي مذهبكم كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة بل نقول إن اله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام ولا نقول إنه كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم
قال الإمام احمد قالت الجهمية إن زعمتم ان الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم ان الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن اله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره بل نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلاها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوض وجمار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد
إلى أن قال وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد فقال { ذرني ومن خلقت وحيدا } المدثر 11 وكان له عينان وأذنان ولسان وجوارح فسماه وحيداص بجميع صفاته
تعليق ابن تيمية
قلت : فلا يوجد في كلام الله ورسوله واللغة اسم الواحد على ما لا صفة له فإن لا صفة له لا وجود له في الوجود
وما ذكره أحمد عن الجهمية أنهم يتأولون كلام الله لموسى بأنه خلق من عبر عنه تأوله جماعة من أتباعه في هذا أو في قوله تعالى كل ليلة من يدعوني فأستجيب له ولو كان كذلك لكان الملك يقول إن الله رب العالمين كما في الصحيحين إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحيه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فاحبوه فيحبه فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء الحديث
وقد مثلوا ذلك بأن السلطان يأمر مناديا فيقول نادى السلطان وهذا حجة عليهم فإن المنادي يقول امر السلطان أو ان المرسوم ونحو ذلك من الألفاظ التي تبين أن القائل غيره لا هو ولو قال المنادي قد أمرتكم فغن لم تقبلوا وإلا عاقبتكم ونحو ذلك لم يكن مناديا عن السلطان ولو قال ذلك عاقبه السلطان
فصل
أخبر الله تعالى في كتابه بإثبات مفصل ونفي مجمل والمعطلة الجهمية متكلمهم ومتفلسفهم أخبروا بإثبات مجمل ونفي مفصل فأخبر في كتابه بأنه حي قيوم عليم قدير سميع بصير عزيز حكيم ونحو ذلك يرضى ويغضب ويحب ويسخط وخلق واستوى على العرش ونحو ذلك وقال ف يالنفي { ليس كمثله شيء } سورة الشورى 11 { ولم يكن له كفوا أحد } الإخلاص 3 { هل تعلم له سميا } مريم 65 فلهذا مذهب السلف والأئمة إثبات صفاته بلا تمثيل لا ينفون عنه الصفات ولا يمثلونها بصفات المخلوقات
تابع كلام الإمام أحمد
قال الإمام أحمد الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكلم من قتيل لإبليس قد أحيوه ؟ وكم من ضال تائه قد هدوه ؟ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتنة المضلين
فالمتشابه من الكلام يتكلمون به ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم هو كقولهم : مقدس عن الكم والكيف والأين والوضع ومن مقصودهم بذلك أنه لا علم له ولا قدرة ولا رحمة ولا غير ذلك من الصفات وأنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ولا هو مباين لمخلوقاته ولا منفصل عنهم
وكذلك قولهم : ليس بداخل العالم ولاخارجه وأمثال هذه العبارات السالبة
وكذلك وصف الإمام احمد وأمثاله قول الجهمية النفاة قال أحمد وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله انه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا إن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلها قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إلاه قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهي عما شاء وهو روح غائبة عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فسمعت كلامه قال لا قال فشممت له ريحا قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا تشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان
ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 { وهو الله في السموات وفي الأرض } الأنعام : 3 { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } الأنعام ك 103 فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وزعم أن من وصف من الله شيئا مما يصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرا كثيرا وأتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية
تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من مناظرة جهم لأولئك السمينة هم الذين يحكى أهل المقالات عنهم أنهم أنكروا من العلم ما سوى الحسيات ولهذا سألوا جهما : هل عرفه بشيء من الحواس الخمس ؟ فقال : لا قالوا : فما يدريك أنه إلاه ؟ فإنهم لا يعرفون إلا المحسوس وليس مرادهم أن الرجل لا يعلم إلا ما أحسه بل لا يثبتون إلا ما هو محسوس للناس في الدنيا
وهؤلاء كالمعطلة الدهرية الطبائعية من فلاسفة اليونان ونحوهم الذين ينكرون سوى هذا الوجود الذي يشاهده الناس ويحسونه وهو وجود الأفلاك وما فيها
هؤلاء الذين ذكر ابن سينا قولهم في إشاراته حيث قال قال : إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنك إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا
وهذا هو القول الذي أظهره فرعون وإليه يعود عند التحقيق قول أهل الوحدة لكن هؤلاء يعتقدون أنهم يثبتون الخالق وأن وجوده وجود المخلوق فهم متناقضون ثم إن جهم بن صفوان رد عليهم كرد أرسطو وابن سينا وأمثالهم من المشائين على الطبيعيين منهم وهؤلاء يثبتون وجودا عقليا غير الوجود المحسوس ويعتقدون أنهم بهذا الرد أبطلوا قول أولئك كما تقدم حكاية قول ابن سينا لما تكلم على الوجود وعلله وقال : قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وأبطل هذا القول بإثبات الكليات وقد تقدم التنبيه على فساد هذه الحجة وأن الكليات تكون في الأذهان لا في الأعيان
ومن لم يقر إلا بالمحسوس إنما نازع في الموجودات الخارجية لم ينازع في المعقولات الذهنية وإن نازع في ذلك حصلت الحجة عليه بإثبات المعقولات الذهنية فتبقى الوجودات الخارجية وهي الأصل
والحجة التي ذكرها أحمد عن الجهم انه احتج بها على السمنية هي من أعظم حجج هؤلاء الثقاة الحلولية منهم ونفاة الحلول والمباينة جميعا فإن النفاة تارة يقولون بالحلول والاتحاد أو نحو ذلك وتارة يقولون لا مباين للعالم ولا داخل فيه
والشخص الواحد منهم يقول هذا تارة وهذا تارة فإنهم في حيرة والغالب على متكلميهم نفي الأمرين والغالب على عبادهم وفقهائهم وصوفيتهم وعامتهم الحلول فمتكلموهم لا يعبدون شيئا ومتصوفتهم يعبدون كل شيء
والحلول نوعان : حلول مقيد وحلول مطلق فالحلول المقيد هو قول النصارى ونحوهم من غلاة الرافضة وغلاء العبادة وغيرهم يقولون إنه حل في المسيح أو اتحد به وحل بعلي أو أتحد به وأنه يتحد بالعارفين حتى يصير الموحد هو الموحد ويقولون :
( ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وجده جاحد )
( توحيد من يخبر عن نعته ... عارية أبطلها الواحد )
( توحيده إياه توحيد ... ونعت من ينفعه لاحد )
وهؤلاء الذين حكى أحمد قولهم أنهم : إذا أراد الله أن يحدث أمر دخل فيه بعض خلقه فتكلم على لسانه وقد رأيت من هؤلاء غير واحد ممن خاطبني وتكلم معي في هذا المذهب وبينت له فساده
وأما أهل الحلول المطلق الذين يقولون إنه حال في كل شيء أو متحد بكل شيء أو الوجود واحد كأصحاب فصوص الحكم وأمثالهم فهؤلاء يقولون : أخطأ النصارى من جهة أنهم خصصوا وكذلك يقولون في عباد الأصنام خطؤهم من جهة انهم خصصوا بعض الأشياء فعبدوها
وقد رأيت من هؤلاء أيضا غير واحد وجرت بيننا وبينهم محنة معروفة
وجعل الإمام أحمد حجة جهم من جنس حجة أولئك الذين يقولون بالحلول المقيد لأن هؤلاء يقولون إنه حل في بعض خلقه
وهؤلاء الجهمية فيهم من يقول : إن اللاهوت في الناسوت من غير حلول فيه وهكذا الجهم وأتباعه جعلوا وجود الخالق في المخلوقات من جنس اللاهوت في الناسوت ويجمعون بين القولين المتناقضين كما جمعت النصارى
واحتجاج الجهم بهذا على السمنية كاحتجاج نفاة الصفات بذلك على أهل الإثبات فإن الرازي وأمثاله احتجوا على إمكان وجود موجود لا مباين للعالم ولا داخل فيه بالنفس الناطقة على قول هؤلاء المتفلسفة الذين يقولون : إنها لا داخلة في هذا العالم ولا خارجة من هذا العالم إنها تشبه الإله وإن الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة
ومقصود الجهم بهذه الحجة بيان إمكان وجود موجود لا سبيل إلى إحساسه فاحتج عليهم بالنفس الناطقة إذ لا سبيل إلى إحساسها وهذه حجة المشائين من المتفلسفة على الطبيعيين منهم وهؤلاء يجعلون ما يثبتونه من الأمور المعقولة حجة على إثبات موجود ليس بمحسوس ثم يزعمون أن ما أخبرت به الرسل من الغيب هو الوجود العقلي الذي يثبتونه
وهذا الموضع حارت فيه أحلام وضلت فيه أفهام وهم مخطئون شرعا وعقلا أما الشرع فإن الرسل أخبرت عما لم نشهده ولم نحسه في الدنيا وسمت ذلك غيبا لمغيبه عن الشهادة كقوله { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } البقرة 3 ومنه قوله تعالى { عالم الغيب والشهادة } الرعد 9 فالغيب ما غاب من شهود العباد والشهادة ما شهدوها
وهذا الفرق لا يوجب أن الغيب ليس مما يمكن إحساسه بل من المعلوم بالاضطرار أن ما أخبرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الثواب والعقاب كله مما يمكن إحساسه بل وكذلك ما أخبرت به الملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وغير ذلك لكنا نشهده الآن
ولهذا أعظم ما أخبرت به من الغيب هو الله سبحانه وتعالى مع إخبار الرسول لنا انا نراه كما نرى الشمس والقمر فأي الإحساس أعظم من إحساسنا بالشمس والقمر ؟
وما أخبرت به من الغيب كالجنة والنار والملائكة والعرش والكرسي وغير ذلك مما يمكن إحساسه فليس الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس والمعقول
فهذا أصل ينبغي معرفته فإنه بسبب هذا وقع من الخلل في كلام طوائف مالا يحصيه إلا الله تعالى كصاحب الكتب المضنون بها وصاحب الملل والنحل وطوائف غيرهم
ولهذا وقع في كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها وصاحب نهاية الإقدام ونحوهما من كلام هؤلاء الذين يجعلون الفرق بين الغيب والشهادة هو الفرق بين المحسوس وبين المعقول أنواع من جنس كلام الملاحدة الباطنية إما ملاحدة الشيعة كما يوجد في كلام صاحب الملل والنحل و نهاية الإقدام وقد قيل إنه صنف تفسيره سورة يوسف على مذهب الإسماعيلية : ملاحدة الشيعة وإما ملاحدة الباطنية المنسوبين إلى الصوفية
ومن هنا دخل أهل وحدة الوجود وأمثالهم من ملاحدة النساك المنتسبين إلى التصوف وكل من هؤلاء هؤلاء يؤول به الأمر إلى مخالفة صريح العقل والنقل
لكن هذا يحيل على علم الإمام المعصوم وهذا يحيل على معرفة الشيخ المحفوظ حتى يدعي كل منهما فيمن يحيل عليه ما هو أعظم من مقام الأنبياء مع أن الذي يحيل عليه لا بد أن يكون فيه من الكذب والجهل والظلم مالا يعلمه إلا الله وأحسن أحواله أن يكون كثير من كذبه جهلا منه وضلالا لم يعتمد فيه خلاف ما يعلمه من الحق كضلال كثير من النصارى أهل الأهواء
والمقصود انه بهذا يتبين أن خطأهم في العقل وما يسمونه معقولات ودعواهم وجود أمور معقولات خارجة عن العاقل لا يمكن الإشارة إليها ولا الإحساس بها بوجه من الوجوه وليست داخل شيء من العالم ولا خارجة ولا مباينة له ولا حالة فيه فإنه من المعلوم أن المعقولات ما عقلها الإنسان فهي معقولة العقل وأظهر ذلك الكليات المجردة : كالإنسانية المطلقة والحيوانية المطلقة والجسم المطلق والوجود المطلق ونحو ذلك فإن هذه من وجوده في العقل وليس في الخارج شيء مطلق غير معين بل لا يوجد إلا وهو معين مشخص وهو المحسوس وإنما يثبت العقليات المجردة في الخارج الغالطون من المتفلسفة كالفيثاغورية الذين يثبتون العدد المجرد والأفلاطونية الذين يثبتون المثل الأفلاطونية وهي الماهيات المجردة والهيولى المجردة والمدة المجردة والخلاء المجرد
وأما أرسطو وأصحابه كالفارابي وابن سينا فأبطلوا قول سلفهم في إثبات مجردة عن الأعيان ولكن أثبتوها مقارنة للأعيان فجعلوا مع الأجسام المحسوسة جواهر معقولة كالمادة والصورة وإذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في الخارج إلا الجسم وأعراضه وأثبتوا في الخارج أيضا الكليات مقارنة للأعيان وإذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في الخارج إلا الأعيان بصفاتها القائمة بها
وكذلك ما أثبتوه من العقول العشرة المفارقات إذا الأمر عليهم لم يوجد لها وجود إلا في العقل لا في الخارج كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع
فهذا الذي ذكره الإمام أحمد من احتجاج جهم على السمنية الطبيعية بإثبات موجود عقلي هو كحجة المشائين على الطبيعية وما في قوله من الحلول الذي ضاهى به النصارى من جنس كلام الحلولية
والمقصود هنا أن نشير إلى جنس كلام السلف والأمة مع جنس هؤلاء النفاة وأن الجميع يشربون من عين واحدة وأن كلام هؤلاء النفاة للصفات مع معطلة الصانع كلام قاصر من جنس كلام جهم مع السمنية المشركين وكلام المشائين الإلهيين من المتفلسفة مع الطبيعيين منهم
وذكر أحمد أن الجهم اعتمد من القرآن على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها : آية نفي الإدراك لينفي بها الرؤية والمباينة وآية نفي المثل لينفي بها الصفات ويجعل من أثبتها مشبها وقوله { وهو الله في السماوات وفي الأرض } الأنعام 3 لينفي بها علوه على العرش أو ليثبت بها مع ذلك الحلول والاتحاد وعدم مباينته للمخلوقات
وهذه أصول الجهمية من المعتزلة أصحاب عمرو بن عبيد ومن دخل ف بالتجهم أو الاعتزال أو بعض فروع ذلك من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد مع أن هؤلاء الأئمة من أبعد الناس عن أصول الجهمية والمعتزلة
تابع كلام الإمام أحمد
قال الإمام أحمد عن الجهمية فإن سألهم الناس عن قوله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو فوق العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا غاية ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل هو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون شيئين مختلفين وفي نسخة ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون ولا له جسم وليس هو معقولا وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتون بشيء وفي نسخة لا يثبتون شيئا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى فقالوا لم يتكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح على الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله
فهذا الذي وصفه الإمام أحمد وغيره من علماء السلف من كلام الجهمية هو كلام من وافقهم من القرامطة الباطنية والمتفلسفة المتبعين لأرسطو كابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه الوجود المطلق أو المقيد بالقيود السلبية ونحو ذلك وهو حقيقة كلام القائلين بوحدة الوجود
ولهذا ذكر عنهم أنهم سلبوه كل ما يتميز به موجود عن موجود فسلبوه الصفات والأفعال وسائر ما يختص بموجود
ولما قالوا هو شيء لا كالأشياء علم الأئمة مقصودهم فإن الموجودين لا بد أن يتفقا في مسمى الشيء فإذا لم يكن هناك قدر اتفقا فيه اصلا لزم أن لا يكونا جميعا موجودين وهذا مما يعرف بالعقل
ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي كالأشياء قد عرف أهل العقل إنه لا شيء فبين أن هذا مما يعرف بالعقل وهذا مما يعلم بصريح المعقولات
ولهذا كان قول جهم المشهور عنه الذي نقله عنه عامة الناس أنه لا يسمى الله شيئا لأن ذلك بزعمه يقتضي التشبيه لأن اسم الشيء إذا قيل على الخالق والمخلوق لزم اشتراكهما في مسمى الشيء وهذا تشبيه بزعمه
وقوله باطل فإنه سبحانه وإن كان لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من الأشياء فمن المعلوم بالعقل أن كل شيئين فهما متفقان في مسمى الشيء وكل موجودين فيها متفقان في مسمى الوجود وكل ذاتين فهما متفقان في مسمى الذات فإنك تقول الشيء والموجود والذات ينقسم إلى قديم ومحدث وواجب وممكن وخالق ومخلوق ومورد التقسيم بين الأقسام
وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع وبينا غلط من جعل اللفظ مشتركا اشتراكا لفظيا
وهذا الذي نبه عليه الإمام أحمد من أن مسمى الشيء والوجود ونحو ذلك معنى عام كلي تشترك فيه الأشياء كلها والموجودات كلها هو المعلوم بصريح العقل الذي عليه عامة العقلاء
ومن نازع فيه فلا بد أن يقول به أيضا فيتناقض كلامه في ذلك كما تناقض فيه كلام الشهر ستاني والرازي و الآمدي وغيرهم إذ يجعلونه تارة عاما مقسوما مشتركا اشتراكا لفظيا ومعنويا بين الأشياء الموجودات ويجعلونه تارة مشتركا اشتراكا لفظيا فقط كلفظ المشتري المشترك بين المبتاع والكوكب ولفظ سهيل المشترك بين الكوكب وبين الرجل المسمى بسهيل ولفظ الثريا المشترك بين الكوكب وبين المرأة المسماة ثريا
كما قيل :
( أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان )
( هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان )
ولما كان هذا مما يعرف بالعقل قال أحمد فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يأتمون بشيء أي لا يقصدون شيئا فإن المؤتم بالشيء يؤمه ويقصده والإمام الطريق لأن السالك يأتم به وهو أيضا الكتاب الذي يأتم به القارىء وهو الإمام الذي يأتم به المصلي و الأمة القدوة الذي يؤتم به أي يقتدى والأمة أيضا الدين يقال فلان لا أمة له أي لا دين له ولا نحلة له
قال الشاعر :
( وهل يستوي ذو أمة وكفور )
وقول النابغة :
( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع )
فقول أحمد لا يأتمون بشيء أي لا يدينون بدين ومن روي أنه قال إنكم لا تثبتون شيئا فقوله ظاهر فإن قول الجهمية يتضمن أنهم لا يثبتون في الخارج ربا خالقا للعالم
ثم قال فإذا قيل للجهمية من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء
فقال أحمد في هذا الموضع قد عرف المسلمون وقال هناك قد عرف الناس لأنه هنا تكلم في كونه معبودا وأنهم يعبدون وهناك تكلم في كونه موجودا فلما وصفوه بالسلب المحض أخبر أن أهل العقل يعلمون أن الموصوف بالسلب المحض هو العدم فعرف الناس أنهم لا يثبتون شيئا
وهنا لما سألهم : من يعبدون ؟ فأخبروا انهم يعبدون مدبر الخلق وقالوا : إنه مجهول لا يعرف بصفة عرف المسلمون أنهم لا يعبدون شيئا لأن العبادة أصلها قصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزمة للعلم بالمراد المقصود
فما يكون مجهولا لا يعرف بصفة يمتنع ان يكون مقصودا فيمتنع أن يكون معبودا والعبادة هي أمر ديني أمر الله بها ورسوله وهي أصل دين المسلمين
فلهذا قال هنا : قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فبين أن الناس يعلمون بعقلهم أنهم لا يثبتون شيئا وأن المسلمين يعرفون أنهم لا يعبدون شيئا وبين أن الجاهل إذا سمع قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يشعر أنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله
وهذا الذي ذكره الإمام أحمد أصل قول هؤلاء النفاة الجهمية وسر مذهبهم وكلما كان الرجل أعقل وأعرف وأعلم وأفضل وأخبر بحقيقة الأمر في نفسه وبقول هؤلاء النفاة أزداد في ذلك بصيرة وإيمانا ويقينا وعرفانا
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه نسخة الكتاب الذي أرسل في المحنة المشهورة لما كان المأمور قد ذهب إلى ناحية طرسوس وأرسل كتابا إلى الناس ببغداد وأمر نائبه إسحاق بن إبراهيم أن يقرأه على الناس ويدعوهم إلى موافقته فامتنع العلماء عن الإجابة حتى أرسل كتابا يهدد بن الناس وأمر بقتل القاضيين إذا لم يجيبا : قاضي الشرقية والغربية وهما : بشر بن الوليد وعبد الرحمن بن إسحاق فأجاب الناس كرها واعترفوا بذلك وامتنع عن الإجابة سبعة فقيدوهم فأجاب منهم خمسة وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح النيسابوري فأرسلوهما مقيدين فمات محمد بن نوح في الطريق فبقي أحمد بن حنبل ومات المأمون قبل أن يصير إليه أحمد والمقصود أنه ذكر في كتابه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة وذكر عن أحمد أنه قال : لا يشبه الأشياء وليس كمثله شيء ونحو ذلك أو كما قال
وأما قوله : بوجه من الوجوه فامتنع منها وذلك لأنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ولا شيء ولا حي ولا عليم ولا قدير ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى
وهذا النفي حقيقة قول القرامطة والله تعالى : ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره وله المثل الأعلى
ولكن لفظ الشبه فيه إجمال وإبهام فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور ولو كونهما موجودين وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما
فإذا قيل : هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه ولا يواطئه بوجه من الوجوه كان هذا ممتنعا
وكذلك إذا أريد بقول القائل لا يشبهه بوجه من الوجوه هذا المعنى بخلاف ما إذا أراد بذلك المماثلة والمساواة والمكافاة أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة فإنه سبحانه لا يماثل شيء بوجه من الوجوه ولا شريك له بوجه من الوجوه لا سيما والكليات التي يتفق فيها الشيئان إنما هي في الأذهان لا في الأعيان فليس في الموجودات الخارجية اثنان اشتركا في شيء فضلا عن أن يكون الخالق تعالى مشاركا لغيره في شيء من الأشياء سبحانه وتعالى
والقرامطة الباطنية كالجهمية الذين ينفون أن يسمى الله بشيء من الأسماء التي يسمى بها مخلوق لبسوا على الناس بلفظ التشبيه والتركيب ولهذا أنكر جماهير الطوائف عليهم من المعتزلة والنجارية والضرارية ومتكلمة الصفاتية وغيرهم بل أنكر عليهم من أنكر من الفلاسفة مع تناقض كثير من الناس معهم
ولهذا زعم أبو العباس الناشيء أن الأسماء التي يسمى بها الله ويسمى بعض عباده بها هي حقيقة في الله مجاز في عباده نقيض قول القرامطة الباطنية والجهمية
ولهذا كان السلف يجعلون الجهمية زنادقة ولم يكن إذا ذاك ظهرت ملاحدة الشيعة بل في عصر محنة الجهمية في خلافة المأمون والمعتصم ونحوهما شرعت طوائف الملاحدة الباطنية تظهر مع ظهور الجهمية كما ظهرت الخرمية أصحاب بابك الخرمي وهذا احد ألقاب الباطنية
ويقال إنه سنة عشرين وهي السنة التي ضرب فهذا فيها أحمد ظهرت أوائل القرامطة الذين ظهروا بالعراق ثم صارت لهم شوكة بهجر مع الجناني وأتباعه ثم ظهرت دعوتهم الكبرى بأرض المغرب ثم مصر إلى أن فتحها أهل السنة بعد ذلك وبقاياهم في الأرض متفرقون
وهؤلاء لهم أنواع من الإلحاد في غير الأسماء والصفات وإنما المقصود هنا بيان إلحاد الجهمية : نفاة الأسماء والصفات فهؤلاء الذين ينفون حقائق أسماء الله الحسنى ويقولون : إنما يسمى بها مجازا أو المقصود بها غيره أو لا يعرف معناها أصل تلبيسهم هو ما في إطلاق هذه الأسماء مما يظنونه من التشبيه الذي يجب نفيه ولهذا عظم كلام المسلمين في هذا الباب وقد بسط في غير هذا الموضع
كلام الجويني عن صفات الله تعالى
وتحقيق هذا الموضع من أعظم أصول الدين كما قال أبو المعالي الجويني في الإرشاد من صفات القديم مخالفته للحوادث فالرب لا يشبه شيئا من الحوادث ولا يشبهه شيء منها
قال : والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين فقد غلت طائفة في النفي فعطلت وغلت طائفة في الإثبات فاما الغلاة في النفي فقالوا : الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه وقالوا على هذا القديم سبحانه لا يوصف بالوجود بل يقال : ليس بمعدوم وكذلك لا يوصف بانه قادر عالم حي بل يقال : ليس بعاجز ولا جاهل ولا ميت
قال وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية وأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم الحوادث
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا الذي قاله أبو المعالي من الاعتناء بهذا الأصل متفق عليه بين الطوائف والذي ذكره عن النفاة هو قول الجهمية الذي ذكره الإمام أحمد ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمي بها الخلق : كالحي والعالم والسميع والبصير بل يسميه قادرا خالقا لأن العبد عنده ليس بقادر إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية
ولما كان كل موجودين لا بد أن يكون بينهما اتفاق من بعض الوجوه واختلاف من بعض الوجوه وقد أنكر طائفة من الناس ذلك وقالوا المتماثلان لا يختلفان بحال والمختلفان لا يشتبهان في شيء البتة
واضطرب من خالف شيئا من السنة في الأصل الذي يضبطه في نفي التشبيه إذ جعل مسمى التشبيه والتمثيل واحدا فقالت الباطنية وبعض الفلاسفة إن الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه والتماثل
وقال النجار والقلانسي : المثلان هما المجتمعان في صفة من صفات الإثبات إذا لم يكن أحدهما بالثاني لحترز بهذا القيد عن القديم والحادث
تابع كلام الجويني
قال أبو المعالي فأما الرد على الفلاسفة فمن أوجه أحدها : الاتفاق على أن السواد يشارك البياض في بعض صفات الإثبات : من الوجود والعرضية واللونية ثم هما مختلفان وكذلك الجوهر والعرض والقديم والحادث لا يمتنع اشتراكهما في صفة واحدة مع اختلافهما في سائر الصفات ويقال لهم : أثبتوا الصانع المدبر أم لا تثبتونه ؟ فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت فاستويا في الثبوت ولا واسطة بين الإثبات والنفي فإن قالوا : ليس بمنفي قيل لهم : نفي النفي إثبات كما أن نفي الإثبات نفي وإذا لزم الثبوت من نفي النفي حصلت المماثلة فإن قالوا : نحن لا نطلق الإثبات على صفاته ولا ننطق به قلنا : قد نطقتم في صفات الرب بالإثبات أو بصيغة تتضمنه والمقصود من العبارات معناها ثم نقول أتعتقدون ثبوت الإله سبحانه ؟ فإن قالوا : لا نعتقده قطع الكلام عنهم فيما هو فرع له على أنهم راغموا البديهة لعلمنا بأن نفي النفي إثبات وإن قالوا : نعتقد الثبوت ولا ننطق به قلنا كلامنا في الحقائق لا في الإطلاقات فإن قالوا فصفوا الإله بالثبوت والوجود ولا تنطقوا به واعتقدوا وجود الحادث ولا تنطقوا به لتنفي المماثلة لفظا فغن المماثلة لفظا مما يتوقى في العقائد قلنا : يتوقى اللفظ لأدائه إلى الحدوث أو إلى النقص فكل مالا يؤدي إلى الحدوث وإلى النقص لا نكثرت به ثم محاذرة التعطيل أولى من محاذرة التشبيه قال : ومما يتمسك به أن نقول هلا قلتم : الاشتراك في صفة النفي يوجب الاشتباه ؟ وما الفرق بين صفة الإثبات والنفي في هذا الباب ؟ ثم نقول : الرب سبحانه معقول ومذكور كالحادث وهو سبحانه مخالف للحادث ولا مخالفة إلا بين اثنين
قال فأما ما قيد النجار به كلامه فليس بعاصم فإن التماثل يتلقى من الاجتماع في الصفة فأما كون أحدهما بالثاني أو المصير إلى أنه ليس به فلا أثر له في التشابه والتماثل
واختار أبو المعالي ما اختاره القاضي أبو بكر وأمثاله ويشاركهم في ذلك طوائف من أصحاب مالك و الشافعي وأحمد وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وقالوا : إن المثلين كل موجودين ثبت لكل واحد منهما من صفات النفس ما ثبت للآخر ولا يجوز أن ينفرد أحد المثلين عن الآخر بصفة نفس ويجوز أن ينفرد بصفة معنى وقوعا يجوز مثلها على مماثلة وبيان ذلك أن الجواهر متماثلة لتساويها في صفات الأنفس إذ لا يستبد جوهر عن جوهر بالتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس وقد يختص بعض الجواهر بضروب من الأعراض يجوز أمثالها في سائر الجواهر ويجوز أن يشارك الشيء ما يخالفه في الوجود مثل كونهما عرضين لونين خلافا للباطنية قالوا : ولا يجوز ان يتماثل الشيئان من وجه ويختلفا من وجه لأنه إذا قلنا : المثلان هما المتساويان في جميع صفات النفس فإذا اختلف الشيئان من وجه فليسا متماثلين من كل وجه إذ يستحيل التماثل في جميع الوجوه مع الاختلاف في وجه من الوجوه
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا بناء على أصل تلقوه من المعتزلة وهو أن الجواهر والأجسام متماثلة بخلاف الأعراض فإنها قد تختلف وقد تتماثل
وحقيقة هذا القول أن الأجسام متماثلة من كل وجه لا تختلف من وجه دون وجه بل الثلج مماثل للنار من كل وجه والتراب مماثل للذهب من كل وجه والخبز مماثل للحديد من كل وجه إذ كانا متماثلين في صفات النفس عندهم
وهذا القول فيه من مخالفة الحس والعقل ما يستغنى به عن بسط الرد على صاحبه بل أصل دعوى تماثل الأجسام من أفسد الأقوال بل القول في تماثلها واختلافها كالقول في تماثل الأعراض واختلافها فإنها تتماثل تارة وتختلف أخرى وتفريقهم بين الصفات النفسية والمعنوية اللازمة للمعين يشبه تفريق أهل المنطق بين الصفات الذاتية واللازمة للماهية وكلاهما قول فاسد لا حقيقة له بل قول هؤلاء أفسد من قول أهل المنطق
وإذا وقع الكلام في جسم مطلق وجوهر مطلق فهذا لا وجود له في الخارج وإن وقع في الوجود من الأجسام : كالنار والماء والتراب والإنسان والفرس والذهب والبر والتمر فكل جسم من هذه الأجسام له صفات نفسية لازمة له لا تزول إلا باستحالة نفسه فدعوى المدعي أنه ليس له من الصفات النفسية إلا التحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أفسد من قول أهل المنطق فإن أولئك جعلوا مثلا كون الحيوان حساسا متحركا بالإرادة من الصفات الذاتية وهؤلاء لم يجعلوا له صفة نفسية إلا كونه جسما
والتحيز وقبول العرض والقيام بالنفس أمر تشترك فيه الأجسام كلها والأمور المختلفة تشترك في لوازم كثيرة كاشتراك الألوان المختلفة في اللونية والعرضية ليس حقيقة النار مجرد كونها متحيزة قابلة للعرض قائمة بالنفس بل هذا من لوازمها
وأيضا فقد يسلم هؤلاء القائلون بامتناع التشابه من وجه دون وجه كأبي المعالي وغيره أن الأعراض المختلفة تشترك في أمور وقد صرحوا بأن القديم والحادث يستويان في الثبوت وأنه يشارك المحدث في أمور
والاشتراك في بعض صفات الإثبات لا يكون تماثلا وهذا تصريح بأن المختلفين يستويان ويشتركان في بعض الصفات فكيف يمكن أن يقال مع هذا إن المختلفين لا يشتبهان من بعض الوجوه وقد صرح بتساويهما في بعض الأشياء ؟ وغاية هذا أن يقال إنهما لا يختلفان بوجه من الوجوه في الصفات النفسية وإن اشتبها في الصفات المعنوية
وهذا مع أن اللفظ لا يدل فيعود إلى ما ذكر وقد أخبر الله تعالى في كتابه بنفي تساوي بعض الأجسام وتماثلها كما أخبر بنفي ذلك عن بعض الأعراض فقال الله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات } فاطر 19 - 22
وقال تعالى { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } الزمر 9
وقال تعالى { ليسوا سواء } آل عمران 113
وقال تعالى : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } الحشر 20 وقال تعالى { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } محمد 38 فنفى أن يكون بعض الأجسام مثلا أو مساويا لغيره
وإذا قيل : إن الأجسام اختلفت بما عرض لها من الأعراض
قيل : من الأعراض ما يكون لازما لنوع الجسم أو للجسم المعين كما يلزم الحيوان أنه حساس متحرك بالإرادة ويلزم الإنسان انه ناطق وكما يلزم الإنسان المعين ما يخصه من إحساسه وقوة تحركه بالإرادة ونطقه وغير ذلك من الأمور المعينة التي لا يشركه في عينها غيره فهذا لا يجوز أن يكون عارضا له إذ هو لازم له
وما يعقل جسم مجرد عن جميع هذه الصفات عرضت له بعد ذلك فإذا كانت الأجسام تختلف بالأعراض وهي لازمة لها كان من لوازمها أن تكون مختلفة
وتمام هذا أن الأشياء تتماثل وتختلف بذواتها لا نحتاج أن نقول : تتماثل في ذواتها والذات تختلف بصفاتها
ولهذا كان الصواب أن الرب سبحانه غير مماثل لخلقه بل هو مخالف لهم بذاته لا نقول : إنه مساو لهم بذاته وإنما خالفهم بصفاته
ودعوى من ادعى : أن الأجسام مركبة من جواهر لا تنقسم قائمة بأنفسها ليس لها شيء من هذه الأعراض ولكن لما تركبت صارت متصفة بهذه الصفات كاتصاف النار بالحرارة والماء بالرطوبة دعوى باطلة بالعقل والحس فإن الجسم المعين كهذه النار لم تكن أجزاؤه قط عارية عن كونها نارا بل النار لازمة لها
وإذا قيل : قد كان هواء فصار نارا
قيل : نعم وتلك الأجزاء الهوائية لم تكن قط إلا هواء واستحالة الجسم إلى جسم آخر مشهود معروف عند العامة والخاصة كما يقول الفقهاء : إذا استحال الخمر خلا أو العذرة رمادا والخنزير ملحا ونحو ذلك وكما يكون الإنسان منيا ثم يصير علقة ثم مضغة
فإما أن يقال : إن أجزاء العذرة تفرقت وهي بعينها باقية حين صارت رمادا وإنما تغيرت صفاتها كما يتغير اللون والشكل بمنزلة الثوب المصبوغ وبمنزلة الخاتم إذا عمل درهما فهذا مكابرة للحس لأن الفضة التي كانت خاتما هي بعينها التي جعلت درهما أو سوارا وإنما تغير شكلها كالشمعة إذا غير شكلها
وكذلك إذا صبغ الجسم أو تحرك فهنا اختلفت صفاته التي هي أعراضه وأما المني إذا صار آدميا والهواء إذا صار نارا والنار إذا طفئت صارت هواء فهنا نفس حقيقة الشيء استحالت فخلق من الأولى ما هو مخالف لها وفنيت الأولى ولم يبق من نفس حقيقتها شيء ولكن بقي ما خلق منها كما يبقى الإنسان الذي خلق من أبيه بعد موت أبيه ولا يقول عاقل : إنه عبارة عن أجزاء كانت في أبيه فتفرقت فيه
وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا فساد قول من يقول : الأجسام مركبة من الجواهر التي لا تنقسم أو مركبة من جوهرين قائمين بأنفسهما مادة وصورة
ومن عرف هذا زاحت عنه شبهات كثيرة في الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر في الخلق وفي البعث وفي إحياء الأموات وإعادة الأبدان وغير ذلك مما هو مذكور في غير هذا الموضع
فهذا الموضع يحتاج إلى تحقيقه كل من نظر في هذه الأمور فإنه بمعرفته تزول كثير من الشبهات المتعلقة باله واليوم الآخر ويعرف من الكلام الذي ذمه السلف والمعقول الذي يقال إنه معارض للرسول وما يتبين به أن هؤلاء خالفوا الحس والعقل
وذلك أنا نشهد هذه الأعيان المرئية تتحول من حال إلى حال كما نشهد أن الشمس والقمر والكواكب تتحرك وتبزغ تارة وتأفل أخرى ونشهد أيضا أن السحاب والرياح تتحرك لكن السحاب نشهد اجتماعه وتفرقه وخروج الودق من خلاله ونشهد الماء يتحرك ويجتمع ويفترق ونشهد النبات والحيوان ينمي ويعتدي ومثل هذا منتف في الماء والهواء والأفلاك وحركته بالنمو والاغتذاء ليست من جنس حركة الماء والهواء والنجوم فإن هذه توجب من تغير النامي المغتذي واستحالته مالا توجبه تلك فإن الكواكب هي في نفسها لم تستحل وتغير بالحركة بخلاف الطفل إذا كبر بعد صغره والزرع إذا استغلظ واستوى على سوقه
ونشهد مع ذلك أن الحطب يصير رمادا ودخانا وكذلك الدهن يصير دخانا والماء يصير بخارا وليس هذا مثل كبر الصغير بل هذا فيه من الاستحالة والانقلاب من حقيقة إلى حقيقة ما ليس في نبات الزرع والحيوان
ونشهد إخراج الله من الأرض والشجر : الزرع والثمر وإخراج الحيوان من الحيوان
كما قال تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء } فاطر 27 - 28 وقال تعالى { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } الروم 19
وقال تعالى { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا } الآية الأنعام 99
وقال { وجعلنا من الماء كل شيء حي } الأنبياء 30 وقال { الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر } إبراهيم 32 - 33 فنحن نشهد الثمر يخرج من الخشب ليست حقيقة الخشب حقيقة الرطب والعنب والرمان ثم إذا أخرج الثمرة تكون خضراء ثم تصير صفراء ثم تصير حمراء فتختلف ألوانها وتكبر بعد صغرها
ونرى الألوان المختلفة التي يخلقها الله للحيوان والنبات وغير ذلك من أسود وأحمر وأصفر وأبيض ونفرق بين اختلافها ألوانها وحركاتها وطعومها بالحلاوة والحموضة وغير ذلك وبين اختلافها بالنمو والاغتذاء وكبرها بعد الصغر وبين خروج السنبلة من الحبة والشجرة من النواة وخروج الثمرة من الشجرة فاختلافها بالحركة والسكون والاجتماع والافتراق كتفريق الماء وجمعه وتفريق التراب وجمعه ليس يوجب اختلاف شيء من حقيقة الجسم وبعد ذلك اختلاف ألوانه وطعومه فإن كونه أحمر وأخضر وأصفر وحلوا وحامضا هو اختلاف يزيد على مجرد الحركة كحركة الكواكب والرياح
ثم اختلافه بالنمو والاعتداء مثل كبر الصغير من الحيوان والنبات اختلاف آخر فيه من التغير والزيادة وغير ذلك ما ليس في مجرد تغير اللون والحركة
ثم يصير الماء بخارا والحطب دخانا أو رمادا نوع آخر فيه انقلاب الحقيقة واستحالتها ما ليس في ذلك
ثم إخراج الثمرات من الشجر والإنسان من المني والزرع من النبات أمر آخر غير هذا كله فإن الشجرة لم تنقص بخروج الثمرة منها ولا استحالت حقيقتها وكذلك الأرض لم تنقص بخروج الزرع منها ولا استحالت حقيقتها
وكذلك خروج الإنسان من أمه وخروج البيضة من الدجاجة ولكن خلق الفروج من البيضة من جنس خلق الإنسان من المني
والذي يعقل من اجتماع الأجزاء وافتراقها أن تفترق مع بقاء حقيقتها مثل الماء تفرق حتى تصير أجزاؤه في غاية الصغر وهو ماء وكذلك الزئبق ونحوه فإذا استحالت بعد هواء لم يبق ماء ولا زئبق ومن قال إنه بعد انقلابه بقيت الأجزاء كما تبقى إذا تصغرت أجزاؤه فقد خالف الحس والعقل ولا يعقل الماء ونحوه جزءا إلا وهو ماء فإذا صار هواء لم يكن في الهواء جزء هو ماء بل جزء الهواء هواء
وكذلك الحطب تكسر أجزاؤه إلى أن تتصاغر فإذا صار رمادا فأجزاء الرماد مخالفة لأجزاء الحطب ليست هذه الأجزاء تلك فبقاء الشيء مع تغير أعراضه شيء وانقلاب حقيقته شيء آخر
ولهذا تفرق اللغة والشرع بين هذا وهذا وتجعل هذا جنسا مخالفا لهذا في جميع الأحكام بخلاف ما إذ ا كانت حقيقته باقية وقد تبدلت أعراضها فالحكم المعلق بالذهب والفضة إذا تعلق بعينه كالربا مثلا هو ثابت فيه وإن تغيرت صورة وأشكاله فسواء كان مجتمعا مضروبا أو مصوغا على أي صورة كان أو مفترقا بالإنكسار بخلاف حكمه لما كان ترابا في المعدن قبل أن يصير ذهبا وفضة
وكذلك النوى حكمه وحقيقته غير حكم النخلة وحقيقتها وأما الشجر والثمر فأبعد من هذا كله لأنه لا نشهد هناك من انقلاب أجزاء الشجرة واستحالتها ما نشهد من هذه المنقلبات وإنما نشهد خروج ثمرة لها طعم ولون وريح من خشبة مخالفة لها غاية المخالفة مع أن تلك الخشبة قد تزيد وتنمي مع خروج الثمرة منها وإن كان في ذلك استحالة لطينتها من الماء والهواء والتراب لكن خلق الحيوان والنبات والمعدن من العناصر ليس هو من جنس استحالة هذه المولدات بعضها إلى بعض لا سيما إذا كان بأفعالنا بل كلما بعد التسبب بأفعالنا يكون خلقه أعجب والإبداع للأعيان فيه أعظم
وما كان أقرب إلى مفعولاتنا يكون أبعد من إبداع الأعيان بل وعن انقلاب الحقائق إلى تغير الصفات إلى أن تنتهي إلى مطلق الحركة التي ليس فيها من تغير الذات شيء كحركة أحدنا بالمشي والقيام والقعود وحركة الكواكب فإن جنس الحركة هو المقدور للآدميين ابتداء وهو أبعد الأعراض والأحوال عن تغير الأعيان والحقائق ولهذا لا يسمى هذا في اللغة المعروفة تغيرا أصلا ولا يقول أحد عند الإطلاق للكواكب إذا كانت سائرة وللإنسان إذا كان ماشيا متغيرا اللهم إلا مع قرينة تبين المراد بخلاف ما إذا تغير لونه بحمرة أو صفرة فإنهم قد يقولون قد تغير ويقولون تغير الهواء إذا برد بعد السخونة ولا يكادون يسمون مجرد هبوبه تغيرا وإن سمي بذلك فهم يفرقون بين هذا وهذا
والمقصود أن قول من يقول إن هذه المخلوقات التي يخلقها الله بعضها من بعض ليس خلقه لها إلا تغيير صفاتها وأن حقيقة كل شيء جواهر أصلية متماثلة باقية لا تتغير حقيقتها أصلا ولكن تكثر تلك الأجزاء وتقل كلام لا حقيقة له وهو متضمن أمورا باطلة إثبات جواهر قائمة بأنفسها مخلوقة وراء هذه الأعيان المشهودة وذاك باطل لا حقيقة له
وإثبات هؤلاء لهذه الجواهر الحسية من جنس إثبات آخرين لجواهر عقلية قائمة بأنفسها وراء هذه الأعيان المشهودة يسمونها المادة والصورة وإثبات أن هذه الجواهر متماثلة والأعيان المشهودة متماثلة وهو أمر لا حقيقة له
فدعوى أن خلق الله لمخلوقاته من الحيوان والنبات والمعدن ليس إلا إحداث أعراض وصفات ليس فيه خلق قائمة بنفسها ولا إحداث لأجسام وجواهر قائمة بنفسها كما تحرك الرياح والمياه وتفرق الماء في مجاريه وهو أيضا من أبطل الباطل
وهذا من أعظم ضلال هؤلاء حيث عمدوا إلى ما هو من أعظم آيات الرب الدالة الشاهدة بوجوده وقدرته ومشيئته وعلمه وحكمته ورحمته أنكروا وجودها بالكلية وادعوا أنه ليس في ذلك إبداع عين ولا خلق شيء قائم بنفسه وإنما هو إحداث أعراض والواحد منا يقدر على إحداث بعض الأعراض ثم اقتصروا في ذلك على مجرد إحداث أعراض وصفات
ثم أرادوا أن يثبتوا إبداعه لجميع الأعيان بان ادعوا وجود جواهر منفردة لا حقيقة لها وادعوا في الأعيان المختلفات تماثلا لا حقيقة له
ثم أرادوا أن يثبتوا حدوث هذه الجواهر بمجرد قيام الأعراض أو الحركات بها وذلك من أبعد الأشياء عن الدلالة على المطلوب فاحتاجوا إلى تلك المقدمات الباطلة التي ناقضوا بها عقول العقلاء وكذبوا بها ما جاءت به الرسل من الأنباء واحتاجوا أن ينفوا حقيقة الرب بعد أن نفوا حقيقة مخلوقاته وآل الأمر بهم إما إلى نفي صفاته أيضا وإما إلى إثبات صفات لا موصوف لها كما لم يثبتوا من آياته إلا ما يحدث من صفات الأشياء
ومن تدبر هذا كله وتأمله وتبين له أن ما جاء به القرآن من بيان آيات الرب ودلائل توحيده وصفاته هو الحق المعلوم بصريح المعقول وأن هؤلاء خالفوا القرآن في أصول الدين في دلائل المسائل وفي نفس المسائل خلافا خالفوا به القرآن والإيمان وخالفوا به صريح عقل الإنسان وكانوا في قضاياهم التي يذكرونها في خلاف ذلك أهل كذب وبهتان وإن لم يكونوا متعمدين الكذب بل التبس عليهم ما ابتدعوه من الهذيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق