السبت، 5 ديسمبر 2020

6...[ درء التعارض - ابن تيمية ] الكتاب : درء تعارض العقل والنقل المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس الناشر : دار الكنوز الأدبية - الرياض ، 1391 تحقيق : محمد رشاد سالم

[ درء التعارض - ابن تيمية ]
الكتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
الناشر : دار الكنوز الأدبية - الرياض ، 1391
تحقيق : محمد رشاد سالم

عدد الأجزاء : 10


كلام ابن رشد ردا على الغزالي وتعليق ابن تيمية
قال ابن رشد : ( هذا القول هو قول في أعلى مراتب الجدل وليس هو واصلا موصل البراهين لأن مقدماته هي عامة والعامة قريبة من المشتركة ومقدمات البراهين هي من الأمور الجوهرية المناسة وذلك أن الممكن يقال اشتراك على الممكن الأكثري الممكن الأقلي والذي على التساوي وليس ظهور الحاجة فيها إلى مرجح على التساوي وذلك أن الممكن الأكثري قد يظن به أن يترجح من ذاته لا من مرجح خارج عنه بخلاف الممكن على التساوي
والإمكان أيضا منه ما هو من الفاعل وهو إمكان الفعل ومنه ما هو من المنفعل وهو إمكان القبول وليس ظهور الحاجة فيهما إلى المرجح على السواء وذلك أن الإمكان الذي في المنفعل مشهور حاجته إلى المرجح من خارج لأنه يدرك حسا في الأمور الصناعية وكثير من الأمور الطبيعية وقد يلحق فيه شك في الأمور الطبيعية لأن أكثر الأمور الطبيعة مبدأ تغيرها منها ولذلك يظن في كثير منها أن المحرك هو المتحرك هو المتحرك وأنه ليس معروفا بنفسه : أن كل متحرك فله محرك وأنه ليس ها هنا شيء يحرك ذاته فإن هذا كله يحتاج إلي بيان فلذلك فحص عنه القدماء
وإما الإمكان الذي في الفاعل فقد يظن في كثير منها أنه لا يحتاج في خروجه إلى الفعل إلى مرجح من خارج لأن انتقال الفاعل من أن لا يفعل إلى أن يفعل قد يظن بكثير منه أنه ليس تغيرا يحتاج إلى مغير مثل انتقال المهندس من أن لا يهندس إلى أن يهندس وانتقال المعلم من أن لا يعلم إلى أن يعلم )
قال : ( والتغير أيضا الذي يقال إنه يحتاج إلى مغير : منها ما هو في الجوهر ومنه ما هو في الكيف ومنه ما هو في الكم ومنه ما هو في الأين والقديم أيضا : يقال على ما هو قديم بذاته وقديم بغيره عند كثير من الناس والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم مثل جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية وجواز الكون والفساد على المادة الأول عند القدماء وهي قديمة وكذلك المعقولات : على العقل الذي بالقوة ووهو قديم عند أكثرهم ومنها ما لا يجوز وبخاصة عند بعض القدماء دون بعض )
قال : ( وكذلك الفاعل أيضا : منه ما يفعل بإرادة ومنه ما يفعل بطبيعة وليس الأمر في كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحدا : أعني في الحاجة إلى المرجح وهل هذه القسمة في الفاعل حاصرة أويؤدي البرهان إلى فاعل لايشبه الفاعلين بالطبيعة ولا الذي بالإرادة التي في الشاهد ) ؟
قال : ( وهذه كلها مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحد منها إلى أن يفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها وأخذ المسألة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطائيين والغلط في واحد من هذه المبادي هو سبب لغلط عظيم آخر في الفحص عن الموجودات )
قلت : المقصود هنا أن بين اختلاف اصطلاحهم في مسمى الممكن وأن الطريفة المشهورة عند المتأخرين في الفلسفة هي الطريفة المضافة إلى أفضل متأخريهم ابن سينا و الفارابي قبله
وهذا ابن رشد مع عنايته التامة بكتب أرسطو والقدماء واختصاره لكلامهم وعنايته بالانتصار لهم والذب عنهم يذكر أن كثيرا من ذلك إنما هو من قول هؤلاء المتأخرين ليس هو من قول قدمائهم
ولما ذكر عن ابن سينا أنه استعمل لفظ الممكن في أعم مما هو عند الفلاسفة قال : إنه جعل المفهوم من لفظ الممكن ما له علة
قال : وحينئذ فقول القائل : إن الموجود ينقسم إلى ما له علة وإلى ما لا علة له يحتاج إلى دليل قال : ثم ما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلته والممكن الحقيقي ما كان يمكن وجوده وعدمه وهو ما كان معدوما وحينئذ فالممكن الحقيقي لا يكون إلا حادثا وذلك يستلزم وجود واجب وهو الضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
قال : وإذا جعلنا الممكن ما له علة كان التقدير : أن ما له علة فله علة ويمكن حينئذ تقدير ممكنات لا تنتهي فلا ينتهي الأمر إلى موجود لا علة له وهو المسمى عندهم بواجب الوجود إلا أن يفهم من الممكن الذي وضعه بإزاء ما لا علة له : الممكن الحقيقي فإن هذه الممكنات هي التي يستحيل وجود العلل فيها إلى غير نهاية وأما إن عنى بالممكن ما له علة من الأشياء الضرورية فلم يتبين بعد أن ذلك مستحيل بالوجه الذي تبين في الموجودات الممكنة بالحقيقة ولا تبين بعد أن ها هنا ضروريا يحتاج إلى علة حتى يقال : إنه لا بد أن ينتهي الأمر إلى ضروري بغير علة إلى أن يبين أن الأمر في الجملة الضرورية التي من علة ومعلول كالأمر في الجملة الممكنة
قلت : ولفظ الممكن إذا قيل فيه يمكن أن يوجد ويمكن لا يوجد فهذا لا يكون إلا إذا كان معدوما كما ذكر ابن رشد أنه اصطلاح الفلاسفة فإما كل ما يمتنع عدمه فليس بممكن بهذا الاعتبار أن يكون ممكن الوجود والعدم بل هذا واجب الوجود سواء قيل : إنه واجب بنفسه أو واجب بغيره وإذا كان من هذا ما هو واجب بغيره أزلا وأبدا فكونه ممكنا يفتقر إلى دليل فتقسيم الموجود إلى واجب وممكن بهذا الاعتبار لا بد له من دليل كما ذكر ابن رشد بخلاف المعدوم الذي يمكن وجوده فهذا يعلم أنه ممكن ولهذا كان ابن سينا ومن سلك طريقته محتاجين إلى إثبات كون الأفلاك ممكنة بنفسها لا واجبة بنفسها
وهذا وإن كان حقا لكن دليلهم عليه في غاية الضعف فإنه مبين على أن كل جسم ممكن ودليلهم عليه ضعيف جدا كما قد بين في غير هذا الموضع وقد بين ضعفه أبو حامد ووافقه ابن رشد مع عنايته بالرد عليه على ضعف هذه الطريق
والتحقيق أن هذا يسوغ تسميته ممكنا في اللغة باعتبار أنه بنفسه لا يوجد لكن ما كان كذلك لا يكون إلا محدثا فيسمى ممكنا باعتبار ويسمى محدثا باعتبار والإمكان والحدوث متلازمان وأما تسمية ما هو قديم أزلي يمتنع عدمه ممكنا يمكن وجوده وعدمه فهذا لا يعرف في عقل ولا لغة وإن قدر أنه حق فالنزاع هنا لفظي لكن إذا عرفت الاصطلاحات زالت إشكالات كثيرة تولدت من الإجمال الذي في لفظ الممكن كما قد بسط في غير هذا الموضع
واختلاف الاصطلاح في لفظ الممكن هنا غير اختلاف الاصطلاح في الممكن العام الذي هو قسيم الممتنع والممكن الخاص الذي هو قسيم الواجب الممتنع بل نفس الممكن الخاص على هذا الاصطلاح المذكور عن القدماء إنما هو في المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه
وأما ما يقدر واجبا بغيره دائما فذاك لا يسمى ممكنا بهذا الاصطلاح
وأما على اصطلاح ابن سينا وأتباعه وهو كون الممكن ما له علة قال ابن رشد : فما له علة ينقسم إلى ممكن وضروري فالضروري هو الذي لا يمكن عدمه بل هو واجب دائما بعلة وهذا مما يقوله الفلاسفة في الأفلاك والممكن الحقيقة هو الحادث
قال : وذلك يسلتزم وجود واجب وهو ضروري ولكن لا يستلزم أنه لا علة له إلا بدليل منفصل
وهذا الذي قاله ابن رشد بناء على أن افتقار المحدث إلى المحدث أمر ضروري كما هو قول الجمهور فإذا كان المراد بالممكن الحقيقي هو الحادث فلا بد له من فاعل ليس بحادث وهو الضروري في اصطلح عامة العقلاء فإن كل قديم هو ضروري عند عامة العقلاء وكل ممكن الإمكان الخاص هو محدث عندهم ثم بعد هذا كونه لا علة له
والعلم بامتناع التسلسل في مثل هذا : بأن يكون للمحدث محدث إلى غير نهاية ممتنع عند جميع العقلاء وقد بين ذلك في موضعه
وأما كون الممكن الذي هو قديم أزلي ضروري الوجود هو معلول لغيره فهذا ليس يبين أيضا امتناع التسلسل فيه على هذا التقدير كما تقدم وعلى هذا التقدير فيمكن تقرير ما ذكره الغزالي من أن ما قالوه في امتناع التسلسل باطل على أصولهم فإن كل ممكن إذا قدر أنه معلول مع كونه واجبا قديما أزليا فالقول في علته كقول فيه فإذا قدر علل ومعلولات كل منها واجب قديم أزلي لا نهاية لها لم يظهر امتناع هذا على هذا التقدير ولم يظهر افتقار مجموعها إلى واجب خارج عنها إذ كان كل منها واجب له علة فإذا قيل : المجموع لا علة له لم يظهر امتناع ذلك كما يظهر امتناعه في المحدثات ولكن كونه له علة أو لا علة له يفتقر إلى دليل آخر
وقد تكلم ابن رشد على القول المنسوب إلى الفلاسفة في كتب ابن سينا في صدرو العالم عن الله وأنه صدر عن عقل ثم عن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل العاشر كما هو معرف من مذهبهم وتقريره
قال ابن رشد لما حكاه أبو حامد عنهم : ( وهذا كله تخرص على الفلاسفة من ابن سينا و أبي نصر وغيرهما ومذهب القوم القديم هو أنه ها هنا مبادىء هي الأجرام السماوية ومبادىء الموجودات السماوية موجودات مفارقة للمواد هي المحركة للأجرام السماوية والأجرام السماوية تتحرك إليها على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها وأنها إنما خلقت من أجل الحركة
وذلك أنه لما صح أن المبادىء التي تحرك الأجسام السماوية هي مفارقة للمواد وأنها ليست بأجسام لم يبق وجه به تحرك الأجسام ما هذا شأنه إلا من جهة أن المحرك أمر بالحركة ولذلك لزم عندهم أن تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مباديها المحركة لها على جهة الأمر لها ولما تقرر أنه لا فرق بين العلم والمعلول إلا أن المعلوم في مادة والعلم ليس في مادة وذلك في كتاب النفس فإذا وجدت موجودات ليست في مادة وجب أن يكون جوهرها علما أو عقلا أو كيف شئت أن تسميها وصح عندهم أن هذه المبادىء مفارقة للمواد من قبل أنها التي أفادت الأجرام السماوية الحركة الدائمة التي لا يلحقها فيها كلال ولا تعب وإن كل ما يفيد حركة دائمة بهذه الصفة فإنه ليس جسما ولا قوة في جسم وأن الجسم السماوي إنما استفاد البقاء من قبل المفارقات وصح عندهم أن هذه المبادىء المفارقة وجودها مرتبط بمبدأ أول فيها ولولا ذلك لم يكن هنا نظام موجود وأقاويلهم مسطورة في ذلك فينبغي لمن أراد معرفة الحق أن يقف عليها من عنده
وما يظهر أيضا من كون جميع الأفلاك تتحرك الحركة اليومية مع أنها تتحرك بها الحركات التي تخصها مما صح عندهم أن الآمر بهذه الحركة هو المبدأ الأول وهو الله سبحانه وتعالى وأنه أمر ساير المبادىء أن تأمر ساير الأفلاك بساير الحركات وأن بهذا الأمر قامت السماوات والأرض كما أن بأمر الملك الأول في المدينة قامت جميع الأوامر الصادرة ممن جعل الملك له ولاية أمر من الأمور من المدينة إلى جميع من فيها من أصناف الناس
كما قال سبحانه : { وأوحى في كل سماء أمرها } وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الإنسان لكونه حيوانا ناطقا )
قال : ( وأما ما حكاه ابن سينا من صدور هذه المبادىء بعضها عن بعض فهو شيء لا يعرفه القوم وإنما الذي عندهم أن لها من المبدأ الأول مقامات معلومة لا يتم لها وجود إلا بذلك المقام منه كما قال تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } وأن الارتباط الذي بينها هو الذي يوجب كونها معلولة بعضها عن بعض وجميعها عن المبدأ الأول وأنه ليس يفهم من الفاعل المفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط وما قلناه من ارتباط وجود كل موجود بالواحد وذلك خلاف ما يفهم ها هنا من الفاعل والمفعول والصانع والمصنوع فلو تخيلت آمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لم دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صار به صارت موجودة وأنه إن كان شيء وجوده في أنه مأمور فلا وجود له إلا من قبل الآمر الأول وهذا المعنى هو الذي ترى الفلاسفة أنه عبرت عنه الشرائع بالخلق والاختراع والتكليف )
قال : ( فهذا هو أقرب تعليم يمكن أن يفهم به مذهب هؤلاء القوم من غير أن يلحق ذلك الشنعة التي تلحق من سمع مذاهب القوم على التفصيل الذي ذكره أبو حامد ها هنا ) يعني ما ذكره ابن سينا قال : ( وهذا كله يزعمون أنه قد بين في كتبهم فمن أمكن أن ينظر في كتبهم على الشروط التي ذكروها فهو الذي يقف على صحة ما يدعون أو ضده )
قال : ( وليس يفهم من مذهب أرسطاطاليس غير هذا ولا من مذهب أفلاطون وهو منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية وقد يمكن الإنسان أن يقف على هذه المعاني من أقاويل عرض لها إن كانت مشهورة مع أنها معقولة وذلك أن ما شأنه هذا الشأن من التعليم فهو لذيذ محبوب عند الجيمع )
قال : ( وأحد المقامات التي يظهر منها هذا المعنى هو أن الإنسان إذا تأمل ما ها هنا ظهر له أن الأشياء التي تسمى حية عالمة هي الأشياء المتحركة من ذاتها بحركات محدودة بجواهر وأفعال محدودة تتولد عنها أفعال محدودة ولذلك قال المتكلمون : إن كل فعل فإنما يصدر عن حي عالم فإذا حصل له هذا الأصل وهو أن كل ما يتحرك حركات محدودة يلزم عنها أفعال محدودة منتظمة فهو حيوان عالم وأضاف إلى ذلك ما هو مشاهد بالحس وهو أن السماوات تتحرك من ذاتها حركات محدودة يلزم عند ذلك في الموجودات التي دونها أفعال محدودة ونظام وترتيب به قوام ما دونها من الموجودات تولد أصل ثالث لا شك فيه وهو أن السماوات أجسام حية مدركة فأما أن حركتها يلزم عنها أفعال محدودة بها قوام ما ها هنا وحفظه من الحيوان والنبات والجمادات فذلك معروف بنفسه عند التأمل فإنه لولا قرب الشمس وبعدها عن فلكها المائل لم يكن ها هنا فصول أربعة ولو لم يكن ها هنا فصول أربعة لما كان نبات ولا حيوان ولا جرى الكون علىنظام في كون الاستقصات بعضها من بعض على السواء لينحفظ بها الموجود مثال ذلك أنه إذا بعدت الشمس إلى جهة الجنوب برد الهواء في جهة الشمال فكانت الأمطار وكثر الاستقص المائل وكثر في جهة الجنوب تولد الاسطقس الهوائي وفي الصيف بالعكس : أعني إذا صارت الشمس فوق سمت رؤوسنا وهذه الأفعال التي تلفى للشمس من قبل القرب والبعد الذي لها دائما من موجود موجود من المكان الواحد بعينه تلفى للقمر ولجميع الكواكب فإن لكلها أفلاكا مائلة وهي تفعل فصولا أربعة في حركاتها الدورية وأعظم من هذه كلها في ضرورة وجود المخلوقات وحفظها الحركة العظمى اليومية الفاعلة للليل والنهار
وقد نبه الكتاب العزيز على العناية بالإنسان لتسخير جميع السماوات له في غير ما آية مثل قوله سبحانه : { وسخر لكم الليل والنهار } الآية
فإذا تأمل الإنسان هذه الأفعال والتدبيرات اللازمة والمتقنة عن حركات الكواكب ورأى الكواكب تتحرك هذه الحركات وهي ذوات أشكال محدودة ومن وجهات محدودة ونحو حركات محدودة وحركات متضادة - علم أن هذه الأفعال المحدودة إنما هي عن موجودات مدركة حية ذوات اختيار وإرادة ويزيده إقناعا في ذلك أن يرى أن كثيرا من الأجسام الصغيرة الحقيرة الخسيسة المظلمة الأجساد التي ها هنا لم تعدم بالحياة بالجملة على صغر أجرامها وخساسة أقدارها وقصر أعمارهما وإظلام أجسادها وأن الجود الإلهي أفاض عليها الحياة والإدراك التي لها دبرت ذاتها وحفظت وجودها - علم على القطع أن الأجسام السماوية أحرى أن تكون حية مدركة من هذه الأجسام لعظم أجرامها وشرف وجودها وكثرة أنوارها
كما قال سبحانه : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } الآية وبخاصة إذا اعتبر تدبيرها الأجسام الحية التي ها هنا علم على القطع أنها حية فإن الحي لا يدبره إلى حي أكمل حياة منه فإذا تأمل الإنسان هذه الأجسام العظيمة الحية الناطقة المختارة المحيطة بنا ونظر إلى أصل ثالث وهو أن عنايتها بما ها هنا هي غير محتاجة إليها في وجودها علم أنها مأمورة بهذه الحركات ومسخرة لما دونها من الحيوانات والنباتات و الجمادات وأن الآمر لها غيرها وهوغير جسم ضرورة لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها وكل واحد منها مسخر لما دونه ها هنا من الموجودات وخادم لما ليس يحتاج إلى خدمته في وجود ذاته وأنه لو لا مكان هذا الآمر لها لما اعتنت بما ها هنا على الدوام والاتصال لأنها مدبرة ولا منفعة لها خاصة في هذا الفعل فإذن إنما تتحرك من قبل الأمر والتكليف للجرم المتوجه إليها لحفظ ما ها هنا وإقامة وجوده والآمر هو الله تعالى وهذا كله معنى قوله تعالى : { أتينا طائعين } )
قال : ( ومثال هذا في الاستدلال : لو أن إنسانا رأى جمعا عظيما من اناس ذوي نطق وفضل مكبين على أفعال محدودة لا يخلون بها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجودهم وهم غير محتاجين إليها - لأيقن على القطع أنهم مكلفون ومأمورون بتلك الأفعال وأن لهم آمرا هو الذي أوجب لهم تلك الخدمة الدائمة للعناية بغيرهم المستمرة هو أعلى قدرا منهم وأرفع مرتبة وأنهم كالعبيد مسخرين له
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه الكتاب العزيز في قوله سبحانه : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين }
وإذا اعتبر الإنسان أمرا آخر وهو أن كل واحد من الكواكب السبعة له حركات خادمة لحركاته الكلية ذوات أجسام تخدم جسمه الكلي كأنها خدمة يعتنون بخادم واحد - علم أيضا على القطع أن لجماعة كل كوكب منها آمرا خاصا بهم رقيبا عليهم من قبل الآمر الأول مثل ما يعرض عند تدبير الجيوش : أن يكون منها جماعة جماعة كل واحد منها تحت آمر واحد وأولئك الآمرون وهم المسمون العرفاء يرجعون إلى أمير واحد وهو أمير الجيش
كذلك الأمر في حركات الأجرام السماوية التي أدرك القدماء من هذه الحركات - وهي نيف على الأربعين - ترجع كلها إلى سبعة آمرين وترجع السبعة - أو الثمانية على اختلاف بين القدماء في عدد الحركات - إلى الآمر الأول
وهذه المعرفة تحصل للإنسان بهذا الوجه سواء علم كيف مبدأ خلقه هذه الأجسام - أعنى السماوية - أو لم يعلم وكيف ارتباط وجود سائر الآمرين باللآمر الأول أو لم يعلم فإنه لا شك أنها لو كانت موجودة من ذاتها أعني قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر واحد لها بالتسخير وألا تطيعه وكذلك حال الآمرين مع الآمر الأول
وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا فيعرض من اعراضها كحال السيد مع عبيده بل في نفس وجودها فإنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية
وهذا هو معنى قوله تعالى : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } وهذا الملك هو ملكوت السماوات والأرض الذي أطلع الله إبراهيم عليه في قوله تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } وأنت تعلم تأنه إذا كان الآمر هكذا فإنه يجب ألا تكون خلقة هذه الأجسام ومبدأ كونها على نحو كون الأجسام التي ها هنا وأن العقل الإنساني يقصر عن إدراك كيفية ذلك الفعل وإن كان يعترف بالوجود فمن رام أن يشبه الوجودين : أحدهما بالفاعل وأن الفاعل لها فاعل بالنحو الذي توجد الفاعلات ها هنا فهو شديد الغفلة عظيم الزلة كثير الوهلة )
قال : ( فهذا هو أقصى ما تفهم به مذاهب القدماء في الأجرام السماوية وفي إثبات الخلق لها وفي أنه ليس بجسم وإثبات ما دونه من الموجودات التي ليست بأجسام واحدها هي النفس )
قال : ( وأما إثبات وجوده من كونها محدثة على نحو حدوث الأجسام التي نشاهدها كما رام المتكلمون فعسير جدا والمقدمات المستعلمة في غير ذلك غير مفضية بهم إلى ما قصدوا بيانه )
قلت : فهذا الكلام لا ريب أنه إلى الكلام الذي نقله الناس عن أرسطو وأصحابه في إثبات واجب الوجود أقرب من كلام ابن سينا وأمثاله
بل هذا خير من الكلام المنقول عن أرسطو من وجوه متعددة فإن المنقول عن أرسطو إنما فيه أنه جعل الأول محركا لها من حيث هو محبوب معشوق لها للتشبه به يحركها تحريك المحبوب لمحبه بل تحريك المتشبه به للمتشبه كتحريك الإمام للمؤتم فإن هذا أضعف من تحريك المحبوب لمحبه كتحريك الطعام للآكل ولمرأة للجماع وأما هذا فقد جعله آمرا لها بالحركة مسخرا لها بذلك مكلفا لها بذلك
لكن أرسطو أثبت قوله بأن الحركة الإرادية الشوقية لا بد فيها من عقل يتشبه به الفلك كم يتشبه المؤتم بالإمام


كلام أرسطو عن الحركة الشوقية والمحرك الأول
قال : والشيء المتشوق إليه علة لحركة المتحرك إليه بالشوق والشيء المشتاق إليه معلول له من جهة تلك العلة وفي تلك الحركة وحركة كل واحد من الأجسام فتشتاق كلها وترتفع إلى محرك أول لا يتحرك
وهذا لم يذكر حجة على أن المبدأ الأول هو الآمر بالحركات فإن كان قصد أن أمره لها بمعنى كونه متشبها به محبوبا لها كما ذكر أرسطو فقد ذكر طريقة أرسطو بعينها وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع وبينا ما فيها من النقص والتقصير عن إثبات واجب الوجود وأنها تدل على أن هؤلاء القوم من أبعد الخلق عن معرفة الله تعالى


نقد كلام ابن رشد عن الحركة الشوقية للسماوات
وكذلك كلام هذا الرجل ليس فيه إثبات الصانع كما ليس ذلك في كلام أرسطو وفي باطل وتناقض من وجوه :
( الوجه الأول )
أنه جعل الحركة تاره لا قوام للسماوات إلا بها كما ذكر ذلك أرسطو حيث قال : إنه لا وجود لها إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر يعني الحركة كما ذكر أرسطو وجعلها تارة مستغنية عنها ولكنها كلفت بها لأجل السفليات وأن حال المكبين على أفعال لا يخلون منها طرفة عين مع أن تلك الأفعال غير ضرورية في وجدهم وهم غير محتاجين إليها


الوجه الثاني
أن غاية ما في هذا أن يكون آمرا لها بالحركة وليس في مجرد الأمر بالفعل ما يوجب أن يكون الفعل القائم بالفاعل من إبداع الآمر ومن خلقه ولا أنه محتاج إلى الآمر في نفس إحداث الفعل كما ذكره في أمر الملك لنوابه وأمر القائد لجيشه وأمر السيد لعبيده


الوجه الثالث
أنه لم يذكر حجة على أنه لا قوام لها إلا بحركة التي أمرت بها فمن أين يعلم أن قوام ذاتها بتلك الحركة ؟


الوجه الرابع
أنه لو قدر أنه أبدع الحركة التي قامت بها وأنه لا قوام لها إلا بالحركة فغاية ما في ذلك أن يكون ذلك شرطا في قوامها ويكون فاعلا لشرط من شروط وجودها ليس في هذا ما يقتضي أنه أبدع سائر أعراضها ولا أبدع أعيانها


الوجه الخامس
أن هذا مبني على إثبات عقول مفارقة وراء الأفلاك وأن فيها عقلا هو فوقها في الرتبة والدليل الذي ذكره هذا و ابن سينا وغيرهما من الفلاسفة في إثبات العقول إنما يدل على إثبات عقول هي أعراض تفتقر إلى أعيان تقوم بها من جنس العقل الموجود في نفوسنا فأما إثبات عقول هي جواهر قائمة بنفسها فلا دليل لهم على ذلك أصلا
ولولا أن هذا ليس موضع بسط ذلك لذكرت ألفاظهم بأعيانهم ليتبين لك ما ذكرته ولكن هؤلاء القوم يجعلون الأعراض جواهر والجواهر أعراضا والصفة هي الموصوف والموصوف هو الصفة وعلى هذا بنوا كلامهم كما صرحوا به في غير موضع ومن هنا يظهر :


الوجه السادس
وهو أن هذا وأمثاله جعلوا نفس العلم هو العالم وجعلوا نفس العلم هو جوهرا قائما بنفسه واجب الوجود وهذا من أعظم سفسطة في الوجود وهو شر من كلام النصارى بكثير
وغاية ما ينتهي إليه ما يدعونه من المفارقات المجردات عن المادة وهو العقول التي جعلولها مبادىء أنها علوم كلية كالعلوم الكلية التي لنا ومن المعلوم أن العلوم الكلية لا تقوم إلا بعالم لكن هؤلاء غلطوا حيث أثبت قدماؤهم كأصحاب أفلاطون كليات مجردة عن الأعيان وهي المثل الأفلاطونية وجعلوها أزلية أبدية وإنما التغير والتحول في أعيانها فلما تبين لأرسطو وأتباعه فساد هذا أبطلوه وقالوا : الكليات لا يكون وجودها منفكة عن الأعيان وهؤلاء ظنوا أيضا أن الأعيان الموجودة تقارنها كليات مغايرة للأعيان وهو أيضا غلط فإن كل هذه الأمور الكلية إنما ثبتوها في الأذهان لا في الأعيان وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن العقول المفارقات التي أثبتوها هي من جنس هذه الكليات ولهذا يصرحون بأن العلم هو العالم حتى في واجب الوجود قالوا : إنه هو العلم وإنه العالم وأن العلم هو القدرة فجعلوا نفس الذات الموصوفة هي الصفة وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى كما قد بسط في غير هذا الموضع
ثم إنهم أثبتوا واجب الوجود بطريق الحركة وأنه لا بد لها من محرك والمحرك هو المحبوب عندهم الذي يحب التشبه به لا تحب ذاته لأن الحركة الإرادية لا بد له من ذلك وادعوا أنه لا بد له من محرك لا يتحرك وقدبين فساد هذا في غير هذا الموضع من هذا الكتاب
و ابن رشد قرر طريقتهم على غاية ما أمكنه من الحسن والبيان وهي كما ترى غايتها أن تكون الأجسام المتحركة محتاجة إلى آمر يحركها والمراد بأمره بالحركة : كونه محبوبا لها أي تحب أن تتشبه به لا أنها تحب ذاته كما ذكره سلفه الفلاسفة الذين بين طريقهم وشبهه بالملك الآمر لمن دونه من نابه في مملكته بأوامر وكل واحد يأمر من دونه وكلها ترجع إلى الآمر الأول
ومعلوم أن الآمر لم يبدع شيئا من أعيان المأمورين : لا صفاتهم ولا أفعالهم بل الملك الآمر له شعور بأمره وطلب من المأمور وأما كون الشيء محبوبا مشتاقا إليه أو للتشبه به فليس في هذا صدور أمر من أمر ولا شعور بالمحب المشتاق ولا طلب لفعل منه
و ابن رشد قرر بأن الآمر لها هو المبدع لها بأنها لو كانت موجودة من ذاتها أي قديمة من غير علة ولا موجد لجاز عليها أن لا تأتمر لآمر احد لها بالتسخير وألا تطيعه كذلك حال الآمرين مع الآمر الأول وإذا لم يجز ذلك عليها فهنالك نسبة بينها وبينه اقتضت لها السمع والطاعة وليس ذلك أكثر من أنها ملك له في عين وجودها لا في عرض من أعراضها
فيقال له : أنت لم تقرر أنه آمر لها وسلفك إنما ذكروا أنه محبوب لها أي تحب التشبه به وهب أنه آمر لها فأنت لم تذكر دليلا على أنها إذا كانت مأمورة كانت مملوكة إلا قولك : ( إنه ليس هنالك عبودية زائدة على الذات بل تلك الذوات تقومت بالعبودية )
وهذه دعوى مجردة
فلم لا يجوز أن يقال : تلك العبودية زائدة على الذات ؟
وقولك : ( إنها تقومت بالعبودية ) : إن أردت تقومت بتعبدها الذي هو طاعتها وحركتها فهذه دعوى أرسطو وقد علم ما فيها وبتقدير أن تكون حقيقتها هي تلك الحركة بل يقتضي أن تكون الحركة شرطا في وجودها
وإن أردت بتقومها بالعبودية تقومها بأن خلقها الله تعالى فهذا هو المطلوب ولم تذكر عليه حجة
وأيضا فقولك : علم أن الآمر لها غيرها وهو غير جسم لأنه لو كان جسما لكان واحدا منها - كلام لا حجة فيه لوجهين :
أحدهما : أنه مسخرا للعقول : ولم يلزم أن يكون من العقول المسخرة فلماذا يلزم إذا كان مسخرا للأجسام أن يكون من الأجسام المسخرة ؟ فهو عندهم عقل وليس من العقول المسخرة فلا يلزم أيضا إذا قيل : هو قائم بنفسه أو هو حي عليم قدير أو هو جوهر أو جسم أو ذات أو غير ذلك أن يكون من جملة المسخرات من هذا الجنس
الثاني : أنه لم لا يجوز أن يكون خارجا عن جملة المسخرات المأموره كما أنه قائم بنفسه وهو آمر لأعيان قائمة بنفسها وهو موصوف وهو آمر لموصوفات وأمثال ذلك وإذا كانت الأعيان أو الأجسام أو الموصفات مختلفة الحقائق لم يلزم أن يكون الآمر لها مماثلا للمأمور
وأيضا فإنك قلت : لو تخيلت أمرا له مأمورون كثيرون وأولئك المأمورون لهم مأمورون أخر ولا وجود للمأمورين إلا في قبول الأمر وطاعة الآمر ولا وجود لمن دون المأمورين إلا بالمأمورين لوجب أن يكون الآمر الأول هو الذي أعطى جميع الموجودات المعنى الذي صارت موجودة
وهذا الكلام فيه تفريق بين المأمور الذي لا وجود له إلا في قبول الأمر كما يقولون : لا توجد الأفلاك إلا بالحركة وهي قبول الأمر أو أن العقول لا توجد إلا بما فيها من قبول الأمر وبين ما صدر عن الأفلاك أو العقول من المولدات التي لا وجود لها إلا بالعقول أو الأفلاك
ومن المعلوم أن احتياج العقول والأفلاك إلى الواجب بذاته أعظم من حاجة ما دونها إليها : فكيف يقال في هذا : لا يوجد إلا به ؟ ويقال في ذلك : لا يوجد إلا بقبول الأمر ؟
ومن المعلوم أن ما يظهر من تأثير الأفلاك في الأرض إنما هو في بعض أحوالها كما ذكره من تأثير قرب الشمس وبعدها والليل والنهار
ومن المعلوم بالحس أن هذا ليس وحده مستقلا بإبداع ما في الأرض وإنما هو من جملة الأسباب التي بها يتم كما يفتقر الحيوان والنبات إلى الريح وافتقارها إلى ذلك أعظم من افتقارها إلى الشمس وكما تفتقر إلى الأرض والتراب وغير ذلك من الأسباب
وبالجملة هذه الطريق التي سلكها هؤلاء مبنية على ثلاث مقدمات أن الأفلاك لا تقوم إلا بالحركة وأن الحركة لا تقوم إلا بآمر منفصل أو محبوب منفصل يحب التشبه به فالأفلاك لا تقوم إلا بذلك ثم إذا كانت لا تقوم إلا بذلك لزم أن تكون جميع أعيانها وصفاتها صادرة عنه وهم لم يقروا ذلك
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع لكن يمكن تقريره بأن يقال : إذا كان قوامها بحركتها وقوام حركتها به فقوامها به وإذا كان قوامها به امتنع أن تكون واجبة الوجود بنفسها لأن ما كان واجب الوجود بنفسه لا يكون قوامه بغيره
وإذا كان الفلك متحركا بغيره امتنع أن يكون واجب الوجود فيكون ممكن الوجود بنفسه وممكن الوجود بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه فيجب أن يكون مفتقرا إلى مبدع فاعل كما كان مفتقرا إلى محبوب مشتاق إليه للتشبه به
فهذه الطريق يمكن أن يقرر به إثبات واجب الوجود لكن هم لم يذكروا هذا وهم في إصطلاحهم لايسمون الواجب بغيره ممكنا
وإنما سلك هذه الطريقة متأخروهم لكن متأخروهم لم يثبتوا كون الفلك ممكنا لا واجبا بنفسه بهذه الطريق فظهر في كلام قدمائهم التقصير من وجه وفي كلام متأخريهم التقصير من وجه آخر
ولهذا ما صاروا مقصرين في إثبات كون الفلك ممكنا مصنوعا صار الدهرية منهم إلى أنه واجب بنفسه


عود إلى لكلام ابن رشد في الرد على الغزالي وتعليق ابن تيمية
ولهذا لما ناظرهم أبو حامد الغزالي وبين عجزهم عن إثبات كون كل جسم ممكنا كما اعترفوا بأنه ليس كل جسم محدثا قال : ( فإن قيل : إن الدليل على أن الجسم لا يكون واجب الوجود أنه إن كان واجب الوجود لم يكن له علة : لا خارجة عنه ولا داخلة فيه فإن كانت له علة لكونه مركبا كان باعتبار ذاته ممكنا وكل ممكن مفتقر إلى واجب الوجود )
أجاب بأن البرهان لم يقم على إثبات واجب الوجود بالتفسير الذي ادعيتموه وإنما قام بمعنى أنه ليس له علة فاعلة وأما كونه ليس له علة مادية أو صورية فلم يقم دليل على واجب الوجود بهذا الاعتبار
قال : ( وكل تلبياتهم في هاتين اللفظيتين ) : واجب الوجود وممكن الوجود ( فلنعد إلى المفهوم وهو نفي العلة ) ( يعني العلة الفاعلة ) وإثباتها فكأنهم يقولون : إن هذه الأجسام لها علة أم لا علة لها ؟ فيقول الدهري : لا علة لها فما المستنكر ؟ وإذا عنى بالإمكان والوجوب هذا فنقول : إنه واجب وليس ممكنا وقولهم : الجسم لا يكون واجبا تحكم لا أصل له )
قال ابن رشد : ( قد تقدم من قولنا : إنه إذ فهم من واجب الوجود ما ليس له علة وفهم من ممكن الوجود ما له علة لم تكن قسمة الموجود بهذين الفصلين معترفا بها فإن للخصم أن يقول : ليس كما ذكر بل كل موجود لا علة له لكن إذا فهم من واجب الوجود : الموجود الضروي ومن الممكن : الممكن الحقيقي أفضى الأمر - ولا بد - إلى موجود لا علة له وهو أن يقال : كل موجود فإما أن يكون ممكنا أو ضرريا فإن كان ممكنا فله علة فإن كانت تلك العلة من طبيعة الممكن تسلسل الأمر فيقطع التسلسل بعلة ضرورية ثم يسأل في تلك العلة الضرورية : إذا جوز أيضا أن يكون من الضروري ما له علة وما ليس له علة فإن وضعت العلة من طبيعة الضروري الذي له علة لزم التسلسل وأنتهى الأمر إلى علة ضرورية ليس لها علة )
قال : ( وإنما أراد ابن سينا أن يطابق بهذه القسمة رأي الفلاسفة في الموجودات وذلك أن الجرم السماوي عند الجميع من الفلاسفة هو ضروري بغيره وأما : هل الضروري بغيره فيه إمكان بالإضافة إلى ذاته ؟ ففيه نظر ولهذا كانت هذه الطريقة مختلة إذا سلك فيها هذا المسلك فأما مسلكه فهو مختل ضرورة لأنه لم يقسم الموجود أولا إلى الممكن الحقيقي والضروري وهي القسمة الموجودة بالطبع للموجودات )
قال : ( ثم قال أبو حامد مجيبا للفلاسفة في قولهم : إن الجسم ليس بواجب الوجود بذاته لكونه له أجزاء هي علته فإن قيل : لا ينكر أن يكون الجسم له أجزاء وأن الجملة إنما تقوم بالأجزاء وأن الأجزاء تكون سابقة في الذات على الجملة قلنا : ليكن كذلك فإن الجملة تقومت بالأجزاء واجتماعها ولا علة للأجزاء ولا اجتماعها بل هي قديمة كذلك بلا علة فاعلية فلا يمكنهم رد هذا إلا بما ذكروه من لزوم نفي الكثرة عن الموجود الأول وقد أبطلنا عليهم ولا سبيل لهم سواه )
قال : ( فبان أن من لا يعتقد حدوث الأجسام لا يصل لاعتقاد في الصانع أصلا )
قال ابن رشد : ( هذا القول لازم لزوما لا شك فيه لمن سلك طريقة واجب الوجود في إثبات موجود ليس بجسم وذلك أن هذه الطريق لم يسلكها القدماء وإنما أول من سلكها - فيما وصلنا - ابن سينا وقد قال : إن أشرف من طريقة القدماء وذلك أن القدماء إنما صاروا إلى إثبات موجود ليس بجسم هو مبدأ للكل من أمور متأخرة وهي الحركة والزمان وهذه الطريقة تفضي إليه - زعم - أعني إلى إثبات مبدأ بالصفة التي أثبتها القدماء من النظر في طبيعة الوجود بما هو موجود ولو أفضت لكان ما قال صحيحا لكنها ليس تفضى ) وذلك أن واجب الوجود بذاته إذا وضع موجودا فغاية ماينتفي عنه أن يكون مركبا من مادة وصورة وبالجملة أن يكون له جزء فإذا وضع موجودا مركبا من أجزاء قديمة من شأنها أن يتصل بعضها بعض كالحال في العالم وأجزائه صدق على العالم - أو على أجزائه - أنه واجب الوجود )
قال : ( هذا كله إذ سلمنا أن ها هنا موجودا هو واجب الوجود وقد قلنا نحن : إن الطريقة التي سلكها في إثبات موجود بهذه الصفة ليست برهانية ولا تفضى بالطبع إليه إلا على النحو الذي قلنا وأكثر ما يلزم هذا القول أعني ضعف هذه الطريقة عند من يضع ها هنا جسما بسيطا غير مركب من مادة وصورة وهو مذهب المشائين لأن من يضع مركبا قديما من أجزاء بالفعل فلا بد أن يكون واحدا بالذات وكل وحدة في شيء مركب فهي من قبل واحد بنفسه أعني بسيطا ومن قبل هذا الواحد صار العالم واحدا وكذلك يقول الإسكندر : إنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض والفرق الذي بينهم أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم والرباط الذي بين أجزاء الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع من قبل الرباط القديم من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص كالحال في العالم فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان )
قال : ( وقد رأينا في هذا الوقت كثيرا من أصحاب ابن سينا لموضع هذا الشك تأولوا على ابن سينا هذا الرأي وقالوا : إنه ليس يرى أن ها هنا مفارقا وقالوا : إن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع وإنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية قالوا : وإنما سماها فلسفة مشرقية لأنها مذهب أهل المشرق ويرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية على ما كان يذهب إليه وهم مع هذا يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة )
قال : ( ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير مامرة وبينا الجهة التي منها يقع اليقين لها وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها وتكلمنا أيضا على طريقة الإسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادىء وذلك أنه يظن أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى لكنها مأخوذة من المبادىء التي بينها أرسطو وكلا الطريقين صحيحة لكن الطبيعة أكثر ذلك هي طريقة أرسطو
قال : ( ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي على ما أصف كانت حقا وإن كان فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات : الوجود في الجوهر والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر وهذه الطريقة هي أن نقول : إن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوه فيه أصلا : لا في الجوهر ولا في غير ذلك من أنواع الحركات وما هكذا فليس بجسم مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره أنه واجب الوجود في الجوهر الجسماني وإلا لزم أن يكون هنالك جسم أقدم منه وظهر منه أنه ممكن الوجود في الحركة التي في المكان فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه أصلا : لا على حركة ولا على غيرها فلا يوصف بحركة ولا سكون ولا يغير ذلك من أنواع التغيرات وما هو بهذه الصفة فليس بجسم أصلا ولا قوة في جسم وأجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر : إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الأربع وإما بالشخص كالحال في الأجرام السماوية )
قلت : المقصود ذكر طرق هؤلاء ومنتهى نظرهم ومعرفتهم وأن خيار ما في كلام ابن سينا وأمثاله إنما تلقاه من طرق المتكلمين كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة ابن سينا بكثير فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق المتكلمين وطرق الفلاسفة والصوفية ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقا حتى نفقت على كثير من أهل الملل بخلاف فلسفة القدماء فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإليهة ما لا يخفى على أحد
وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جدا قليل الفائدة إذاكان صحيحا مع أنه لا يوصل إليه إلا بالتعب كثير مع أنه يقول : هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا
وهوكما قيل : لحم جمل غث على رأس جبل وعر ولا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل
وهذا الذي ذكره ابن رشد في إثبات واجب الوجود مضمونه : أن الممكن الوجود هو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء : المحدث بعد عدم يجب أن تتقدمه واجب الوجود وهو القديم الذي لم يسبقه عدم
وهذا هو بعينه قول المتكلم : إن المحدث مفتقر إلى قديم
ثم قال : ( وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق وهو الذي لا قوة فيه أصلا وليس بجسم )
وهذا لم يذكر عليه دليلا صحيحا
وقوله : ( إن الفلك يظهر من أمره أنه واجب الوجود ) أي قديم في جوهره ( وأنه ممكن الوجود في الحركة ) هو قول الفلاسفة الدهرية الذي يقولون : إن الأفلاك قديمة وحركتها دائمة
وهذا لا دليل له أصلا بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الأفلاك بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلا وأنه لا بد قبل الأفلاك من شيء آخر موجود ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الأفلاك
ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله : يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر وألا يكون فيه أصلا لا على حركة ولا غيرها فلا يكون جسما أي لا يقوم له فعل من الأفعال - دعوى مجردة
ثم لم قدر أنه لا يقوم به فعل فلم قال : إن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسما ؟ يقال : غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكنا فيقال : كما أنه يمكن ذلك فيمكن نقيضه فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك فالمحرك المتحرك أولى بالجواز والإمكان
ثم يقال : بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة - وقد قررت أن المحرك له غيره - فالمحرك له إما أن يكون متحركا وإما أن لا يكون فإن لم يكن متحركا كان محركا لغيره بدون حركة فيه
وهذا إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا بطل مذهبهم وإن أمكن فالفلك نفسه : إما أن يكون واجبا بنفسه وإما أن يكون ممكنا فإن كان واجبا بنفسه وحركته ممكنة وهو محتاج في حركته إلى محرك منفصل كان واجب الوجود بنفسه جسما متحركا بحركة تقوم به يفتقر فيها إلى غيره
وحينئذ فيمكن أن يقال : المحرك للفلك هو أيضا جسم متحرك بحركة فيه سواء احتاج فيها إلى غيره أولم يحتج وإذا لم يتحج إلى غيره كان أولى وإن قيل : إن الفلك ممكن الوجود فلا بد له من الواجب فيكون الواجب علة موجبة له فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك
والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل وهو ممتنع وإن لم يكن علة تامة له لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل فإن ما من الممكن لا بد أن يكون له من الواجب إذ لا شيء له من نفسه
وهذا يصلح أن يكون حجة في أول هذه المسألة وهو أن الحركة الدائمة في الفلك إذا كانت صادرة عن موجب فالموجب لها : إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شيء من معلولها وإن لم تكن تامة في الأزل صار موجبا بعد أن لم يكن
وذلك التمام : إن كان له من نفسه كان متحركا وهو خلاف ما زعموه وإن كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه مفقترا في تمام فعله إلى غيره
وهذا أعظم عليهم : وهو أن يكون متحركا بحركة من غيره
وإذا قيل : نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب
قيل : الفعل إذا كان قائما في الواجب بنفسه لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته ولا يكون مفتقرا في شيء من ذلك إلى شيء من مخلوقاته بل كل ما سواه فقير إليه
وأما على قولهم : فهم يقولون : إنه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال ويقولون : إن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئا بعد شيء
فيقال لهم : الفلك إن كان واجبا بنفسه فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئا بعد شيء فامتنع أن يقولوا : إن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال وإن كان الفلك ليس واجبا بنفسه لم ممكن بنفسه فهو صادر عن الأول : ذاته وصفاته وأفعاله
فإذا قدر قديما لزم أن يكون المقتضى التام له قديما والفلك الممكن قابل للحركة شيئا بعد شيء فلا بد له من واجب والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئا بعد شيء فإذا قدر الفاعل الفلك ففاعله الفلك ممكنة فإذا حدثت شيئا بعد شيء لم يكن لها بد من فاعل وحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع فوجب أن يكون لحدوث تلك الحوادث أمرا يتعلق بالواجب وذلك من لوازم الواجب لا يفتقر إلى غير الواجب وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره فما فيه أولى أن يفتقر إلى غيره
وهذا قد بسط في موضع آخر وبين أنهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم سواء قدر الفلك واجبا بنفسه أو قدر ممكنا واجبا بغيره
والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه أو ناقصا لا يحصل المقصود وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما نيقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل وإلا كانوا من المستحقين للعذاب إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة فهم بين محروم ومأثوم
وهذه الطرق التي أخدها ابن سينا عن المتكلمين من المعتزلة ونحوهم وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة يستطيل بها على المسلمين ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين وليس الأمر كذلك وإنما هو قول مبتدعتهم وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية : صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين الذين قال الله تعال فيهم : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك
والذي أحدثه الفلاسفة كابن سينا وأمثاله عن المعتزلة : منه ما هو صحيح ومنه ما هو باطل فالصحيح كقولهم : إن تخصيص شيء دون شيء بالحدوث في وقت دون وقت لا بد له من مخصص والباطل نفي الصفات
وركب ابن سينا من الأمرين ما دار به على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين ولم يقتصر على مجرد ما قالوه بل وسع القول فيه حتى وصله كلام سلفه الدهرية
فالأول : وهو أن تخصيص الحدوث بوقت لا بد له من مخصص ضم إليه : أن كل ممكن وإن كان قديما لا يترجح إلا بمرجح وبنى على ذلك إثبات واجب الوجود
وهي الطريقة التي أحدثها في الفلسفة وهي مركبة من كلام الفلاسفة المعتزلة والمعتزلة لا تقتصر في أن التخصيص لا بد له من مخصص على تخصيص الحدوث بل تقول ذلك فيما هو أعم من ذلك ولا تفرق بين الاختصاص الواجب والاختصاص الممكن
و ابن سينا وافقهم على ذلك فتناقضت عليه أصوله وأما الأصل الفاسد الذي أخذه عنهم فهو نفي الصفات ولما كانت المعتزلة تنفي الصفات وتسمي إثباتهما تجسيما والتجسيم تركيبا ويقولون : إن المركب لا بد له من مركب فلا يكون مركبا فلا يكون جسما لأن الجسم مركب فلا يقوم به صفة لأن الصفة لا تقوم إلا بجسم ولا يكون فوق العالم لأنه لا يكون فوق العالم إلا جسم
ولا يرى في الآخرة لأن الرؤية إنما تقع على جسم أو عرض في جسم
وكلامه مخلوق لأن لو قام به الكلام لكان جسما
أخذ ابن سينا وأمثاله هذه الأصول وألزمهم ما هو أبلغ من ذلك فزاد في نفي الصفات عليهم حتى كان أظهر تعطيلا منهم بل أبلغ تعطيلا من الجهم رأس نفاة الصفات وخالف ابن سينا وأمثاله المعتزلة في أمور : بعضها أصابوا في مخالفتهم وبعضها أخطأوا في مخالفتهم لكن الذي أصابوا فيه منه ما صاروا يحتجون به على باطلهم لضعف طريق المعتزلة الذي به يردون باطلهم
وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا ك الإشارات وغيرها ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته وسموا ذلك توحيدا ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل وأظهر تناقضهم
ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم ويمكن أظهار تناقض قوله أكثر من إظهار تناقض أقوالهم فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم
وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه فإنهم يوافقون عليها وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم وبها تمكن من إنكار المعاد وتحريف الكلم عن مواضعه وقال : نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات وقال : كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه كما تقدم كلامه
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في اسماء الله وآياته وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق وتكذيب رسله وإبطال دينه ودخل في ذلك باطنية الصوفية أهل الحلول والاتحاد وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء
وكلام ابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود يدور على ذلك لمن فهمه ولكن يسمون هذا العالم الله فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة كفرعون وأمثاله ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم بخلاف أولئك وأيضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق مع قولهم بالوحدة والاتحاد كما رأينا منهم طوائف مع ما دخلوا فيه من العلم والدين لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه
وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم ومم كان كذلك فهو أحد رجلين : إمامؤمن عليهم : علم أن هذا يناقض الحق وينافي دين الإسلام فذمهم وعاداهم
وإما زنديق منافق : علم حقيقة أمرهم وأظهرمن ما يظهرون وكان من أئمتهم فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار
والأول من أتباع الرسل والأنبياء كآل إبراهيم الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره


كلام ابن سينا في الإشارات
وهذا الذي ذكرته لك من حال هؤلاء يتبين لكل مؤمن ذكي رأى كتبهم وتبين له مقصودهم فما ذكرته عن ابن سينا مذكور في كتابه الإشارات الذي هو زبدة الفلسفة عندهم الذي قال في خاتمته : ( أيها الأخ إن مخضت لك في هذه الإشارات عن زبد الحق وألقمتك نفي الحكم في لطائف الكلم فصنه عن المبتذلين والجاهلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والروية والسعادة وكان صغاه مع الغاغة أو كان من ملاحدة هؤلاء المتفلسفة ومن همجهم فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته أو بتوقفه عما يفزع إليه الوسواس ونظر إلى الحق بعين الرضا والصدق فآته ما سألك منه مدرجا مجزأ مفرقا تستفرس ما تسلفه لما تستأنفه وعاهده بالله وبالأيمان التي لا مخرج له منها أن يجري فيما تؤتيه مجراك متأسيا بك فإن أذعت هذه العلم وأضعته فالله بيني وبينك )
وبهذه الوصية أوصى الرازي في شرحه له كما وصى بذلك في كلامه على حديث المعراج لما شرحه بنظير شرح هؤلاء له وهذا من جنس وصايا القرامطة الملاحدة في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم
والمقصود هنا أن ابن سينا في الكتاب الذي عظمه لما تكلم على أفعال الرب تعالى وصفاته سلك ما ذكرته لك عنه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع لما ذكر النزاع في مسألة الصنع الإبداع وحدوث العالم
قال في آخره : ( فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هوالك بعد أن تجعل واجب الوجود واحدا )
و الرازي لم يعرف وجه وصيته فقال : ( إن كان المقصود منه الأمر بالثبات على التوحيد فإنه يكون كلاما أجنبيا عن مسألة الحدوث والقدم وإن كان المقصود منه إنما هو المقدمة التي يظهر منها الحق في مسألة القدم والحدوث فهو ضعيف لأن القول بوحدة واجب الوجود لا تأثير له في ذلك أصلا لأن القائلين بالقدم يقولون : ثبت إسناد الممكنات بأسرها إلى واجب الوجود لذاته فسواء كان الواجب واحدا أو أكثر من واحد لزم من كونه واجبا دوام آثاره وأفعاله وأما القائلون بالحدوث فلا يتعلق شيء من أدلتهم بالتوحيد والتثنية فثبت أنه لا تتعلق مسألة القدم والحدوث بمسألة التوحيد )
قلت : ليس مراد ابن سينا بالتوحيد الذي جاءت به الرسل وهو عبادة الله وحدة لا شريك له مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من ممكنات سواه فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى وعبادة ما سواه وإضافة التأثيرات إلى غيره بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم ولازم قولهم : إخراج الحوادث كلها عن فعله وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه وهو نفي الصفات وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا وهذا النفي الذي سموه توحيدا لم ينزل به كتاب ولا بعث به رسول ولا كان عليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها بل هو مخالف لصريح المعقول مع مخالفته لصحيح المنقول
والمقصود منه وجه ارتباطه بمسألة الحدوث والقدم وذلك أن الأصل الذي بنى عليه حجته في مسألة القدم : أنه كيف تحدث السماوات بعد أن لم تكن محدثة من غير حدوث أمر ؟ وهذا إنما يكون على قول نفاة الصفات والأفعال القائمة به الذي يقولون : إنه لا يقوم به فعل يتعلق بمشيئته وقدرته وإلا فعلى قول أهل الإثبات تبطل حجته
وأيضا فمقصود تمهيد أصله في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهذا إنما يتم إذا ثبت موجودا مجردا لا صفة له ولا نعت وإلا فإذا كان الخلق موصوفا بصفات متنوعة : كالعلم والقدرة والكلام والمشيئة الرحمة بأفعال متنوعة : كالخلق والاستواء ونحو ذلك - لم يكن واحدا عندهم بل كان مركبا وجسما
وحينئذ فيقال لهم : هذا الذي تسمونه واحدا لا حقيقة له في الخارج وإنما هو أمر يقدر في الأذهان لا يوجد في الأعيان وهو نظير الواحد البسيط الذي يجعلون منه تتركب الأنواع فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات ويقولون : إنه منه تتركب الأنواع الموجودة هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الألهيات ويقولون : هو مبدأ الوجود وكلاهما لا حقيقة له في الخارج وإنما هو يقدره الذهن كما يقدر الكليات المجردة عن الأعيان وكما يقدر بعدا مجردا ودهرا مجردا ومادة مجردة كما يقوله شيعة أفلاطون ومن وافقهم
بل هذه الأمور أقرب إلى وجودها في الخارج من ذلك الواحد الذي يقدرونه : إما الواحد الكلي البسيط الذي تتركب منه الأنواع في حدودها وحقائقها وإما الواحد المعين الذي تصدر عنه الموجودات ومتى بطل واحدهم هذا بطل توحيدهم فبطل نفيهم للصفات وبطل قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فبطل قولهم في الأفعال فبطل ما قرروه في قدم العالم وبطل ما احتجوا به على ذلك من الحجة حيث قالوا : كيف يصدر عنه ما لم يكن صادرا من غير قيام أمر متجدد به ؟ فكان إبطال ما ألحدوا به في توحيد الله تعالى بهدم أصول ضلالهم
أيضا فالمقالات التي أبطلها ابن سينا في مسألة حدوث العالم وقدمه بنى إبطالها على هذا التوحيد الذي هو نفي الصفات فكان هذا عصمته التي لا بد له منها
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ابن سينا ذكر مقالات الناس في مسألة الحدوث والقدم ولم يذكر مقالة أساطين الفلاسفة المتقدمين كما لم يذكر مقالة الأنبياء والمرسلين والمقالات التي حكاها من الباطل إنما احتج على إبطالها بما لا حجة له فيه فقال : ( أوهام وتنبيهات قال قوم : إن هذا الشيء المحسوس موجود لذاته واجب لنفسه لكنه إذا تذكرت ما قيل في شرط واجب الوجود لم تجد هذا المحسوس واجبا وتلوت قوله تعالى : { لا أحب الأفلين } فإن الهوي في حظيرة الإمكان أفول ما )
قلت : وهذا القول هو قول القائلين بقدم العالم وأنه واجب بنفسه ليس له موجب آخر وهو الظاهر المشهور من مذاهب الدهرية وإليه يعود كلام محقيقهم ولهذا كان أئمة الكلام القدماء من المعتزلة والأشعرية وغيرهم كأبي على الجبائي وأمثاله و ك القاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى وأمثالهما لا يذكرون عن الدهرية إلا هذا القول
وأما القول الذي ذكره ابن سينا وهو أنه معلول علة واجبة أبدعته فهذا قوله وقول أمثاله من الفلاسفة وقد حكي هذا القول عن برقلس وقد نازعه فيه إخوانه الفلاسفة وهو لم يذكر له عليهم حجة مستقيمة وإنما احتج عليهم بما احتج عليهم بما ذكره في توحيد واجب الوجود وأنه لايكون موصوفا بصفات فتكون فيه كثرة ولا يكون جسما فتكون فيه كثرة ونفى الأنواع الخمسة التي سماها تركيبا كتركيب الجسم من أجزائه الحسية : الجواهر المفردة ومن أجزائه العقلية : وهي المادة والصورة ومن الذات والصفات ومن العام والخاص ومن الوجود والماهية
ولهذا بين أبو حامد الغزالي وغيره من المسلمين بل و ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة فساد ما ذكروه في هذا التوحيد وبطلان ما نفوه من هذه المعاني التي سموها تركيبا وأنه لا حجة لهم على ذلك أصلا إلا ما توهموه من مدلول لفظ واجب الوجود بالمعنى الذي تصوروه لا بالمعنى الذي قام عليه الدليل فكان مبنى حجتهم على ألفاظ مجملة إذا بينت ظهر فساد كلامهم
ولهذا احتاج ابن سينا في مسألة إثبات الصانع إلى توحيده فضلا عن إثبات أفعاله قال : ( وقال آخرون : بل هذا الوجود المحسوس معلول ثم افترقوا : فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين لكن صنعته معلولة وهؤلاء قد جعلوا في الوجود واجبين وأنت خبير باستحالة ذلك ومنهم من جعل وجوب الوجود لشيئين أو لعدة أشياء وجعل غير ذلك من ذلك وهؤلاء في حكم الذين من قبلهم )
فيقال له : الذين جعلوا الوجود لشيئين أو عدة أشياء يدخل فيهم من جعل أصله وطينته غير معلومين فإن ما لم يكن معولا كان واجبا لنفسه فهؤلاء جنس واحد حيث جعلوا واجب الوجود أكثر من واحد ومع هذا فحجتك على إبطال قولهم قد عرف ضعفها ولكن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء : أن هؤلاء يجعلون الصانع أكثر من واحد فيقولون بالتعدد في الصانع وأولئك إذا أثبتوا أصلا وطنية غير معلولة فلا يجعلونها فاعلة صانعة بل قابلة للفاعل فهؤلاء يقولون : إن الفاعل للعالم واجب بنفسه وهؤلاء يدخل فيهم من قال بقولهم كابن زكريا المتطبب حيث قالوا : القدماء خمسة وسبب حدوث العالم عشق النفس للهيولى فإن هؤلاء يقولون بقدم مادة العالم ومكانه وزمانه والنفس
وكان ابن سينا ذكر هذا القول وذكر قول المجوس الذين يقولون بقدم النور والظلمة فهذان القولان متشابهان من بعض الوجوه فإن هذا يقول : سبب حدوث العالم اختلاط النور والظلمة وهذا يقول : سببه عشق النفس للهيولى ثم ذكر قول المتكليمن وقول أصحابه فلم يذكرإلا هذه الأقوال الأربعة وأما قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم القدماء فلم يذكره كما لم يذكر قول الأنبياء وسلف الأمة
وحينئذ فيقال : مذهب جمهور الفلاسفة أن أصل العالم معلول عن الواجب نفسه والعالم مع ذلك محدث الصورة فهؤلاء لا يقولون بتعدد الواجب ولا يقولون بقدم العالم ولا يقولون بأن طينته غير معلولة وهذا القول لم يذكره في نقله للمقالات مع أنه من أشهر الأقوال عن أساطين الفلسفة وهو أظهر أقوالهم في الحجة والدليل فإنه لا يدر عليه ما يرد على غيره ولا يمكنه أن يحتج على فساد قول هؤلاء بما احتج به على فساد قول غيرهم بل حجته الصحيحة لا تدل إلا على قول هؤلاء فإنهم يمكنهم أن يثبتوا للحوادث سببا حادثا ويجعلون الفاعل معطلا عن الفعل ولا يقولون بقدم الأفلاك وحدوث حوادثها من غير سبب حادث ولا يخالفون النصوص المشهورة عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فكان قولهم أقرب إلى العقل والنقل من الأقوال التي ذكرها
قال : ( ومنهم من وافق على أن واجب الوجود واحد ثم افترقوا فقال فريق منهم : إنه لم يزل ولا وجود لشيء عنه ثم ابتدأ وأراد وجود شيء عنه ولو لا هذا لكانت أحوال متجددة من أصناف شتى في الماضي لا نهاية لها موجودة بالفعل لأن كل واحد منها وجد فالكل وجد فيكون لما لا نهاية له من أمور متعاقبة كلية منحصرة في الوجود قالوا : وذلك محال وإن لم تكن كلية حاصرة لأجزائها معا فإنها في حكم ذلك وكيف يمكن أن تكون حال من هذه الأحوال توصف بأنها لا تكون إلا بعد ما لا نهاية له فتكون موقوفة على ما لا نهاية له فيقطع إليها ما لا نهاية له ثم كل وقت يتجدد يزداد عدد تلك الاحوال وكيف يزداد عدد ما لا نهاية له ؟ ومن هؤلاء من قال : إن العالم يوجد حين كان أصلح لوجوده ومنهم من قال : لم يمكن وجوده إلا حين وجد ومنهم من قال : لا يتعلق وجوده بحين وشيء آخر بل بالفاعل ولا يسأل عن لم فهؤلاء هؤلاء )
قال : ( وبإزاء هؤلاء قوم من القائلين بوحدانية الأول يقولون : إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود في جميع صفاته وأحواله الأزلية وأنه ليس يتميز في العدم الصريح حال الأولى به فيها أن لا يوجد شيئا أو بالأشياء أن لا توجد عنه أصلا وحال بخلافها ولا يجوز أن تسنح له إرادة متجددة إلا لداع وأن تسنح جزافا وكذلك لا يجوز أن تسنح طبيعة أو غير ذلك بلا تجدد حال وكيف تسنح إرادة لحال تجددت وحال حال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدد فيتجدد ؟ وإذا لم يكن تجدد كانت حاله ما لم يتجدد شيء حالا واحدة مستمرة على نهج واحد وسواء جعلت التجدد لأمر تيسر أو لأمر زال مثلا لحسن من الفعل وقتا ما أو تيسر أو وقت معين أوغير ذلك مما عد أو لقبح كان يكون له قد زال أو عائق أوغير ذلك كان فزال
قالوا : فإن كان الداعي إلى تعطيل واجب الوجود عن إفاضة الخير والجود هو كون المعلول مسبوق العدم لا محالة فهذا الداعي ضعيف قد انكشف لذوي الأبصار ضعفه على أنه قائم في كل حال وليس في حال بأولى بإيجاب السبق من حال وأما كون المعلول ممكن الوجود في نفسه واجب الوجود بغيره فليس يناقض كونه دائم الوجود بغيره كما نبهت عليه
وأما كون غير المتناهي كلا موجودا ككون كل واحد وقتا ما موجودا فهو توهم خطأ فليس إذا صح على كل واحد حكمه صح على كل محصل وإلا لكان يصح أن يقال : الكل من غير المتناهي يمكن أن يدخل في الوجود لأن كل واحد يمكن أن يدخل في الوجود فيحمل الإمكان على الكل كما حمل على كل واحد
قالوا : ولم يزل غير المتناهي من الأحوال التي يذكرونها معدوما إلا شيء بعد شيء وغير المتناهي المعدوم قد يكون فيه أكثر وأقل ولا يثلم ذلك كونها غير متناهية في العدم
وأما توقف الواحد منها على أن يوجد قبله ما لا نهاية له أو احتياج شيء منها إلى أن ينقطع إليه ما لا نهاية له فهو قول كاذب فإن معنى قولنا : كذا توقف على كذا هو أن الشيئين وصفا معا بالعدم والثاني لم يكن يصح وجوده إلا بعد وجود المعلول الأول وكذلك الاحتياج ثم لم يكن البتة ولا في وقت من الأوقات يصح أن يقال : إن الأخير كان متوقفا على وجود مالا نهاية أو محتاجا إلى أن يقطع إليه ما لا نهاية له بل أي وقت فرضت وجدت بينه وبين كون الأخير أشياء متناهية ففي جميع الأوقات هذه صفته لا سيما والجميع عندكم وكل واحد واحد فإن عنيتم بهذا التوقف أن هذا لم يوجد إلا بعد وجود أشياء كل واحد منها في وقت آخر لا يمكن أن يحصى عددها وذلك محال فهذا نفس المتنازع فيه : أنه ممكن أوغير ممكن فكيف يكون مقدمة في إبطال نفسه ؟ أبان يغير لفظها بتغيير لا يتغيره به المعنى ؟ قالوا : فيجب من اعتبار ما نبهنا عليه أن يكن الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أوليا وما يلزم من ذلك الاعتبار لزوما ذاتيا إلا ما يلزم من الاختلافات يلزم عندها فيتبعها التغير )
قال : ( فهذه هي المذاهب وإليك الاعتبار بعقلك دون هواك )


تعليق ابن تيمية
هذا جملة كلامه فهذا الكلام قد ذكر فيه قول المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وقوله وقول أمثاله من الفلاسفة وذكر حجة المعتزلة المعروفة عندهم وهو دليل الأعراض المبني على إبطال حوادث لا تتناهى وذكر حجته في أن تخصيص حال دون حال بالفعل لا بد له من مخصص فإذا كانت الأحوال متساوية لزم انتفاء المخصص فينتفي التخصيص فينتفي ما ذكروه من الحدوث
وهذه الحجة مادتها من كلام المعتزلة الصحيح حيث أخذ عنهم أن التخصيص بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وهم بنوا على ذلك إثبات الصانع هو على ذلك بنى إثبات واجب الوجود لكن نقل ذلك إلى الممكن الذي ليس له من نفس وجود فتخصيصه بالوجود دون العدم وبالعدم دون الوجود كتخصيص الحدوث بوقت دون وقت
وقد عرف أن هذا الكلام مادته من كلام المعتزلة والفلاسفة جميعا وأن الصواب الذي فيه - وهو امتناع تخصيص المحدث أو الممكن بلا مخصص - هو من كلام المعتزلة الذي وافقهم عليه والخطأ الذي فيه بعضه منهم وأكثره منه فإنه ألزم المعتزلة بطرد هذا الأصل فلما لم يطردوه نقض قولهم
وحينئذ فيقال له : بطلان قول المعتزلة لا يستلزم صحة قولك إلا لو لم يمكن قول إلا وقولك وقولهم فكيف وأقاويل أئمة الفلاسفة ليست من القولين ؟ وكذلك الأقوال التي عليها أئمة السنة والحديث ليست من القولين ؟
والأقوال الموجودة في الكتب الإلهية : التوراة والقرآن اللذين لم يأت من عند الله تعالى كتاب أهدى منهما ليست واحدا من القولين فإذا قدر بطلان قول معين لم يلزم صحة قولك فكيف إذا كان ما أفسدت به قول المعتزلة يبطل أيضا قولك ؟ فقولك أفسد من قولهم إن كان قولهم فاسدا وكذلك إن كان صحيحا فهو فاسد على كل تقدير
وذلك أن عمدتك على بدلان قولهم أنه يمتنع أن يختص وقت دون وقت بالحدوث بل سبب مخصص حادث
فيقال لك : وأنت تقول : إن الحوادث كلها تحدث بلا سبب حادث وعلى قولك فكل حادث حادث في وقت من الأوقات فإن ذلك الوقت اختص بالحدوث بلا سبب مخصص حادث فألزمهم اختصاص وقت من الأوقات بالحدوث دون سائر الأوقات بلا مخصص وأنت يلزمك اختصاص كل وقت بما يحدث فيه من الحوادث بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بصفته وقدره بلا سبب مخصص واختصاص كل حادث بوقته بلا سبب مخصص وحدوث جميع الحوادث بلا سبب مقتض للحوادث فهم إن كان ما التزموه باطلا فقد التزمت أضعافه فيكون قولك أفسد وإن لم يكن باطلا بطلت حجتك على إبطال قولهم فتبين أن إبطالك لقولهم مع اعتقادك لما تعتقده باطل على كل تقدير وعلم أن الأصول الصحيحة التي وافقتهم عليها هي بطلان قولك أدل منها على بطلان قولهم والأصول الفاسدة التي وافقوك عليها إذا كانوا قد تناقضوا فيه ولم يطردوها فأنت أعظم تناقضا في عدم طردك لأصولك مطلقا : صحيحها وفاسدها
وبيان ذلك أنه قد قال : يجب أن يكون الصانع الواجب الوجود غير مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا ومايلزم من ذلك لزوما ذاتيا وإلا ما يلزم من اختلافات يلزم عندها فيتبعها التغيير يعني حركة الفلك وما يتبعها من التغيير
فيقال له : إذا لم يكن مختلف النسب إلى الأوقات والأشياء الكائنة عنه كونا أزليا واللازمة من ذلك لزوما ذاتيا كما يقوله في لزوم الفلك عنه وما يقدره علة للفلك من العقول أوغيرها فاللازم لهذه اللوازم : إما أن يكون لازما لها لا ينفك عنها في وقت من الأوقات أو لازما لها في حال دون حال
فإن كان لازما لها في كل الأوقات وجب أن لا يحدث شيء وأن لا يكون تغير أصلا
وإن كان لازما لها في وقت دون وقت فقد اختلف نسبة لوازمه إلى الأوقات والأمور الحادثة في الأوقات حيث حدث عن لوازمه في هذا الوقت ما لم يحدث في هذا الوقت وإذا اختلفت نسبة اللوازم إلى الأوقات والحودث لزم أن تختلف نسبته إلى الأوقات والحوادث لأن الأمور الكائنة عنه كونا أزليا وما يلزمها لزوما ذاتيا نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث كنسبته لأنه لو كانت نسبتها إلى الأوقات والحوادث تخالف نسبته لكانت حالها في بعض الأوقات والحوادث مخالفا لحاله ولكانت مختصة في بعض الأوقات بمعنى منتف في أوقات أخر
وذلك تخصيص لبعض الأوقات دون وقت آخر بحدوث حادث فيه فإن جاز تخصيص وقت دون وقت بحدوث من غير سبب حادث بطل أصل الكلام
وإن لم يجز ذلك لزم أن يكون اختصاص لوازمه بحدوث حادث فيها أو منها بوقت دون وقت إنما كان لاختصاصه هو بحدوث حادث فيه أو منه لوقت دون وقت وإلا لم تكن تلك اللوازم لوازم له
فلا بد من أحد أمرين :
إما أن تكون الأمور اللازمة له ليست لازمة فتكون الحوادث حدثت عنه ابتداء بدون وسائط وهذا أشد إبطالا لقولهم
وإما أن تكون تلك الأمور اللازمة له لا تخصص في وقت دون وقت بحدوث حادث فيها أو منها إلا لتخصيص لها بذلك إذ لو اختصت دون تخصيصه للزم الحدوث بلا محدث وهو ممتنع
ومتى كان تخصيص اللوازم لحدوث حادث فيها أو منها إنما هو لتخصيصها لها بذلك كانت نسبته إلى الأوقات والحوادث نسبة مختلفة كنسبة اللوازم
وهذا أمر لا محيد لهم عنه هو يبين بطلان قولهم بيانا ضروريا لمن فهمه إذ أصل قولهم حدوث التغير عما لا يتغير وهذا يناقض ما قالوه
فهم بين أمرين : إن جوزوا حدوث متغير عن غير متغير لم يمكنهم إبطال قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون بحدوث جميع الحوادث من غير حدوث سبب بل بمجرد القدرة أو القدرة والإرادة التي لم تزل ولا تزال على حال واحدة
وإن لم يجوزوا حدوث متغير عن غير متغير بطل قوهم كله فإن الفلك متغير مختلف هو في نفسه مختلف القدر والصفات وهو متغير عندهم بما يحدث فيه من الحركات وهذا التغير صادر عما لا يتغير عندهم سواء قالوا : هو صدر عن العقل الذي لا يتغير كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو صادر عن الواجب بنفسه الذي لا يتغير كما يقوله ابن رشد وأمثاله أو صادر عن الواجب بتوسط العقل كما يقوله النصير الطوسي وأمثاله أو مهما قالوه من جنس هذه المقالات فلا بد على كل تقدير أن يلزمهم حدوث متغير عن غير متغير
وحينئذ فبطلت حجتهم على المعتزلة وكانوا أكثر التزاما للباطل الذي قرروا أنه باطل وأبطلوا به قول المعتزلة وذلك أنهم يجعلون جنس الحركات والحوادث كلها حدثت بلا محدث أصلا لأن العلة القديمة الأزلية لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها ولوازمها فكل ما تأخر عنها فليس من موجبها : لا بوسط ولا بغير وسط وتلك الحوادث لم تحدث عن واجب آخر بالاتفاق والضرورة فيلزم أن لا يكون للحوادث كلها محدث وأن لا يكون الرب تعالى محدثا لشيء من الحوادث
وفي هذا من تعطيل الصنع عن الصانع وتعطيل الصانع عن الصنع ما هو أعظم من كل قول قاله غيرهم فإنهم يشنعونه على المعتزلة ونحوهم : بأنكم إذا قلتم بحدوث العالم عطلتم الصانع في أزلة عن الصنع
فقال لهم : أنتم عطلتم الصانع دائما عن صنع شيء من الحوادث على ما هوبين ظاهر لكل من تدبر هذا فقد عطلتموه عن أن يحدث شيئا من الخير والإحسان أزلا وأبدا
وأما صنعه اللوازم وجوده فهذا أنتم منازعون فيه وقد بين غير واحد بطلان قولكم فيه وحينئذ فتكونون قد عطلتموه عن كل فعل وصنع وإفاضة وإيجاب واقتضاء أزلا وأبدا
وأما تعطيل الصنعة عن الصانع فهذا ليس قولا معروفا لطائفة معروفة بل الأمم المعروفون متفقون على أن الصنعة لا بد لها من صانع وهذا ضروري في العقل
وعلى قولكم : الحوادث دائما تحدث وليس لها صانع فإن العلة التامة في الأزل لا يحدث عنها شيء أصلا وأيضا فإن الحوادث مختلفة في صفاتها ومقاديرها كما أن الفلك مختلف في صفته وقدرة
والواحد البسيط من كل جهة يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره وإن جاز ذلك بطل قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإذا بطل هذا القول بطل قولهم في صدور العالم عنه سواء كان صادرا عنه بوسائط لازمة له بسيطة كالعقول أو بغير وسائط أو بوسائط مختلفة فكيف ما قدروه فلا بد لهم من لوازم أجسام مختلفة في القدر والصفات عن واحد بسيط لا صفة له ولا فعل فيه
وأيضا فما زمان من الأزمنة إلا وتحدث فيه حوادث مختلفة وقد يختص بعض الأزمنة بحوادث ليست من جنس حوادث بقية الأزمنة كحادث الطوفان وأمثاله بل إرسال موسى عليه السلام وما تبع رسالته من الحوادث وإرسال محمد صلى الله عليه و سلم وما تبع رسالته من الحوادث وأمثال ذلك هي من الحوادث المختصة بزمان دون زمان فإذا كان لا سبب للحوادث إلا ذات نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء ولوازمها التي نسبتها إلى جميع الأزمنة سواء وقد قالوا لأجل هذا : يمتنع تخصيص زمان دون زمان بحدوث العالم وقالوا : العالم قديم لذلك ففي هذا القول من تخصيص بعض الأزمنة بحادث دون حادث ما في ذلك القول وزيادات فإن المعتزلة يقولون : التخصيص إنما وقع وقت إحداث العالم فقط ثم التخصيص في سائر الأوقات كان أسباب حادثة في العالم
وهؤلاء يقولون : لا تزال الأوقات تختص بالحوادث من غير سبب مع أن نسبته إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة والأشعرية ونحوهم وإن قالوا : إنه لا يزال يخص وقتا دون وقت بحدوث الحوادث من غير سبب يقتضي التخصيص سوى محض الإرادة التي نسبتها إلى جميع الأوقات والحوادث واحدة فهم أطرد لقولهم من قولكم : إن نسبته إلى الأوقات واحدة مع أنه لم يزل ولا يزال يخص كل وقت بحادث دون الآخر مع استواء نسبته إلى الأوقات
فأنتم مع قولكم بدوام الفعل وأزليته في قولكم من مخالفة أصلكم أكثر مما في قول المعتزلة وقول الأشعرية
وأيضا فمعلوم أن الحركات مختلفة والمتحركات مختلفة وليست الحركات كلها صادرة عن حركة الفلك الأطلس بل لكل فلك أو لكواكب كل فلك حركة تخصه فإن الناس يشهدون بعيونهم حركات الخمسة على خلاف حركات الثوابت ويشهدون حركة الشمس والقمر والكواكب من المشرق إلى المغرب على خلاف حركة الخمسة وحركة الثوابت


تعليق ابن تيمية
والجمهور من أهل الهيئة يقولون : المتحرك هو الأفلاك وإن الحركة المشرقية هي حركة المحيط بما فيه وسواء كان الأمر كذلك أو لم يكن فليست حركة كل كوكب وفلك تابعة لحركة المحيط بل الحركات مختلفات وإذا كان كذلك امتنع أن تصدر هذه الحركات المختلفة عن واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد سواء صدرت بواسطة أو بغير وساطة
وأما صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد بلا واسطة فهو جمع بين النقيضين وقول متناقض
وأما الصدور بواسطة فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحد عن واحد فإذا قدر أن الأول واحد بسيط لا يصدر عنه إلا واحد وإلا كان قولا متناقضا فإنه إذ صدر عنه ما فيه كثرة فقدر صدر عنه أكثر من واحد وإن لم يكن في الصادر كثرة وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد وهلم جرا وهذا خلاف المشهود
وما يلفقونه في هذا المقام من قولهم : إن الأول يعقل مبدعه ويعقل نفسه وأنه باعتبار عقله للأول صدر عنه عقل وباعتبار عقله لنفسه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار وجوبه بالأول صدر عنه عقل وباعتبار إمكانه صدر عنه نفس أو فلك أو باعتبار عقله صدر كذا أو كذا وباعتبار وجوبه أو إمكانه صدر كذا أو كذا أو مهما قالوه من الأقوال التي يقدرها الذهن في هذا المقام فهي مع كونها أقوالا لا دليل عليها وإنما هي تحكمات ورجم بالغيب بل والدليل يقوم على فسادها فلا يحصل بها جواب عما يدل على فساد أصلهم فإن تلك الوجوه إما أن تكون أمورا وجودية أو عدمية فإن كانت وجودية فقد صدرت عن الأول فقد صدر عنه أمور متعددة أكثر من واحد بلا واسطة وإن كانت عدمية لا يخرج الصادر الأول عن أن يكون واحدا بسيطا وحينئذ فلا يصدر عنه إلا واحد
يبين ذلك أن كثرة السلوب العدمية إن أوجبت كثرة فالأول فيه كثرة لكثرة ما يسلب عنه وإن لم توجب كثرة فلا كثرة في الصادر الأول بأمور عدمية فلا يصدر عنه إلا واحد وهلم وجرا
وأيضا فهذا الواحد الذي يقدرونه إنما يوجد في الأذهان لا في الأعيان كالواحد الذي يجعلونه مبدأ المركبات العقلية كما بسط هذا في موضع آخر
وإذا كان كذلك فما يقولونه في هذا المقام من أنه حركة الفلك واحدة أزلية أبدية وهي فعل الرب الدائم فعله قول باطل لوجوه :
أحدها : أن الحركات ليست واحدة بل حركات مختلفات وليس بعضها صادرا عن بعض فقول القائل : إنها واحدة قول باطل
الثاني : أن الحركة الدائمة سواء كانت واحدة نوعا واحدا أو أنواعا مختلفة تحدث شيئا بعد شيء وإذا كان الأول علة تامة أزلية كان مستلزما لمعلوله فلا يتأخر عنه شيء من معلوله بل يكون معلوله كله أزليا أبديا دائما بدوامه إن أمكن مقارنة المعلول لعلته لا يحدث منه شيء بعد شيء فإن الحادث في الزمن الثاني يمتنع أن تكون علته تامة أزلية لأن العلة التامة مستلزمة لمعلولها وهو لا يكون بينه وبينها فصل فكيف وأجزاء الحركة الحادثة شيئا بعد شيء كلها منفصلة عن الأزل ؟ فامتنع أن يكون معلول علة تامة أزلية
الثالث : أن يقال : كون المفعول المعين يقارن فاعله في الزمان أمر لا يعقل وجوده في الخارج وإنما يقدره الذهن كما يقدر الممتنعات وسواء سمي الفاعل علة أولم يسم فإنه لا تعقل علة صدر عنها معلول وهو مفعول لها وكان زمانهما واحدا ولكن قد يكون الشيء مستلزما لغيره ومقارنا له في الزمان كاستلزام الذات لصفاتها اللازمة واستلزام حركة أحد الجسمين المتلازمين لحركة الآخر كحركة الخاتم واليد لكن لا يكون الملزوم فاعلا للازم فإنه لا يعقل مفعول معين لازم لفاعله البتة
ولكن لفظ ( العلة ) فيه إجمال واشتباه واشتراك فقد يراد بها الملزوم الموجب وقد يراد بها الفاعل والملزوم الموجب الذي ليس بفاعل يعقل أن يقارنه لازمه وموجبه الذي ليس بمفعول له لكن موجبه الذي هو مفعول له لا يعقل مقارنته له لكن يعقل صدور الفعل عنه شيئا بعد شيء فتكون المفعولات صادرة عنه شيئا بعد شيء
وهؤلاء أصلوا أصلا فاسدا ظهر به فساد قولهم وهو أن العلة التامة التي تسمى المؤثر التام يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه ولا يكون معلول إلا لعلة تامة وهذا ناقضوا به المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم في قولهم : إن المؤثر التام يجوز بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره فقالوا : الباري كان في الأزل مؤثرا تاما وتراخى عنه أثره فقال أولئك : بل يجب أن يقارنه أثره
والصواب قول ثالث وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون الأثر عقبه لا مقارنا له ولا متراخيا عنه كما يقال : كسرت الإناء فانكسر وقطعت الحبل فانقطع وطلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق
قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } فإذا كون شيئا كان عقب تكوين الرب له لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه وقد يقال : يكون مع تكوينه بمعنى أنه يتعقبه لا يتراخى عنه وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم فإنه إنما يكون عقب تكوينه له فهو مسبوق بغيرهم سبقا زمانيا وما كان كذلك لا يكون إلامحدثا والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال التأثير التام
وأما على قول هؤلاء فيلزمهم أمور باطلة تستلزم فساد قولم منها : أنه لا يحدث في العالم شيء فإنه إذا كانت العلة تامة أزلية ومعلولها معها في الزمان وكل ما سواه مغلول له بوسط أو بغير وسط لزم أن يكون كل ما سوى الله قديما أزليا
ومنها : أنه يلزم أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناهى في آن واحد
وهذا متفق على استحالته عندهم وعند سائر العقلاء وهو تسلسل علل ومعولات أو تمام علل ومعلولات حادثة لا نهاية لها فإنه كلما حدث حادث فإنه لا يحدث حتى تحدث علته التامة أو تمام علته التامة وتكون حادثة معه وتلك لا تحدث حتى يحدث معها ماهو كذلك فلزم وجود علل ومعلولات لا تتناهى أوتمام علل ومعلولات لا تتناهى في آن واحد
وإذا قالوا : كل حادث مشروط بعدم ما قبله لم يصح على قولهم لأن عدم الحادث الأول سابق للحادث الثاني وعندهم العلة التامة يجب مقارنتها للمعلول ولا تتقدم عليه
ولكن هذا يصح على قول أهل السنة الذين يقولون : المعلول يحصل عقب تمام العلة التامة لا معها فيكون حدوث الثاني عقب عدم الأول وعلى هذا القول فيلزم حدوث كل ماسوى الله تعالى
وبهذا يظهر بطلان قولهم وصحة قول المسلمين فإنهم قد يشبهون قولهم بما يحدث شيئا فشيئا عن الفاعل بالاختيار أو بالطبع كالحجر الهابط وكالمسافر إلى بلد فإنه يقطع المسافة شيئا فشيئا والمقتضى لقطعه المسافة وهو قصده تلك المدينة قائم لكن قطعه للجزء الثاني منها مشروط بعدم الأول
فيقال لهم : هذا يدل على فساد قولكم فإنه ليس هنا مؤثر تام قارنه أثره ولم يوجد الأثر إلا عقب التأثير التام لا معه فليس هذا نظير قولكم بل هو نظير قول من يقول : لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وإحداثه للثاني مشروط بعدم الأول
وهذا نظير قول من يقول : لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء فوجود الثاني كالإرادة الثانية والكلمة الثانية والفعل الثاني مشروط بانقضاء الأول وبانقضاء الأول تم المؤثر التام المقتضى لوجود الثاني
وعلى هذا فكل ما سوى الرب حادث كائن بعد أن لم يكن وهو سبحانه المختص بالقدم والأزلية فليس في مفعولاته قديم وإن قدر أنه لم يزل فاعلا وليس معه شيء قديم بقدمه بل ليس في المفعولات قديم البتة بل لا قديم إلا هو سبحانه وهو وحده الخالق لكل ماسواه وكل ما سواه مخلوق كما قال تعالى : { الله خالق كل شيء }
وهؤلاء لمما كانت مناظرتهم مع المتكلمين الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم على أصلهم في الاستدلال على حدوث الأجسام أو حدوث العالم بامتناع حوادث لا أول لها ورأى هؤلاء أن هذه قضية كاذبة ولهذا كان أئمة أهل الكلام ك الرازي وغيره يوفقونهم على فسادها فإن الرازي وإن قرر في كتبه الكلامية ك الأربعين و نهاية العقول وغيرهما : امتناع حوادث لا أول لها كما تقدم تقريره واعتراض إخوانه عليه فهو نفسه في كتب أخرى يقدح في هذه الأدلة ويقرر وجوب دوام الفاعلية وامتناع حدوث الحوادث بلا سبب وامتناع حدوثها في غير زمان ويجيب عن كل ما يحتج به في هذه الكتب كما فعل ذلك في كتاب المباحث المشرقية وغيره
ولعل الذين قدحوا في أدلته هذه ك الآمدي و الأبهري و الأرموي صاحب لباب الأربعين وغيرهم أخذوا ذلك - أو بعضه - من كلامه أو أخذوه هم من حيث أخذه هو
وهذا قد رأيته فإني كنت قد أرى اعتراض هؤلاء عليه أو بعض أجوبته ثم أنظر بعد ذلك في كلام آخر له فأجدهم قد أخذوا ذلك الأعتراض أو الجواب أخذو من كلامه كما في الجواب الباهر الذي ذكره الأرموي فإنه أخذه من المطالب العالية
والاعتراضات التي ذكرها هو وغيره على تقريره لامتناع حوادث لا أول لها قد ذكرها الرازي في المباحث المشرقية وذكرها الآمدي أيضا ولهذا أرأيت من يغتر بكلام هؤلاء من طلبة العلم حقيقة أمرهم وأن هذا التقرير الذي وافقوا فيه شيوخهم المتكلمين ومن المعتزلة والأشعرية هم بعينهم قد قدحوا فيه في موضع آخر قدحا لم يجيبوا عنه
فلا يظن الظان أن ما ذروه مما ينصر دين الإسلام بل هذا مما يقوي معرفة المسمين بذم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وأنه جهل لا علم
ولا يغتر المغتر بما يجده من كثرة ذكر المصنفين في الكلام لذلك واتباع آخرين مقلدين لهم في ذلك فإن النظر : إما أن يكون ناظرا بنفسه حتى يتبين له الحق أو يقلد المعصوم فهذان طريقان علميان وإما أن يكون محسنا للظن بشيوخ تقدموا من شيوخ هذا الكلام المحدث فهؤلاء قد عارضوهم من هو أعلم منهم فالسلف والأئمة عارضوهم وأتباعهم الحذاق الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم وأتباعهم الذين تعقبوا كلامهم عارضوهم وناقضوهم والفلاسفة أيضا عارضوهم وناقضوهم
وإذا قال القائل : هذا الأصل قد قرره مثل أبي الهذيل العلاف و أبي إسحاق النظام ومثل الجهم بن صفوان و اتبعهم عليه مثل أبي علي و أبي هاشم و عبد الجبار بن أحمد و أبي الحسين البصري وغيرهم ووافقهم على صحة هذه الطريقة - وهو امتناع حوادث لا أول لها - مثل محمد بن كرام و ابن الهيثم وغيرهما ومثل أبي الحسن الأشعري و القاضي أبي بكر و أبي المعالي و القاضي أبي يعلى و ابن عقيل ابن الزاغوني و أبي عبد الله المازري و القاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم بل ومثل الشريف المرتضى وأمثاله من شيوخ الشيعة فهؤلاء - وأضعافهم - يحتج بهذه الطريقة وإن كان أصلها مأخوذا من الجهم بن صفوان و أبي الهذيل العلاف وغيرهما
قيل لمن قال هذا القول : الواحد من هؤلاء لم يعظمه من يعظمه من المسلمين إلا لما قام به من دين الإسلام الذي كان فيه موافقا لما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصر ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول فحمدهم والثناء عليهم بما لهم من السعي الداخل في طاعة الله ورسوله وإظهار العلم الصحيح الموافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم والمظهر لباطل من خالف الرسول وما من أحد من هؤلاء ومن هو أفضل منهم إلا وله غلط في مواضع
وإذا كان كذلك فانظر في هذا الأصل الذي اتبع فيه متأخروهم لمتقدميهم من إثباتهم حدوث العالم والأجسام بهذه الطريق : هل هي طريقة صحيحة في العقل أم لا ؟
وهل هي موافقة للشرع أم لا ؟ فعرضها على الكتاب والميزان فإن الله تعالى يقول : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } فاعرض عما يذكرونه بما ثبت من كتاب الله وسنة رسوله وما ثبت عن الصحابة التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وزنه أيضا بالميزان الصحيحة العادلة العقلية واستعن على ذلك بما يذكره كل من النظار في هذه الطريقة وأمثالها ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ولا تتبع الظن فإنه لا يغنى من الحق شيئا وسل الله أن يلهمك ويهديك
فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح الإلهي [ أن الله تعالى قال : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ]
وقد ثبت في صحيح مسلم : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ]
والله تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم قالوا : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } فالضلال وقع في السمع والعقل فإن أقواما نصروا الإسلام - أو السنة - في ظنهم وصاروا يدخلون في الإسلام - أو السنة - ما ليس منه ولم يكن لهم من الخبرة بالكتاب - وتفسير السلف له - والسنة وأقوال سلف الأمة ما يعرفون به ما بعث الله به رسوله مما عرف بالنص والإجماع
ولهذا نجد جمهور أهل الكلام من أبعد الناس عن معرفة الحديث وأقوال الصحابة ويذكرون أحاديث يظنونها صحيحة وتكون من الموضوعات المكذوبات وأحاديث تكون صحيحة متلقاة بالقبول بل مجمع على تلقيها بالقبول وصحتها عند علماء أهل الحديث وهم يكذبون بها أو يرتابون فيها وكذلك نجدهم - وغيرهم - في العقليات قد أحسنوا الظن بطريقة دون طريقة وفي كل من الطريقين ما يؤخذ ويترك وأهم الأمور معرفة ماجاء به الرسول وفهم ذلك
فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه قال : [ من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ] وأول الفقه فهم خطاب الله ورسوله بعد معرفة ثبوت ذلك عن الرسول ولو كان في نفس الأمر أن السمعيات لا يجب قبولها حتى يقوم الدليل على صدق المبلغ وهو بعد في قطع هذه المسافة فينبغي له أن لا ينظر في مسألة مما تكلم فيها الناس حتى يعرف ما قاله هذا الرسول وما ثبت عنه فإنه لوقدر واحد من العلماء النظار لكان ينبغي أن يعرف ما قاله في مسائل النزاع لينظر في قوله وقول غيره كما يفعل من نظر في أقوال النظار فكيف إذا كان في نفس الأمر هو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ؟
ومعلوم أن الرجل لو تكلم في مسألة طب تنازع فيها الناس وقد بلغه أن لبقراط و جالنيوس وأمثالهم فيها نصا لم ينبغ له أن يثبت القول فيها حتى يعرف ما قاله هؤلاء مع جواز غلطهم في نفس الأمر فكيف بنصوص الانبياء في الأمور الألهية ؟
وإذا وقع في قلبه شبهة الباطنية من الفلاسفة وغيرهم أنهم تكلموا بالتخييل والتمثيل لا بإظهار الحقائق إذ لم يكن إلا ذلك فليس لأحد أن يقبل هذا القول منهم تقليدا لهم بل ينظر في أقواله وأحواله وسائر أموره وأحوال أصحابه هل يطابق قول هؤلاء أم يورث علما ضروريا بأن هؤلاء كاذبون عليهم عمدا أو خطأ : إما عنادا وإما ضلالا ؟ وهذا مبسوط في موضعه


تعليق ابن تيمية
والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل وقابلوا الباطل بباطل وردوا البدعة ببدعة لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل وقد اعترف حذاق النظار بفسادها فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها وأقاموا الدليل على دوام الفعل لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء
وهذا جهل عظيم فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل وأن الفاعل لم يزل فاعلا وأن الحوادث لا أول لها ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها
وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء فكل ماسواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن فلا يمكن أحدا أن يذكر دليلا عقليا يناقض هذا وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
وهذه مسألة حدوث العالم أعظم عمد الفلاسفة فيها التي عجز المتكلمون عن حلها ليس فيها ما يدل على قدم شيء من العالم أصلا ولهذا كان ما أقامه الناس من الأدلة على أن كل مفعول فهومحدث كائن بعد أن لم يكن ولك ما سوى الله مفعول فيكون محدثا لا يناقض ذلك وإنما يناقض ذلك أصل الجهمية والمعتزلة حيث قالوا : إن الله كان ولا يتكلم بشيء ولا يفعل شيئا بل كان الكلام والفعل عليه ممتنعا لا مقدورا له في الأزل ثم إنه صار ذلك ممكنا مقدورا بدون تجدد شيء فيحدث الكلام والفعل بدون سبب أوجب حدوث ذلك أصلا
ثم قال أئمة هذه الطريقة - وهو الجهم و أبو الهذيل - بأن لا بد من فناء الفعل وفناء الحركات كلها زاد الجهم : وبفناء العالم كله : الجنة والنار فيكون الرب ما زال معطلا من الكلام والفعال صم لا يزال معطلا من الكلام والفعال وإنما حدث ما حدث من الكلام والفعال في مدة قليلة جدا بالنسبة إلى الأزل والأبد فبهذا القول وما يترتب عليه أقام على هؤلاء الشناعة أئمة الشرع والعقل ورآى الناس أن في ذلك من مخالفة الشرع والعقل مالا يجوز السكوت عن رده لكن هؤلاء وإن كانوا ابتدعوا مخالفة للشرع والعقل بحسب نظرهم واستدلالهم فالمتفلسفة المتنازعون لهم أبعد عن العقل والشرع وهؤلاء يردون صريح ما تواتر عن الرسل ويزعمون أنهم خيلوا ومثلوا وأما أولئك فقد يتأولون النصوص أو يقولون : لها معنى لا نفهمه ولا يقولون : إن الرسل قصدت أن تخبر بالأمور على خلاف ما هي عليه بطريق التخييل والتمثيل بل كثير مما ينصرونه من بدعهم يظنون أن الرسل قالوه فخطؤهم تارة في تكذيب الناقل وتارة في تأويل المنقول
وأولئك يعلمون صدق الناقل وصدق المنقول عنه ولكن يقولون كلاما مضمونه أنه كذب للمصلحة ولهذا سماهم المسلمون : ملحدين : فإنهم يلحدون في آيات الله ولهذا يفضي بهم تأويل النصوص إلى ما يعلم العامة والخاصة أنه افتراء على الرسول وإلحاد محض مثل تأويلات الباطنية للعبادات وللقرآن وغير ذلك
وكان مما سلط هؤلاء على الإلحاد إدخال أولئك في الشريعة ما ليس منها وإن كانوا متأولين في ذلك فما جعلوا من دين الإسلام القول بأن الخالق لم يكن يمكنه أن يتكلم ويفعل ثم أمكنه ذلك بلا سبب وأن ذلك يتضمن ترجيح الممكن بلا مرجح وأن الممكن انقلب من الأمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب حادث والفاعل أمكنة الفعل والكلام بعد أن لم يكن ممكنا بلا سبب - أخذ ذلك المتفلسفة وناقضوه واستدلوا بحجتهم المشهورة على قدم العالم بأن كل ما يعتبر في كون الباري مؤثرا : إما أن يكون موجودا في الأزل وإما أن لا يكون فإن كان موجودا لزم القول بأنه لم يزل فاعلا لأن المؤثر التام لا يتخلف عنه أثره وإن لم يكن موجودا امتنع وجوده بعد هذا لأن القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فإذا لم يحصل المرجح التام امتنع الفعل وإذا حصل وجب وجود الفعل
وهذه الحجة لما ذكروها صار أولئك يجيبون عنها بما لا يفسدها بأن يقولوا : المرجح هو علم الفاعل وإرادته أو قدرته أو إمكان الفعل وانتفاء المانع وهو الأزل أو حصول المصلحة
وكل ما قالوه من هذا وغيره إذا نظر فيه بعينه لم يكن جوابا صحيحا فإن العلم يتبع المعلوم على ما هو به والمعلوم يتبع الإرادة فإن لم يكن المرجح ثابتا في نفس الأمر لم يكن العلم مرجحا وأما الإرادة فادعى كثير منهم أنها بذاتها توجب تخصيص أحد المتماثلين وهذا القدر خلاف ما يعقل من الإرادة فإنه لا تعرف الإرادة ترجح أحد المتماثلين من كل وجه بل لا بد من اختصاص أحدهما بما يوجب الترجيح
وإثبات إرادة كما ذكروه لا يعرف بشرع ولا عقل بل هو مخالف للشرع والعقل فإنه ليس في الكتاب والسنة وما يقتضي أن جميع الكائنات حصلت بإرادة واحدة بالعين تسبق جميع المرادات بما لا نهاية له وكذلك سائر ما ذكروه
ثم إن هذه الأمور إن كانت قديمة فلم يحدث مرجح وإن حدث بعد أن لم يحدث شيء منها أو تعلق بها فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه وترجح أحد المتماثلين بلا مرجح فقد حدث الحادث بدون موجب لحدوثه والمرجح قبل وجوده كما هو بعد وجوده لم يكن ناقصا فتم
و الرازي يجيب بأن الإرادة مرجحة كجواب أصحابه ثم يضعف هذا الجواب وتارة يقول : بل العقل والنفوس أزلية فحدث تصور من التصورات للنفس أوجب حدوث الأجسام وهو باطل في نفسه مخالف للعقل والنقل كما تقدم وأجود أجوبته المعارضة والنقض وهو أنه يقول : هذه الحجة تستلزم أن لا يحدث شيء من العالم وهو خلاف المشاهدة
وهذه المعارضة جيدة إذا ادعى المدعي أن المرجح التام لكل ممكن ثابت في الأزل فأن الحس والمشاهدة يناقض ذلك ودليلهم لا يدل على ذلك بل يدل على حصول مطلق الترجيح لا على حصول ترجيح لممكنات معينة ولا كل ممكن
فهذا يبين أنه ليس في دليلهم حصول مطلوبهم فإن مطلوبهم حصول المؤثر التام في الأزل لأثر معين كالعقول والنفوس والأفلاك ومعلوم أن دليلهم لا يدل على ذلك بل إنما يدل على أنه لم يزل يفعل شيئا فإذا قدر أن ذلك الفعل هو قائم بنفسه لا مفعول له في الخارج كان ذلك وفاء بموجب دليلهم وإذا قدر أن ذلك كونه لم يزل متكلما إذا شاء كان وفاء بموجب دليلهم
وإذا قيل : إنه قامت به إرادات متعاقبة كما قاله الأبهري وأن بسبب بعض تلك الإرادات حدثت الحوادث كان ذلك وفاء بموجب دليلهم إذ موجبه أنه يمتنع كونه يصير فاعلا بعد أن لم يكن والمثبت لمطلق لا ثبت فعلا معينا ولا مفعولا معينا فضلا عن أن يثبت عموم الفعل والمفعول
بل الذي يدل على فساد قولهم أنا قد علمنا بالمشاهدة والإحساس تجدد الحوادث في العالم وقد امتنع أن يكون في الأزل مؤثرا تاما فيها فلا بد من حدوث تمام المؤثرية لك واحد منها والإحداث من غيره ممتنع بوسط أو بغير وسط فلا يحدث حادث إلا منه سواء كان بوسط كالعقول أو بغير وسط فلو كان المؤثر كما زعموه من أنه واحد بسيط لا تقوم به صفة ولا أمر اختياري لكان حاله عند هذه الحوادث كحاله قبلها وبعدها
وهكذا الأمر في كل حال وهو قبل حدوث الحادث المعين لم يكن علة تامة فعنده يجب أن لا يكون علة تامة فلا يجوز أن يحدث شيء على موجب أصولهم
وإذا قالوا : حدث من الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ما أعدت القوابل لقبول فيضه
قيل لهم : هذا إنما يصح إذا كانت القوابل والاستعدادات من غير الفاعل الممد كما في الشمس وكما يقولونه في العقل الفعال فأما الباري تعالى فمنه الإعداد والإمداد وكل ما سواه من القوابل والمقبولات والاستعدادات والإمدادات فمنه لا من غيره سواء كان بوسط أو بغير وسط
وإذا كان كذلك وكان حاله قبل إحداث كل حادث كحاله قبل ذلك الحادث امتنع أن يحدث منه شيء أصلا : لا قابل ولا مقبول ولا استعداد ولا إمداد فهم وإن أثبتوا أنه لم يزل فاعلا فقولهم يوجب أنه لم يحدث شيئا قط بل ولا فعل شيئا قط بل حدثت الحوادث بلا محدث فعلم أنه باطل
وليس في قولهم ما يوجب قدم شيء من العالم فقولهم بقدمه باطل ولهذا لم يحفظ القول بقدم الأفلاك عن أساطين الفلاسفة بل أول من حفظ ذلك عنه أرسطو وأتباعه وأما أساطين القدماء فالمنقول عنهم حدوث الأفلاك فهم قائلون بحدوث صورة العالم ولهم في المادة كلام فيه اضطراب فالنقل الثابت عن أعيانهم بحدوث العالم موافق لما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم
ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من الأوائل والأواخر كأبي البركات وغيره
وهؤلاء لم يوافقوا أرسطو وأتباعه ولا ابن سينا وأمثاله على أن الرب وجود بسيط لا صفة له ولافعل بل أثبتوا له الصفات القائمة بذاته وأنه يفعل بإرادات تقوم بذاته : إرادة بعد إرادة
وهؤلاء أبعدوا أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئا بعد شيء لا يقوم لهم دليل على أن شيئا من مفعولاته لم يزل مقارنا له إذ يمكن أنه فعل مفعولا بعد مفعول وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله كما أخبرت بذلك الرسل فأخبر الله تعالى في القرآن أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أنه سبحانه : { استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم }
قال في الآية الأخرى : { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم }
فأخبر أنه سواهن سبع سماوات في يومين وأن السماء كانت دخانا وهو بخار الماء كم جاء تفيسره في عدة آثار : أنه خلق السماء من بخار الماء والبخار دخان الماء كما أن دخان الأرض دخان
وإن أريد بالدخان التراب فقط أو دخان التراب والماء فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السماوات السبع من مادة أخرى كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة وأنه خلق الجان من مادة
وثبت في الصحيح : صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ]
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله به عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ] وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض ] وفي رواية صحيحة : [ ثم خلق السماوات والأرض ] قأخبر أنه كان بين تقديره وبين خلقه للسماوات والأرض خمسين ألف سنة وهذه أزمنة مقدرة بحركات موجوده قبل وجود الأفلاك والشمس والقمر وأخبر أنه كان عرش الرب إذ ذاك على الماء
وقد جاءت الآثار المشهورة بأن الماء كان على وجه الأرض وأنه خلق السماء من دخان ذلك الماء
وكذلك في أول التوراة مثل هذا سواء أنه في أول الأمر خلق الله السماوات والأرض وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء وكانت الريح تهب على الماء وذكر تفصيل خلق هذا العالم
ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجودا قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخر فإن العرش أيضا مخلوق كما أخبرت بذلك النصوص واتفق على ذلك المسلمون فأساطين الفلاسفة المتقدمون كانوا - فيما نقل الناقلون عنهم - قولهم يوافق هذا لم يكونوا بقدم العالم فإن هذا قول ليس عليه دليل أصلا مع أنه في غاية الفساد
وحقيقته أن الصانع لم يصنع شيئا وأن الحوادث تحدث بلا محدث بل حقيقته أن هذا العالم واجب الوجود وأنه ليس له مبدع
و أرسطو إنما أثبت له علة غائية يتشبه الفلك لها واستدل عليه بكون حركة الفلك عنده اختيارية فلا بد لها من غاية وقال : إن العلة الأولى تحرك الفلك كما يحرك المعشوق عاشقه والمشوق في الحقيقة ليس له قصد ولا علم ولا فعل في تحريك العاشق بل ذاك لمحبته يتحرك إليه فكيف وحقيقة قولهم أن يتحرك للتشبه به كمايتحرك المأموم للتشبه بإمامه ؟ فهكذا يقولون : أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى
وقد بينا فساد قوله وحكينا ما ذكره أصحابه من أقواله وما فيها من الفساد في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن يعلم العقلاء أنه مخالف لصريح العقل ليس من دين المسلمين كما أنه من خالف كتاب الله وسنة رسوله أو إجماع السابقين ليس من دين المسلمين فليس في دينهم الصحيح : لا ما يخالف صحيح المنقول ولا ما يخالف صريح المعقول ولاما يناقض صحيح المنقول وصريح المعقول
والمقصود هنا أن الممكن لا يترجح إلا بمرجح وأن هذا متفق عليه بين العقلاء والله أعلم


فصل
ثم إن الرازي مع سلوكه المسلك المتقدم ذكر أن هذه المتقدمة أعني أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح هي مقدمة ضرورية وأن من لزمه ما يناقضها فهو لم يلزم ذلك فليس من العقلاء من يلتزم نقيضها والأقوال المستلزمة نقيض هذه القضية باطلة قطعا
وهذا الذي قاله صحيح في الممكن المعلوم أنه ممكن وهو المحدث فإن وجود المحدث بلا محدث مما يعلم بضرورة العقل امتناعه وأما الممكن بالمعنى الذي قالوه وهو ما يتناول القديم فهو يبين أنه باطل وأنهم لم يثبتوا بهذه الطريق : لا إثبات متمكن ولا إثبات واجب ولكن قد ذكر أيضا أنه من المعلوم بضرورة العقل أن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وهذا صحيح يوافقه عليه عامة العقلاء
وقد ذكر أن كثيرا من الطوائف يتنافضون فيقولون بما يناقض هذه القضية ونحن ليس بنا حاجة أن نجيب عن أهل الباطل به نقول : إن قولهم بترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح له يدل على فساد قولهم كما يدل على فساد قول المتفلسفة الدهرية وفساد قول الجهمية والقدرية
وحينئذ فليس في تلك اللوازم ما نحتاج أن نجيب عنه إلا ما ذكره عن المسلمين من قولهم : إن الله فعل العالم في الوقت المعين دون سائر الأوقات لا لأمر يختص به ذلك الوقت فإن القول المحكي عن المسلمين لا بد أن يكون موجودا في كتاب الله أو سنة رسوله أو هو مما انعقد عليه إجماع المسلمين ولو لم يكن إلا إجماع الصحابة وحدهم فلو كان فيه نزاع بين المسلمين لما جاز أن يحكى عنهم كلهم
فكيف وهذا القول ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا هو متفق عليه بين أهل الكلام منهم ؟ بل هوقول طوائف من أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة
وطوائف منهم ينازعون في ذلك ويقولون : إن الحادث إنما حدث لسبب اقتضى حدوثه واختصاصه بذلك الوقت مع قولهم : إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش كما ثبت ذلك بالنصوص المتواترة وقد علم النزاع في تسلسل الآثار بل فيما يقوم بذات الله تعالى من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته مع عدم تناهيها وثبوت تسلسلها
والمقصود هنا أن القول بترجيح الممكن - الذي هو الحادث - بلا مرجح ممتنع عند عامة العقلاء فإن كان الممكن هو الحادث كان كلاهما دليلا على مدلول واحد


القول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع لوجوه
وإن قدر أن الممكن أعم من المحدث فنقول : إذا كان ذلك ممتنعا فالقول بحدوث حادث بلا محدث ممتنع أيضا بل هو أعظم امتناعا لوجوه :
( الأول )
أنه يتضمن رجحان الممكن بلا مرجح لأن كل محدث فهو يمكن وجوده وعدمه إذ لولا إمكان وجوده لما وجد ولولا إمكان عدمه لما كان معدوما قبل حدوثه فوجوده يقتضي ترجيح وجوده علىعدمه وذلك يفتقر إلى مرجح


الثاني
أن ذلك يتضمن تخصيص حدوثه بوقت دون وقت وصفة دون صفة وتخصيص أحد المثلين بما يختص به عن الآخر لا بد له من مخصص


الثالث
أن نفس العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين وأقوى وأظهر في العقل من كون الممكن لا يترجح إلا بمرجح وهذا يتصور هذا من العقلاء ويعلمون بطلانه بالضرورة من لا يتصور الممكن ويعلم افتقاره إلى المرجح إلا بنوع من التكلف الذي لا يتصور به ذلك
وقد تبين أن الناس في هذا المقام على درجات وكل من كان إلى الفطرة العقلية والشريعة النبوية أقرب كانت طريقته أقوم فالمستدل بأن الموجود على سبيل الجواز وهو الموجود الممكن لا يكون بالوجود أولى منه بالعدم إلا بالفاعل وأن ما حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه كما سلك ذلك كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم - خير من المستدل بأن الموجود الممكن مطلقا لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وهذا المستدل بأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح خير من المستدل بأنه لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بمرجح كما سلك ابن سينا وأتباعه كالسهروردي و الرازي و الآمدي وغيرهم مع تناقض هؤلاء حيث قالوا في موضع آخر : إن العدم المستمر لا يحتاج إلى سبب كما قاله نظار المسلمين من جميع الطوائف
ثم الذين استدلوا بذلك ولم يحتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل الجمهور أقرب من الذين احتاجوا إلى قطع التسلسل كما فعل ابن سينا ونحوه
ثم هؤلاء الذين لم يحتاجوا إلا إلى إبطال التسلسل دون إبطال الدور أقرب من الذين احتاجوا إلى إبطال التسلسل والدور جميعا كما فعل الرازي ونحوه وظنوا أن الدليل لايتم إلا بذلك
ثم هؤلاء الذين أبطلوا التسلسل خير من الذين أقروا بعجزهم عن ذلك كما فعل الآمدي
ثم إن أبا الحسين مع أن طريقه أصح وأبين وأقرب من طرق هؤلاء فطريقة القاضي أبي بكر بن الطيب و القاضي أبي يعلى و أبي المعالي الجويني و ابن عقيل و أبي الحسن ابن الزاغوني وأمثالهم خير من طريقته


كلام أبي الحسن البصري في إثبات محدث العالم
وذلك أنه قال : ( فإذا ثبت أن العالم محدث فالدلالة على أن له محدثا هي أنه لا يخلو إما أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن أن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وإن حدث مع جواز أن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه وسندل على أنه عالم قادر فصح قولنا )
قال : ( واستدل شيوخنا رحمهم الله على أن الأجسام تحتاج إلى محدث بأن تصرفنا يحتاج إلىمحدث لأجل أنه محدث فكان حدوث كل محدث يحوجه إلى محدث فإذا كانت الأجسام محدثه احتاجت إلى محدث )
قال : ( والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث وإن كرهناه وكنا ممنوعين منه فلما وقع بحسب قصدنا وانتفى بحسب كراهتنا علمنا أنه يحتاج إلينا
والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه أنه إما أن يحتاج إلينا لأجل حدوثه أو لبقائه أو لعدمه فلو احتاج إلينا لأجل بقائه لوجب أن لا يبقى البناء إذا مات الباني ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه لأن تصرفنا كان معدوما قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين فصح أنه احتاج إلينا ليحدث ولأن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه فعلمنا أنه إنما يحتاج إلينا لأجل حدوثه )


تعليق ابن تيمية
قلت : فطريقة شيوخه الذين أشار إليهم من المعتزلة هي الاستدلال على افتقار المحدث إلى المحدث بالقياس على تصرفاتنا وأنها تحتاج إلى محدث لأجل كونها محدثة
وقد سلك هذه الطريقة غير المعتزلة من أصحاب الأشعري وغيرهم حتى مثل أبي القاسم القشيري و أبي الوفاء بن عقيل وبنوا ذلك على هذه
وأما الطريقة التي ذكرها هو وبناها على التقسيم الذي ذكره وهو أن المحدث لا يخلو من أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه وجواز أن لا يحدث
وأبطل الأول بأنه لو كان حدوثه واجبا لم يكن حدوثه في حال بأولى من حدوثه قبل تلك الحال فلا يستقر حدوثه على حال إذ كان حدوثه واجبا في نفسه وقد قال قبل هذا : إن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال واستحال عدمه
وهذا التقسيم لا يحتاج إليه ولا على إبطال هذا القسم بما ذكروه وذلك أن قول القائل : إما أن يحدث مع وجوب حدوثه أو مع جواز حدوثه
إما أن يريد به وجوب حدثه بنفسه أو وجوبه بغيره فإن أراد به الثاني فهذا لا يمتنع بل يجوز أن يقال : المحدث حدث مع وجوب حدوثه بالمقتضى لحدوثه لا بنفسه أي وجد المقتضي التام لحدوثه الذي يمتنع معه أن لا يحدث وهذا إذا قيل فإنه يدل على ثبوت الصانع المحدث أيضا لا ينفي ذلك فليس في إثبات هذا القسم ما ينفي ثبوت الصانع
ولكن هؤلاء المعتزلة قد ينازعون قي كون الممكن عند وجود المقتضى التام يكون واجبا ويقولون : لا يقع شيء من الممكنات والحوادث إلا على وجه الجواز أو أن يكون بالوجود أولى منه بالعدم لا على وجه الوجوب
ويقولون : إن القادر المختار سواء كان قديما أو محدثا لا يفعل إلا مع جواز أن لا يفعل وإنه يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وهذا مما نازعهم فيه جمهور العقلاء
وليس المقصود هنا بيان صحة قول الجمهور وفساد قولهم لكن المقصود أن قولهم سواء كان صحيحا أو فاسدا فهم يستغنون عن جعله مقدمة إثبات الصانع
وإذا أمكن إثبات العلم بالصانع على كل تقدير كان خيرا من إثباته على تقدير قول تنازع فيه كثير من العقلاء وهم يمكنهم إثباته بأن المحدث لا بد له من محدث سواء قيل أنه يجب بمحدثه أو لم يقل ذلك فلا حاجة بهم في إثباته إلى ذلك
وإما إن أراد القائل بقوله : إما أن يحدث مع وجوب أن يحدث أو مع جواز أنه يحدث مع وجوب أن يحدث بنفسه بدون مقتض لحدوثه فلا ريب أن هذا فاسد معلوم فساده بضرورة العقل
والعلم بفساده أبين من العلم بكون حدوثه ليس في حال بأولى منه في حال أخرى وذلك أن ما حدث يعلم أنه ليس واجبا بنفسه فإن الواجب بنفسه لا يقبل العدم والمحدث كان معدوما فيمتنع أن يقال إنه حادث وهو واجب بنفسه
ومن المعلوم أن المحدث يمتنع أن يكون قديما فإن هذا نقيض هذا إذ المعني بكونه محدثا أنه ليس بقديم
ومن المعلوم أن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما والعلم بأن واجب الوجود بنفسه يجب أن يكون قديما أبين من العلم بكون القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه
فإن الأول لم تنازع فيه طائفة معروفة والثاني نازع فيه طائفة معروفة
وأيضا فإن أبا الحسين استدل على أن القديم يجب أن يكون واجب الوجود بنفسه بأنه ليس وجوده في حال بأولى من وجوده في حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فامتنع عدمه
وأما كون واجب الوجود بنفسه يكون قديما فهو أبين من هذا
وحينئذ فالمحدث لا يمكن أن يقال : إنه حدث وهو أنه حدث وهو واجب الوجود بنفسه أبين من كونه ليس وجوده في حال أولى منه في حال
و أبو الحسين بنى كلامه على نفي هذه الأولوية التي مضمونها أن الوقتين متساويان فلا يجوز تخصيص أحد الوقتين عن الآخر بالحدوث إلا بمخصص وهذا يكفيه في الاستدلال ابتداء فإن المحدث اختص حدوثه بوقت وتخصيص أحد الوقتين لا بد له من مخصص
وهذه هي الطريقة التي سلكها القاضي أبو بكر ومن وافقه وهي خير وأقرب وأصح من طريقة أبي الحسين
أما كونها خيرا وأقرب فظاهر وأما كونها أصح فلأن أبا الحسين جعل من مقدمات حجته أنه إذا حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال
وهذا كما تقدم فيه إجمال يحتاج إلى استفصال يترتب عليه نزاع
فإذا قال له القائل : بل حدث مع وجوب أن يحدث لمقتضى اقتضى وجوب حدوثه في تلك الحال لم يمكنه أن يقول : ليس إيجاب المقتضى لحدوثه في تلك الحال بأولى من اقتضائه لوجوب حدوثه في غير تلك الحال لأنه يقول له كما قلت : إن المقتضى لحدوثه مع جواز حدوثه يخصص الحدوث بحال من حال كذلك يقول : إن المقتضي لوجوب حدوثه يخصص الحدوث بحال دون حال
فإن قال : المقتضى الموجب لا يخص بحال دون حال بخلاف المقتضى مع عدم وجوب الاقتضاء كان الجواب من وجوه :
أحدها : المنع فإن هذه دعوى مجردة
الثاني : أن يقال : لا نسلم أنه يمكن أن يكون شيء مقتضيا للحدوث إلا مع الوجوب وإنه مادام اقتضاؤه جائزا فإنه يمتنع الاقتضاء وذلك لأنه إذا جاز أن يقتضى وجاز أن لا يقتضى كان كل من الأمرين ممكنا جائزا لم يكن ثبوت الاقتضاء أولى من انتفاء لولا أمر آخر اقتضى ذلك الاقتضاء ثم القول في اقتضاء ذلك الاقتضاء كالأول ويلزم منه توقف حدوث الحوادث على اقتضاءات متسلسلة لا نهاية لها ولا وجود لشيء منه وما توقف على ما لا وجود له فلا وجود له وهو يبطل التسلسل فيما هو دون هذا
وهذا المقام مقام معروف للمعتزلة في فعل الرب وفعل العبد يذكرونه في مسألة حدوث العالم ومسألة القدر وهو مما استطالت عليهم به أهل السنة والفلاسفة وغيرهم
لا سيما و أبو الحسين يقول : إنه مع فعل القادر يتوقف على الداعي وإنه عند وجود الداعي التام يجب وجود المقدور فيكون أصل قوله موافق لقول من قال من أهل السنة ومن الفلاسفة : إن الحادث يحدث مع وجوب أن يحدث وهذايناقض قوله بأنه لا يحدث إلا مع جواز الحدوث لا مع وجوبه
الثالث أن يقال : هب أنا سلمنا إمكان ثبوت المقتضى وأنه يقتضى مع جواز أن لا يقتضى وأنه يخص الحدوث بحال دون حال فإذا أمكن الحدوث والتخصيص بما هو مقتض مع جواز أن لا يقتضى فالحدوث والتخصيص بمقتض واجب الاقتضاء أولى وأحرى
فإن قيل : ما كان واجب الاقتضاء لم يتخلف عنه مقتضاه فيلزم قدم الحوادث بخلاف ما كان جائز الاقتضاء
قيل : هذا إنما يصح لو كان اقتضاؤه لكل ما يقتضيه لازما له وكان مجرد ذاته علة موجبة لمعلولاته كما يقوله من يقول ذلك من المتفلسفة كبرقلس و ابن سينا وأتباعهما
فإنهم يقولون : إن الأول علة بمجرد ذاته لجميع المعلولات وما سواه معلول به فيلزمهم أن لا يتخلف عنه شيء من الحوادث وهذا باطل قطعا
وأما إذا كان اقتضاؤه وفعله لما يفعله إنما هو أنه مقتض لوجود كل حادث في الوقت الذي حدث فيه لا سيما إذا قيل مع ذلك بأنه مقتض لما يقتضيه كمشيئته وقدرته كما هو قول المسلمين وجماهير العقلاء
فيقال : إذا قدر أنه قادر مختار وهو يحدث الحوادث مع جواز أن لا تكون مشيئته وقدرته مستلزمة لحدوثها فلان يحدثها مع كون مشيئته وقدرته مستلزمة لها أولى وأحرى وحينئذ فيحدث مع وجوب حدوثها بقدرته ومشيئته
ولا يمكنهم أن يقولوا : القدرة والمشيئة لا تخص وقتا دون وقت لأن هذا ينقض قولهم فإنهم يقولون : إنه لمجرد قدرته يخص بعض الأحوال دون بعض
ولو قال قائل : ذلك من غيرهم لقيل له : تخصيص القدرة والمشيئة للحوادث بحال دون حال هو بحسب ما يعلمه من الأسباب المقتضية للتخصيص
وغاية ذلك أن يستلزم أن تقوم بذاته أسباب تقتضي التخصيص متعلقة بمشيئته وقدرته أو يقال : إن هذا يستلزم ما لا نهاية له على سبيل التعاقب ونحو ذلك من المقامات المعروفة التي لا يوردها أحد إلا وهو يلزمه بترك التزامها من التناقض أعظم مما يلزم به منازعه وأما منازعه فيمكنه التزامها ولا يتناقض قوله : لا عقلا ولا شرعا
ولكن من حسن المناظرة والتعليم أن يبين لمن يرد قولا ما يلزمه هو على تقديره رده ومن أراد تصحيح الحق بقول باطل يمكن استغناؤه عن ذلك القول وأن الحق يمكن تصحيحه بدونه وأنه إذا صححه بذلك الطريق كان ما يلزمه من اللوازم التي تناقض قوله وتفسده أعظم مما يلزمه إذا أعرض عن ذلك
وبهذا وأمثاله يتبين أنه لم يسلك أحد طريقا مخالفة للسنة في إثبات شيء من اصول الإيمان إلا والله قد أغنى عنها بما هو سليم من عيوبها وأن تلك الطريق وإن غمض على أكثر الناس معرفة فسادها لدقته فلا يخفى عليهم إمكان الاستغناء عنها
ونحن كثيرا ما نقصد بيان أن الطرق التي خالفها سالكها شيئا من النصوص غير محتاج إليها بل مستغن عنها ليتبين أن العلم بصدق الرسول وصحة ما جاء به من الكتاب والسنة ليس موقوفا على شيء من الطرق التي تناقض شيئا مما جاء به مع أنا نبين أيضا أن تلك الطرق فاسدة لكن بيان الاستغناء عنها في مقام وبيان فسادها في مقام
وأهل البدع يدعون الحاجة إليها أولا ثم يعارضون بها النصوص ثانيا فنحن نبين الغنى عنها ثم نبين فسادها ثانيا ثم نبين ثالثا أن الطرق العقلية الصحيحة وهي الأدلة السمعية متلازمان فيلزم من صحة أحدهما صحة الآخر
وهذا قدر زائد على عدم تنافيها وعدم تنافيها وحده كاف في بطلان قول من يزعم تنافيهما
وأيضا فلو قدر أن فيها ما ينافي السمع فذلك المنافي ليس هو الأدلة العقلية التي بها نعلم صحة السمع
وذلك كله مما تبين به بطلان قول من يقول : إن تقديم الكتاب والسنة على ما يعارض ذلك يستلزم قدح الشرع في أصله
وطريقة القاضي أبي بكر وأمثاله ليس فيها هذا التقسيم الذي ذكره أبو الحسين بل ذكر أولا أن تخصيص المحدث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص وأن ما قدم من الحوادث وأخر لا بد له من مقدم ومؤخر من غير أن يحتاج أن يقول : إن الحدوث : إما أن يكون واجبا وإما أن يكون غير واجب وهذا أصح وأقرب وأبين
ثم أن طريقة أبي الحسن الأشعري التي في اللمع خير من طريقة القاضي فإنه بناها على أن المحدث لا بد له من محدث ولم يحتج أن يستدل على ذلك بأن الحدوث تخصيص بوقت دون وقت والتخصيص لا بد له من مخصص فإن هذا وإن كان صحيحا فالعلم بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأقوى من هذا
وكل ما يذكر في تخصيص أحد الوقتين أو تخصيصه بصفة دون صفة هو موجود في نفس الحدوث فإن تخصيص هذا الحادث بالحدوث دون غيره من الممكنات لا بد له من مخصص ونفس الحدوث مستلزم للمحدث الفاعل ولو قدر أنه لم يحدث غيره ولا يمكن حدوث غيره وأنه ليس هناك حال أخرى تصلح للحدوث فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس
والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس حتى الصبيان حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه قال : من ضربني ؟ من ضربني ؟ وبكى حتى يعلم من ضربه وإذا قيل له : ما ضربك أحد أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد لم يقبل عقله ذلك وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال دون ما قبلها وما بعدها لا بد له من مخصص بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء وبيان ذاك بهذا من باب بيان الأجلى بالأخفى
ثم الطرق التي جاء بها القرآن خير من طريقة الأشعري وغيره فإن فيها إثبات الصانع بنفس ما يشاهده الناس من حدوث الأعيان المحدثة وحدوث الأعيان مشهود معلوم لا يحتاج أن يستدل على حدوثها بحدوث صفاتها وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
بل سالكو هذه السبيل ظنوا أن الأعيان لا تحدث وإنما تحدث صفاتها وأنهم لم يشهدوا حدوث جسم ولا جوهر قائم بنفسه وإنما شهدوا حدوث صفات الأجسام وأن الأجسام متماثلة مركبة من جواهر متماثلة وهي تنقلب فيها من وصف إلى وصف
قالوا : فهذا هو الذي يشهد حدوثه ثم بهذا يعلم حدوث ما قامت به هذه الحوادث فأنكروا ما يعلمه الناس بحسهم ومعاينتهم من حدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ثم احتاجوا مع ذلك إلى أن يثبتوا حدوث هذه الأعيان بالاستدلال الذي ذكروه من أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
وهذه الطريق يظهر الاستغناء عنه لكل أحد بما يشهده من حدوث الأعيان وأصحابها يسلمون الاستغناء عنها بما يشهدونه من حدوث الصفات كما ذكره الرازي وغيره وعلى التقديرين فقد ثبت الاستغناء عنها
فمن قال : إن العلم بإثبات الصانع وتصديق رسله موقوف عليها فقد ظهر خطؤه عقلا لكل أحد كما علم مخالفته لدين الإسلام بالضرورة
فإنه من المعلوم بالاضطرار : أن الرسول صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين ما دعوا أحدا من الناس إلى الإقرار بالخالق وبرسله بهذه الطريق ولا استدلوا على أحد بهذه الحجة بل ولا سلكوا هم في معرفتهم هذه الطريق ولا حصلوا العلم بهذا النوع من النظر والاستدلال المبتدع المحدث الذي قد أغنى الله عنه وظهر الغنى عنه لكل عاقل
ثم معرفة فساد هذه الطريق عقلا هو ألطف من العلم بالغنى عنها ولهذا يظهر الغنى عنها لخلق كثير قبل أن يظهر لهم فسادها
وقد ذكر من الكلام على مقدماتها وفسادها وطعن بعض أهلها في بعض وإفسادها لمقدماتها وبيان فسادها بصريح العقل في غير هذا الموضع ما ينبه على المقصود
والمقصود هنا : التنبيه على أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث والمفعول إلى الفاعل وهو من العلوم الضرورية البديهية وهو أظهر وأقوى مما استدل به عليه القاضي وأمثاله من كون تخصيص الحدوث بوقت دون وقت لا بد له من مخصص
وهذا الذي ذكره القاضي أبو بكر وأمثاله أظهر مما استدل عليه أبو الحسين وأمثاله من أن الحدوث : إما أن يكون على وجه الوجوب أو على وجه الجواز
وهذا الذي ذكره أبو الحسين وأتباعه من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه لولا المقتضى لحدثه أظهر مما ذكره ابن سينا و الرازي وأمثالهما من أن الجائز الممكن ليس وجوده أولى من عدمه ولا عدمه أولى من وجوده إلا لمرجح منفصل عنه
وطريق هؤلاء بعضها أصح وأقرب من طريق بعض
وقد ظهر بما ذكرنا فساد القاضي أبي بكر : أنه لم يخالف في أن افتقار المحدث إلى محدث مما لا يعلم بالاضطرار وإنما يتطرق إليه بالفحص والبحث إلا شرذمة لا يعتد بقولها ادعت في هذه المذهب البديهة


كلام الأشعري في اللمع عن إثبات وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
ثم يقال له : إن كان هذا حقا فالأشعري لم يذكر في اللمع دليلا على ذلك بل جعل ذلك مسلما وإنما أثبت حدوث الإنسان وأنه لم يحدث نفسه
ثم قال : ( فدل ما وصفناه على أنه ليس هو الذي نقل نفسه في هذه الأحوال وأن له ناقلا نقله من حال إلى حال ودبره على ما هو عليه لأنه لا يجوز انتقاله من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر )
فذكره هذه المقدمة مجردة عن الاستدلال فإن كان العالم انتقاله من حال إلى حال لا يعلم به أن له ناقلا مدبرا إلا بأدلة تذكر فهو لم يذكر تلك الأدلة بل ادعى دعوى نظرية تقبل النزاع بلا دليل
وحينئذ فيكون طعن من طعن المعتزلة في كلامه أوجه فإنه لم يقم دليلا : لا على حدوث الجسم ولا على أن المحدث لا بد له من محدث
ثم يقال : من العجائب أن يكون القول بأن العالم حدث من غير محدث أحدثه وأن بعض الحوادث حدث من غير محدث أحدثه قول قاله كثير من الفلاسفة والدهرية أو طائف من نظار المسلمين
وقول بأن العلم بأن الأفعال تتعلق بفاعل وأن المخلوقات تتعلق بفاعل وأن المخلوق تتعلق بخالق - علم ضروري إنما قاله شرذمة لا يعتد بقولها وأن الجميع من العقلاء إنما يعلم هذا بالفحص والبحث مع أنه لا يعلم أن أحدا من المشهورين بالعلم طلب على هذا دليلا ولم يذكر عن أحد من الكفار مطالبة أحد من المؤمنين بدليل على هذا ولا في كتاب الله وسنة ورسوله ولا كلام أحد من السلف والأئمة ذكر حاجة هذا إلى الاستدلال أو الاستدلال عليه بما ذكرتموه : من أن ذلك يتضمن التقدم والتأخر فلا بد به من مرجح


فصل
ومن هنا يظهر الوجه الثاني الذي تبين به أن ما ذكره الأشعري لا يحتاج إلىما ذكره القاضي
وذلك أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث هو أبده للعقل وأرسخ في القلب وأظهر عند الخاصة والعامة مما قرره به وهو أن ذلك يتضمن تخصيص بعض الأزمان بالحدوث دون بعض والتخصيص لا بد له من مخصص
فالأول : إن لم يكن أقوى منه وأجلى فليس هو دونه وغاية هذا الثاني أن يكون مثله أو داخلا في أفراده
لا سيما على أصل القاضي وموافقيه من المعتزلة والأشعرية فإنهم يجوزون اختصاص بعض الأزمنة بالحوادث دون بعض بدون سبب اقتضى ذلك التخصيص وإذا أضافوا التخصيص إلى المشيئة القديمة فنسبة المشيئة إلى جميع الحوادث والأزمنة سواء
وإذا كانت النسبة مستوية فثبوت هذه النسبة مع أحد المتماثلين دون الآخر تخصيص بلا مخصص
وإذا قالوا : الإرادة لذاتها تخصص مثلا عن مثل بلا سبب مع تضمن ذلك ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح أصلا أمكن منازعهم أن يقول بتخصيص أحد الزمانين المتماثلين بالحوادث دون الآخر بلا مخصص أصلا وقال : من شأن الأوقات التخيصص بلا مخصص
وإذا قالت المعتزلة : القادر المختار يرجح أحد مقدورية على الآخر بلا مرجح كان ما يلزمهم كما يلزم أولئك وأشد
فمن كانت هذه الأقوال أقواله وكان غاية ما يثبت به الصانع وافتقار المحدث إلى محدث : أن الحوادث مختصة بزمان دون زمان فلا بد للتخصيص من مخصص وأن التخصيص بلا مخصص ممتنع ويجعل ذلك بديهيا ضروريا
كيف يمكنه أن يقول : إن وجود الحوادث بلا محدث والفعل بلا فاعل والصنعة بلا صانع ليس امتناعه بديهيا ضروريا ؟
فمن جعل العلوم البديهية الضرورية ليست بديهية ضرورية وجعل ما هو دونها بديهيا ضروريا تناقضت أقواله وكان فيها من مخالفة العقل والسمع ما لا يحصيه إلا الله
وهذا بخلاف الطرق المذكورة في القرآن فإنها في غاية السداد والاستقامة
ومن أقرب ذلك أن إثبات الفاعل مبني على مقدمتين ضروريتين : أحداهما : أن الإنسان محدث والثانية : أن المحدث لا بد له من محدث
فأبو الحسن - مع جماهير العقلاء - جعولوا المقدمة الثانية ضرورية بخلاف ما ذكره القاضي ومن وافقه حيث أثبتوا بما هي أقوى منه وأجلى
وإن كانت هذه الطرق الخفية البعيدة وأمثالها ينتفع بها في حق من لم ينفذ للطرق الجلية القريبة أوعرضت له فيها شبهة كما تقدم
وأما المقدمة الأولى : وهو أن الإنسان والثمار والمطر والسحاب ونحو ذلك محدث فهذه مقدمة معلومة بالمشاهدة والضرورة فإن حدوث الحوادث مشهود
ثم من قال من أهل الجوهر الفرد والهيولى : إن الحادث إنما هو صفات الأجسام لا أعيانها أو صورتها لا مادتها أمكنهم إثبات المحدث بناء على ذلك وهذه الطريقة التي ذكرها الرازي وغيره وهي الاستدلال بحدوث صفات الأجسام
وأما من أنكر ذلك وهم جمهور العقلاء فإن الحادث عندهم هو نفس الأعيان المحسوسة و أبو الحسن ممن يثبت الجوهر الفرد ولم يكتف بالاستدلال على حدوث الصفات بل أراد إثبات حدوث نفس النطفة فأثبت ذلك بطريقة استلزامها للحوادث وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث وهي الطريقة التي سلكتها المعتزلة في حدوث الأجسام ابتداء وعلى هذه الطريقة فحدوث الإنسان نظري لا ضروري
وإذا ضم إلى ذلك أن العلم بافتقار المحدث إلى المحدث نظري كما قاله من قاله من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأتباعه - صار كل من المقدمتين في إثبات الصانع نظريا
وهذا أضعف هذه الطرق وأطولها لكن مبناها على أن التخصيص الحادث لا بد له من مخصص وهذا عند هؤلاء ضروري كافتقار الممكن إلى الواجب
ثم الذي سلكوا طريقة ابن سينا جعلوا هذا نظريا وأثبتوا منع التسلسل بطريقة ابن سينا وهي أقرب مما بعده
فجاء من بعدهم ك الرازي ضم إلى ذلك نفي الدور أيضا ثم هو و الآمدي ونحوهما أثبتوا بطلان التسلسل بطرق طويلة واستصعب ذلك على الآمدي حتى قال : إنه عاجز عن تمشيها وحل مايرد عليها كما ذكرناه
ولا ريب أن تمشيها مع تفسيرهم الممكن بالتفسير الذي أحدثه ابن سينا ممتنع وأما تمشيتها إذا جعل الممكن هو الذي يوجد تارة ويعدم أخرة فهو سهل متيسر معلوم ببدائه العقول
فانظر من عدل عن الطرق المستقيمة شرعا وعقلا كلما أمعن في العدول أمعن في البعد عن الحق وتطويل الطريق وتصعيبها حتى آل الأمر بهم إلى الجهل العظيم وإلى العجز عن الاستدلال على ما هو أعظم الأشياء ثبوتا ووجودا وأكثرها وأقواها أدلة وأولاها بالعلم من كل معلوم وأحقها بأن يكون مستقرا في الفطرة دائم الحصول في القلوب حاصلا بأكمل الأسباب التي يمكن بها حصول العلم
والمقصود هنا الكلام على الطريقة التي ذكرها أبو الحسن وأنها أقرب وأصح من الطريقة التي سلكها من سلكها من المعتزلة ومن وافقهم ك القاضي أبي بكر وأمثاله وأنها طريقة صحيحة لم ينازع فيها طائفة مشهورة إذا اكتفي فيها بحدوث ما يعلم حدوثه كالإنسان والنبات وغيرهما من الحوادث وأما إذا احتيج فيها إلى إثبات حدوث الأجسام كلها بطريقة الأعراض أو قيل : إن حدوث الإنسان ونحوه لا يثبت إلا بمثل تلك الطريق كان المنازع في صحة هذه الطريق جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وكان هذا من الكلام الذي ذمه السلف والائمة
فالمخالفون للطرق الفطرية العقلية الشرعية القريبة الصحيحة كلما أبعدوا عنها مدحوا من يوافقهم في البعد ولهذا عكس هؤلاء الكلام على المقدمتين فأخذوا يوافقون أبا الحسن على المقدمة المبتدعة الباطلة ويذمونه أو يعتذرون عنه على المقدمة البديهة الصحيحة الشرعية


تابع كلام الأشعري في اللمع
قال أبو الحسن : ( فإن قال قائل : ما أنكرتم من أن تكون النطفة قديمة لم تزل ؟ قيل له : لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير لأن القديم لا يجوز انقلابه وتغييره وأن يجري عليه سمات الحدث لأن ما جرى عليه ذلك ولزمته الصنعة لم ينفك عن سمات الحدث وما لم يسبق المحدث كان محدثا مصنوعا فبطل لذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام )


كلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر : ( اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث سائر الأجسام وذلك أن الذي عناه بقوله : لو كانت قديمة لم يلحقها الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغير وخروجها من صفة كانت عليها إلى صفة لم تكن عليها كنحو خروجها عن السكون إلى الحركة وعن الحركة إلى السكون وكاستصلابها بعد لينها وافتراقها بعد اجتماعها وما يلحقها من تعاقب الأكوان وغير ذلك من التغيرات لأن القديم الحاصل على صفة من الصفات لا يجوز خروجه عنها على ماذكره أصلا وذلك أن القديم إذا لم يزل مجتمعا مثلا أو مفتقرا أومتحركا أو ساكنا أو على بعض هذه الصفات لم يجز خروجه عنه لأنه لايخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله : لنفسه أو لعلة أولا لنفسه ولا لعلة أن لبطلان نفسه أو لبطلان معنى فيستحيل أن يكون على ما هو عليه لا لنفسه ولا لمعنى لأن هذا يوجب خروج الإثبات عن تعلقه بمثبت والخبر عن تعلقه بمخبر وغير ذلك من وجوه الفساد ويستحيل أن يكون ما هو عليه لبطلان نفسه - وعدمها لأن المعدوم ليس بشيء يحصل على صفة من الصفات ولأنه ليس عدم نفسه - إن جاز عدمها - بأن يكون تحصيله ساكنا أولى من تحصيله له متحركا ويستحيل أن يكون ذلك لبطلان معنى كان موجودا به لأن القديم لا يجوز عدمه ولأنه ليس بأن يكون متحركا لعدم سكونه أولى من غيره ممن يصح أن يكون متحركا
وهذا يوجب أن يكون الجسم إنما تحرك لعدم سكونه إلى محاذاة بعينها ولو كان ذلك كذلك لم يكن تحركه لعدم ذلك السكون إلى تلك المحاذاة بعينها أولى من تحركه إلى غيرها من الجهات وإلىما هو أبعد منها
وفي تحركه إلى جهة مخصوصة ومحاذاة معينة - دليل على أن ذلك إنما وجب له لمعنى سوى عدم سكونه ولأنه ليس بأن يتحرك هو لأجل عدم السكون أولى من غيره من الأجسام لأن عدم السكون ليس هو بأكثر من خلوه منه وأنه ليس فيه وغيره من الأجسام حال من ذلك السكون أيضا فكيف صار خلوه منه يوجب له التحرك أولى من كل من خلا من الأجسام ؟ وفي فساد ذلك : دليل على أنه لا يجوز أن يكون المتحرك تحرك لعدم معنى
وجملة هذا أن القديم لا يجوز عدمه ولا يجوز لمثل ذلك أن يكون القديم إنما يتحرك فيما لم يزل لعدم نفسه ولا لعدم معنى قديم
فلم يبق إلا وجهان : أحدهما : أن يكون فيما لم يزل على ما هو عليه لنفسه أو لمعنى قديم فإن كان لم يزل ساكنا لنفسه استحال تحركه بعد سكونه لوجود نفسه في كلا الحالين ويستحيل خروج الشيء عن الوصف المستحق لنفسه مع وجود نفسه التي بها كان كذلك
وإن كان لم يزل ساكنا لأجل معنى قديم استحال أن يتحرك إلا عند عدم سكونه القديم وإلا وجب تحركه وسكونه معا فإذا استحال ذلك واستحال عدم سكونه إذا كان قديما واستحال أن يخرج القديم عن الصفة التي هو فيها لم يزل عليها لم يجز أن يلحقه - لما وصفناه - وانقلاب ولا تغيير ولا اعتمال ولا تأثير فصح ما قاله شيخنا أبو الحسن من هذا الوجه )


تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الكلام مضمونه أن ما به يعلم حدوث النطفة به يعلم حدوث سائر الأجسام وأن المنكر لحدوث سائر الأجسام يمكنه إنكار حدوث النطفة
وليس الأمر كذلك بل حدوث الحيوان والنبات والمعدن ونحوذلك وحدوث أوائل ذلك كالنطفة والبيضة وطاقة الزرع ونحو ذلك - أمر مشهود معلوم بالحس والضرورة واتفاق العقلاء وهذا بخلاف الفلك فإنه ليس شهود حدوثه كشهود حدوث الحيوان والنبات والمعدن
وكذلك من ينازعهم في الواجب وفي تسميته جسما : كالهاشمية والكرامية وغيرهم أو من لا يطلق الاسم ولكن يقولون له : ما أثبته نسميه نحن جسما أو يجب أن يكون جسما كما يعلم حدوث هذه الحوادث المشهودة
فإن قال بهذا فالمفرق يقول : حدوث النطفة مشهود معلوم مسلم وكذلك حدوث ما أشبهها
وأما حدوث كل ماسميته جسما فإنما أثبته بما ذكرته من الدليل وهو ضعيف على ما سنذكره
فإن قال : أعني بالنزاع في حدوث النطفة النزاع في حدوث الجواهر المفردة التي منها تركبت النطفة وتألفت أو في حدوث مادتها التي لبستها صورة النطفة
قيل له : الجواب من طريقتين :
أحدهما : أن يقال : هذا لا حاجة لك به
الثاني : أن يقال : ما ذكرته ليس بصحيح
فأما الطريق الأول ففيه وجوه
أحدها : أن العلم بحدوث ما يحدث والاستدلال به على ثبوت الصانع ليس مفتقرا إلى أن يعلم : هل في النطفة جواهر منفردة أو مادة ؟ وهل ذلك قديم أو حادث ؟ بل مجرد حدوث ما شهد حدوثه يدل على أن له محدثا كما يدل حدوث سائر الحوادث على أن لها محدثا
وإن قال : فقصدي تعميم حدوث سائر الأجسام
قيل له : فحينئذ لم يكن بك حاجة إلى ذكر حدوث الإنسان وحده من النطفة بل كان هذا تطويلا إذ كان ما به بثبت حدوث النطفة به يثبت حدوث الإنسان ابتداء
وحينئذ فيكون كلام الأشعري كلام من لا يعرف الاستدلال والنظر كما قاله من اعترض عليه من المعتزلة فإنه إذا كان لا بد في الاستدلال بالأجسام المخصوصة في آخر الأمر من دليل يتناول جميع الأجسام كان ذكر هذا ابتداء أولى من التطويل لا سيما في مثل المختصر الذي يطلب فيه التقريب والتسهيل
وأيضا فإن العلم بحدوث الحوادث المشهودة أظهر وأبين من العلم بحدوث جميع الأجسام وذلك كاف في إثبات العلم بالصانع فلماذا تجعل موقوفة على مقدمات لو كانت صحيحة كان فيها من التطويل والغموض ما يوجب هذا كثيرا : إما عدم العلم أو حصول ضده من اعتقاد الباطل فيكون ما جعل طريقا إلى العلم والإيمان موجبا لضده من الجهل والكفر
والوجه الثاني : أن يقال : فحينئذ يكون الشك في حدوث الحيوان والنبات ونحو ذلك مبينا على كونها مركبة من الجواهر المنفردة أو المادة والصورة وإمكان قدم الجواهر المنفردة أو المادة ومعلوم أن هذا لو كان صحيحا لكان من الدقيق الذي يحتاج إلى بيان وهم لم يبنوا ذلك
ومن المعلوم أن هذا موضع اضطراب فيه أهل الكلام والفلسفة اضطرابا لا يتسع هذا الموضع لاستقصائه :
فقالت طائفة : إن الأجسام مركبة من أجزاء لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية
وقالت طائفة : بل فيها أجزاء لا نهاية لها وهوالمذكور عن النظام وعليه انبنى القول بطفرة النظام ولهذا يقال : ثلاثة لا يعلم لها حقيقة : طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري
وقالت طائفة : بل هي مركبة من المادة والصورة وهي تقبل الانقسام إلى غير نهاية لكن ليس فيها أجزاء لا نهاية لها
وقالت طائفة : ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا بل تقبل التجزؤ إلى أجزاء لا تتجزأ
وقالت طائفة : ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا ولا تتجزأ إلى غير غاية بل إذا صغرت الأجزاء انقلبت إلى أجسام أخر مع كونها في نفسها يتميز منها جانب عن جانب
فهؤلاء لا يقولون بقبول الانقسام إلى غير نهاية ولا بوجود ما لا يقبل الانقسام بل كل ما وجد يقبل الانقسام لكنه يستحيل إلى جسم آخر في حال تميز جانب منه عن جانب فلا يوجد فيه انقسام إلى غير نهاية وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع
وأذكياء المتأخرين : مثل أبي الحسين البصري و أبي المعالي الجويني و أبي عبد الله الرازي : كانوا متوقفين في آخر أمرهم في إثبات الجوهر الفرد فإذا كان الأمر هكذا لم يمكن أحدا أن يطالب بدليل على حدوث الحيوان باعتبار تركبه من الجواهر أو المادة والصورة حتى يثبت ذلك أولا
ومن المعلوم لكل عاقل أن علم الناس بحدوث ما يشهدون حدوثه من الأجسام ليس موقوفا على العلم بأنها مركبة هذا التركيب الذي كلت فيه أذهان هؤلاء الأذكياء
الوجه الثالث : أن يقال : حدوث مايشهد حدوثه من الثمار والزروع والحيوان وغير ذلك أمر مشهود فإن الإنسان إذا تأمل خشب الشجرة وما يخرجه الله منها من الأنوار والثمار وما يخرجه من الأرض من الزروع وما يخرجه من الحيوان من النطفة والبيض - أيقن بحدوث هذه الأعيان
فإذا قيل له : هذا لم يحدث ولكن كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وجعل لها صفة غير تلك الصفة
قال : أما ما تغيرت صفاته كتغير الأبيض إلى السواد والساكن إلى الحركة والحامض إلى الحلاوة والمفرق إلى الاجتماع وتغير الجسم من شكل إلى شكل كتغير الشمعة والفضة ونحو ذلك من صورة إلى صورة - فهذا كله وما يشبهه يشهد فيه أن العين باقية وإنما تغيرت صفاتها التي هي : الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والألوان والطعوم والأشكال بخلاف الثمرة التي تخرج من الشجرة والجنين الذي يخرج من بطن أمه والفروج الذي يخرج من البيضة فإن عاقلا لا يقول : إن نفس الرطبة فها جرم الخشب باقيا ولا أجزاء الجنين كعظمه وبصره فيه أجزاء النطفة باقية ولا نفس الفروج فيه بياض البيض باقيا
ومن قال : إن هذا باق في هذا كما أن الجسم الذي اسود بعد بياضه وحلا بعض حموضته وصار مدورا بعد أن كان مسطحا باق - فهو لا يتصور ما يقول أو هو معاند مسفسط فالأمر ينتهي إلى عدم التصور التام أو العناد المحض وهذا أصل كل ضلال وهو الجهل أو العناد والعناد وصف المغضوب عليهم والجهل وصف الضالين
والفرق بين استحالة العين وبين تبدل الصفات معلوم للعامة والخاصة وقد ذكر الفقهاء ذلك في غير موضع
ثم كلامهم في النجاسة إذا استحالت مثل أن تصير رمادا أو ملحا ونحو ذلك ومثل كلامهم في باب الأيمان : فيما إذا حلف على فعل في جسم معين فتغير ذلك الجسم المعين فإن كان التغيير لم يزل الاسم فاليمين باقية بلا نزاع بينهم كما لو حلف لا يكلم هذا الرجل فمرض أو صار شيخا أو لا يأكل هذه الخبز فصار كسرا ونحوذلك
وإن كانت قد استحالت أجزاؤه تغير اسمه : مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فروجا أولا أكلت هذه الحنطة فصارت زرعا
قالوا : فهنا لا يحنث لأنه زال اسمه وزالت أجزاؤه
وإن تغيرت الصفة مع زوال الاسم : كما إذا حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخا أولا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشا - فإنه يحنث عند جمهورهم : كأبي حنيفة و مالك و أحمد في المشهور من مذهبه وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وكذلك لو حلف لا أكلت من هذا الرطب فصار تمرا
وتنازعوا فيما إذا أكل مما يصنع من الرطب والعنب من الدبس والخل فمنهم من قال : يحنث وهو مذهب مالك وهو المشهور من مذهب أحمد ومنهم من قال : لا يحنث كما هو مذهب أبي حنيفة و الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد قالوا : لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما في مسألة البيضة والفروج
فقال لهم الأولون : عين المحلوف عليه باقية فصار كمسألة الحمل بخلاف البيضة إذا صارت فرخا فإن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم يبق عينها
مع أن في هذه المسائل كلاما ليس هذا موضعه إذ كان منهم من يرى اليمين باقية مع استحالة العين لأجل التغيير ومنهم من يرى أنه بمجرد زوال الاسم تزول اليمين
ولكن المقصود هنا أنه من المستقر في عقول الناس الفرق بين استحالة الأعيان وانقلابها وبين تغير صفاتها مع بقاء عينها وذاتها ولهذا اتفقوا كلهم على أن العين الخبيثة لا تطهر بمجرد تغير الصفة فالدم والميتة ولحم الخنزير والخمر : إذا تغيرت صفاته مثل أن يجمد الدم والخمر أو يسيل شحم الميتة والخنزير ونحو ذلك فإنه لا يزول التحريم باتفاقهم
وأما إذا استحالت العين : مثل أن يصير ذلك ملحا أو رمادا أو نحو ذلك ففيه نزاع مشهور والجمهور على أنه يطهر بالاستحالة كما هو مذهب أكثر أهل الرأي وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك و أحمد واتفقوا على أن الخمر المنقلبة بفعل الله تعالى خلا أنها تطهر
وأما الطريق الثاني : وهو بيان أن ما ذكره ليس بدليل صحيح على حدوث الأجسام - فإن المعترض يقول : قوله : ( إن القديم إذا حصل على صفة من صفات لم يجز خروجه عنها ) كلام مجمل قد يراد به أنه إذا حصل على صفة لازمة لذاته لم يجز خروجه عنها وقد يريد له إذا حصل على حال عارضة له سواء كان نوعها لازما له أولم يكن لازما لذاته مثل الفعل والعمل سواء سمي حركة أو لم يسم : كالإتيان والمجيء والنزول والمناداة والمناجاة وأمثال ذلك مما تنازع فيه الناس : هل يقوم بالقديم أم لا ؟
فجمهور أهل السنة والحديث المتبعون للسلف والأئمة من السلف والخلف مع كثير من طوائف الكلام وأكثر الفلاسفة : يجوزون أن يقوم بالقديم ما يتعلق بمشئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال فيقول هؤلاء : قول القائل : أن القديم الحاصل على صفة لا يجوز خروجه عنها إن إراد به مواقع الإجماع : مثل صفات الكمال اللازمة لذات الله أو نوع الصفات الازم لذات الله تعالى فهذا لا نزاع فيه
وإن أراد به أعيان الحوادث فما الدليل على أن القديم إذا قام به حال من غير هذه الأحوال المعينة لم يجز خروجه عنها ؟
وأما استدلال المستدل بقوله : لا يخلو أن يكون على ما هو عليه في أزله لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
فيقال لك : ذلك الأمر الذي قام هو به هو معنى من المعاني ؟ فإن جعلت الموجب لذلك المعنى أمرا آخر - على قول مثبتي الأحوال القائلين : بأن كونه عالما ومتحركا معنى أوجبه العلم والحركة - خوطبت على هذا الاصطلاح وقيل لك : قام به ذلك لمعنى
قوله : وإذا كان لمعنى استحال أن يزول إلا عند عدم ذلك المعنى والقديم يستحيل عدمه
يقال له : قول القائل : القديم يستحيل عدمه لفظ مجمل أتريد به : أن العين القديمة أو صفتها اللازمة لها يستحيل عدمه أو النوع الذي لا يزال يستحيل عدمه ؟ فإن أراد شيئا من هذه المعاني لم يكن له فيه حجة وإن أراد أن النوع القديم يستحيل عدم فرد من أفراده المتعاقبة فهذا محل نزاع ولا دليل على امتناع عدمه ولم يعدم القديم هنا بل النوع القديم لم يزل ولكن عدم فرد من أفراده بمعاقبة فرد آخر له كالأفعال المتعاقبة شيئا بعد شيء
فإذا كان القائم بالقديم نوع لم يزل مع تعاقب أفراده لم يكن قد عدم النوع بل كان الكلام في كونه أزليا كالكلام في كونه أبديا وكما أنه لا يزال فلا يعدم النوع وإن عدم ما يعدم من أعيانه فكذلك القول في كونه لم يزل
وأيضا فيقال له : القديم إذا فعل بعد إن لم يكن فاعلا فكونه فعل أمر موجود أو معدوم ؟
فإن قال : إنه معدوم فهذا مكابرة للحس والعقل فإن الفعل إذا كان أمرا عدميا فلا فرق بين حال أن يفعل وحال ألا يفعل لأن العدم المحض لا يكون فعلا
وإذا لم يكن فرق بين الحالين وهو في حال ألا يفعل لا فعل فيجب في الحال التي زعم أنه فعل ألا يكون له فعل لتساوي الحالين فيجب ألا يفعل مع كونه فعل وهذا جمع بين النقيضين
وإن قال : كونه فعل أمر موجود فالقديم قبل أن يفعل كان على صفة فإما أن يتجدد ما يوجب خروجه عن تلك الصفة أو لا يتجدد فإن لم يتجدد وجب ألا يفعل وإن تجدد شيء انتقض قوله : إنه إذا كان على صفة من الصفات لم يجز خروجه عنها
فإن قيل : إنما أعني بالصفة المعنى القائم بذاته وذاك لم يزل
قيل : هب أنك عنيت هذا لكن دليلك يتناول هذا وغيره ويوجب أن الأمر القديم الأزلي لا يجوز تحوله من حال إلى حال بوجه من الوجوه لأن ما كان قديما كان لمعنى والقديم لا يزول
فالأمر المتجدد المتحول الحادث سواء سميته صفة أو حالا أو حادثا أو فعلا وسواء كان قائما به أو بغيره بموجب دليلك أنه لا يجوز بغير الأمور القديمة الأزلية فإن كان هذا حقا وجب ألا يحدث شيء من الحوادث فإن جوز أن تحدث عن قديم من غير حدوث أمر وجودي يكون شرطا في وجودها فقد جوز تغير الأمور الأزلية بلا سبب وإن قال : لا بد من تجدد أمر به يحصل حدوثها وإذا تجدد أمر فقد حصل تغير لم يكن في الأزل فانتقضت حجته
وإيضاح هذا أن يذكر نظير حجته فيقال له : القديم الذي لم يزل غير فاعل لا يجوز كونه فاعلا فإنه إذا كان غير فاعل فإما أن يكون ذلك لنفسه أو لعلة إلى آخر الكلام
وإن قال : فعله بعد أن لم يكن فاعلا ليس إلا مجرد وجود المفعولات والفعل حدوث نسبة وإضافة بينهما وهي عدمية
فيقال له : فالمتجدد القائم به يقال فيه كذلك ليس هو إلا مجرد وجود ذلك المتجدد وهو حدوث نسبة وإضافة عدمية والفعل حدوث نسبة وإضافة نسبة وإضافة بيهما وهي عدمية
فإن قال : هذا يلزم منه قيام المتجددات والحوادث به وهذا لا يجوز
قيل له : هذه مصادرة على المطلوب فإنك أنت لم تقم دليلا على أن القديم لا تقوم المتجددات والحوادث به بل ما ذكرته هو الدليل على ذلك فإن كان استدلالك على هذا لا يتم إلا بأن تجعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه لم يكن لك عليه دليل إلا مجرد الدعوى وصار هذا بمنزلة أن يقول القائل : القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة لأن القديم لا تقوم به الأحوال المتجددة
وإذا كان العلم بالصانع موقوفا على هذا الدليل لم يكن هناك علم بالصانع بل صار حقيقة الكلام : الدليل على ثبوت الصانع حدوث النطفة وغيرها من الأجسام والدليل على حدوث ذلك أنه تقوم به المتجددات والحوادث وما قام به المتجددات والحوادث كان حادثا لأن ما قام به المتجددات والحوادث كان جادثا
فيكون منتهى الكلام : مجرد الدعوى التي نوزع فيها والاستدلال عليها بنفسها مع ترك الدليل الواضح البين الذي يشهد به الحس ويعلمه الخلق ولا ينازع فيه عاقل - وهو حدوث المحدثات التي يشهد حدوثها ثم افتقار المحدثات إلى فاعل ليس بمحدث بل قديم - من الأمور المعلولة بالضرورة لعامة العقلاء لا ينازع فيه إلا من هو من شر الناس سفسطة
فهذا وأمثاله مما يقوله جمهور الأنام في مثل هذا المقام ويقولون : إنا نعلم بالاضطرار : أن ما ذكره الله تعالى في القرآن ليس فيه إثبات الصانع بهذه الطريق بل ما في القرآن من الإخبار عن الله بما أخبر عنه من أفعاله وأحواله يناقض هذه الطريق ويقولون : إن العقل الصريح مطابق لما في القرآن فإن حدوث المحدثات مشاهد معلوم بالحس والعقل وكون المحدث لا بد لهم من محدث أمر يعلم بصريح العقل وأيضا فحدوث الحادث بدون سبب حادث ممتنع في العقل


عود لكلام الباقلاني في شرح اللمع
قال القاضي أبو بكر : ( وأما قول أبي الحسن : إن الانقلاب والتغير والاعتمال والتأثير من سمات الدحث وما لم يسبق المحدثات كان محدثا مثلها - ففيه وجهان من الكلام :
أحدهما : أن نقول : إن التغييرات من سمات الحدوث بدلالة أن التغير هو خروج الشيء من صفة إلى صفة - فلا يخلو إما أن يكون خروجا من صفة قدم إلى صفة قدم أو من صفة حدث إلى صفة حدث أو من صفة قدم إلى صفة حدث أو من صفة حدث إلى صفة قدم
والأول باطل لوجهين :
أحدهما : أن المنتقل انتقل إلى أمر مستأنف لم يكن عليه وذلك لا يكون قديما الثاني : أن ذلك يقتضي عدم القديم كما تقدم والقديم لا يجوز عدمه )
قال : ( ويستحيل أن يكون التغيير خروجا من حال حدث لأن ذلك لا يثبت إلا بأحد وجهين :
إما بحدوث تغيير القديم أو ببطلان معنى منه قد ثبت قدمه ووجوب حدوث ما اكتسبه وصفا بعد أن لم يكن مستحقا له وما قبل الحوادث لم يخل منها أو من أضدادها وما لم يوجد قبل أول الحوادث ولم يعر منها كان محدثا مثلها )
قال : ( ولا خلاف بيننا وبينهم - يعني المعتزلة - في هذا القسم لنطنب فيه )
وقال : ( وأما الوجه الآخر : فهو أن نقول : إنما أراد بقوله : إنها من سمات الحدث ودلائلة - إنها إذا ثبت حدوثها وأن الجسم لم يخل منها ولم يوجد قبل أولها : وجب له من الحدث ما وجب لها إذ لا يخلو أن يكون وجد مع وجودها أو بعد وجودها إذ قد فسد أن يكون موجودا قبلها
فإن كان وجد مع وجودها وجب له من الحدث ما وجب لها وإن كان وجد بعد وجودها كان أولى بالحدوث لأن ما وجد بعد المحدث كان أولى أن يكون محدثا )
قال القاضي أبو بكر : ( واعلم أن هذا الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة وسلك فيها هذا الضرب من الاستدلال - فلا بد فيه من مقدمات أربع :
أولها : الدلالة على إثبات الأعراض
والثانية : الدلالة على حدوثها وأن لها أولا تنتهي إليه
والثالثة : أن الجسم لا يخلو منها ولا يوجد قبل أولها
والرابعة : أن ما لم يسبق المحدثات فواجب أن يكون محدثا مثلها )
ثم تكلم على إثبات هذه المقدمات بالكلام المعروف فهم في ذلك
ولما قيل له : لم قلتم : إن الجسم لا ينفك من هذه الحوادث ولا يوجد قبل أولها ؟
قال : ( لأدلة منها : أنا نعلم بالاضطرار وببدائه العقول ومقدماتها : أن الأجسام إذا كانت موجودة فلا تخلو من الاجتماع والافتراق وذلك لأنها لا تعدو إذا كانت موجودات من أن تكون متماسة متلاصة كل شيء منها إلى جنب صاحبه أوتكون متباينة متباعدة كل شيء منها لا إلى جنب صاحبه وليس بين هذين منزلة
فإن كانت متماسة فذلك معنى الاجتماع وإن كانت متباينة فذلك هو معنى الافتراق )
قال : ( ومما يبين ذلك أيضا : أنا لوجاز لنا وجود جسم خاليا من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والحياة والموت والسواد والبياض غيرهما من الألوان ومن سائر الهيئات لم يجد إلى ذلك سبيلا ولكان ذلك ممتنعا لأنا وجدنا هذه الأعراض متعاقبة عن الأجسام وتفسير التعاقب : أن الشيء منها يوجد بعقب غيره )


تعليق ابن تيمية
قلت : أما الاجتماع والافتراق : فإذا قدر وجود جسمين فلا بد من يجتمعا أو يفترقا وأما الجسم الواحد الذي ليس معه غيره فلا يوصف بمجامعة غيره ولا مفارقته
وإنما يصفه بالاجتماع والافتراق من يقول : بأنه مركب من الأجزاء المفردة فيقول : تلك الأجزاء إما مجتمعة وإما مفترقة وهذا ليس معلوما بالبديهة ولا الحس ولا يسلمه جمهور الناس
وأما الحياة والموت : فقد ينازعه من ينازعه من النظار في ذلك فإن نظار المسلمين وغيرهم متنازعون في الموت : هل هو وجودي أو عدمي ؟
ثم من قال : إنه عدمي يقول كثير منهم : إن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة
وما لا يقبل الحياة والموت كالجماد لا يوصف بواحد منهما
لكن القاضي وجمهور الناس يردون على هؤلاء : بأنه هذا اصطلاح منكم لا يلزمنا
ويقولون : إنا نفسر الموت بما يكون النزاع معه لفظيا
ويقول القاضي وأكثر الناس : إن كل جسم فإنه يقبل الحياة
لكن الذي يقال له : الجسم لا يخلو من أن يكون حيا أو ميتا كما لا يخلو من أن يكون متحركا أو ساكنا واتصافه بالحياة لايستلزم إمكان اتصافه بالموت فإن القديم سبحانه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ولا يمكن اتصافه بضد ذلك
وحينئذ : فلا يمكن أن يقال : إن كل جسم يقبل الحياة والموت إلا بدليل يدل على ذلك والحياة لايجب أن تكون حادثة لا نوعا ولا شخصا كما قد يقال مثل ذلك في الحركة


تابع كلام الباقلاني وتعليق ابن تيمة عليه
ثم قال القاضي أبو بكر : ( فإن قال قائل : فما الدليل على أن لم يسبق المحدثات محدث وأنه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم متى لم يوجد قبل أول الحوادث ولم زعمتم ذلك ؟
قيل له : الدليل على هذا قريب واضح : وذلك أنه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة أحوال : إما أن يكون موجودا قبل أولها أو يكون موجودا مع وجودها أو يكون موجودا بعدها
فإذا بطل أن يكون الجسم عاريا عن الحوادث ومنفكا من سائرها - وجب أنه ليس له معها إلا حالان : إما أن يكون موجودا مع وجودها أو بعدها
فإن كان موجودا مع وجودها ولوجودها أول : فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول وحصوله عن عدم حكمها وذلك يوجب من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقا لها
وإن كان موجودا بعدها : كان أولى بالحدوث منها لوجوده بعدها )
فهذا منتهى كلام القاضي و أبي الحسن في إثبات الصانع وكلام أبي الحسن أجود فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة لم يحتج من ذلك إلى إثبات جنس الأعراض لكل جسم
وقول القاضي : إن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة فلا بد فيه من إثبات الأعراض أولا وعلى حدوثها ثانيا - فليس كما قال بل الأشعري عدل عن هذه الطريق قصدا كما ذكره في رسالة الثغر وذم هذه الطريق وعابها
وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها أمر مشهود محسوس لا ينازع فيه عاقل سليم سواء سمي ذلك تحول عرضا أولم يسم وسواء قيل : إن ذلك العرض مغاير للجسم أوقيل ليس بمغاير له وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج من ذلك إبطال كمون الأعراض ولا انتقالها
لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة : وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث بناء على أن ما قامت به لم ينفك عنها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور
وجمهور الناس من المسلمين واليهود النصاري والمجوس والصابئين والمشركين يخالفون في ذلك حتى جمهور الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون القائلون بقدم العالم وحدوثه يخالفون في ذلك
والجمهور القائلون بأن الله خلق السماوات والأرض بعد أن لم تكونا مخلوقتين لا يتوقف إثبات ذلك عندهم على هذه المقدمة بل ويقولون : إن إثبات خلقهما لا يثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة بل وكذلك القول بأن الله خالق كل شيء وأنه هو القديم وحده وما سواه محدث مسبوق بالعدم كما هو مذهب أهل الملل
وجمهور العقلاء يقول أئمتهم : إنها لا تحتاج إلى هذه المقدمة بل لا تثبت إلا مع نقيض هذه المقدمة ومع القول بإبطالها ويقولون : إن موجب هذه المقدمة أن كل موجود محدث وأنه ليس في الوجود قديم مع أن هذا معلوم الفساد بالضرورة
وأما الكلام في أن ما قبل الحوادث لم يخل منها ففيها نزاع مشهور بين أهل الكلام وذلك قوله : ما لم يسبق الحوادث فهو حادث فيها من منازعة أهل الحديث والكلام والفلسفة ما هو معروف
وقد يسلم هذه من ينازع في الأولى من الكرامية ونحوهم وقد ينازع في هذه من لا ينازع في الأولى من أهل الحديث والفلسفة والكلام وغيرهم
وهذه المقدمة هي التي جعلها الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم عليها من الأشعرية والكرامبة وأتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد - أصل الدين
ثم إن قدماءهم كانوا يأخذونها مسلمة ويظنونها ضرورية ولا يميزون بين ما لا يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة التي لها مبدأ وما لا يسبق جنس الحوادث
فإن ما لا يسبق الحادث المعين أو الحوادث المحددة التي لها مبدأ فهو محدث بالضرورة ولا ينازع في هذا عاقل
فإن ما كان عينه حادثا فما لم يكن قبله فإنه محدث مثله بالضرورة كما قرره لأنه إما بعده وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث بالضرورة
وأما ما لا يسبق جنس الحوادث وهو ما قدر أنه لم يزل يقارنها حادث بعد حادث وهلم جرا كما أنه يقارنه حادث بعد حادث وفان بعد فان في الأبد فيقدر ليس متقدما على جنس الحوادث ولا متأخرا عن جنس الحوادث والفانيات فهذا محل نزاع : نازعهم فيه جمهور الناس من أهل الملل والفلاسفة القائلين بحدوث العالم وبقدمه
وقد رأيت في كتب كثير من المتكلمين : من المعتزلة والأشعرية وغيرهم أنهم أخذوا هذه المقدمة مسلمة وجعلوها ضرورية واشتبه عليهم ما لم يسبق عين الحادث بما لم يسبق نوع الحادث
والأول ظاهر معلوم لكل احد
وأما الثاني فليس كذلك فصاروا ينتهون في أصل أصول دينهم الذي زعموا أنه ثابت بصريح المعقول وأنهم به عرفوا وجود الخالق وصدق رسله وأنه به يردون على من خالف الملة وبه خالفوا ما خالفوه من نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة وأهل الحديث إلى هذه المقدمة وهي لفظ مجمل فيه عموم وإطلاق أحد نوعيه بين
فإذا ذكروا ذلك النوع البين ظنوا أن المقدمة صارت معلومة ضرورية والمطلوب لا يتم إلا ببيان النوع الآخر وهم لم يبينوه
وهذا مما يبين للفاضل المعتبر كيف تدخل الشبهات والبدع على كثير من الناس وإن كانوا من أعقل الناس وأذكاهم وأفضلهم وإن كانوا لم يعتمدوا التلبيس لا على أنفسهم ولا على من يعلمونه ويخاطبونه لكن اشتبه الأمر عليهم فوقعوا في شبهات ظنوها بينات
وهذا مما يعتبر به المسلم فلا يعدل عن كلام الله وكلام رسوله المعصوم الذي عرف أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلى كلام من يروج عليهم مثل هذه الشبهات ويغرقون في مثل هذه المجملات ولا يتبين لهم ما فيها من فصل الخطاب والتقسيم المميز للصحيح من السقيم
ويعرف بهذا حذق السلف والأئمة الذين ذموا مثل هذا الكلام وجعلوه من الجهل الذي يستحق أهله العقوبة والانتقام
لكن هؤلاء ذكروا في موضع آخر الكلام مع من يدعي وجود ما لا يتناهى وبحثوا معه وإن كانوا لم يجعلوا ذلك من المقدمات التي لا بد منها في هذه المسألة
وقد ذكر القاضي أبو بكر بعد هذا فقال : ( فصل : فإن قال قائل من أهل الدهر الذاهبين إلى أنه : لا حركة إلا وقبلها حركة ولا حادث إلا وقبله حادث لا إلى غاية : فما أنكرتم من ألا تدل الحوادث على حدوث الجسم أصلا إذ كان لا أول لوجودها ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية ؟
يقال له : أنكرنا ذلك لأمور : أقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض وذلك أنه لا يخلو ما ما مضى من الحوادث وانقضى أن يكون محدثا موجودا عن أول وأن يكون الفعل والفراغ قد أتيا عليه أو أن يكون منها ما هو غير وجود عن أول ولا كائن عن حدوث
فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى عليه الفراغ - استحال قولكم : إنها لم تزل موجودات شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل موجودا فقديم غير مستفتح
وقولنا : إنها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول والجمع بين ذلك متناقض - محال
وإن كان فيما أوقعنا عليه هذه التسمية وهو قولنا : حوادث ما هو موجود لا عن أول وكائن عن عدم فالموجود لا بحدوث والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديما لا محالة كما أن الفلك عندكم وعناصر الأشياء - التي هي : الماء والأرض والنار والهواء - قديمة عندكم إذ كانت موجودة لا عن عدم وكانت لا بحدوث فواجب أن يكون الفلك قديما لا أول لوجوده
ولو أمكن أن يكون فيما أوقعنا عليه قولنا : حوادث ما هو كائن لا بحدوث موجود لا عن عدم وهو مع ذلك محدث في الحقيقة - لوجب أن يكون الفلك أيضا وهذه الأعراض موجودة لا بحدوث كائنا لا عن عدم وهو مع ذلك محدث غير قديم
وكذلك القول في سائر أجسام العالم المركبة من هذه الأصول ولو جاز ذلك جاز في جميع أجسام العالم فإن لم يجز هذا ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم الموجود بغير حدوث - وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم وما هو موجود فيها بغير حدوث
وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه لأن هذين الوصفين متناقضان
وإذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئا قبل شيء لا إلى أول
قال : ( وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة والقديم لا يكون محدثا ولا مجموعا من الحوادث لأن قولنا محدث جمع مبني من لفظ واحد ومن المحال أن يكون من جملة الحوادث
فوجب أن للحوادث كلا وجميعا وأن ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه وأن لم يسبقه ولم يكن قبله فواجب أن يكون محدثا مثله )
فدل ما ذكره أبو الحسن في حال النطفة وما يلحقها من التغييرات والانقلاب والتأثيرات على أنها محدثة وهي وسائر الأجسام إذ سائر الأجسام هي كالنطفة فيما استدل به على حدوثها من الاعتمال والتأثير والانقلاب و التغيير )
قال : ( وهذا الطريق من الكلام في حدوث الأجسام هو المعتمد في هذا الباب )


تعليق ابن تيمية
قلت : هذا القاضي هو المقدم على أبناء جنسه وهذا منتهى كلامه في هذا الموضع الذي هو عندهم أصل الدين الذي جعلوه أصلا لرد ما خالفه من النصوص النبوية ولما خالفه من مذاهب الدهرية
والمنازعون من أئمة السنة وأئمة الفلسفة يقولون لهم : ما ذكرتموه ليس فيه إلا مجرد الدعوى المبنية على عدم تصور النزاع فإن قولكم : لا يخلو ما مضى من الحوادث أن يكون موجودا عن أول أو يكون فيها ما هو غير موجود عن أول - جوابه : أن ما مضى من الحوادث يراد به كل فرد بعينه ويراد به النوع المتعاقب شيئا بعد شيء
فإن كان المراد كل واحد واحد من الحوادث فليس فيها شيء قديم بل كل منها كائن بعد أن لم يكن
وإن كان مرادك النوع المتعاقب شيئا بعد شيء فليس له أول وليس هو حادثا بل النوع قديم من أن كل فرد من أفراده حادث وأنت لم تذكر دليلا على امتناع هذه البتة وإنما ذكرت أنه ليس فيها شيء قديم وهذا مسلم لا نزاع فيه
وقلت : فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح
فيقال لك : كل واحد منها مستفتح مبتدأ ولكن لم قلت : إنه إذا كان كذلك استحال قول القائل : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء لأن ما لم يزل فقديم غير مستفتح ؟
فإن هذا القائل يقول : إن الذي لم يزل إنما هو الجنس المتعاقب شيئا بعد شيء وأما كل واحد واحد من تلك الحوادث فلا يقول عاقل : إنه لم يزل
فقول القائل : فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى الفراغ عليه استحال قولكم : إنها لم تزل موجودة شيئا قبل شيء
يقال له : هم لا يقولون : إن جنس الماضي مستفتح مبتدأ فإن ما لم يزل موجودا شيئا قبل شيء لا يكون إلا قديما لم يزل ولكن يقولون : إن كل واحد من تلك الحوادث مستفتح مبتدأ وهذا لا يقولون فيه : إنه لم يزل موجودا
فالذي يقولون : إنه لم يزل ليس هو الذي يقولون : إنه مستفتح مبتدأ وهذا كما يقولون في المستقبلات الفانية المنقضية المتصرمة كالحركات : إن كل واحد منها فان منقض والجنس ليس بفان منصرم بل هو دائم كما قال تعالى : { أكلها دائم } وقال : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } فالجنس دائم لا نفاذ له وكل واحد واحد من أفراد الرزق المأكول ينفذ لا يدوم
ولما تفطن كثير من أهل الكلام لما في هذه المقدمة من الإجمال والإبهام وأنها لا بد من بيان هذه المقدمة في هذا الموضع ميزوا بين النوعين كما فعل ذلك أبو الحسين البصري و أبو المعالي الجويني و الشهرستاني و الرازي وغيرهم فعرفوا أن المراد أنه ما لم يسبق جنس الحوادث لا عين الحوادث وأن ذلك لا يتم إلا ببيان أن الحوادث يجب أن يكون لها ابتداء وأنه يمتنع وجود حوادث لا يتناهى نوعها فإخذوا يحتجون على ذلك بما ذكرناه وذكرنا اعتراض الناس عليه في غير هذا الموضع
ولهذا جعل أبو الحسين و أبو المعالي ونحوهما هذا الدليل مبنيا على أربع مقدمات : إثبات الأعراض وإثبات حدوثها وإثبات استلزام الجسم لها واستحالة حوادث لا أول لها
وجعلوا النتيجة : أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث فإن ذلك حينئذ يكون معلوما بالضرورة بخلاف ما فعله كثير من أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والشيعة وغيرهم حيث جعلوا المقدمات أربعا : إثبات الأعراض وإثبات حدوثها وأثبات استلزام الجسم لها والرابعة : أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وهذه هي النتيجة وتصلح أن تكون مقدمة إذا تبين أن ما لم يسبق جنس الحوادث فهو محدث لكن هم لم يثبتوا ذلك هنا واللفظ مجمل كما ترى
لكن قد بين هؤلاء ك القاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى وغيرهما الكلام على هذا الأصل وهو امتناع وجود ما لا يتناهى في موضع آخر فجعلوا الكلام في إبطال ما لا يتناهى من الحوادث والأجزاء التي هي الجواهر المفردة ونحو ذلك جنسا
ومنهم من يجعل ذلك دليلا ثابتا في المسألة كما فعله ابن عقيل و القشيري وغيرهما
وقد ذكرنا : أن الناس لهم في وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل ثلاثة أقوال قال بكل قول طائفة من نظار المسلمين وغيرهم
أحدها : امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا قول أبي الهذيل و الجهم بن صفوان وعن هذا الأصل قال الجهم بفناء الجنة والنار واشتد إنكار سلف الأمة عليه ذلك
وليس هذا قول من يقول بأنهما ليستا مخلوقتين ولو كانتا مخلوقتين لفنيتا كما قال ذلك طائفة من الجهمية والمعتزلة فإن هؤلاء يقولون : إن العالم كله لا بد أن يفنى جميعه ثم يعاد فلو كانت الجنة مخلوقة لفنيت فيما يفنى ثم تعاد فلا تفنى و الجهم يقول : تفنى فناء لا تعاد بعده و أبو الهذيل يقول : تفنى حركات أهل الجنة والنار
والقول الثاني : قول من يقول بامتناع ما لا يتناهى في الماضي دون المستقبل لأن الماضي قد وجد والمستقبل لم يوجد بعد وهو قول أكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم
والثالث : قول من يقول بإمكان وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل كما هو قول أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة
لكن أئمة أهل الملل وغيرهم ممن يقر بأن الله خالق كل شيء وأن كل ما سواه محدث مسبوق بعدم - يقولون : لا يجوز وجود حوادث لا تتناهى إلا من قديم واحد وأما من يقول بوجود قديمين متحركين كمن يقول بقدم الأفلاك فإن هؤلاء - كأرسطو وأتباعه - لا يجوزون أن يوجد بكل من القديمين - بل والقدماء - حوادث لا بداية لها ولا نهاية مع أن إحداهما أكثر من الأخرى فيجوزون فيما لا أول له ولا آخر أن يكون غيره أكثر منه وأن يكون قابلا للزيادة بخلاف الذين قبلهم فإنهم إنما يجوزون ذلك في قديم واحد فإذا كان ما يفعله لا بداية له ولا نهاية لم يلزم أن يكون قابلا للزيادة
وعلى هذا فللناس في أن ما لا يسبق جنس الحوادث هل هو حادث ؟ أقوال :
أحدها : أنه يجب أن يكون حادثا مطلقا
والثاني : لا يجب أن يكون حادثا
والثالث : أنه كان محتاجا إلى غيره وجب أن يكون حادثا وإن كان غنيا عن غيره لم يجب أن يكون حادثا
وأيضا فإن ما لم يسبق حوادث نفسه لم يجب أن يكون حادثا وإن لم يسبق حوادث غيره كان حادثا وقد قرر هذا في موضع آخر
ومن فهم ما ذكرناه ونظر فيما صنفه الناس في هذا الباب من الاستدلال على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث وما لم يسبق الحوادث فهو حادث - تبين له تقصير كثير منهم في استيفاء مقدمات الدليل ثم الذين استوفوا مقدماته يبقى الكلام معهم في صحة تلك المقدمة وقد عرف منازعه أكثر أهل الملل وأكثر الفلاسفة أو كثير من الطائفتين فيها وإبطالهم لها
ولما كان هؤلاء وأمثالهم يدعون أن معرفة الله لا تحصل إلا بالمعقول ويفسرون المعقول بمثل هذا الدليل الذي هو باطل وغايته إذا قيل : إنه صحيح أنه لا يصل به إلى المطلوب إلى قليل من الناس بعد كلفة شديدة ومخاطرة عظيمة ويريدون أن يردوا بمثل هذا ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة بل ما علم بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ودلت عليه العقليات الصريحة قابلهم من قال : إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع وهؤلاء في الغالب لا يريدون بذلك المعرفة الحاصلة لعموم الخلق من الكفار وغيرهم فإن هذه عندهم فطرية ضرورية أو مكتسبة بنوع من نظر العقل
وقد تقدم كلام الناس في أن أصل الإقرار بالصانع فطري ضروري أو قد يكون ضروريا خلافا لمن قال : إنه لا يحصل إلا بالنظر
وكلام السلف والأئمة في ذلك كثير ولهذا كان كثير من أتباعه ممن يقول : إن أول الواجبات هو النظر وأن المعرفة لا تحصل إلا به قد يقول خلاف ذلك في موضع آخر
وقد تقدم أن القاضي أبا يعلى وغيره كانوا يقولون بوجوب النظر في هذه الطريقة : طريقة الأعراض ثم رجعوا عن ذلك ويقولون : إن المعرفة نظرية وإنها حاصلة بالنظر في الأدلة المذكورة في القرآن
وكثير من الناس كانوا يقولون أولا بوجوب النظر المعين الذي توجبه الجهمية والمعتزلة وهو النظر في حدوث الأعراض ولزومها للأجسام وأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وأنه أول واجب على العباد ثم رجعوا عن ذلك لما تبين له فساد القول بوجود ذلك


كلام أبي يعلى في المعتمد عن وجوب النظر
ومن هؤلاء القاضي أبو يعلى و ابن عقيل و أبو المعالي الجويني و الغزالي و الرازي وغيرهم فإن هؤلاء وأمثالهم سلكوا أولا الطريقة التي وجدوها للمتكلمين الذي سلكوا مسلك الجهمية والمعتزلة فقالوا - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في المعتمد - : ( إذا ثبت صحة النظر ووجوبه فإن أول ما أوجب الله على خلقه العقلاء النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة الله تعالى )
قال : ( وقد قيل : إن أول الواجبات إرادة النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله تعالى )
قلت : هذا قول أبي المعالي في إرشاده وذكر القاضي أبو بكر وغيره
واختار القاضي أبو يعلى هذا في موضع آخر فقال : ( أول ما أنعم الله على المؤمنين - بعد الحياة - من النعم الدينية : خلق القدرة على الإرادة للنظر والاستدلال المؤديين إلى إثبات المعاني وحدوثها وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها في الوجود الموصل له إلى معرفة الله تعالى )
قال : ( وقد قيل : أول نعمة دينية خلق القدرة على الإيمان )
قال : ( وجه الأول : أول طاعة واجبة لله على الخلق اكتساب الإرادة للنظر المؤدي إلى إثبات المعاني وحدوثها وأن الجواهر لم تسبقها وإذا كان ذلك أول الواجبات وجب أن يكون أول النعم عليه من النعم الدينية )
قال : ( وأعظم نعمة الله على المؤمنين من النعم الدينية وأجلها : كتب الإيمان في قلوب المؤمنين )
قال : ( وقد قيل : أعظم النعم الدينية هي : خلق القدرة على الإيمان والأول أشبه
فإن أعظم الطاعات هو الإيمان فإنه بوجوده والموافاة به يحصل الثواب الدائم في الآخرة وإذا لم يوجد لا يحصل ذلك ثم قالوا : - وهذا لفظ القاضي أبي يعلى - خلافا لمن قال : إن أول الواجبات المعرفة بالله وخلافا لمن قال : معرفة الله غير واجبة وأن الواجب الإقرار به والتصديق له
قال : ( والدلالة على ما ذكرنا أنه قد ثبت أن من لا يعرف الله لا يمكنه أن يتقرب إليه كما أن من لا يعرف زيدا لا يمكنه أن يتقرب إليه
لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه وليس بمشاهد لنا ولا معلوم لنا ضرورة فوجب ألا نعلمه إلا بالنظر والاستدلال في الطريق الموصل إليه فلما لم تتم المعرفة إلا به وجب أن يكون واجبا وإذا وجب علم أنه أول الواجبات )
ثم قال : ( فصل ) : وإذا ثبت أن أول الواجبات فإنما يجب النظر في الطريق الموصل إلى معرفة الله وهو حدوث الأشياء من الجواهر والأجسام وإذا كانت محدثة وجب أن يكون لها محدث لأن المحدث لو لم يعلق بمحدث لم تتعلق الكتابة بكاتب والضرب بضارب لأن ذلك كله يبعد إذ استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها فلو جاز محدث لامحدث له لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال
وأيضا فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض فلولا أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا وما تأخر منها أولى من أن يكون متقدما فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر )
وكان القاضي قد سمع رسالة الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله على مسعود السجزي عن علي بن سري السجستاني عن الخطابي وذكر أن بعض الناس اعترض عليها
فإن الخطابي ذكر عن الغنية عن الاستدلال بحدوث الجواهر والأجسام لكونها لا تنفك عن الحوادث كما تقدم وقال : ( فأموا مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك )
وهذه طريقة السلف من أئمة المسلمين في الاستدلال على معرفة الصانع وحدوث العالم لأنه إذا ثبتت نبوته بقيام المعجز ( وجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله تعالى وصفاته وكلامه ) ( وقد نبههم في كتابه على الاستدلال به على ربوبيته فقال : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ) وقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وقوله : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات } وما أشبه ذلك مما يدل على إثبات الصانع ) إلى آخر كلامه
قال القاضي : ( وقد اعترض على هذا بعضهم فقال : هذه رجوع منهم ومناف لما ذكره لأنه حث على الاعتبار بأنفسنا وبالسماوات والأرض وليس ذلك بمعجزات الأنبياء وإنما هي الأجسام والأعراض )
قال : ( وإنما احتج المتكلمون بالأعراض لأن الجسم لا ينفك منها وهي محدثة في أنفسها لعلمنا بأن العرض يعدم في حال ويوجد في حال أخرى وهذا شاهد على حدوثها وعلى حدوث ما لا ينفك منها )
قال : ( ومعنى قوله : انقلابها فيها انقلاب الجواهر في الأعراض ومعناه تغيره من سواد إلى بياض ومن حركة إلى سكون )
قلت : قد يراد بانقلابها فيها انقلاب الأعراض في الجواهر فإنها تنقلب من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم ومن نوع إلى نوع : كالبياض والسواد والحركة والسكون
وهذا المعترض على الخطابي أخطأ فإن الخطابي ذكر طريقين كما ذكرنا :
أحدهما : المعجزات بناء على أن الإقرار بالصانع فطري أو على المعجزات يستدل بها على الخالق وعلى صدق أنبيائه كما ذكرنا في عصا موسى
والطريق الثاني : أن القرآن نبه على الأدلة العقلية الصحيحة كما اعترف أئمة النظار بأن القرآن دل على الطريق العقلية
فقال : ( وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة
وقد نبههم الكتاب على ذلك ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم )
ثم تكلم في خلق الإنسان بما تقدم ذكره قال : ( وكقوله : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وبقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } وما أشبه ذلك من خلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه )
قال : ( فبهذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه )
فقد بين الخطابي بعض ما نبه عليه القرآن من الاستدلال بالآيات النفسية والأفقية وهي أدلة عقلية
و الخطابي ذم طريقة الاستدلال بالأعراض وأنها لازمة للأجسام وهذه الطريقة لم ينبه القرآن عليها ولكن بعض الناس ذكروا : أن هذه طريقة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في قوله : { لا أحب الأفلين } قالوا : لأن الأفول هو الحركة التي لم يخل الجسم منها
وهذا باطل لوجوه :


بطلان استدلال الفلاسفة
أحدها : أن الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو المغيب والاحتجاب
والثاني : أنه لو استدل بالحركة لكان من حين بزغت استدل بذلك لم يؤخر الدلالة إلى حين الغروب
الثالث : أن قصة إبراهيم هي على نقيض مطلوبهم أدل فإنه لم يجعل الحركة منافية لما قصده بل المنافي هو الأفول
الرابع : أن إبراهيم لم يكن معنيا بقوله : { هذا ربي } أنه رب العالمين عل أي وجه قاله ولا اعتقد ذلك قومه ولا غيرهم وإنما كان الذي يقول ذلك يتخذه ربا لينال بذلك أغراضه كما كما عباد الكواكب والشمس والقمر يفعلون ذلك وكان قومه من هؤلاء لم يكونوا جاحدين للصانع بل مشركين به
ولهذا قال لهم : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }
وقال في آخر قوله : { إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } وقد بسط هذا في موضع آخر
والمقصود هنا : أن القاضي كان أولا يقول بطريقة من يقول : إن أول الواجبات هو النظر في حدوث الأجسام ثم رجع القاضي عن ذلك ووافق الخطابي وغيره ممن سلك مسلك السلف والأئمة وقالوا : إن هذه الطريقة ليست واجبة بل هي عند محققيهم باطلة وإن كان النظر واجبا في غيرها من الطرق الصحيحة
وقد افتتح القاضي كتابه بقوله : ( الحمد لله مبتدىء الأشياء ومخترعها من غير شيء العالم بها قبل تكوينها والقادر عليها قبل أنشائها جاعل العلامات وناصب الدلالات ومبين الآيات الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار أرسل الرسل بالإنذار وأنزل الكتب بالأنوار وباعث النبيين ومنقذ العمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى وأمينه المرتضى أنزل عليه كتابه الهدى نورا لمن التمسه وضياء لمن اقتبسه ودليلا لمن طبله دلهم فيه على معاني حكمته ولطيف صنعته وبيان جلاله أثبت الحجة به على أوليائه وأعدائه وهو كلامه الذي يعجز الخلق أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا معقب لأمره ولا راد لفضله تعالى عما يقول الجاحدون علوا كبيرا )
ثم قال : ( وهذه خطبة شيخنا أبي بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد ذكرها في أول كتابه الشافي قصدت أن أفتتح كتابي بها تبركا به ولأنه قد صرح فيها بالقول وبالنظر والاستدلال بقوله : الآمر أولي الأبصار بالأفكار وأولي الألباب بالاعتبار )
قال : ( وفي هذا بيان لوجوب النظر وصحته وإزالة الإشكال عمن توهم غير هذا في المذهب )
قلت : وإيجاب النظر مطلقا غير إيجاب النظر في الطريق المعين طريقة كون الأعراض حادثة وهي لازمة للأجسام فإن هذه لا يقول بوجوبها على المسلمين أحد من أئمة المسلمين الذي يعرفون ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ويتبعونه إذ كان معلوما بالاضطرار لكل من عرف ذلك أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يوجب النظر في هذه الطريقة بل ولا دل على صحتها بل ما أخبر به يناقض موجبها وهي وإن جعلها من جعلها من أهل الكلام المحدث أصلا في معرفة الصانع وصفاته وصدق رسله فهي عند التحقيق تناقض معرفة الصانع ومعرفة صفاته وصدق رسله كما قد بسط في مواضع والمقصود هنا أن القاضي أبا يعلى ونحوه ممن كان يقول أولا : إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر في هذه الطريقة وهو أول الواجبات لما ذكروا قوله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] قالوا : - واللفظ للقاضي في الفطرة - : ( ما الفطرة هنا ؟ على روايتين عن أحمد :


كلام القاضي أبي يعلى عن معنى الفطرة
أحداهما : الإقرار بمعرفة الله تعالى وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم حين مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه
قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول )
قال : ( وليس الفطرة ها هنا الإسلام لأمرين :
أحدهما : أن معنى الفطرة : ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى : { فاطر السماوات والأرض } أي مبتدئهما وإذا كانت الفطرة هي الأبتداء وجب أن تكون تلك هي وقعت لأول الخلق وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم ذرية لأن تلك حالة ابتدائهم ولأنها لو كانت الفطرة هنا : الإسلام لوجب إذ ولد من بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا لأنه مسلم واختلاف الدين يمنع الإرث ولوجب ألا يصح استرقاقه ولا يصح إسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم )
قال : ( وهذا تأويل ابن قتيبة ذكره في إصلاح الغلط على أبي عبيد وذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة
قال : ( وليس كل من ثبت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة لهم وليسوا بمسلمين )
قال : ( وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل في رواية الميموني فقال : الفطرة الأولى التي فطر الله عليها فقال له الميموني : الفطرة : الدين ؟ قال : نعم )
قال القاضي : ( وأراد أحمد بالدين : المعرفة التي ذكرناها )
قال : ( والرواية الثانية : الفطرة هنا : ابتداء خلقه في بطن أمه )
قال : لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بممعرفة الله تعالى حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم )
قال : ( ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه لأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وقد ثبت من أصولنا أن أفعال العباد خلق لله عن طاعة ومعصية )
قال : ( وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية علي بن سعيد وقد سأله عن كل مولود يولد على الفطرة فقال : على الشقاوة والسعادة
وكذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله عن كل مولود يولد على الفطرة قال : هي التي فطر الناس عليها : شقي أو سعيد
وكذلك نقل حنبل عنه قال : الفطرة التي فطر الله العباد من الشقاء والسعادة )
قال : ( وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا : ابتداء خلقه في بطن أمه )


تعليق ابن تيمية
قلت : أحمد لم يذكر العهد الأول وإنما قال : الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقد قال في غير هذا موضع : إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه
واستدل بهذا الحديث : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
فدل على أنه فسر الحديث : بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث : ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث
وقوله في موضع آخر : يولد على مافطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله تعالى قدر الشقاوة والسعادة وكتبها وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله تعالى
والمولود ولد على الفطرة سليما وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه كما مثل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بقوله : [ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ] فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الناس وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره
وإنما قال الأئمة : ولد على ما فطر عليه من شقاء وسعادة لأن القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقدر الله بل مما فعله الناس لأن كل مولود يولد خلقه على الفطرة وكفره بعد ذلك من الناس
ولهذا قالوا ل مالك بن أنس : إن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال : احتجوا عليهم بآخره وهو قوله : الله أعلم بما كانوا عاملين
فبين الأئمة أنه لا حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون إن نفس الأبوين خلقا تهوده وتنصره بل هو تهود وتنصر باختياره لكن كانا سببا في ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهم بهذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى لأن الله وإن خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك
كما في الحديث الصحيح : ( إن الغلام الذي قتله الخضر يوم طبع كافرا ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا )
فقوله : طبع أي طبع في الكتاب أي قدر وقضي لا أنه كان كفره موجودا قبل أن يولد فهو مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك يتغير فيكفر كما طبع كتابه يوم طبع
ومن ظن أن المراد به الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلوب الكفار فهو غالط فإن ذلك لا يقال فيه : طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عياض بن حمار [ عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يروي عن ربه تعالى أنه قال : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك
وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه أحمد وغيره قال : [ بعث النبي صلى الله عليه و سلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : ما حملكم على قتل الذرية ؟ قالوا : يا رسول الله : أليسوا أولاد المشركين ؟ قال : أو ليس خياركم أولادكم المشركين ؟ ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ] فخطبته لهم بهذا الحديث عقب نهيه عن قتل أولاد المشركين وقوله لهم : أو ليس خياركم أولاد المشركين ؟ يبين أنه أراد أنهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو كان أراد أن المولود حين يولد يكون إما كافرا وإما مسلما على ما سبق له القدر - لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده صلى الله عليه و سلم من نهية لهم عن قتل أولاد المشركين
وقد ظن بعضهم أن معنى قوله : [ أو ليس خياركم أولاد المشركون ؟ ] معناه : لعله أنه قد يكون سبق في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث ولكن معناه : إن خياركم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا ثم إن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كانوا مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن
وهذا الحديث قد روي بألفاظ يفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين - واللفظ للبخاري - عن ابن شهاب عن أبي سلمة [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } قالوا : يا رسول الله : أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وفي الصحيح : قال الزهري : يصلي على كل مولود متوفى وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخا ولا يصلى على من لم يستهل من أجل أنه سقط و [ إن أبا هريرة كان يحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ]
وفي الصحيح من رواية الأعمش : [ ما من مولود يولد إلا وهو على الملة ] وفي رواية أبي معاوية عنه : إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه فهذا صريح في أنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك
قال ابن عبد البر في التمهيد : ( روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة وغيره فممن رواه عن أبي سعيد بن المسيب و أبو سلمة بن عبد الرحمن و حميد بن عبد الرحمن و أبو صالح السمان و عبد الرحمن الأعرج و سعيد بن أبي سعيد و محمد بن سيرين )


كلام ابن عبد البر في التمهيد عن معنى الفطرة
قال : ( ورواه ابن شهاب واختلف في إسناده منهم من رواه عن سعيد عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومنهم من رواه عن حميد عن أبي هريرة قال محمد بن يحيى الذهلي : كل هذه صحاح عن ابن شهاب محفوظة )
قال ابن عبد البر : ( وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزىء الصبي عنه أن يعتقه وهو رضيع ؟ قال : نعم لأنه ولد على الفطرة )
قال ابن عبد البر لما ذكر النزاع في تفسير هذا الحديث : ( وقال آخرون : الفطرة ها هنا الإسلام قالوا : وهوالمعروف عند عامة السلف أهل التأويل وقد أجمعوا في تأويل قوله عز و جل : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } على أن قالوا : فطرة الله : دين الله الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها }
وذكروا عن عكرمة و مجاهد و الحسن و إبراهيم و الضحاك وقتادة في قول الله عز و جل : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا : فطرة الله : دين الإسلام لا تبديل لخلق الله قالوا : لدين الله
واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي عن عياض بن حمار المجاشعي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للناس يوما : ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب : إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيه فجعلوا ما أعطاهم الله حلالا وحراما ] الحديث
قال : ( وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث ( حنفاء مسلمين )
( قال أبو عمر : روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض بن حمار ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال : حدثني ثلاثة : عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول : حدثني مطرف عن عياض عن النبي صلى الله عليه و سلم فقال فيه : [ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ] لم يقل : مسلمين وكذلك رواه الحسن عن مطرف عن عياض ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن قتادة بإسناده وقال فيه : [ وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ] ولم يقل مسلمين )
قال : ( فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لأنه ذكر ( مسلمين ) في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وكذلك رواه الناس عن قتادة قصر فيه عن قوله : مسلمين وزاد ثور بإسناده والله أعلم )
قال : ( والحنيف في كلام العرب : المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام )
قال : ( وقد روي عن الحسن قال : الحنيفة : حج البيت وهذا يدلك على أنه أراد الإسلام وكذلك روي عن الضحاك و السدي : ( حنفاء ) قال : حجاجا وعن مجاهد : ( حنفاء ) قال : متبعين )
قال : ( وهذا كله يدلك على أن الحنيفية : الإسلام )
قال : ( وقال أكثر العلماء : الحنيف : المخلص وقال الله عز و جل : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } وقال : { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } فلا وجه لإنكار من أنكر رواية من روى :
حنفاء : مسلمين
قال الشاعر - وهو الراعي - :
( أخليفة الرحمن إنا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا )
( عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا )
فهذا وصف الحنيفية بالإسلام وهو أمر واضح لا خفاء به )
قال : ( ومما احتج به - من ذهب إلى أن الفطرة في هذا الحديث : الإسلام - قوله صلى الله عليه و سلم [ خمس من الفطرة ] ويروى [ عشرة من الفطرة ] يعني فطرة الإسلام )
قلت : الدلائل الدالة على أنه أراد : على فطرة الإسلام - كثيرة كألفاظ الحديث التي في الصحيح مثل قوله : ( على الملة ) ( وعلى هذه الملة ) ومثل قوله في حديث عياض بن حمار : [ خلقت عبادي حنفاء كلهم ] وفي لفظ [ حنفاء مسلمين ] ومثل تفسير أبي هريرة وغيره من رواة الحديث ذلك وهو أعلم بما سمعوا
وأيضا فإنه لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقب ذلك : ( أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير ؟ ) لأنه لو لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لم سألوه والعلم القديم وما يجري مجراه لا يتغير
وكذلك قوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها
وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها
وأيضا فإن الحديث مطابق للقرآن لقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وفطرة الله أضافها إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة
يبين ذلك أنه قال : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهذا نصب على المصدر الذي دل عليه الفعل الأول عند سيبويه وأصحابه فدل على أن إقامة الوجه للدين حنيفا هو فطرة الله التي فطر الناس عليها كما في نظائره ومثل قوله : { كتاب الله عليكم } وقوله : { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } فهذا عندهم مصدر منصوب بفعل مضمر لازم إضماره دل عليه الفعل المتقدم كأنه قال : كتب الله ذلك عليكم وسن الله ذلك وكذلك هنا فطر الله الناس على ذلك : على إقامة الدين لله حنيفا وكذلك فسره السلف كما تقدم النقل عنهم


كلام الطبري في تفسيره عن معنى الفطرة
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره المشهور يقول : فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد لطاعته وهي الدين حنيفا يقول : مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول : صنعة الله التي خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر من معنى قوله : { فأقم وجهك للدين حنيفا } وذلك أن معنى ذلك : فطر الله الناس على ذلك فطرة )
قال : ( وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ) وروي ( عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قال : الإسلام فمنذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون بذلك وقرأ : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }
فهذا قول الله كان الناس أمة واحدة يومئذ فبعث الله النبيين بعد )
وروي بإسناده الصحيح عن ( ابن أبي نجيح عن مجاهد : فطرة الله قال : الدين الإسلام وقال ( ثنا ابن حميد ثنا يحيى بن واضح ثنا يونس بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال : مر عمر بمعاذ بن جبل فقال : ما قوام هذه الأمة ؟ قال معاذ : ثلاث وهن المنجيات : الإخلاص - وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها - والصلاة : وهي الملة والطاعة : وهي العصمة فقال عمر : صدقت )
قال : حدثني يعقوب - يعني الدورقي - ثنا أبن علية ثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر قال لمعاذ : ما قوام هذه الأمة ؟ فذكر نحوه )
قال : ( وقوله { لا تبديل لخلق الله } : يقول : لا تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل )
ثم ذكر بإسناده الصحيح عن ( ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : لا تبديل لخلق الله قال : لدين الله )
وروي عن ( عبد الله بن إدريس عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول : { لا تبديل لخلق الله } فقال عكرمة : هو الخصاء فرجع إلى مجاهد فقال : أخطأ لاتبديل لخلق الله إنما هو الدين ثم قرأ : { لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } )
وروي عن ( وكيع عن نصر بن عربي عن عكرمة : لا تبديل لخلق الله : لدين الله )
وروي أيضا عن ( حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة : فطرة الله التي فطر الناس عليها قال : الإسلام وكذلك روي ( عن وكيع عن سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد قال : لدين الله ) وروي ( عن سعيد عن قتادة : { لا تبديل لخلق الله } : أي لدين الله )
وكذلك روي ( عن ابن عيينة عن حميد الأعرج قال : قال سعيد بن جبير : { لا تبديل لخلق الله } قال : لدين الله )
وكذلك عن ( المحاربي عن جويبر عن الضحاك في قوله { لا تبديل لخلق الله } قال : دين الله )
وكذلك عن ( وكيع عن سفيان الثوري ومسعر عن قيس بن مسلم عن إبراهيم النخعي : { لا تبديل لخلق الله } قال : دين الله )
وكذلك عن ( مغيرة عن إبراهيم قال : لدين الله )
وعن ( عمرو بن أبي سلمة سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن قوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } قال : لدين الله )
وروي أيضا عن ابن عباس أنه سئل عن إخصاء البهائم فكرهه وقال : لا تبديل لخلق الله وعن حميد الأعرج قال : قال عكرمة : الإخصاء وعن حفص بن غياث عن ليث عن مجاهد قال : الإخصاء )


تعليق ابن تيمية
قلت : مجاهد وعكرمة : روي عنهما القولان إذ لا منافاة بينهما كما قال تعالى : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فتغيير ما خلق الله عليه عباده من الدين تغيير لخلقه والخصاء وقطع الأذن أيضا تغيير لخلقه
ولهذا شبه النبي صلى الله عليه و سلم أحدهما بالآخر في قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ]
فأولئك يغيرون الدين وهؤلاء يغيرون الصورة بالجدع والخصاء هذا تغيير لما خلقت عليه نفسه وهذا تغيير ما خلق عليه بدنه
واعلم أن هذا الحديث لما صارت القدرية يحتجون به على قولهم الفاسد صار الناس يتأولونه تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاة فالقدرية من المعتزلة وغيرهم يقولون : كل مولود يولد على الإسلام والله لا يضل أحدا ولكن أبواه يضلانه


الحديث حجة على المعتزلة ونحوهم من المتكلمين
والحديث حجة عليهم من وجهين :
أحدهما : أنه عند المعتزلة ونحوهم من المتكلمين : لم يولد أحد على الإسلام أصلا ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا ولكن هذه أحدث لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام والله لم يفعل واحدا منهما عندهم بلا نزاع بين القدرية ولكن هو دعاهما إلى الأسلام وأزاح علتهما وأعطاهما قدرة مماثلة فيهما تصلح للإيمان والكفر ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان فإن ذلك عندهم غير مقدور ولو كان مقدورا لكان ظلما وهذا قول عامة المعتزلة وإن كان بعض متأخريهم كأبي الحسين يقول : إنه خص المؤمن بداعي الإيمان ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان فهذا في الحقيقة موافق لأهل السنة فهذا أحد الوجهين
الثاني : أنهم يقولون : إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية أو تكون من فعل الله تعالى
وأما آخر الحديث فهو دليل على أن الله تعالى يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين ؟ أو يغيرونها فيصيرون كفارا ؟
وإن احتجت القدرية بقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين - فيقال لهم : أنتم تقولون : إنه لا يقدر : لا الله ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين بل هما فعلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما ولا فعل من غيرهما فحينئذ لا حجة لكم في قوله : [ فأبواه يهودانه ]
وأهل السنة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد فقد اتفقت الأمة على أن المراد بذلك : دعوة الأبوين لهما إلى ذلك وترغيبهما فيه وتربيتهما عليه ونحو ذلك مما يفعل المعلم والمربي مع من يعلمه ويربيه وذكر الأبوين بناء على الغالب إذ لكل طفل أبوان وإلا فقد يقع ذلك من أحد الأبوين وقد يقع من غير الأبوين حقيقة وحكما


عود إلى كلام ابن عبد البر وتعليق ابن تيمية عليه
وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر : اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه المشهور قال : قال ابن المبارك : يفسره آخر الحديث : قوله صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
قال ابن عبد البر : هكذا ذكر عن ابن المبارك لم يزد شيئا
وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال : ( كان هذا القول عن صلى الله عليه و سلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ) هذا ما ذكره أبو عبيد
قال ابن عبد البر : ( أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل )
قال : ( وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه : إما لإشكاله عليه أو لجهلة به أولما شاء الله وأما قوله : إن ذلك كان من النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فلا أدري ما هذا فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في إخبار الله تعالى وأخبار رسوله لأن المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه أو غلطة فيما أخبر به أو نسيانه وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له أدنى فهم فقف عليه فإنه أمر جسيم من أصول الدين
وقول محمد بن الحسن : إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد )
وروي بإسناده ( عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان ؟ فقال رجل : أو ليس إنما هو أولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو ليس خياركم أولاد المشركين ؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه ليسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه ]
قال : وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم بكر المزني والعلاء بن زياد والسري بن يحيى وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع قال : وهو حديث بصري صحيح قال : وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : وأولاد المشركين ]
قلت : أما ما ذكره عن ابن المبارك و مالك فيمكن أن يقال : إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار فلا يحتج بقوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) على نفي القدر كما احتجت به القدرية ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الأطفال على ما في آخر الحديث
وأما قوله محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبوية في الدين في أحكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه المسلمون ويجوز استرقاقهم ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم وهذا حق لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال : هذا منسوخ كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال والمؤمن لا يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا وما زال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية
والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة وإذا قيل : إنه ولد على فطرة الإسلام أو خلق حنيفا ونحو ذلك فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده
فإن الله تعالى يقول : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام لمعرفته ومحبته
فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت عن المعارض
وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الإغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه
وهذا من قوله تعالى : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وقوله : { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة
قال ابن عبد البر : ( وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وما كان مثله فقالت فرقة : الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال : ( كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة ) يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك )
قالوا : ( لأن الفاطر هو الخالق )
قال : ( وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار )
قلت : صاحب هذا القول إن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبوية لفطرته حتى يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة هي في الكبير أكمل منها في الصغير
وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا : إنهم أولاد المشركين قال : أليس خياركم أولدا المشركين ؟ ما من مولود إلا يولد على الفطرة
ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل
وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان
قال : ( وقال آخرون معنى قوله صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] يعني البدأة التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقه من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم )
( قالوا : والفطرة في كلام العرب البداءة والفاطر المبدىء والمبتدىء فكأنه قال : صلى الله عليه و سلم : يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاوة والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطره عليه واحتجوا بقوله تعالى : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }
وروي بإسناده إلى ( ابن عباس قال : لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأئتها ) ( وذكروا ما يروى عن علي رضي الله عنه في دعائه : اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها )
قلت : حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة فجميع البهائم هي مولودة على ماسبق في علم الله لها والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله لها وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقا على الفطرة
وأيضا فإنه لو كان المراد ذلك لم يكن لقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] معنى فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها على هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير حينئذ وبين تلقين الإسلام وتعليمه وبين تعليم سائر الصنائع فإن ذلك كله داخل فيما سبق به العلم
وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه
وأيضا فقوله : ( على هذه الملة ) وقوله : ( إني خلقت عبادي حنفاء ) يخالف هذا
وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بغير مخصص
وقد ثبت في الصحيح أنه : قبل نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فلو قيل : كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة لكان أشبه بهذا المعنى مع أن النفخ هو بعد الكتابة
قال ابن عبد البر : ( قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن أبن المبارك أنه سئل عن هذا الحديث فقال : يفسره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين : الله أعلم بما كانوا عاملين
قال المروزي : وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول ثم تركه
قال ابن عبد البر : ما رسمه مالك في موطأه وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا )
قلت : أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر كما في الحديث الآخر : ( إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) والطبع الكتاب أي كتب كافرا كما قال : ( فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) وليس إذا كان الله قد كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء وقد سبق في عمله أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة
وكلام أحمد في أجوبة أخرى له يدل على أنه الفطرة عنده : الإسلام كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه فإنه كان يقول : إن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين وإن كانوا معهما فهم على دينهما وإن سبوا مع أحدهما فعنه روايتان وكان يحتج بالحديث


كلام أبي بكر الخلال في كتابه الجامع
قال أبو بكر الخلال في الجامع في كتاب أحكام أهل الملل : ( أنبأ أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال في سبي أهل الحرب : إنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد الأبوين وكان يحتج بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
قال : وأما أهل الثغر فيقولون : إذا كان مع أبوية : إنهم يجبرونه على الإسلام )
قال : ( ونحن لا نذهب إلى هذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأبواه يهودانه ]
قال الخلال : أنبأ عبد الملك الميموني قال : سألت أبا عبد الله قبل الحبس - أي قبل أن يحبس أحمد في محنة الجهمية - عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه قال : إذا مات صلى عليه المسلمون قلت : يكره على الإسلام ؟
قال : إذا كانوا صغارا يصلون عليه أكره من يليه إلا هم وحكمه حكمهم
قلت : فإنه كان معه أبواه ؟ قال : إذا كان معه أبواه - أو أحدهما - لم يكره ودينه على دين أبويه
قلت : إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ كل مولود يولد على الفطرة ] :
حتى يكون أبواه ؟ قال : نعم
قال : وعمر بن عبد العزيز نادى به ؟ قال : فرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم
قلت : في الحديث كان معه أبواه ؟ قال : لا وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه )
قال الخلال : ( ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله ) ( ولذلك نقل إسحاق ابن منصور أن أبا عبد الله قال : إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم قلت : لا يجبرون على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما ؟ قال : نعم )
قال الخلال : ( وقد روي هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال : إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس وبعضهم قبل وبعد والذي أذهب إليه : ما رواه الجماعة )
وقال الخلال : ( ثنا أبو بكر المروزي قال : قلت لأبي عبد الله : إني كنت بواسط فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعا طفلين ولهما عم ما تقول فيهما ؟ فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها وقالوا : إنهم قد كتبوا إليك فقال : أكره أن أقول فيها برأي دع حتى أنظر لعل فيها عمن تقدم فلما كان بعد شهر عاودته فقال : قد نظرت فيها فإذا قول النبي صلى الله عليه و سلم ( فأبواه يهودانه وينصرانه ) هذا ليس له أبوان
قلت : يجبر على الإسلام ؟ قال : نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي صلى الله عليه و سلم )
( وكذلك نقل يعقوب بن بختان قال : قال أبو عبد الله : الذمي إذا مات أبواه وهو صغير جبر على الإسلام وذكر الحديث : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
( ونقل عن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين يولد لهما ولد فيقولان : هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفى ؟ قال : ذاك يدفنه المسلمون قال النبي صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ]
( وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من قوم على أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم وما كان من أنثى فهي مشركة : يهودية أو نصرانية أو مجوسية ؟ فقال : يجبر هؤلاء من أبى منهم على الإسلام لأن آباءهم مسلمون حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ فأبواه يهودانه وينصرانه ] يردون كلهم إلى الإسلام )
ومثل هذا كثير في أجوبته يحتج بالحديث على أن الطفل إنما يصير كافرا بأبويه فإن لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم فلو لم تكن الفطرة : الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين وهي الفطرة الأولى
قال الخلال : ( أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله : كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه معناه : أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارا ؟ فقال لي : نعم ولكن يدخل عليك في هذا فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول وبما يكون بقوله قلت لأبي عبد الله : فما تقول أنت فيها وإلى أي شيء تذهب ؟ قال : إيش أقول أنا ؟ ما أدري أخبرك هي مسلمة كم ترى ثم قال لي : والذي يقول : كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضا إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها قلت له : فما الفطرة الأولى : هي الدين ؟ قال لي : نعم
فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] قلت لأبي عبد الله : فما تقول لأعرف قولك ؟ قال : أقول : ( إنه على الفطرة الأولى )
فجوابه : أنه على الفطرة الأولى وقوله : إنها الدين - يوافق القول بأنه على دين الإسلام
وأما جواب أحمد : أنه على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان به ثم تركه فقال الخلال : ( أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله : كل مولود يولد على الفطرة ما تفسيرها ؟ قال : هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد )
وكذلك نقل عنه ( الفضل بن زياد و حنبل و أبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال : ( الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة )
وكذلك نقل : ( عن علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة قال : على الشقاء والسعادة فإليه يرجع على ما خلق )
( وعن الحسن بن ثواب قال : سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين قلت : إن ابن أبي شيبة أبا بكر قال : هو على الفطرة حتى يهودانه أبواه أو ينصرانه فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال : كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلقوا عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب ارفع ذلك إلى الأصل هذا معناه كل مولود يولد على الفطرة )


تعليق ابن تيمية
قلت : وأما ثبوت حكم الكفر في الآخرة للأطفال فكان أحمد يقف فيه تارة يقف عن الجواب وتارة يردهم إلى العلم كقوله : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهذا أحسن جوابيه كما نقل محمد بن الحكم عنه وسأله عن أولاد المشركين فقال : أذهب إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
ونقل عنه ( أبو طالب أن أبا عبد الله سئل عن أطفال المشركين فقال : كان ابن عباس يقول : ( فأبواه يهودانه وينصرانه ) حتى سمع : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فترك قوله
قال أحمد : ( وهي صحاح ومخرجها كلها صحاح وكان الزهري يقول : من الحديث ما يحدث بها على وجوهها )
وأما توقف أحمد في الجواب ( فنقل عنه علي بن سعيد أنه سأله عن قوله : فأبواه يهودانه وينصرانه قال : الشأن في هذا وقد اختلف الناس ولم نقف منها على شيء أعرفه )
وقال الخلال : ( رأيت في كتاب لهارون المستملي قال أبو عبد الله : إذا سأل الرجل عن أولاد المشركين مع آبائهم فإنه أصل كل خصومه ولا يسأل عنه إلا رجل الله أعلم به قال : ونحن نمر هذه الأحاديث على ما جاءت ونسكت لا نقول شيئا )
( قال المروزي : قال أبو عبد الله سأل بشر بن السري عن سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال : يا صبي أنت تسأل عن هذا ؟ ! )
وكذلك نقل خطاب بن بشر و حنبل أن عبد الرحمن بن الشافعي سأل أحمد عن هذا فنهاه ولم ينقل أحد قط عن أحمد أنه قال : هم في النار ولكن طائفة من أتباعه كالقاضي أبي يعلى وغيره لما سمعوا جوابه بأنه قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ظنوا أن هذا من تمام حديث مروي [ عن خديجة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن أولادها من غيره فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هم في النار فقالت : بلا عمل ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث خديجة وهذا غلط على أحمد فإن حديث خديجة هذا حديث موضوع كذب لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد فضلا عن الإمام أحمد
و أحمد إنما اعتمد على الحديث الصحيح حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وهو في الصحيحين [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ]
وكذلك في الصحيح عن ابن عباس [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن أطفال المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وقد ذكر أحمد أن ابن عباس رجع إلى هذا بعد أن كان يقول : هم مع آبائهم فدل على أن هذا جواب من لا يقطع بأنهم مع آبائهم
وأبو هريرة نفسه الذي روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قد ثبت عنه ما رواه غير واحد منهم عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره وغيره من حديث عبد الرازق : أنبأ معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام ثم أرسل إليهم رسولا : أن ادخلوا النار فيقولون : كيف ولم يأتنا رسل ؟ قال : وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ثم يرسل إليهم رسولا فيطيعه من كان يريد أن يطيعه ثم قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وروي هذا الأثر عن أبي هريرة : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره من رواية محمد بن الأعلى عن محمد بن ثور عن معمر ومن رواية القاسم عن الحسين عن أبي سفيان عن معمر وقال فيه : ( والشيوخ الذين جاء الاسلام وقد خرفوا ) فبين أبو هريرة أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا وأنه في الآخرة يمتحن من لم تبلغه الرسالة في الدنيا
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وعن الأسود بن سريع أيضا قال أحمد في المسند : حدثنا علي بن عبد الله ثنا معاذ بن هشام ثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع : أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أربعة يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما ]
وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث غير أنه قال في آخره : [ فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب إليها ]
وقد جاءت بذلك عدة آثار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم وعن الصحابة والتابعين بأنه في الآخرة يمتحن أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغه الرساله في الدنيا وهذا تفسير قوله : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وهذا هو الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه
وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه فإن من قطع لهم بالنار كلهم جاءت نصوص تدفع قوله ومن قطع لهم بالجنةكلهم جاءت نصوص تدفع قوله ثم إذ قيل : هم مع آبائهم لزم تعذيب من لم يذنب انفتح باب الخوض في الأمر والنهي والوعد والوعيد والقدر والشرع والمحبة والحكمة والرحمة فلهذا كان أحمد يقول : هو أصل كل خصومه
فأما جواب النبي صلى الله عليه و سلم الذي أجاب به أحمد آخرا وهو قوله [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فإنه فصل الخطاب في هذا الباب وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة والله تعالى أعلم


تابع كلام ابن عبد البر في التمهيد
و أحمد - رحمه الله - كان متبعا في هذا الباب وغيره لمن قبله من أئمة السنة كما روينا عن طريق إسحاق بن راهويه فيما ذكره ابن عبد البر وغيره
( ثنا يحيى بن آدم ثنا جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي : سمعت أبن عباس يقول : لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا أو كلمة تشبه هاتين حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر
قال يحيى بن آدم : فذكرته لابن المبارك فقال : أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ قلت : فتأمر بالكلام ؟ فسكت
وذكر محمد بن نصر المروزي ثنا شيبان بن شيبة ثنا جرير بن حازم فذكره بإسناده وقال : لا يزال أمر هذه الأمة مقاربا أو مواتيا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر
وذكر المروزي أيضا ثنا عمرو بن زرارة أنبأ إسماعيل بن علية عن ابن عوان قال : كنت عند القاسم بن محمد إذ جاءه رجل فقال : ماذا كان بين قتادة وبين حفص بن عمر في أولاد المشركين ؟ قال : وتكلم ربيعة الرأي في ذلك ؟ فقال القاسم : إذا الله انتهى عند شيء فانتهوا وقفوا عنده قال : فكأنما كانت نارافطفئت ؟


تعليق ابن تيمية
قلت : ابن عباس رضي الله عنه خطب بهذه الخطبةبالبصرة وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذا الأمة والتحذير من أسباب الفتن ما قد نقل إلينا كما في الحديث الذي ذكره أحمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر ابن الخطاب لما كثر القراء وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها والمسائل المشكلة إذا خاض فيها أكثر الناس لم يفهموا حقيقتها وإذا تنازعوا فيها صار بينهم أهواء وظنون وأفضى ذلك إلى الفرقة والفتنة
ومن ذلك الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وقائل يقول : ألم يقل الله كذا ؟ وآخر يقول : ألم يقل الله كذا ؟ فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاتركوه
فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين أو الاشتباه والحيرة والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره كما يصدق بالحق الذي يقوله هو ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها ويرد معنى آية استدل بها مناظره ولا أن يقبل الحق من طائفة ويرده من طائفة أخرى
ولهذا قال تعالى : { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق فلو صدق الإنسان فيما يقوله ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره لم يكن ممدوحا حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به فأولئك هم المتقون
ومسألة القدر يحتاج فيها إلى الإيمان بقدر الله وإلى الإيمان بشرع الله فطائفة غلب عليهم التصديق بالأمر والنهي والوعد والوعيد فظنوا أن هذا لا يتم إلا بالتكذيب بالقدر فأخطأوا في التكذيب به وطائفة ظنت أن الإيمان بالقدر لا يتم إلا بأن يقول : إن الرب تعالى يخلق ويأمر لا لحكمه ولا لرحمة ولا يسوي بين المتماثلين بل بإرادة ترجح أحد المتماثلين لا لمرجح واشتركت الطائفتان في أن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح
وهذا أصل مذهب القدرية النفاة ولهذا قالوا : إن العبد لا يحتاج في ترجيح أحد مقدوريه على الآخر إلى مرجح يفتقر فيه إلى الله تعالى وإن الله لا يمتن على المطيع بنعمة أنعم بها عليه دون العاصي صار بها مطيعا وتوهموا أن هذا من الظلم الذي يجب نفيه وظن أولئك أنه لا يمكن أبطال قولهم إلا بأن يقال : الظلم ممتنع لذاته وأنه مهما قدر من الممكنات فهو عدل حتى تعذيب الأنبياء والصالحين وتنعيم الكفار والفاسقين إلى أمثال هذه الأمور التي خاض فيها الناس في القدر وكانت من أعظم أسباب الجهل والظلم
وكان أعظم ظهور ذلك من أهل البصرة الذين خطبهم ابن عباس وكذلك أمر أطفال المشركين : طائفة يقولون : يعذبهم كلهم أو يمكن تعذيبهم كلهم بناء على المشيئة المرجحة بلا سبب ولا حكمة ولا رحمة وطائفة تقول : بل يدخلون الجنة مع من آمن وعمل صالحا بناء على رحمة بلا حكمة وتسوية بين أولاد المؤمنين وأولاد الكفار وبين من آمن وعمل صالحا ومن لم يؤمن ويعمل صالحا من غير اعتبار التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين فيقع الاختلاف والاشتباه والتفرق
وهذه المسأئل وغيرها قد بين الله ورسوله أمرها فإن الله أكمل الدين وأتم النعمة وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ]
وفي الصحيح [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال : توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما ]
وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
وقال تعالى : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة
وقد قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فحكم الله بكتابه بين الناس فيما اختلفوا فيه
وقال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
فهذه النصوص وأمثالها مما يبين أن ما بعث الله به رسله يبين للناس ما يحتاجون إليه من أمر دينهم في هذه المسائل وغيرها لكن ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص فإن الله يختص من يشاء عباده من العلم والفهم بما يشاء فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع فقد أحسن ومن علم الحق فبينه لمن يحتاج إليه وينتفع به فهو أحسن وأحسن
ولهذا لما روى يحيى بن آدم لابن المبارك هذا الأثر عن ابن عباس وهو قوله : إنه لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا شك الراوي حتى يتكلموا في الولدان والقدر وكأن قائل هذا يطلب من الناس السكوت مطلقا قال له ابن المبارك : أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ وقد صدق ابن المبارك فقال له يحيى بن آدم : أفتأمر بالكلام ؟ فسكت ابن المبارك لأن أمره بالكلام مطلقا يتضمن الإذن بالكلام الذي وقع من الناس وفيه من الجهل والكذب ما ينهى عنه
وتحقيق الأمر أن الكلام بالعلم الذي بينه الله وسوله مأمور به وهو الذي ينبغي للإنسان طلبه وأما الكلام بلا علم فيذم ومن تكلم بما يخالف الكتاب والسنة فقد تكلم بلا علم وقد يتكلم بما يظنه علما : إما برأي رآه وإما بنقل بلغه ويكون كلاما بلا علم وهذا قد يعذر صاحبه تارة وإن لم يتبع وقد يذم صاحبه إذا ظلم غيره ورد الحق الذي معه بغيا
كما ذم الله ذلك بقوله : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } فالبغي مذموم مطلقا سواء كان في أن يلزم الإنسان الناس بما لا يلزمهم ويذمهم على تركه أو بأن يذمهم على ما هم معذورون فيه والله يغفر لهم خطأهم فيه فمن ذم الناس وعاقبهم على ما لم يذمهم الله تعالى ويعاقبهم فقد بغى عليهم لا سيما إذا كان ذلك لأجل هواه
وقد قال تعالى : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } والله تعالى قد قال : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات }
فالسعيد من تاب الله عليه من جهله وظلمه وإلا فالإنسان ظلوم جهول وإذا وقع الظلم والجهل في الأمور العامة الكبار أوجبت بين الناس العداوة والبغضاء فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ] فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه وأمره ووعده ووعيده ؟
ولهذا لما اشترك هؤلاء القدرية القائلون بأن القادر المختار يرجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح في هذا الأصل وناظروا به الملاحدة القائلين بقدم العالم من الدهرية الفلاسفة وغيرهم ورأى أولئك أن هذا ليس بعلم ولا عدل طعموا في هؤلاء القدرية
فإن الإنسان إذا اتبع العدل نصر على خصمه وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه فصار بين الفلاسفة الدهرية والمتكلمين القدرية في هذا الباب من النزاع ما استطار شرره وإن كانت القدرية أقرب إلى العلم والعدل ومن الناس من يحار ومنهم من يوافق هؤلاء تارة وهؤلاء تارة تناقضا منه في حالين أو جمعا بين النقيضين في حال واحدة
ولو اتبعوا ما بعث الله ورسوله من الهدى ودين الحق لحصل لهم من العلم والعدل ما يرفع النزاع ويدخلهم في اتباع النص والإجماع والكلام على هذه المسألة له موضع آخر
والمقصود هنا تفسير قوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) وأن من قال بإثبات القدر وأن الله كتب الشقي والسعيد لم يمنع ذلك أن يكون ولد على الإسلام ثم تغير بعد ذلك كما تولد البهيمة جمعاء ثم تغير بعد ذلك فإن الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه فيعلم أنه يولد سليما ثم يتغير
والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على هذا القول الذي رجحناه وهو أنهم ولدوا على الفطرة ثم صاروا إلىما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا تدل على أنه حين الولادة لم يكن على فطرة سليمة مقتضية للإيمان مستلزمة له لولا المعارض
فروى ابن عبد البر في ضمن هذا المنقول بإسناده ( عن موسى بن عبيده سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } وقال : من ابتدأ الله خلقه لضلالة وإن علم بعمل أهل الهدى ومن ابتدأ خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وإن عمل بعمل أهل الضلالة ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل السعادة مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه من الضلالة قال : وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل الضلالة ثم هداهم إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها مسلمين
وبهذا الإسناد عن محمد بن كعب في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } يقول : فأقروا له بالبإمان والمعرفة الأرواح قبل أن تخلق أجسادها )
فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه وهو ما كتبه أنهم صائرون إليه قد يعملون قبل ذلك غيره وأن من ابتدأه على الضلالة أي كتبه أنه يموت ضالا فقد يكون قبل ذلك عاملا بعمل أهل الهدى وحينئذ من ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمتنع أن يعرض لها ما يغيرها فيصير إلى ما سبق به القدر لها
كما في الحديث الصحيح : [ إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار حتى ما يصير بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة ]
ولهذا قال محمد بن كعب : إن جميع الذرية أقروا له بالإيمان والمعرفة فأثبت هذا وهذا إذ لامنافاة بينهما
ثم روى ابن عبد البر بإسناده ( عن سعيد بن جبير في قوله : { كما بدأكم تعودون } قال : كما كتب عليكم تكونون


تعليق ابن تيمية
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : { كما بدأكم تعودون } قال : شقي وسعيدا وقال غيره عن مجاهد : { كما بدأكم تعودون } قال : يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا
وقال الربيع أبن أنس عن أبي العالية : { كما بدأكم تعودون } قال : عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة )
قلت : ما في هذه الأقوال من إثبات علم الله وقدره السابق وأن الخلق يصيرون إلى ذلك حق لا محالة كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأما كون ذلك تفسير الآية فهذا مقام آخر ليس هذا موضعه
ولفظ ( بدأ الله الخلق ) : يراد به ابتداء تكوينهم وهو ظاهر القرآن وقد يراد به ابتداء أسباب خلقهم وعلامات ذلك كما في قول السائل للنبي صلى الله عليه و سلم : [ ما كان أول أمرك ؟ قال : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي : رأت أنني حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ]
قال : ( وقال آخرون : معنى قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم ؟ قالوا جميعا : بلى فأما أهل السعادة فقالوا : بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا : بلى كرها غير طوع
قالوا : ويصدق ذلك قوله : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } قالوا : وكذلك قوله : { كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } قال محمد بن نصر المروزي : وسمعت إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } قال إسحاق : يقول : ( لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار واحتج إسحاق بقول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } قال : إسحاق : أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد : استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فقال : انظروا ألا تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل )
وذكر ( حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر قال : وكان الظاهر ما قال موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس ؟ فعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها وأنه لا تبديل لخلق الله : فأمر بقتله لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا )
وروى إسحاق حديث أبي بن كعب [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الغلام الذي قتله الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا ] وهذا الحديث رواه مسلم
وروى البخاري وغيره ( عن ابن عباس أنه كان يقرأها : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين قال إسحاق : فلو ترك النبي صلى الله عليه و سلم الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم فبين النبي صلى الله عليه و سلم حكم الطفل في الدنيا فقال : [ أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] يقول : أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين فمن كان صغيرا بين أبوين كافرين ألحق بحكم الكفار ومن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الأسلام وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله ويعلم ذلك فضل الخضر موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم
قال : ( ولقد [ سئل ابن عباس عن الولدان : ولدان المسلمين والمشركين فقال ابن عباس : حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر قال : إسحاق : ألا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين فقالت عائشة : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فرد عليها النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وقال : مه يا عائشة وما يدريك ؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها وخلق النار وخلق لها أهلها ] قال إسحاق : فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم )
( وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة ] فقال : هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم
قال ابن عبد البر : ( وقال ابن قتيبة : يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى )
قلت : مقصود حماد و إسحاق و مالك و ابن المبارك ومن اتبعهم كابن قتيبة و ابن بطة و القاضي أبي يعلى وغيرهم هو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر وهذا مقصود صحيح ولكن سلكوا في حصوله طرقا بعضها صحيح وبعضها ضعيف
كما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ثبت عنه أنه قال : [ احتج آدم وموسى فقال موسى : ربنا أرنا أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة فقال له : أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي كلمك الله تكليما وخط لك التوراة بيده فبكم تجد علي مكتوبا قبل أن أخلق : { وعصى آدم ربه فغوى } ؟ قال : بأربعين خريفا قال : فحج آدم موسى ] فبهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة وهو مروي بإسناد جيد من حديث عمر
فلما توهم من توهم أن ظاهره أن المذنب يحتج بالقدر على من لامه على الذنب اضطربوا فيه : فكذب به طائفة من القدرية كالجبائي وتأوله طائفة من أهل السنة تأويلات ضعيفة قصدا لتصحيح الحديث ومقصودهم صحيح لكن طريقهم في رد قول القدرية وتفسير الحديث ضعيفة كقول بعضهم إنما حجه لكونه أباه وقول الآخر : لكونه كان قد تاب وقول الآخر : لكون الذنب كان في شريعة والملام في أخرى وقول الآخر : حجة لأن الاحتجاج به كان في الآخرة دون الدنيا وقول الآخر : الاحتجاج بالقدر ينفع الخاصة المشاهدين لجريان القدر عليهم دون العامة فإن الحديث صريح بأن آدم احتج بالقدر وحج به موسى
وأيضا فموسى أعلم من أن يلوم تائبا وموسى وآدم أعلم من أن يظنا أن القدر حجة لأحد في ذنب فإن هذا لو كان حقا لكان حجة لإبليس وفرعون وكل كافر وفاسق
وكذلك قول من قال : إن الأحتجاج بالقدر لا يجوز في الدنيا بل بعد الموت قول باطل أو احتجاج الخاصة به سائغ فإنه قول باطل فإن الأنبياء جميعهم تابوا من ذنوبهم ولم يحتج أحد منهم بالقدر ووقع العتب والملام بسبب الذنب كما حقق الله ذلك في القرآن ولكن موسى لام آدم لما حصل له وللذرية من الشقاء بالخروج من الجنة كما في الحديث : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فلامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بسببه لا من جهة كونه عصى الأمر أو لم يعصه فإن هذا أمر قد تاب الله عليه منه واجتباه ربه وهداه فأخبر آدم بأن القدر قد سبق بذلك فما أصاب العبد لم يكن ليخطئه ما أخطاه لم يكن ليصيبه
كما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } وقال : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }
قال طائفة من السلف : هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فالعبد مأمور بالصبر عند المصائب نظرا إلى القدر وأما عند الذنوب فمأمور بالاستغفار
فحج آدم موسى لأن ما أصابهم من المصيبة كانت مقدرة هي وسببها فلا بد أن يصيبهم ذلك فلا فائدة من ملام لا يدفع المصيبة المقدرة بعد وقوعها وإنما الفائدة في الرجوع إلى الله
ومثل هذا قول أنس في الحديث الصحيح : [ خدمت رسول الله صلى الله عليه و سلم عشر سنين فما قال لي شيء فعلته لما فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول : دعوه فلو قضي شيء لكان ]
ومن هذا قوله في الحديث الصحيح : [ احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن اللو تفتح عمل الشيطان ]
والمقصود هنا أنهم تشعبوا في حديث الفطرة كتشبعهم في حديث الحجة وأصل مقصودهم من الإيمان بالقدر صحيح لكن لا يجب مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل
وكثيرا ما يقع لمن هو من أهل الحق - في أصل مقصوده وقد أخطأ في بعض الأمور - هذا المجرى مثل أن يتكلموا في مسألة فإذا أرادوا أن يجيبوا عن حجج المنازعين ردوها ردا غير مستقيم
وما ذكروه من أن الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والنكرة : إن أرادوا به أن الله سبق علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون وأن ذلك كان بمشيئة الله وقدرته وخلقه فهذا حق يرده القدرية فغلاتهم ينكرون العلم وجمهورهم ينكرون عموم خلقه وممشيئته وقدرته وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن إسحاق فهذا يتضمن شيئين : أحدهما : أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودا فيهم كما قال ذلك طوائف من السلف وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه والآية في تفسيرها نزاع ليس هذا موضعه وكذلك في وجود الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان
لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة وأن الله خلق خلقه حنفاء بل هو مؤيد لذلك
وأما قول القائل : إنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى : طائع وكاره فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السدي في تفيسره
قال السدي في قول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } قالوا : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال : ادخلوا النار ولا أبالي
فذلك قوله : وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال : { ألست بربكم قالوا بلى } فأطاعه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة : { شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله أنه ربه وذلك قوله عز و جل : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وذلك قوله : { فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } يعني يوم أخذ الميثاق
فهذا الأثر إن كان حقا ففيه أن كل ولد آدم يعرف الله فإذا كانوا ولدوا على هذه النطفة فقد ولدوا على المعرفة ولكن فيه أن بعضهم أقر كارها مع المعرفة بمنزلة الذي يعرف الحق لغيره ولا يقر به إلا مكرها وهذا لا يقدح في كون المعرفة فطرية مع أن هذا لم يبلغنا إلا في هذا الأثر ومثل هذا لا يوثق به فإن هذا في مثل تفسير السدي وفيه أشياء قد عرف بطلان بعضها إذ كان السدي - وإن كان ثقة في نفسه - فهذه الأشياء أحسن أحوالها أن تكون كالمراسيل إن كانت أخذت عن النبي صلى الله عليه و سلم فكيف إذا كان فيها ما هو مأخوذ عن أهل الكتاب الذين يكذبون كثيرا ؟ وقد عرف أن فيها شيئا كثيرا مما يعلم أنه باطل لا سيما ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تسوي بين جميع الناس في ذلك الإقرار
وقول الله تعالى : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } إنما هو في الإسلام الموجود بعد خلقهم لم يقل : إنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا وكرها يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله حجة عليهامن عند من يثبته ولو كان فيهم كاره لقال : لم أقل ذلك طوعا بل كرها فلا تقوم عليه به حجة
وأما احتجاج إسحاق رحمه الله بقول أبي هريرة : اقرأوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } قال إسحاق : نقول : لا تبديل للخلقة التي جبل عليها فهذه الآية فيها قولان : أحدهما : أن معناها النهي كما تقدم عن ابن جرير أنه فسرها بالنهي أي : لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين الذين لم يذكروا غيرهم كالثعلبي و الزمخشري
والثاني : ما قاله إسحاق : وهو أنه خبر على ظاهرها وأن خلق الله لا يبدله أحد وظاهر اللفظ أنه خبر فلا يجعل نهيا بغير حجة وهذا أصح
وحينئذ فيقال : المراد ما خلقهم عليه من الفطرة لا تبدل فلا يخلقون على غير الفطرة لا يقع هذا قط والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ولا تولد بهيمة قط مخصية ولا مجدوعة
وقد قال تعالى عن الشيطان : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فالله أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته
وأما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليها إلا الله والله لا يفعله كما قال : { لا تبديل لخلق الله } ولم يقل : لا تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله فلا يكون خلق بدل هذا الخلق ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة قد حصل بدله
وأما قول القائل : لا تبديل للخلقة التي جبل عليه ولد آدم كلهم من كفر وإيمان فإن عنى بها أن ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه فهذا حق ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع ولا أنه غير مقدور بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر وعلى أن يبدل حسناته بالسئيات بالتوبة كما قال تعالى : { إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم }
و { أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }


تعليق ابن تيمية
وهذا التبديل كله هو بقضاء الله وقدره وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة فإن ذاك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره وهو سبحانه لا يبدله قط بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس فإنه يبدله دائما والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك
ومما يبين ذلك أنه قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها ؟ وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر ؟
وقد تقدم تفسير السلف : لا تبديل لخلق الله تعالى بأنه : دين الله أو تبديل خلق الحيوان بالخصاء ونحوه ولم يقل أحد منهم إن المراد : لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ولا من كفر إلى إيمان إذ تبديل ذلك موجود ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر والله تعالى عالم بما سيكون لا يقع خلاف معلومه لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه وإن لم يقع كان عالما بأنه لا يقع
وأما قوله : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا فالمراد به : كتب وختم وهذا من طبع الكتاب وإلا فاستنطاقهم بقوله : { ألست بربكم قالوا بلى } ليس هو طبعا لهم فإنه ليس بتقدير ولا خلق
ولفظ ( الطبع ) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الجبلة والخليقة ظن الظان أن هذا مراد الحديث
وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه : إنه ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير مكلف بل ولا ما يبين أنه كان غير بالغ ولكن قال في الحديث الصحيح : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد فإن كان بالغا - وقد كفر - فقد صار كافرا بلا نزاع وإن كان مكلفا قبل الاحتلام في تلك الشريعة أو على قول من يقول : إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة و أحمد وغيرهم - أمكن أن يكون مكلفا بالإيمان قبل البلوغ ولو لم يكن مكلفا فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا وإن كان أبواه مؤمنين ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ
فالغلام الذي قتله الخضر : إما أن يكون كافرا بالغا كفر بعد البلوغ فيجوز قتله وإما أن يكون كافرا قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة وقتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما كما يقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل
بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل فقتل الصبي الكافر المميز يجوز لدفع صباله الذي لا يندفع إلا بالقتل وأما قتل صبي لم يكفر بعد بين أبوين مؤمنين للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن فقد يقال إنه ليس في القرآن ما يدل عليه ولا في السنة
وقد يقال : بل في السنة ما يدل عليه ومنه قول ابن عباس لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان : إن علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتله وإلا فلا رواه مسلم
والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارض إلا بما يصلح أن يعارض به ومن قال بالأول يقول : إن الله تعالى لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه ولا هو سبحانه يعاقب العباد بما يعلم أنهم سيعماونه حتى يفعلوه
ويقول قائل هذا القول : إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى مثل علمه بأن السفينة لمساكين ووراءهم ملك ظالم وهذا أمر يعلمه غيره وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين وأن أباهما كان رجلا صالحا هذا مما قد يعلمها كثير من الناس فكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه لكن لحبهما له لا ينكران عليه أو لا يقبل منهما الإنكار عليه
فإن كان الأمر على ذلك فليس في الآية حجة أصلا وإن كان ذلك الغلام لم يكفر بعد أصلا ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر فهذا أيضا يبين أنه قتل قبل أن يصير كافرا ومن قال هذا يقول : إنه قتل دفعا لشره
كما قال نوح : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } فقد دعا نوح عليها السلام بهلاكهم لدفع شرهم في المستقبل وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرا
وقول ابن عباس : وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ظاهره أنه كان حينئذ كافرا وأما تفسير قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير
وأيضا فإنه ذكر الحديث لما قتلوا أولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم وقال أليس خياركم أولاد المشركين ؟ كل مولود يولد على الفطرة فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون : هم كفار كآبائهم فنقتلهم
وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا فإنه لا بد من مرب يربيه وإنما يربيه أبواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة و الشافعي و أحمد و الأوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع للعلماء
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيرهم بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن أبويه يصير مسلما لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين مجرد لحاقه بهما في الدين ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطره فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينها وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المسبى بمنزلة الكافر
ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة
فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء فعلم أنه كان يجزي عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لا لأنه صار كافرا في نفس الأمر
يبين ذلك أنه لو سباه كفار لم يكن معه أبواه ولم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه ومجساه
فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقنانه الكفر ويعلمانه إياه وذكر صلى الله عليه و سلم الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال فإن كل طفل غير فلا بد له من أبوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك
ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر : [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا ] فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يثبت له أحد الأمرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه
وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه : [ إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ] صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك فلو كان الطفل يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه لم يكن الشياطين هن الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعا لآبائهم
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة آبائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبين آبائهم واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به
ومن هنا قال من قال : إن هذا الحديث - هو قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] كان قبل أن تنزل الأحكام كما ذكره أبوعبيد عن محمد بن الحسن فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا عى الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه من لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكام الدار الدنيا
وقوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعليها الثواب والعقاب في الآخرة إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض لم يرد له الإخبار بأحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار يكونون تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا وأن أولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة وإن كانوا محاربين استرقت أولادهم ولم يكونوا كأولاد المسلمين
ولا نزاع بين المسلمين أن أولاد الكفار الأحياء مع آبائهم لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه ؟ فعن أحمد رواية أنه يحكم بإسلامه لقوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] فإذا مات أبواه بقى على الفطرة
والرواية الأخرى كقول الجمهور : إنه لا يحكم بإسلامه
وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها
فقد عليم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي صلى الله علي وسلم بالمدينة ووادي القرى وخيبر ونجران وأرض اليمن وغير ذلك وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ولم يحكم النبي صلى الله عليه و سلم بإسلام يتامى أهل الذمة وكذلك خلفاؤه كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير ولم يحكموا بإسلام أحد منهم فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضا فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولون حضانة أولادهما
و أحمد رضي الله عنه يقول : إن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل مع قوله في إحدى الروايتين : إنه يصير مسلما لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثونهم ولأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث لم يحصل قبله والقول الآخر هو الصواب كما تقدم
والمقصود هنا أن قوله : [ كل مولود يولد على الفطرة ] لم يرد به في أحكام الدنيا بل في نفس الأمر وهو ما يترتب عليه الثواب والعقاب ولهذا لما قال هذا سألوه فقالوا : يا رسول الله : أرأيت من يموت من أطفال المشركين ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين فإن من بلغ منهم فهو مسلم أو كافر بخلاف من مات
وقد تنازع الناس في أطفال المشركين على أقوال : فقالت طائفة : إنهم كلهم في النار وقالت طائفة : كلهم في الجنة وكل واحد من القولين اختاره طائفة من أصحاب أحمد الأول : اختاره القاضي أبي يعلى وغيره وحكوه عن أحمد وهو غلط على أحمد كما أشرنا إليه
والثاني : اختاره أبو الفرج بن الجوزي وغيره ومن هؤلاء من يقول : هو خدم أهل الجنة ومنهم من قال : هم من أهل الأعراف
والقول الثالث : الوقف فيهم وهذا هو الصواب الذي دلت عليها الأحاديث الصحيحية وهو منصوص أحمد وغيره من الأئمة
وذكره ابن عبد البر عن حماد بن سلمة و حماد بن زيد و ابن المبارك و إسحاق بن راهويه قال : وعلى ذلك أكثر أصحاب مالك وذكر أيضا في أطفال المسلمين نزاعا ليس هذه موضعه
لكن الوقف قد يفسر بثلاثة أمور :
أحدها : أنه لا يعلم حكمهم فلا يتكلم فيهم بشيء وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى النسة وقد يقال : إن كلام أحمد يدل عليه
والثاني : أنه يجوز أن يدخل جميعهم الجنة ويجوز أن يدخل جميعهم النار وهذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أهل الكلام وغيرهم من أصحاب أبي الحسن الأشعري وغيرهم
والثالث : التفصيل كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فمن علم الله منه أنه إذا بلغ أطاع أدخله الجنة ومن علم منه أن يعصي أدخله النار
ثم من هؤلاء من يقول : إنهم يجزيهم بمجرد علمه فيهم كما يحكى عن أبي العلاء القشيري المالكي
والأكثرون يقولون : لا يجزي على علمه بما سيكون حتى يكون فيمتنحهم يوم القيامة ويمتحن سائر من لم تبلغه الدعوة في الدنيا فمن أطاع حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار
وهذا القول منقول عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم
وقد روي به آثار متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم حسان يصدق بعضها بعضا وهو الذي حكاه الأشعري في المقالات عن أهل السنة والحديث وذكر أنه يذهب إليه وعلى هذا القول تدل الأصول المعلومة بالكتاب والسنة كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين أن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا
والمقصود هنا الكلام على الأقوال المذكورة في تفسير هذا الحديث وقد تبين ضعف قول من قال : الفطرة : الكفر والإيمان وأن الإقرار كان من هؤلاء طوعا ومن هؤلاء كرها
ومما يضعف هذا القول طائفة أخرى بأن جميع أولئك كان إقرارهم جميعهم له بالربوبية من غير تفصيل بطوع وكره


تعليق ابن تيمية
قال ابن عبد البر : ( وقال آخرون : معنى الفطرة المذكورة في المولدين ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره فخاطبهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى فأقروا جميعا له بالربوبية عن معرفة منهم به ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم مخلوقين مطبوعين على تلك المعرفة وذلك الإقرار
قالوا : وليست تلك المعرفة بإيمان ولا ذلك الإقرار بإيمان ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرة ألزمها قلوبهم ثم أرسل إليهم الرسل يدعوهم إلى الاعتراف له بالربوبية والخضوع تصديقا بما جاءت به الرسل فمنهم من أنكر وجحد بعد المعرفة وهو به عارف لأنه لم يكن الله يدعو خلقه إلى الإيمان به وهو لم يعرفهم نفسه لأنه كان حينئذ يكون قد كلفهم الإيمان بما لا يعرفون
قالوا : وتصديق ذلك قول الله عز و جل : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وذكروا ما ذكره السدي عن أصحابه ) كما تقدم
وروى بإسناده في التفسير المعروف عن أبي جعفر الرازي ( عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله عز و جل : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إلى قوله : { أفتهلكنا بما فعل المبطلون }
قال : فجعلهم جميعا أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن يقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك
قال : فإني أرسل إليكم رسلي وأنزل عليكم كتبي فلا تكذبوا رسلي وصدقوا بوعدي وإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي
قال : فأخذ عهدهم وميثاقهم ورفع أباهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك فقال : يا رب لو سويت بين عبادك ؟ قال : أحببت أن أشكر
قال : والأنبياء يومئذ بينهم مثل السرج
وقال : وخصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها
قال : فهو قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح }
قال : وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها )
قال : ( وذلك قوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين }
قال : ( فكان في علم الله من يكذب به ومن يصدق قال : وكان روح الله عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عهدها وميثاقها في زمن آدم )
فهذا القول يحقق القول الأول في أن كل مولود يولد على الفطرة التي هي المعرفة بالله والإقرار به وفيه زيادة : أن ذلك كان قد حصل لهم قبل الولادة حين استخرجوا من صلب آدم وقد فسر ( فطرة الله ) في الحديث بذلك
وأما قول صاحب هذا القول : ( إن هذا الإقرار ليس هو بإيمان يستحق عليه الثواب ) فهذا لا يضر فإنه قد بين فيه أن المعرفة بالله ضرورية وأنه بذلك صح أن يأمرهم فإن المأمور إن لم يعرف الآمر امتنع أن يعرف أنه أمره ولو لم تكن المعرفة ثابتة في الفطرة لكان الرسول إذا قال لقومه : أدعكم إلى الله لقالوا مثل ما قال فرعون : وما رب العالمين ؟ إنكارا له وجحدا كأن يكون قولهم متوجها
وفرعون لم يقل هذا لعدم معرفته في الباطن بالخالق لكن أظهر خلاف ما في نفسه كما قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وكما قال له موسى : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر }
ولهذا قال تعالى : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } فأخبر تعالى أن أولئك المكذبين لما قالوا : { إنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب * قالت رسلهم أفي الله شك }
وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي والأنكار على من لم يقر بهذا النفي والمعنى : ما في الله شك وأنتم تعلمون أنه ليس في الله شك ولكن تجحدون انتفاء الشك جحودا تستحقون أن ينكر عليكم هذا الجحد فدل ذلك على أنه ليس في الله شك عند الخلق المخاطبين وهذا يبين أنهم مفطورون على الإقرار وإلا فالأمر النظري مسلتزم للشك قبل العلم لا سيما إذا كانت طرقة خفية طويلة فكل من لم يعرف تلك الطرق يشك فيه فإن كان لا طريق للمعرفة إلا طريقة الأعراض وطريقة الوجود ونحو ذلك فالشك في الله حاصل لمن لم يعرف هذه الطرق وهم جمهور الخلق بل ولأكثر من سلك هذه الطرق أيضا إذا عرف حقيقتها
قال ابن عبد البر : ( وقال آخرون معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم [ كل مولود يولد على الفطرة ] لم يرد رسول الله عليه وسلم بذكر الفطرة ها هنا كفرا ولا إيمانا ولا معرفة ولا إنكارا وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقة وطبعا وبنية ليس معها كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميزوا
واحتجوا بقوله في الحديث : [ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ] يعني سالمة : [ هل تحسون فيها من جدعاء ] يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها فيقال : هذه بحاير وهذه سوايب يقول : فكذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم كفر حينئذ ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم وعصم الله أقلهم قالوا : ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا وقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون قالوا : ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يعقل كفرا أو إيمانا لأن الله أخرجهم في حال لا يفقهون فيها شيئا
قال تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار
قال أبو عمر : هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي يولد الولدان عليها وذلك أن الفطرة : السلامة والاستقامة بدليل قوله في حديث عياض بن حمار : إني خلقت عبادي حنفاء يعني على استقامة وسلامة فكأنه - والله أعلم - أراد الذين خلصوا من الآفات كلها والزيادات ومن المعاصي والطاعات فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما
ومن الحجة أيضا في هذا قول الله تعالى : { إنما تجزون ما كنتم تعملون } { كل نفس بما كسبت رهينة } ومن لم يبلغ وقت العمل لم يرتهن بشيء قال الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
قلت : هذا القائل إن أراد بهذا القول أنهم خلقوا خالين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام - فهذا قول فاسد لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار والتهويد والتنصير والإسلام وإنما ذلك بحسب الأسباب فكان ينبغي أن يقال : فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه فلما ذكر أن أبوه يكفرانه وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل غير حكم الكفر
وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب ولا استقامة ولا زيغ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة وليس هو بأحدهما أولى منه بالآخر كما أن الرق قبل الكتابة فيه لا يثبت له حكم مدح كالمصحف ولا حكم ذم القرآن مسيلمة والتراب قبل أن يبنى مسجدا أو كنيسة لا يثبت له حكم واحد منهما
ففي الجملة كل ما كان قابلا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحق مدحا ولا ذما والله تعالى يقول : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها فكيف لا يكون فيها مدح ولا ذم ؟
وأيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجدع الأنف والأذن ومعلوم أن كمالها محمود ونقصها مذموم فكيف تكون فبل النقص لا محمودة ولا مذمومة ؟
وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من الناس من أن المراد : أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة - فهذا القول قد يقال : إنه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله فإنه صاحبه يقول : في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والإيمان كما في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها لكن يقال : فهذا الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية : هل هي كافية في حصول المعرفة أو تقف المعرفة على أدلة يتعلمها من خارج ؟
فإن كانت المعرفة تقف على أدلة يتعلمها من خارج أمكن أن توجد تارة وتعدم أخرى ثم ذلك السبب الخارج يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت المعرفة واجبة الحصول عند وجود تلك الأسباب وإلا فلا وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك
ومعلوم أن فيها قبول الإنكار والكفر إذا وجدت من يعلمها أسباب ذلك وهو التهويد والتنصير والتمجيس وحينئذ فلا فرق بين الإيمان والكفر والمعرفة والإنكار إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج
وهذا القسم الأول الذي أبطلناه وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة وإن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة لزم حصول المعرفة فيها بدون ما نسمعه من أدلة المعرفة سواء قيل : إن المعرفة ضرورية فيها أو قيل : إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس من غير أن يسمع كلام مستدل فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال مالا يحتاج معه إلى كلام أحد فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم أن يكون المقتضى للمعرفة حاصلا لكل مولود وهو المطلوب
والمقتضى التام يستلزم مقتضاه فتبين أن أحد الأمرين لازم : إما لكون الفطرة مستلزمة للمعرفة وإلا استوى الكفر والإيمان بالنسبة إليها وذلك ينفي مدحها
وتلخيص النكتة أن يقال : المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب فإما أن تكون هو موجبة مسلتزمة له وإما أن يكون ممكنا بالنسبة إليها ليس بواجب لازم لها
فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان إذ كلاهما ممكن بالنسبة إليها فتبين أن المعرفة لازمة واجبة لها إلا أن يعارضها معارض
فإن قيل : ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكنها إليها أميل مع قبولها للنكرة
قيل : فحينئذ إذا لم تسلتزم المعرفة وجبت تارة وعدمت أخرى وهي وحدها لا تحصلها فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين فيكون الإسلام كالتهويد والتنصير والتمجيس
ومعلوم أن هذه الأنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجيس ولكن مع ذلك لما لم تكن الفطرة مقتضية لشيء منها أضيفت إلى السبب فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس فوجب أن تذكر كما ذكر ذلك وهذا كما أن الفطرة لو لم تقتض الأكل عند الجوع - مع القدرة عليه - لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل
والنبي صلى الله عليه و سلم شبه اللبن بالفطرة لما عرض عليه الخمر واللبن واختار اللبن فقال له جبريل : أصبت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك
والطفل مفطور على أن يختار شرب اللبن بنفسه فإذا تمكن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض وهو مولود على أن يرتضع فكذلك هو مولود على أن يعرف الله والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض
وأيضا فإن حب النفس وخضوعها لله وإخلاص الدين له مع الكبر والشرك والنفور إما أن يكون نسبتها إلى الفطرة سواء أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم ولم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان ويكون تمجيسها كتحنيفها وقد عرف بطلان هذا
وإن كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مسلتزما لمقتضاة عند عدم المعارض وإما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها فإن كان الأول ثبت أن ذلك من لوازمها وأنه مفطورة عليه لا تفقد إلا إذا فسدت الفطرة
وإن قيل : إنه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا
وإذا قيل : هي إلىالحنيفية أميل كان كما يقال : هي إلى النصرانية أميل
فتبين أن فيها قوة موجبة لحب الله والذل له وإخلاص الدين له وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض كما فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه


تعليق ابن تيمية
ومما يبين هذا أن كل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد فما في النفوس من قوة المحبة له - إذا شعرت به - يقتضي حبه إذا لم يحصل معارض
وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح ومحبة العلم وغير ذلك وإذا كان كذلك وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والذل له وإخلاص الدين له وأن فيها قوة الشعور به - لزم قطعا وجود المحبة فيها والذل بالفعل لوجود المقتضى الموجب إذا سلم عن المعارض وعلم أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل يكلمها بكلام وإن كان وجود هذا قد يذكر ويحرك كما لو خوطب الجائع بوصف طعام أو خوطب المغتلم بوصف النساء فإن هذا مما يذكر ويحرك لكن لا يجب ذلك في وجود الشهوة للطعام ووجود الأكل
فكذلك الأسباب الخارجة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق والذل له ومحبته وإن كان ذلك مذكرا ومحركا أومزيلا للمعارض المانع لكن المقصود أنه لا يحتاج حصول ذلك في الفطرة إليه مطلقا
وأيضا فالإقرار بالصانع بدون عبادته بالمحبة له والذل له وإخلاص الدين له لا يكون نافعا بل الإقرار مع البعض أعظم استحقاقا للعذاب فلا بد أن يكون في الفطرة مقتض للعلم ومقتض للمحبة والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج بل هو جبلي فطري وإذا كانت المحبة جبلية فطرية فشرطها - وهو المعرفة أيضا - جبلي فطري فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به
وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وهو فطرة الله التي أمر الله بها
وأيضا فإذا كانت المحبة فطرية وهي مشروطة بالشعور لزم أن يكون الشعور أيضا فطرية والمحبة له أيضا فطرية لأنها لو لم تكن فطرية لكانت النفس قابلة لها ولضدها على السواء وهذا ممتنع كما تقدم وإذا كانت في الفطرة أرجح لزم وجودها في الفطرة وإلا كانت ممكنة الحصول وعدمه كما في المجوسية وغيرها من الكفر فتبقى الحنيفية مع المجوسية كاليهودية مع المجوسية وهذا باطل كما تقدم
فعلم أن الحنيفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها والحب لله والخضوع له والإخلاص له هو أصل أعمال الحنيفية وذلك مسلتزم للإقرار والمعرفة ولازم اللازم لازم وملزوم الملزوم ملزوم فعلم أن الفطرة ملزومة لهذه الأحوال هذه الأحوال لازمة لها وهو المطلوب
قال أبو عمر : ( قد مضى في الفطرة ومعناها عند العلماء ما بلغنا عنهم والحمد لله وأما أهل البدع فمنكرون لكل ما قاله العلماء في تأويل قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } الآية قالوا : ما أخذ الله من آدم ولا من ذريته ميثاقا قط قبل خلقه إياهم وما خلقهم قط إلا في بطون أمهاتهم وما استخرج قط من ظهر آدم ذرية تخاطب ولو كان ذلك لأحياهم ثلاث مرات
والقرآن قد نطق عن أهل النار : { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } من غير إنكار عليهم
وقال تعالى تصديقا لذلك : { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } قالوا : وكيف يخاطب الله عز و جل من لا يعقل ؟ وكيف يجيب من لا عقل له ؟ أم كيف يحتج عليه بميثاق لا يذكرونه ؟ أم كيف يؤاخذون بما قد نسوه ولم يذكروه ولا يذكر أحد أن ذلك عرض له أو كان منه ؟
قالوا : وإنما أراد الله بقوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } إخراجه إياهم في الدنيا وخلقه لهم وإقامة الحجة عليهم بأن فطرهم ونبأهم فطرة : إذا بلغوا وعقلوا علموا أن الله ربهم ثم اختلف القائلون بهذا كله في المعرفة : هل تقع ضرورة أو اكتسابا على ما قد ذكرنا في غير هذا المكان )
قلت : ليس المقصود هنا الكلام على هذه الآية وتفسيرها والكلام في معرفة حاصلة قبل الولادة أو نفيها بل المقصود إثبات المعرفة الفطرية الحاصلة بعد الولادة وإذا كان من نفاة الأول من يقول : إن هذه ضرورية فكيف بمن أثبت الثنتين وهذه الأقوال التي ذكرها منها اثنان من جنس وهو قول من يقول : ولدوا على ما سبق به القدر أو على ذلك وكانوا مفطورين عليه من حين الميثاق الأول منهم مقر طوعا وكرها أو اثنان من جنس وهو قول من يقول : ولدوا قادرين على المعرفة وقول من يقول : ولدوا قابلين لها وللتهود والتنصر إما من التساوي وإما مع رجحان القبول للإسلام
وأما من قول من يقول : ولدوا على فطرة الإسلام أو علىالإقرار بالصانع وإن لم يكن ذلك وحده أيمانا أو على المعرفة الأولى يوم أخذ الميثاق عليهم - فهذه الثلاثة لا منافاة بينها بل يحصل بها المقصود
والكتاب - والسنة - دل على ما اتفقت عليه من كون الخلق مفطورين على دين الله الذي هو معرفة الله والإقرار به بمعنى أن ذلك موجب فطرتهم وبمقتضاها يجب حصوله فيها إذا لم يحصل ما يعوقها فحصوله فيها لا يقف على وجود شرط بل على انتفاء مانع
ولهذا لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم لموجب الفطرة شرطا بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] كما قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } فأخبر أن المشركين مفترقون
ولهذا قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه لا تشركوه به شيئا وأنت تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ]
وقد قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }
وقال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين }
وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون }
وأصل الدين الذي فطر الله عليه عباده كما قال : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فهو يجمع أصلين :
أحدهما عبادة الله وحده لا شريك له وإنما يعبد بما أحبه وأمر به وهذا هو المقصود الذي خلق الله له الخلق وضده الشرك والبدع
والثاني : حل الطيبات التي يستعان لها على المقصود وهو الوسيلة وضدها تحريم الحلال والأول كثير في النصارى والثاني - وهو تحريم الطيبات - كثير في اليهود وهما جميعا في المشركين
ولهذا ذم الله تعالى المشركين على هذين النوعين في غير موضع من كتابه كسورة الأنعام والأعراف يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وغير ذلك وذمهم على ما ابتدعوه من العبادات التي لم يشرعها الله تعالى
وفي الحديث : [ أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ] فنعبده وحده بفعل ما أحبه ونستعين على ذلك بما أحله
كما قال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم }
وهذا هو الدين الذي فطر الله عليه خلقه فإنه محبوب لكل أحد فإنه يتضمن الأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتحليل الطيبات النافعة وتحريم الخبائث الضارة


الأدلة العقلية تدل على أن كل مولود يولد على الفطرة
وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من أن [ كل مولود يولد على الفطرة ] مما تقوم الأدلة العقلية على صدقه كما أخبر الصادق المصدوق وتبين أن من خالف مدلول هذا الحديث فإنه مخطىء في ذلك
وبيان ذلك من وجوه :
( الوجه الأول )
أن يقال : لا ريب أن الإنسان قد يحصل له تارة من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقا وتارة ما يكون باطلا فإن اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهو الحق وقد تكون غير مطابقة وهو الباطل والخبر عن هذا صدق وعن هذا كذب والإرادات تنقسم إلىما يوافق مصلحته وهو جلب المنفعة له وإلى ما لا يوافق مصلحته بل يضره
فإن الإنسان حساس متحرك بالإرادة ولهذا [ قال صلى الله عليه و سلم : أصدق الأسماء : الحارث وهمام وأحبها إلى الله : عبد الله وعبد الرحمن وأقبحها : حرب ومرة ] فإن الإنسان لا بد له من حرث وهو العمل والحركة الإرادية ولا بد من أن يهم بالأمور : منها ما يهم به ويفعله ومنها ما يهم به ولا يفعله فإن كان المراد موافقا لمصلحته كانت الإرادة حسنة محمودة وإن كان مخالفا لمصلحته كانت الإرادة سيئة مذمومة كمن يريد ما يضر عقله ونفسه وبدنه
وإذا كان الإنسان تارة تكون تصديقاته وإراداته حسنة محمودة وتارة تكون سيئة فلا يخلو : إما أن تكون نسبة نفسه إلى النوعين نسبة واحدة بحيث لا يترجح أحد الصنفين على الآخر بمرجح من نفسه أو لا بد أن تكون نفسه مرجحة لأحد النوعين
فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد الصنفين إلا بمرجح منفصل عنه ثم ذلك المرجح المنفصل إذا قدر مرجحان : أحدها يرجح الصدق الذي ينفعه والآخر يرجح الكذب الذي يضره فإما أن يتكافأ المرجحان أويترجح أحدهما فإن تكافأ المرجحان لزم أن لا يحصل واحد منهما وهو خلاف المعلوم بالضرورة فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وأن ينتفع وأن يكذب وتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع وإذا كان لا بد من ترجيح أحدهما فترجح الكذب الضار - مع فرض تساوى المرجحين أولى بالامتناع من تكافيهما فعين أنه تكافأ المرجحان فلا بد أن يترجح عنده الصدق والنفع وهو المراد باعتقاد الحق وإرادة الخير
فعلم أن في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع وحينئذ فالإقرار بوجود الصانع ومعرفته والإيمان به هو الحق أو نقضيه ؟ والثاني معلوم الفساد قطعا فتعين الأول وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به
وأيضا فإنه مع الإقرار به إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو عدم محبته والثاني معلوم الفساد وإذا كان الأول أنفع له كان في فطرته محبة ما ينفعه
وأيضا فإنه إما أن تكون عبادته وحده لا شريك له أكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به والثاني معلوم الفساد فوجب أن يكون في فطرته مقتض يقتضي توحيده
وأيضا فأما أن يكون دين الإسلام مع غيره من الأديان متماثلين أو الإسلام مرجوحا أو راجحا والأول والثاني باطلاق باتفاق المسملين وبأدلة كثيرة فوجب أن يكون في الفطرة مقتض يقتضي خير الأمرين لها وامتنع أن تكون نسبة الإسلام وسائر الملل إلى الفطرة واحدة سواء كانت نسبة قدرة أو نسبة قبول
وإذا لزم أن يكون في الفطرة مرجح للحنيفية التي أصلها معرفة الصانع ومحبته وإخلاص الدين له فإما أن يكون مع ذلك لا يوجد مقتضاها إلا بسبب منفصل مثل من يعلمه ويدعوه أو يمكن وجود ذلك بدون هذا السبب المنفصل
فإن كان الأول لزم أن يكون موجبها متوقفا على مخاطب منفصل دائما فلا يحصل بدونه البتة ثم القول في حصول موجبها لذلك المخاطب المنفصل كالقول في الأول وحينئذ فيلزم التسلسل في المخاطبين ووجود مخاطبين لا يتناهون وهو أيضا مخاطبون وهذا تسلسل في الفاعلين وهو ممتنع
وإن كان في المخاطبين من حصل له بموجب الفطرة بلا مخاطب منفصل دل على إمكان ذلك في الفطرة فبطل هذا التقدير : وهو كون موجب الفطرة لا يحصل قط إلا لمخاطب منفصل وإذا أمكن حصول موجب الفطرة بدون مخاطب منفصل علم أن في الفطرة قوة تقتضي ذلك وأن ذلك ليس موقوفا على مخاطب منفصل لكن قد يكون لذلك المقتضى معارض مانع وهذا هو الفطرة
وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد في الفطر ما يكون مستغنيا عن مخاطب منفصل في حصول موجب الفطرة لكن لا يقتضي أن كل واحد كذلك لكن إذا عرف أن ما جاز على أحد الإنسانين يجوز على الآخر لتماثلهما في النوع أمكن ذلك في حق كل شخص وهو المطلوب


الوجه الثاني
أن يقال : إذا ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته ومحبته حصل المقصود بذلك وإن لم تكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك بل يحتاج كثير منهم في حصول ذلك إلى سبب معين للفطرة : كالتعليم والتخصيص فإن الله قد بعث الرسل وأنزل الكتب ودعوا الناس إلى موجب الفطرة : من معرفة الله وتوحيده فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة وإلا استجابت لله ورسله لما فيها من المقتضى لذلك
ومعلوم أن قوله : كل مولود يولد على الفطرة ليس المراد به أنه حين ولدته أمه يكون عارفا بالله موحدا له بحيث يعقل ذلك فإن الله يقول : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا }
ونحن نعلم بالاضطرار أن الطفل ليس عنده معرفة بهذا الأمر ولكن ولادته على الفطرة تقتضي أن الفطرة تقتضي ذلك وتستوجبه بحسبها فكلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل من معرفتها بربها ومحبتها له ما يناسب ذلك كما أنه ولد على أنه يحب جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ فحصول موجب الفطرة سواء توقف على سبب وذلك السبب موجود من خارج أو لم يتوقف على التقديرين يحصل المقصود ولكن قد يتفق لبعضها فوات الشرط أو وجود مانع فلا يحصل مقصود الفطرة


الوجه الثالث
أن يقال : من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم ومخصص حصل لها من العلم والإرادة بحسب ذلك ومن المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ومعلوم أن مجرد التعليم والتخصيص لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك وإلا فلو علم البهائم والجمادات وحضضها لم يحصل لها ما يحصل لبني آدم والسبب في الموضعين واحد فعلم أن ذلك لاختلاف القوابل
ولهذا يشترك الناس في سماع القرآن ويتفاوتون في آثاره فيهم من العلم والحال وهكذا في سائر الكلام وإذاكان كذلك علم أن في النفوس قوة تقتضي العلم والإرادة
يبين ذلك أن ذلك المرجح إذا حصل من خارج فمعلوم أنه نفس لا يوجب بنفسه حصول العلم والإرادة في النفس إلا بقوة منها تقبل ذلك وتلك القوة لا تتوقف على أخرى وإلا لزم التسلسل الذي لا يتناهى بين طرفين متناهين أو الدور القبلي وكلاهما ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء
فهذا يدل على أن في النفس قوة ترجح الدين الحق علىغيره وحينئذ فالمخاطب إنما عنده تنبيها على ما لا تعلمه لتعلمه أو تذكيرها بما كانت ناسية لتذكره أو تخضيضها على ما لا تريده لتريده ونحو ذلك
وكل هذه الأمور يمكن أن تحصل بخواطر في النفس تقتضي تنبيهها وتذكيرها وتحضيضها واعتبار الإنسان ذلك من نفسه يوجب علمه بذلك فإن ما يسمعه الإنسان من كلام البشر بمكن أن يخطر له مثله في قلبه فعلم أن الفطرة يمكن حصول إقرارها بالصانع والمحبة والإخلاص له بدون سبب منفصل وأنه يمكن أن تكون الذات كافية في ذلك
ومن المعلوم أنه إذا كان المقتضى لذلك قائما في النفس وقدر عدم المعارض فالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم يجب مقتضاه فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يصل لها من يفسدها كانت مقرة بالصانع عابدة له
فإن قيل : هذه الخواطر التي تخطر للإنسان قد تحصل لبعض الناس دون بعض بحسب ما يتفق من الأسباب كما أن بعض الناس يحصل له من يخاطبه دون بعض فليسوا مشتركين في أسباب الخواطر والخطاب
قيل : إذا لم تكن الخواطر متوقفة على مخاطب من خارج كانت الفطرة الإنسانية هي المقتضية لذلك وإن كان ذلك بأسباب يحدثها الله من إلهام ملك أو غيره لكن المقصود أنه لا يحصل لها ذلك بواسطة تعلم إنسان ودعائه وهذا هو المقصود بيانه من كونها ولدت على الفطرة ليس المراد أنه يجب وجود الهدى لكل إنسان فإن هذا خلاف الواقع والحديث قد بين أن المولود يعرض له من يغير فطرته


الوجه الرابع
أن يقال : هب أنه لا بد من الداعي المعلم من خارج لكن في النفس ما يوجب ترجيح الحق على الباطل في الاعتقادات والإرادات وهذا كاف في كونها ولدت على الفطرة


الوجه الخامس
أن يقال : المقصود أنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح لأن المقتضي فيه للعلم والإرادة النافعة قائم والمانع زائل إذ يجب وجود مقتضاه
والأول استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب من فصل على وجود المقتضي التام في الفطرة وهذا استدلال بوجود المقتضي التام على حصول مقتضاه
وليس المقصود هنا أن المقتضى التام يجب وجوده لكل أحد فإنه هذا ممتنع بل إن الفطرة تقتضى وجوده كما تقتضى فطرة الصبي شرب لبن أمه فلو لم يعرض له المانع للزم وجود الشرب لكن قد يعرض له مرض فيه أو في أمه أو غير ذلك يوجب نفوره عن شرب لبنها وحب العبد لربه هو مفطور فيه أعظم مما فطر فيها حبه للبن أمه
قال الله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } فلو لم يكن المقتضي التام ممكن وجوده في الفطرة لم يحصل موجبها إلا بمرجح من خارج وهو خلاف الواقع ولأنها إذا خلت عن الأسباب الخارجة لم يكن بد من وجود صلاحها أو فسادها والثاني ممتنع فتعين الأول


الوجه السادس
أن السبب الذي في الفطرة : إما أن يكون مسلتزما للمعرفة والمحبة وإما أن يكون مقتضيا لها بدون استلزام وعلى التقديرين يحصل المقصود


الوجه السابع
أن النفس لا تخلو عن الشعور والإرادة بل هذا الخلوممتنع فيها فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها ولا يتصور أن تكون النفس إلا شاعرة مريدة ولا يجوز أن يقال : إنها قد تخلو في حق الخالق تعالى عن الشعور بوجوده وعدمه وعن محبته وعدم محبته
وحينئذ فلا يكون الإقرار به ومحبته من لوازم وجودها ولو لم يكن لها معارض بل هذا باطل
وذلك أن النفس لها مطلوب مراد بضروة فطرتها وكونها مريدة من لوازم ذاتها لا يتصور أن تكون نفس الإنسان غير مريدة
ولهذا قال صلى الله عليه و سلم : [ أصدق الأسماء الحارث وهمام ] وهي حيوان وكل حيوان متحرك بالإرادة فلا بد لها من حركة إرادية وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه فيمتنع أن تكون جميع المرادات مرادات لغيرها فإن هذا تسلسل في العلل الغائبة وهو ممتنع كامتناع التسلسل في العلل الفاعلية بل أولى
وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهذا هو الإله الذي يألهه القلب فإذا لا بد لكل عبد من إله فعلم أن العبد مفطور على انه يحب إلهه
ومن الممتنع أن يكون مفطورا على أنه يأله غير الله لوجوده :
منها : أن هذا خلاف الواقع
ومنها : أنه ليس هذا المخلوق بأن يكون إلها لكل الخلق بأولى من هذا
ومنها : أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد بل عبد كل قوم ما يستحسنوه
ومنها : أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل من الميت فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة ميت وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله يألهه فلو كان هذا يأله هذا وهذا يأله هذا لزم الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فلا بد لهم كلهم من إله يألهونه
فإن قلت : ما ذكرته يستلزم أنه لا بد لكل حي من إله أو لكل إنسان من إله لكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس مطلق المألوه لا مألوها معينا وجنس المراد لا مرادا معينا ؟
قيل : هذا ممتنع فإن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه فالأول مثل كون العطشان يريد ماء والسغبان يريد طعاما فإرادته هنا لم تتعلق بشيء معين فإذا حصل عين من النوع حصل مقصوده
والمراد لذاته لا يكون نوعا لأن أحد المعنيين ليس هو الآخر فلو كان هذا مرادا لذاته للزم أن لا يكون الآخر ماردا لذاته وإذا كان المراد لذاته هو القدر المشترك بينهما لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مرادا لذاته وإذا لم يكن مرادا لذاته لزم أن يكون ما يختص به كل منهما ليس مرادا لذاته
والكلي لا وجود له في الأعيان إلا معينا فإذا لم يكن في المعينات ما هو مارد لذاته لم يكن في الموجودات الخارجية ما هو مراد لذاته فلا يكون فيها ما يجب أن يألهه أحد فضلا عما يجب أن يألهه كل واحد
فتبين أنه لا بد من إله معين هو المحبوب لذاته من كل حي ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله فلزم أن يكون هو الله وعلم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وأن كل مولود ولد على حبة هذا الإله ومحبته مستلزمة لمعرفته فعلم أن كل مولود ولد على محبته ومعرفته وهو المطلوب
وهذا الدليل يصلح أن يكون مستقلا وهذا بخلاف ما يراد جنسه كالطعام والشراب فإنه ليس في ذلك ما هومارد لذاته بل المراد دفع ألم الجوع والعطش أو طلب لذة الأكل والشرب وهذا حاصل بنوع الطعام والشراب لا يتوقف على معين بخلاف ما هو مارد ومحبوب لذاته فإنه لا يكون إلا معينا
أن يقال : اليهود عندهم نوع من المعرفة بالحق لكن بلا عمل به بل مع بغض له ونفور عنه واستكبار والنصارى معهم نوع من المحبة والطلب والإرادة لكن بلا علم بل مع ضلال وجهل ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ] رواه الترمذي وصححه
وأمرنا الله أن نقول في صلاتنا : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آمين فإن النعمة المطلقة لا تحصل إلا بمعرفة الحق واتباعه وإذا كان كذلك والإنسان يحتاج إلى هذا وهذا فطرته السليمة : إما أن تكون مقتضية لمعرفة الحق دون العلم به أو للعمل به دون معرفته أو لهما أو لا لواحد منهما
فإن كان الرابع : فيلزم أن يستوي عندها الصدق والكذب والاعتقاد المطابق والفاسد وإرادة ما ينفعها وإرادة ما يضرها وهذا خلاف ما يعلم بالحس الباطن والظاهر وبالضرورة
وإن كان الثالث : فيلزم أن يستوي عندها مع العمل أن تعلم وأن تجهل وأن تهتدي وأن تضل وأن لا يكون فيها مع استواء الدواعي الظاهرة ميل إلى أحدهما وهوأيضا خلاف المعلوم بالحس والضرورة
وإن كان الثاني : فيلزم أن يستوي عندها إرادة الخير النافع والشر الضار دائما إذا استوت الدواعي الخارجة هو أيضا خلاف الحس الباطن والظاهر وخلاف الضرورة فبين أنه لا يستوى عندها هذان بل يترجح عندها هذا وهذا جميعا
وحينئذ فلا تكون مفطورة لا على يهودية ولا على نصرانية فعلى المجوسبة أولى ويلزم أن تكون مفطورة على الحنيفية المتضمنة لمعرفة الحق والعمل به وهو المطلوب


فصل في قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
قالت الله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وللناس في هذه العبادة التي خلقوا له قولان :
أحدهما : أنها وقعت منهم ثم هؤلاء منهم من يقول : جميعهم خلقوا لها ومنهم من يقول : إنما خلق لها بعضهم
والقول الثاني : أنهم كلهم خلقوا لها ومع ذلك فلم تقع إلا من بعضهم وهؤلاء حزبان :
حزب يقولون : إن الله لم يشأ إلا العبادة لكنهم فعلوا ما لا يشاؤه بغير قدرته ولا مشيئته وهم القدرية المنكرون لعموم قدرته ومشيئته وخلقه
والثاني يقولون : بل كل ما وقع فهو بمشيئته وقدرته وخلقه لكن هو لا يحب إلا العبادة التي خلقهم لها ولا يأمر إلا بذلك فمنهم من أعانة ففعل المأمور به ومنهم من لم يفعله
واللام عند هؤلاء كاللام في قوله : { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } وفي قوله : { ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين }
وقوله تعالى : { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } على قول الأكثرين الذي يجعول ( لعل ) متعلقة بقوله : ( خلقكم ) كما قال { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }
وقوله : { كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين }
وقوله : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }
وقوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم }
وقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }
ومنه قوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون }
وقوله : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } ونحو ذلك مما فيه : أن الله يفعل فعلا لغاية يحبها ويرضاها ويأمر بها عباده وإذا حصلت لهم كان فيها نجاتهم وسعادتهم ثم منهم من يعينه على فعلها ومنهم من لا يفعلها فإن هذا قد أشكل على طائفة من الناس وقالوا : كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل ؟
فيقال : الغاية التي يراد الفعل لها هي غاية مرادة للفاعل ومراد الفاعل نوعان : فإنه تارة يفعل فعلا ليحصل بفعله مراده فهذا لا يفعله وهو يعلم أنه لا يكون والله تعالى يفعل ما يريد فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولكن الله يفعل ما يريد
وتارة يريد من غيره أن يفعل فعلا باختياره لينتفع ذلك الفاعل بفعله ويكون ذلك محبوبا للفاعل الأول كمن يبني مسجدا ليصلي فيه الناس ويعطيهم مالا ليحجوا به ويجاهدوا به وسلاحا ليجاهدوا به ويأمرهم بالمعروف ليفعلوه وينهاهم عن المنكر ليتركوه وهم إذا فعلوا ما أراد لهم ومنهم كان صالحا لهم وكان ذلك محبوبا له وإن لم يفعلوا ذلك لم يكن صلاحا لهم ولا حصل محبوبه منهم ثم هذا قد لا يكون قادرا على فعل ما أمروا به اختيارا
ولهذا زعمت القدرية النافية أن الرب ليس قادرا على هدي العباد وهو خطأ عند أهل السنة وقد يكون قادرا فإنه سبحانه لو شاء لآتى كل نفس هداها : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا }
لكن المخلوق قد يعين بعض من أمره لمصلحة له في إعانته ولا يعين آخر والرب تعالى قد يعين المؤمنين فيفعلوا ما أمروا به وأحبه الله منهم لا يعين آخرين لما له في ذلك من الحكمة فإن الفعل لا يوجد إلا بلوازمه وانتفاء أضداده
وقد يكون في وجود ذلك فوات حكمة له هي أحب إليه من طاعة أولئك أو وجود شيء دفعه أحب إليه من حصول معصية أولئك
وحينئذ فإذا أمر العباد ونهاهم ليطيعوه ويعبدوه ويفعلوا ما أحبه وينالوا كمالهم الذي هو غايتهم التي خلقوا لها جاز أن يقال : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وأن يقال : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وأن يقال : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم }
وأن يقال : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } ونحو ذلك
وإن كان هو لم يخلق ما أمره به وإذا خلقهم وخلق لهم ما ينتفعون به ليعبدوه ويطيعوه ويشكروه ويذكروه ويبلغوا الغاية المحمودة في حقهم التي يحبها ويرضاها لهم - صح أن يقال : إنما خلقهم ليعبدوه وإن كان هو لم يخلق لكل منهم ما به يصير عابدا له كما جاز أن يقال : وإنما بنيت المسجد ليصلوا فيه وإنما أعطيتهم المال ليحجوا ويجاهدوا ونحو ذلك فإنه ليس من شرط من فعل فعلا لغاية يفعلها غيره أن يكون هو فاعلا لتلك الغاية
ثم إذا علم أن كثيرا من هؤلاء لا يصلي ولا يحج ولا يجاهد وإن من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لا يطيعه لم يمنع ذلك أن يفعل ما يفعل ويأمر بما يأمر به لأن نفس ذلك الفعل وذلك الأمر مصلحة له وهذا موجود في المخلوق والخالق فإن المخلوق - كالرسول وغيره - يأمر وينهي وإن كان يعلم أنه لا يطاع لأن نفس أمره لهم له فيه مصلحة ومنفعة وثواب وفيه حكمة في حق المأمور والمنهي
وكذلك يفعل ما يفعل لمصالح الناس وإن علم أنهم لا يفعلون ذلك إذا كان له في ذلك أجرا ومثوبة ومصالح أخرى فإنه إذا كان بعض الناس يصلى في المسجد وبعضهم لا يصلي فيه قامت حجته على من لا يصل واستحق العقوبة وكان قد أزاح عن نفسه العلة بأن يقال : لم يبن لهم مسجدا يصلون فيه
والخالق تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وأنذر العباد وأزاح عللهم وفعل لهم من الأسباب التي بها يتمكنون من الطاعة أعظم مما يفعله كل آمر غيره بالمأمورين فليس أحد أزاح علل المأمورين أعظم من الله فلا تقوم حجة آمر على مأمور إلا وحجة الله على عباده أقوام ولا يستحق مأمور من آمره ذما ولاعقابا لمعصيته إلا واستحقاق عصاة الله لأمره أعظم استحقاقا وذما ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا ييسر أمر على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا والله تعالى أعظم تيسيرا على مأموريه وأعظم رفعا لما لا يطيقونه عنهم
وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد صلى الله عليه و سلم وجد هذا فيها أظهر من الشمس ولهذا قال في آية الصيام : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
وقال في آية الطهارة : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم }
وقال : { ما جعل عليكم في الدين من حرج }
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ]
وهو سبحانه يسقط الواجبات إذا خشي المريض زيادة في المرض أو تأخر البرء فيسقط القيام في الصلاة والصيام في شهره والطهارة بالماء كذلك بل المسافر مع تمكنه من الصيام أسقطه عنه في شهره وقال : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر }
والشريعة طافحة بهذا وأمثاله وهو سبحانه مع ذلك هو رب كل شيء ومليكه وخالقه فلا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وهو سبحانه محسن متفضل إلى من أمرهم ونهاهم بقدر زائد لا يقدر عليه ولا يفعله غيره وهو أن جعلهم مؤمنين مسلمين مطيعين وهذا لا يقدر عليه غيره من الآمرين الناهين وهو في ذلك محسن إليهم منعم عليهم نعمة ثانية غير نعمته بالإرسال والبيان والإنذار فهذه نعمة يختصمون بها غير النعمة المشتركة
وأما الكفار فلم ينعم عليهم بمثل ما أنعم به على المؤمنين ومن لم ينعم ويحسن بمثل ذلك لم يكن قد أساء وظلم مع الإقدار والتمكين وإزاحة العلل إذا كان له في ترك ذلك حكمة بالغة لو فعل بهم مثلما فعل بالأولين بطلت تلك الحكمة التي هي أعظم من طاعتهم وحصلت مفسدة أعظم من مفسدة معصيتهم فمن وجه ليس ذلك بواجب عليه لهم ومن وجه له في ذلك حكمة بالغة لا تجتمع هي ومساواتهم بأولئك فتقتضي الحكمة ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين بالتزام أدناهما
وقول القائل : كيف يفعل فعلا لغاية مع علمه أنها لا تحصل ؟
جوابه : أن ذلك إنما يمتنع إذا كان ليس مراده إلا تلك الغاية فقط فإذا لم تحصل لم يحصل ما أراده ومن فعل شيئا لأجل مراد يعلم أنه لا يحصل كان ممتنعا
وبهذا يبطل قول القدرية الذين يقولون : لم يرد إلا المأمور وما سواه واقع بغير مراده وخلق الخلق لذلك المراد بعينه مع علمه أنه لا يكون وهذا تناقض يقولون : يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء
وأما أهل السنة الذين يقولون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يقع إلا ما شاءه وإن وقع ما لم يحبه ويأمر به فلحكمة له في ذلك باعتبارها خلقه ولولا الغاية التي يريدها به لم يخلقه فلا إشكال على قولهم
وإذا علم أن الرب له مراد بما أمره وله مراد بما خلقه فإذا لم يحصل ما أمر به فقد حصل ما خلقه فما حصل إلا مراده وهو لم يخلق ذلك المعين الذي أمر به لئلا يستلزم عدم مراد أحب إليه منه وهو ما خلقه وقد يكون ذلك المأمور يستلزم تفويت مأمور آخر هو أحب إليه منه
مثاله أن فرعون لو أطاع لم يحصل ما حصل من الآيات العظيمة التي حصل بها من المأمور ما هو أعظم من إيمان فرعون وصناديد قريش لو أطاعوا لم يحصل ما حصل من ظهور آيات الرسول ومعجزة القرآن وجهاد المؤمنين الذي حصل به من طاعة الله ومحبوبه ما هو أعظم عنده من إيمان صناديد قريش
وعلى هذا فيجوز أن يقال : إن الله إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه فإنه هذا هو الغاية التي أرادها منهم بأمره وبها يحصل محبوبه وبها تحصل سعادتهم ونجاتهم وإن كان منهم من لم يعبده ولم يجعله عابدا له إذا كان في ذلك الجعل تفويت محبوبات أخر هي أحب إليه من عبادة أولئك وحصول مفاسد أخر هي أبغض إليه من معصية أولئك
ويجوز أيضا أن يقال : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } فإنه أراد بخلقهم صائرون إليه من الرحمة والاختلاف ففي تلك الآية ذكر الغاية التي أمروا بها وهنا ذكر الغاية التي إليها يصيرون وكلاهما مرادة له تلك مرادة بأمره والموجود منها مراد بخلقه وأمره وهذه مرادة بخلقه والمأمور منها مراد بخلقه وأمره
وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله : { إلا ليعبدون } قال : معناه إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي واعتمد الزجاج هذا القول فرواه ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال : لآمرهم وأنهاهم وروى سليمان بن عامر عن الربيع بن أنس قال : ما خلقتهما إلا للعبادة
وأما من قال : المراد : المؤمنون فروى ابن مصلح عن الضحاك في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال هي خاص للمؤمنين
وأمامن قال : كلهم وقعت منهم العبادة التي خلقوا لها فروي الوالبي عن ابن عباس : إلا ليعبدون : إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها
وقال السدي : خلقهم للعبادة فمن العبادة تنفع ومن العبادة عبادة لا تنفع : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } هذا منهم عبادة وليس تنفعهم مع شركهم
وروى ابن أبي زائدة عن ابن جريج في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال : إلا ليعرفون
روى هذه الأقوال ابن أبي حاتم بأسانيده إلا قول علي
وذكر الثعلبي عن مجاهد : إلا ليعرفون قال : ولقد أحسن في هذا القول لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده ودليل هذا التأويل قوله : { ولئن سألتهم من خلقهم } الآيات قال : وروى حبان عن الكلبي : إلا ليوحدون فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء بيانه : قوله : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } فعلى هذه الأقوال أن جميع الإنس والجن عبدوه وعرفوه ووحدوه وأقروا له بالعبودية طوعا وكرها
والأولون لا ينكرون ما أثبته هؤلاء لكن يقولون : ليست هذه هي العبادة التي خلقوا لها وإن كان قد وجد من جميعهم معرفة به وإقرار به وعبودية له طوعا وكرها
وهذا يبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به مقرون بعبوديته طوعا وكرها وذلك يقتضي أن هذه المعرفة من لوازم نشأتهم وأنه لم ينفك عنها أحد منهم مع العلم بأن النظر المعين الذي يوجبه الجهمية والمعتزلة لا يعرفه أكثرهم فعلم بذلك ثبوت المعرفة والإقرار بدون هذا النظر
وقد روى ابن جريج عن زيد بن أسلم : إلا ليعبدون قال : جبلهم على الشقاء والسعادة
وكذلك عن وهب بن منبه : { إلا ليعبدون } قال : جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية ذكرهما ابن أبي حاتم ؟
وعلى هذا فيكون المراد بالعبادة دخولهم تحت قضائه وقدره ونفوذ ميشئته فيهم وقد فسر بهذا ما رواه الوالبي عن ابن عباس حيث قال : إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا وكرها
قال الثعلبي : ( فإن قيل : كيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلل لأمره ومشيئته ؟ قيل : إنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضاه عليهم لأن قضاءه جار عليهم لا يقدرون على الامتناع منه إذا نزل لهم وإنما خالفه من كفر به في العمل بما أمر به فأما التذلل لقضائه فإنه غير ممتنع منه )
قلت : وهذا المعنى - وإن كان في نفسه صحيحا وقد نازعت القدرية في بعضه - فليس هو المراد بالآية فإن جميع المخلوقات - حتى البهائم والجمادات - بهذه المنزلة
وأيضا فالعبادة المذكورة في عامة المواضع في القرآن لا يراد بها هذا المعنى
وأيضا فإن قوله : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } دليل على أنه خلقهم ليعبدوه لا ليرزقوا ويطعموا بل هو المطعم الرازق وإطعامه لهم ورزقه إياهم هو من جملة تدبيرهم وتصريفهم الذي قد جعله أهل هذا القول عبادة له فتكون العبادة التي خلقوا لها كونهم مرزوقين مدبرين وهذا باطل
وأيضا : فقوله { ليعبدون } يقتضي فعلا يفعلونه هم وكونه يربيهم ويخلقهم ليس فيه إلا فعله فقط ليس في ذلك فعل لهم
ويلي هذا القول في الضعف قول من يقول : إنهم كلهم عبدوه أو أن الآية خاصة فإنه هذه أقوال ضعيفة كما أن قول القدرية الذين يقولون : إنه ما كان منهم كان بغير مشيئته وقدرته وإنه لم يشأ إلا العبادة فقط وما كان غير ذلك فإنه حاصل بغير مشيئته وقدرته - قول ضعيف
والناس لما خاضوا في القدر صارت الأقوال المتقابلة تكثر فيه وفي تفسير القرأن بغير المراد وهو مما [ نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم حيث خرج عليهم وهم يتنازعون في القدر : هذا قول : ألم يقل الله كذا ؟ وهذا يقول : ألم يقل الله كذا ؟ فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم إلى هذا دعيتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ]
والمقصود هنا أنه من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقهم ضروري فيهم وإن قدر أنه حصل بسبب كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم وذلك ضروري فيهم
وهذه هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون }
فإن هذه الآية فيها قولان : من الناس من يقول : هذا الإشهاد كان لما استخرجوا من صلب آدم كما نقل ذلك عن طائفة من السلف ورواه بعضهم مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وقد ذكره الحاكم لكن رفعه ضعيف
وإنما المرفوع الذي في السنن كأبي داود و الترمذي و موطأ مالك من حديث أبي هريرة ومن حديث عمر : هو أنهم استخرجهم ليس في هذه الكتب أنهم نطقوا ولا تكلموا
ولكن في حديث أبي هريرة أنه أراهم آدم وفي حديث عمر وغيره أنه قال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار ففيها إثبات القدر وأن الله علم ما سيكون قبل أن يكون وعلم الشقي والسعيد من ذرية آدم وسواء كان ما استخرجه فرآه آدم هي وأمثالهم أو أعيانهم
فأما نطقهم فليس في شيء من الأحاديث المرفوعة الثابتة ولا يدل عليه القرآن فإن القرآن يقول فيه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } فذكر الأخذ من ظهور بني آدم - لا من نفس آدم - وذرياتهم يتناول كل من ولده وإن كان كثيرا كما قال تمام الآية : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم }
وقال تعالى : { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض } وقال : { ذرية من حملنا مع نوح } وقال : { ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون } إلى قوله : { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس } فاسم الذرية يتناول الكبار
وقوله : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها : إقراره فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه
قال تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } وهذا مما احتج به الفقهاء على قبول الإقرار
وفي حديث ماعز بن مالك : فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم أي أقر أربع مرات
ومنه قوله تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } فإنهم كانوا مقرين لما هو كفر فكان ذلك شهادتهم على أنفسهم
وقال تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم وهو إذا الشهادة على أنفسهم
ولفظ شهد فلان وأشهدته : يراد به تحمل الشهادة ويراد به أداؤها فالأول كقوله : { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } والثاني كقوله : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم }
وقوله : { وأشهدهم على أنفسهم } من هذا الثاني ليس المراد أنه جعلهم يتحملون شهادة على أنفسهم يؤدونها في وقت آخر فإنه سبحانه في مثل ذلك إنما يشهد على الرجل غيره
كما في قصة آدم لما أشهد عليه الملائكة وكما في شهادة الملائكة وشهادة الجوراح على أصحابها ولما ظن بعض المفسرين هذا قال : المراد أشهد بعضهم على بعض
لكن هذا اللفظ حيث جاء في القرآن إنما يراد به شهادة الرجل على نفسه بمعنى أداء الشهادة على نفسه وهو إقراره على نفسه فالشهادة هنا خبر
وقولهم : { بلى شهدنا } هو إقرارهم بأنه ربهم ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه ولهذا قال في الآية : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فقولهم : بلى معناه : أنت ربنا وهذا إقرار بربوبيته لهم وهذا الإقرار هو شهادة على أنفسهم أي إنطاقهم بالإقرار بربوبيته وجعلهم شهداء على أنفسهم بما أقروا به من ربوبيته
وقوله : ( أشهدهم ) يقتضي أنه هو الذي جعلهم شاهدين علىأنفسهم بأنه ربهم وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آباؤهم وهذا الأخذ المعلوم المشهود الذي لا ريب فيه هو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات لكن لم يذكر هنا الأمهات لقوله فيما بعد : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } وهم كانوا متبعين لدين آبائهم لا لدين الأمهات كما قالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة }
ولهذا قال : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فهو يقول : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم فهذا الإقرار حجة لله عليهم يوم القيامة فهو يذكر أخذه لهم وإشهاده إياهم على أنفسهم إذ كان سبحانه خلق فسوى وقدر فهدى
فالأخذ يتضمن خلقهم والإشهاد يتضمن هداه لهم إلى هذا الإقرار فإنه قال : { أشهدهم } أي جعلهم شاهدين وقد ذكرنا أن الإشهاد يراد به تحميل الشهادة كقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أي احملوا هذه الشهادة على هؤلاء المشهود عليهم
وهنا لم يقل : أشهدوا على أنفسهم بما أنطقهم به فيكون هذا إقرار مشهودا به غير الشهادة سواء كان شهادة بعضهم على بعض كما قاله بعضهم أو كان شهادتهم على أنفسهم بما أقروا به بل شهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم
فالشهادة هي الإقرار كما قال : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } وكما قيل لماعز : شهد على نفسه أربعا فإشهادهم على أنفسهم جعلهم شاهدين على أنفسهم أي مقرين له بربوبيته كما قال في تمام الكلام : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } فقولهم : بلى شهدنا هو إقرارهم بربوبيته وهو شهادتهم على أنفسهم بأنه ربهم وهم مخلوقون به فشهدوا على أنفسهم بأنهم عبيده
كما يقول الملوك : هذا سيدي فيشهد على نفسه بأنه مملوك لسيده وذلك يقتضي أن هذا الإشهاد من لوازم الإنسان فكل إنسان قد جعله الله مقرا بربوبيته شاهدا على نفسه بأنه مخلوق والله خالقه
ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم وهذا أمر ضروري لهم لا ينفك عنه مخلوق وهو مما خلقوا عليه وجبوا عليه وجعل علما ضروريا لهم لا يمكن أحدا جحده
ثم قال بعد ذلك : { أن تقولوا } أي كراهة أن تقولوا ولئلا تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين : عن الإقرار لله بالربوبية وعلى نفوسنا بالعبودية فإنهم كانوا غافلين عن هذا بل كان هذا من العلوم الضرورية اللازمة لهم التي لم يخل منها بشر قط بخلاف كثير من العلوم التي قد تكون ضرورية ولكن قد يغفل عنها كثير من بني آدم من علوم العدد والحساب وغير ذلك فإنها إذا تصورت كانت علوما ضرورية لكن كثير من الناس غافل عنها
وأما الاعتراف بالخالق فإنه علم ضروري لازم للإنسان لا يغفل عنه أحد بحيث لا يعرفه بل لا بد أن يكون قد عرفه وإن قدر أنه نسيه ولهذا يسمى التعريف بذلك تذكيرا فإنه تذكير بعلوم فطرية ضرورية قد ينساها العبد
كما قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } وفي الحديث الصحيح : [ يقول الله للكافر : فاليوم أنساك كما نسيتني ]
ثم قال : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } ذكر لهم حجتين يدفعهما هذا الإشهاد
إحداهما : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } فبين أن هذا علم فطري ضروري لا بد لكل بشر من معرفته وذلك يتضمن حجة الله في إبطال التعطيل وأن القول بإثبات الصانع علم فطري ضروري وهو حجة على نفي التعطيل
والثاني : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فهذا حجة لدفع الشرك كما أن الأول حجة لدفع التعطيل فالتعطيل مثل كفر فرعون ونحوه والشرك مثل شرك المشركين من جميع الأمم
وقوله : { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } : وهم آباؤنا المشركون وتعاقبنا بذنوب غيرنا ؟ وذلك لأنه قدر أنهم لم يكونوا عارفين بأن الله ربهم ووجدوا آباءهم مشركين وهم ذرية من بعدهم ومقتضى الطبيعة العادية أن يحتذى الرجل حذو أبيه حتى في الصناعات والمساكن والملابس والمطاعم إذ كان هو الذي رباه ولهذا كان أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه فإذا كان هذا مقتضى العادة الطبيعية ولم يكن في فطرتهم وعقولهم ما يناقض ذلك قالوا : نحن معذورون وآباؤنا هم الذين أشركوا ونحن كنا ذرية لهم بعدهم اتبعناهم بموجب الطبيعة المعتادة ولم يكن عندنا ما يبين خطأهم
فإذا كان في فطرتهم ما شهدوا به من أن الله وحده هو ربهم كان معهم ما يبين بطلان هذا الشرك وهو التوحيد الذي شهدوا به على أنفسهم فإذا احتجوا بالعادة الطبيعية من اتباع الآباء كانت الحجة عليهم الفطرة الطبيعية العقلية السابقة لهذه العادة الأبوية
كما قال صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] فكانت الفطرة الموجبة للإسلام سابقة للتربية التي يحتجون بها وهذا يقتضي أن نفس العقل الذي به يعرفون التوحيد حجة في بطلان الشرك لا يحتاج ذلك إلى رسول فإنه جعل ما تقدم حجة عليهم بدون هذا
وهذا لا يناقض قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فإن الرسول يدعو إلى التوحيد لكن إن لم يكن في الفطرة دليل عقلي يعلم به إثبات الصانع لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم ومعرفتهم بذلك وأن هذه المعرفة والشهادة أمر لازم لكل بني آدم به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله فلا يمكن أحدا أن يقول يوم القيامة : إني كنت عن هذا غافلا ولا أن الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأن الله ربه لا شريك له فلم يكن معذورا في التعطيل ولا الإشراك بل قام به ما يستحق به العذاب
ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليهم وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب والرب تعالى مع هذا لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا
والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال قال بكل قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة أصحاب أحمد وغيره
طائفة تقول : إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة البتة وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع وهذا قول الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وهؤلاء لا يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين
وطائفة تقول : بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل وإن لم يرد سمع كما يقول ذلك المعتزلة ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم : أبي الخطابي وغيره
وطائفة تقول : بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم ولكن لا يعاقب أحدا إلا بلوغ الرسالة كما دل عليه القرآن في قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وفي قوله : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير }
وقال تعالى لإبليس : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }
وهذا أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة قبل مجيء الرسول إليهم وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم
وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } حجة على الطائفتين وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول بل يقولون : إن عذابهم واقع
وهذه الآية حجة عليهم كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول
والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال رسول والله سبحانه أعلم


كلام أبي محمد بن عبد البصري
وقال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري في كتابه في أصول السنة والتوحيد : ( فصل في الخلق على الفطرة قال : وخلق الله الخلق على الفطرة وهو قوله سبحانه : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وهي الإقرار له بالربوبية مع معرفة الوحدانية وذلك أنه سبحانه خلق الخلق على علم منه بهم مشاهد لما يؤول أمرهم وعواقبهم إليه فخلقهم على ما علم منهم وشاء غير مؤمنين ولا كافرين صبغة بل مقرين عارفين لا موحدين ولا جاحدين وكذلك قد روي في الأثر بقول الله تعالى : خلقت خلقي حنفاء مقرين لا منكرين ولا موحدين وذلك إثبات ونفي الجبر فثابت في نظره وعلمه عامة عواقبهم وله التحكم فيهم وهو أعدل من أن يضطرهم إلىكفر وغيره فيبطل بذلك الكسب وإذا بطل الكسب بطل التكليف والامتحان إذ التكليف لا يكون جبلا ولا يقع اضطرارا وجبرا ولا يكون إلا اختيارا إذ قد أمروا بها وأنزل الكتب وأرسل الرسل وكل ما منه حق غير عابث عدل غير ظالم عالم لا يخفى عليه شيء شاء لم يزل يشاء أن يثبتهم ويعاقبهم على أفعال تكون كسبا لهم
وهو عادل في عباده : { إن الله لا يظلم الناس شيئا } وقال عز من قائل : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } مع ما أنه لم يزل مالكا لهم وقادرا عليهم ومتصرفا فيهم لا غناء لهم عنه ولا محيص لهم منه فخلقهم عز و جل على الفطرة كما أخبر وخلق الأعمال كما ذكرنا ولم يضطر أحدا إلى شيء من ذلك ولو خلقهم كفارا صبغة لما قال لهم : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم } إذ لا يليق بالحكيم أن يخلق صبغة ويغير نفس ما خلق من غير كسب
وقال سبحانه : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } ولو خلقه كافرا لما صح منه الإيمان وكان معذورا مدليا بحجته والله تعالى يقول : { لا تبديل لخلق الله } وكان ذلك تكليف ما لا يطاق كما أن يصرف الأسود فيقال له أبيض والأبيض أسود وذلك مستحيل من حكيم
وأما قوله سبحانه : { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } يعني : أنه خلق الكل وقد اعترفوا به بذلك فمنهم من شكر خالقه واعترف له بالنعم وبالإخراج من العدم إلى الوجود فحقق فعله وقبل من رسله ووحد ربه ومنهم من كفر ولم يشكر خالقه وأشرك به ما لا يجوز له وكذب برسله فصار كافرا بفعله
وقد روي نحو من هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : [ كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا ]
وقد قال تعالى : { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } فلما امتثل ذلك قوم وعدل عنه آخرون كانوا هم المرادين من قوله : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن }
وقد قال سبحانه في حال المؤمنين { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فأخبر أنه فعل ذلك بهم بعد ما خلقهم ولم يقل : خلقكم مؤمنين : وكره إليكم الكفر فدل على أنه لم يفعل بالكافر ما فعل بالمؤمن وذلك أبلغ دليل على أنهم لم يخلقوا صبغة : كافرين ولا مؤمنين )
إلى أن قال : ( وقد رأينا على الكفر برهة ثم آمن ومن كان مؤمنا ثم كفر ولو كان ذلك صبغة لما انتقلوا ولما كان من الكسب صح عليه النقلة والتحويل وقد قال تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } فأضافه إليهم حقيقة
وقال : { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا } { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا } ألا ترى أنهم لما لم يخلقوا صبغة كفارا نفعهم إيمانهم ؟
ولما قال فرعون ( آمنت ) لم ينفعه
وقد أشفى في الحديث بما فيه مقنع بقوله صلى الله عليه و سلم : [ ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] وهو إجماع المسلمين أن الكافر لا يعاقب ويجلد على ما خلق إنما يعاقب ويجلد على نيته وكسبه وهو موضع إيثارهم لما نهاهم عنه على ما أمرهم به من الإيمان فكان تكذيبه لهم على كسب اكتسبوه وفعل فعلوه ونهي ارتكبوه وأمر خالفوه وهو ما أحدثوه لا شيء جبلوا عليه ولا اضطروا له ولا خلقوا مجبولين عليه إذ لو خلقهم كفارا لكانوا إلى ذلك مضطرين ولم يقل بذلك أحد من المسلمين ألاترى أنه لما خلقهم علىمعرفة لم يصح لهم ولم يقع غير ذلك ولم يثابوا على ذلك ؟ أعني : معرفة الربوبية وهي الفطرة ووجدنا الكفر يصح النقل عنه إلى الإيمان ويقع الارتداد عن الإيمان إلى الكفر فكان كمعرفة التوحيد الذي يقع اختيارا
وقال سبحانه : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } ولم يقل : منهم من خلقت مؤمنا ومنهم من خلقت كافرا
وقال سبحانه : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } فأعلمنا أن كذبهم وكفرهم هو كسبهم الذي حرمهم البركات وعليه توعدهم بالعقوبات وكون الكافر مخلوقا كافرا صراح بالجبر ومن قال : ما سبق في العلم والنظر ولا هو داخل في القضاء والقدر فهو قدري رديء وقد لعنت القدرية والمرجئة وكذلك المجبرة والله لا يجبر أحدا على فعل إذ لو جبر لكانوا عن التكليف خارجين كما جبلت الملائكة على الطاعة
وقد قال سفيان و أحمد وسهل و الإمام وأهل العلم : ( إن الله لا يجبر على طاعة ولا على معصية وهو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها )
إلى أن قال : ( قال سبحانه : { وما ربك بظلام للعبيد } مع كونه سبحانه فعالا لما يريد وليس معنى ( شاء ) معنى ( علم ) ولا معنى ( علم وشاء ) معنى ( خلق ) فشاءهم وعلمهم وقدرهم وقضاهم مؤمنين وكافرين في حكم الكينونة وهي العواقب التي لم يزل بها عالما وعليها قادرا ولها شائيا ولم يخلقهم في العبودية والدينونة والبنية والتركيب كفارا ولا إقرارا للزوم المطالبة والعبودية ومحال أن يخلقهم لذلك ويتعبدهم ويطالبهم كما زعم أهل الإجبار من ضرار وأصحابه وسالكي البدعة والمضاهي لهم بالعدوان والطغيان والمغترين المحيلين على الأقدار والمتمسكين بمعاذير ليست لهم بأعذار لم يؤمنوا أن الأعمال محصاة والعواقب مشهودة وأعمالهم في القبضتين داخلة وإلى المعبود صائرون وعلى اكتسابهم محاسبون وبها مؤاخذون
قال أصدق القائلين : { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } وهل الكفر وغيره إلا عملان وكسبان ؟ فمن زعم أنه ما سبق في علمه عواقبهم وما قضى عليهم بما وجد منهم ولا شاء ذلك في ملكه ولا خلق أعمالهم ولا أحصى سكونهم وحركاتهم ولا شهد في القدم إلى ما إليه صائرون - فهو قدري ومعتلي مكابر معتزلي مدعي الحول والقوة وأن الأمر إليه
ومن زعم أن كلفهم صبغة وجبرهم على الأفعال وجعل كسبهم مجازا وأعمالهم لا صنع لهم فيها - فهو أخس القدرية وأعتى المجبرة وهو الغالي في دين الله المرجىء المحيل بمعاصيه على ربه وبفجوره على من تقدس عن كسبه بل تنزه عما يقول الظالمون ولم يزل عليما شائيا حكيما عادلا متفضلا منصفا محققا مجبرا خالقا آمرا ناهيا غير عابث ولا تارك لأمورهم سدى ولا لها مهملا فخلق الكافر على الفطرة وخلق كفره وشاءه في ملكه ولم يجبره عليه ولا اضطره إليه ولم يتوله بل تبرأ منه وتركه معه ونهاه عن اعتقاده والتلبس به وبفعاله وجعل له قدرة واستطاعة على كسبه وتركه مع هواه فلما دخل تحته واعتقده في نفسه واتصل به واختاره وأحبه - كان كما ذكرنا في الجمع والتفرقة والخلقة والكسب فصار بما اعتقد واكتسب كافرا وسمي فاجرا ولا هو لنفسه خالقا ولا لكفره مخترعا بل له مكتسبا وبه اجتمع ففارق الإيمان والإحسان الذي أمر بمواصلتهما فصار لذلك مجانيا وخالط الكفر فصار فيه والجا فتوجه نحوه التهديد ولزمه الوعيد فألزمه ما اكتسب ورده إل ىما علم وأدخله في وعيده واستحق عقوبته وخلده بنيته : { وما ربك بظلام للعبيد }
وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ يقول الله عز و جل : خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ]
وهذا نص من صاحب الشريعة جلي واضح لا شبهة فيه يسفر عن إيضاح ما أوردناه حنفاء عارفين على فطرته وهي معرفة ربوبيته والإقرار بوحدانيته لا يقع بذلك كفر ولا إيمان بل ذلك عليهم طارىء بالحكم الجاري فخلق الكل على الفطرة وأمر الكل بالإيمان لصحة الدعوة وعموم النصيحة وأقدر الكل على ما أمر وأراد )


تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا الكلام يوافق قول من قال : خلقهم على الفطرة التي هي المعرفة والإقرار بالصانع وأن ذلك لا يصير به العبد مؤمنا ولا كافرا وقد أبطل من يقول : إنهم خلقوا على الكفر والإيمان وهو ظاهر القول الذي تقدم عن طائفة من العلماء وصاحب هذا الكلام يقول : الذي خلقوا عليه من المعرفة والإقرار لا يمكن تغييره وهذا موافق لقول من قال : لا تبديل لخلق الله - إنها بمعنى الخبر لكن ذاك يقول : إنهم لا يخلقون إلا على الفطرة لا يبدل الخلق فيخلقون على غير ذلك
وصاحب هذا الكلام يقول : لايبدل الخلق بعد ذلك أي : لا يمكن أن يصيروا غير عارفين مقرين بالخلق بل هذه المعرفة والإقرار أمر لازم لهم وهو يقول : كل ما خلق عليه العبد فلا يمكن انتقاله عنه وهو يثبت القدر وأن الله خالق أفعال العباد وينكر أن يكونوا جبلوا على ذلك واضطروا إليه أو جبروا عليه
فأما الكلام في الجبر فهو مبسوط في غير هذا الموضع وقد بينا أن مذهب الأئمة كالأوزاعي و الثوري و أحمد بن حنبل وغيرهم أنهم ينكرون إثبات الجبر ونفيه معا ومذهب الزبيدي وطائفة : نفي الجبر وإنكار إثباته فقط وهو موافق لهذا الكلام
وأما ما حكاه أحمد ونحوه : أن الله لا يجبر على طاعة ولا معصية - فهو حكاه بحسب ما بلغه واعتقده والمنصوص الصريح عنه الإنكار على من قال : جبر وعلى من قال : لم يجبر
وفي الجملة الكلام في هذا الباب له موضع آخر والمقصود هنا ما ذكره في تفسير الفطرة وأنه فسر ذلك بأن الخلق فطروا على المعرفة والإقرار
وأما قوله : ( إن ذلك ليس بإيمان وإن ذلك لا يمكن تحويله ) فقد قدمنا الكلام على ذلك وبينا أن النصوص تدل على أن ما ولدوا عليه يتغير وإن كان ذلك بقضاء الله وقدره كما تغير الشاة المولودة سليمة بجدع الأنف والأذن والمقصود هنا كلامه في أن المعرفة بالصانع فطرية ضرورية وقد بسط ذلك مستوفيا في أول كتابه
وهذا الشيخ أبو محمد بن عبد البصري المالكي طريقته طريقة أبي الحسن بن سالم و أبي طالب المكي وأمثالهما من المنتسبين إلى السنة والمعرفة والتصوف واتباع السلف وأئمة السنة والحديث كمالك و سفيان الثوري و حماد بن زيد و حماد بن سلمة و عبد الرحمن بن مهدي و الشافعي و أحمد بن حنبل وأمثالهم وكذلك ينسبون إلى سهل ابن عبد الله التستري وأمثاله من الشيوخ


تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال أبو محمد في كتابه هذا الذي صنفه في أصول السنة والتوحيد قال : ( وكان إجماع السلف والخلف وأئمة الدين وفقهاء المسلمين من شرق وغرب وسهل وجبل وسائر أقاليم الإسلام من مغرب ومصر وشام وعراق وحجاز ويمن وبحر وخراسان مجتمعين : على أن عقيدة السنة أربع عشرة خصلة : سبعة متعلقة بالشهادة وهي مما يدان بها في الدنيا وسبعة متعلقة بالغيب وهي مما يؤمن بها من أحكام الآخرة
فالتي في دار الدنيا : القول مع الاعتقاد بأن الإيمان : قول وعمل ونية والإيمان بالقدر خيره وشره وأن القرآن غير مخلوق وتخيير الأربعة على الترتيب وإثبات الإمامة وترك الخروج على أحد منهم والصلاة على من مات من أهل القبلة وترك المراء والجدل
والمتعلقة بالآخرة : الإيمان بأحكام البرزخ والآيات التي بين يدي الساعة والبعث بعد الموت ورؤية الله تعالى والإيمان بالحوض والشفاعة والصراط والميزان وخلود الدارين فمن خالف شيئا من هذا فقد خالف اعتقاد السنة والجماعة وهذا مما لا شبهة فيه بين أصحاب الحديث والفقهاء والعلماء من سائر الأقاليم وسنتكلم على كل مسألة بذاتها ونقيم الدليل على ذلك من كتاب وسنة ونظر وبه التوفيق والمعونة وهو حسبنا ونعم الوكيل لا غناء بنا عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك إذ قد أدبنا وعلمنا كيف نقول فقال : { إياك نعبد وإياك نستعين } إثباتا للمجاهدة وفقرا إلى المعونة منه سبحانه
فأول الكلام الواقع في الخلاف في المعارف فجمهور قول المعتزلة أن جميعها اضطرار )
قلت : كأنه بالعكس وأظن الغلط في النسختين : المعتزلة ( وقال ابن كلاب وطائفة : جميعها اكتساب وقول أصحاب الحديث : إن منها اضطرارا ومنها اكتسابا وكان الأصل في ذلك أن المعرفة اسم لاضطرار ومكتسب وكأن الاضطرار راجع إلى معرفة الربوبية والوحدانية والمكتسب راجع إلى المريد ونحوه
فصل : في معرفة الوحدانية التي جبل الرحمن الرحيم الخلق عليها وبه نستعين أما معرفة الوحدانية فهي معرفة الصانع القديم المخترع لأعيان الأشياء والمتمم تصويره لها على غير مثال ولا بد لكل مخترع أن يعرف المنعم عليه بالإخراج من العدم إلى الوجود وهي غير مكتسبة لأنها تعم من يصح منه الكسب ومن لا يصح منه وهي ضرورة لا اختيار فيها كما لا كسب فيها ولا يتوصل إليها بالأسباب
دليل ذلك قوله سبحانه وتعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } يعني : وما من شيء إلا يسبح قال ابن عباس : حتى النبات الذي خلقه يسبح بحمده
وقال عكرمة : لايسبن أحدكم ثوبه ولا دابته فما من شيء إلا يسبح بحمده وروي أن صرير الباب بالتسبيح
وقال سبحانه : { يا جبال أوبي معه والطير } وقد روي : سبحي
وقال سبحانه : { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون } يعني : صاغرون
وقال سبحانه : { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } الآية
وقوله سبحانه : { سبح لله ما في السماوات والأرض } وسبح إخبار عن ماض وآت وإعلام لنا أن كل شيء يسبح بحمده ويسجد لعظمته ويعترف بألوهيته ووحدانيته ولا يجوز أن تسجد الأشياء وتسبح لمجهول وكذلك اعترافها بفضائل رسله وما استفاض من مخاطبات الجمادات له صلى الله عليه و سلم وسلامها عليه وحنينها إليه ومخاطبة الأنعام والوحوش والطير والصغار في المهود وغير ذلك
قال صلى الله عليه و سلم : [ إن البهائم أبهمت إلا عن ثلاث ] فذكر معرفة بارئها
وهذه الأشياء مما لا يصح فيها الاستدلال والنظر ولا عقول ولا اختيار ولا كسب وقد عقل معرفتها لبارئها عز و جل وثبت بالكتاب والسنة وهذا ظاهر جلي ينفي وجود هذه المعرفة بالوسائط لأنها حق له عز و جل ينفي عن نفسه ما شمل سائر البرية من المعلوم والمجهول لأنه سبحانه خلق الأشياء مجهولة ثم جلاها بالأسماء فعرفت من بعد جهلها وذلك دليل الحدث فعز عن أن يكون كالحوادث التي عرفت بغيرها
وقال بعض الحكماء كلمات لا سبيل إلى نقضها : وهو أن كل معروف بغير نفسه مجهول وكل تام بغيره معلول ولقد أحسن فيما قال وأصاب إذ معرفته بغيره شهادة قاطعة على وجود علة المجهول فيه الذي ارتفعت عنه تغيره الذي لولاه لم يعرف فصارت معرفته بغيره صارخة بفقره إلى من ارتفعت عنه علة المجهول والغير علة والعلة لا تصحب إلا معلولا
قلت : وقد قرر كلامه صاحبنا الشيخ أبو العباس الواسطي فقال : ( المعنى : أنه لولا وجود زيد ما عرف عمرو وبوجود زيد زالت الجهالة عن عمرو فصار زيد مفتقرا إلى وجود عمرو واسمه لزوال الجهالة عنه به وباسمه والمعنى : أن المخلوق مفتقر إلى علة يعرف بها بخلاف الواحد الذي لا نظير له ولا هو مفتقر إلى علة يعرف به ويقوم بها بل العباد مفترقون إليه وإلى معرفته )
قال : وهذا إشارة إلى المعرفة الفطرية فإنه سبحانه لم يعرف فيها بغيره بل كان هو المعروف بها بنفسه إلى خلقه )
قال الشيخ أبو محمد بن عبد : ( فعز ربنا أن يقوم بالعلل فيصير دليلا بعد ماكان مدلولا ) هكذا رأيته في الكتاب وإنما أراد : ( فيصير مدلولا بعد ما كان دليلا )
قال : ( وقد جاء في الأثر : يقول الله تعالى في بعض الكتب السالفة : أنا الدال على نفسي ولا دليل أدل علي مني وقد روى : كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف فأظهرت خلقا وتعرفت إليه بنفسي فعرفوني وهذ نص بإزالة العلل لأنه من ثبت بغيره ونفي بغيره كان إثباته تخييرا وتلك علل الحوادث فهو الثابت بثباته المعروف بنفسه لم يعرف من بعد جهل إذ ذاك تغيير عن الأزل فهو المعروف أزليا والعارفون محدثون كما أنه إله لم يزل والمألوهون المقرون له بالإلهية محدثون ولا يجوز على الإلهية تغيير ولا أن تقوم لها صفة بالحوادث وهذه المعرفة تعم سائر البرية من ساكن ومتحرك وهي جبل كجبل الملائكة على الخدمة فتلزم مكلفا وغير مكلف )
قال : ( والفصل الثاني : معرفة الربوبية وهي خاصة للمكلفين من بني آدم وهي تعم مؤمنهم وكافرهم وسائر فرقهم وهي ضرورية أيضا وهي عن رؤية وهي قوله سبحانه : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } وهذا في غير وقت الكسب والتكليف فتعرف إليهم بنفسه بلا وسائط ولقنهم التاء وخاطبهم بحرف التعريف فأقر الكل له بتلك المعرفة إذ عاينوه جبارا قهارا وهي معرفة لا يقع بها إيمان ولا توحيد لأنها إقرار للضرورة وليس للكافر فيها اختيار إذ لو كان له فيها اختيار لجحدها كما جحد معرفة التوحيد ولو كانت كسبية لوقع له بها إيمان وثواب بلى هي ضرورية يرجع إليها في شدائده قال تعالى : { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون }
وقد أخبر عن الكفار أنهم يعرفونه مع ردهم على رسله قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وقال سبحانه : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } مع آيات كثيرة وذلك موجود منهم ضرورة وهم في الجاهلية يعرفونه ولا ينكرونه ويقولن : إلهنا القديم والعتيق وإله الآلهة ورب الأرباب وغير ذلك مع كفرهم
فدل ذلك على أن تلك ضرورة ألزموها وهو قوله تعالى : { وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها } وقول : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } يعني : معرفة ربوبيته
وقد جاء في الأثر : يقول الله تعالى : ( خلقت خلقي حنفاء مقرين ) يعني عرفاء عرفوه بوحدانيته وأقروا له بمعرفة ربوبيته وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم بها على ألسنة السفراء وهو قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وقول صاحب الشرع : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ] لم يقل : حتى يقولوا : إن ربهم ربا إذ هم عارفون بذلك وإنما أمرتهم الرسل أن يصلوا معرفة التوحيد بمعرفة الربوبية والوحدانية فأبوا وقبل ذلك الموحدون فقال في حال المؤمنين : { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } وقال في حال الكفار : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل }
فالسفراء لهم مدخل في معرفة التوحيد دون معرفة الوحدانية والربوبية إذ لكل معرفة مقام فليس للعقل والكسب والوسائط والنظر والاستدلال في هذه المعرفة حكم لكونها عامة موجودة ممن يصح منه النظر والاستدلال وممن لا يصح منه فلو كلفهم كلهم النظر والاستدلال لكان مكلفا لهم شططا إذ لايصح من الكل النظر والاستدلال ويصح من الكل المعرفة بالاضطرار فحملهم من ذلك ما رفع به عنهم الشطط
وحديث الجارية فمشهور وهي مما لا يصح منه النظر والاستدلال وكذلك الأبله والمجنون وغيرهم لو سألتهم عن الله سبحانه لأشاروا إليه بما عرفهم فتعرف سبحانه قبل التكليف بنفسه وبعد التكليف بالسفراء لأنه لو خطابهم وكاشفهم قبل التكليف بلا سفير لبطل التكليف )
قال : وقد [ قال له أبو ذر رضي الله عنه : يا رسول الله بماذا أقول : عرفت الله ؟ فقال : إنك إن قلت بمن فقد أشركت وإن حلت كفرت وإن وسطت واسطة ضللت ]
وقد قيل لعلي رضي الله عنه : بم عرفت ربك ؟ فقال : بما عرفني نفسه لا يشبه صورة ولا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس
وعن ابن عباس حين سأله نجدة الحروري فقال : يا ابن عباس بما عرفت ربك إذ عرفته ؟ فأجاب بنحو من جواب أمير المؤمنين
وقول الصديق الأكبر : ( سبحان من لم يجعل للخق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته )
فهذه المعرفة ضرورة للعارف موجودة فيه كوجود ضرورة المقعد وقعوده موجودة فيه فهو سبحانه المعروف الذي لا ينكره شيء والمعلوم الذي لا يجهله شيء فمن كانت معه معرفتان فهو كافر وبالمعرفة الثالثة يصح الإيمان وهو الفصل الثالث : وهي معرفة التوحيد التي دعت الرسل إليها وبعثوا بها وكلفنا قبولها وهي قوله : { وإلهكم إله واحد } وهو قوله : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وأخبرنا أنه ما كان معذبا قبل بعثتهم فكانوا يعرفون أن لهم ربا وإلها ولكنهم ينكرون توحيد الإله وبعث رسله وشرائع دينه وبه وقع منهم الكفر
فوجود ذلك منهم يزيل عنهم معرفة التوحيد ولا يزيل ضرورتهم وهذه المعرفة وجبت بالتوقيف وهي ما وقفتنا الرسل عليه ودلنا عليه سبحانه ووفقنا لذلك وبها يجب الخلود في الجنة وبعدمها يجب الخلود في النار وهي مكتسبة ولم تجب بالعقل كما زعمت المعتزلة لأن هذه المقالة تضاهي مقالة البراهمة حيث زعمت أن في قوة العقل كفاية عن بعث الرسل والحق لم يخبر أنه ما كان يعذبهم حتى يرزقهم عقولا وإن كان العقل حجة فهو باطن والرسل حجة الله ظاهرة
وقد قيل لبعض العارفين : بم عرفت الله ؟ قال : بالله فقيل : فأين العقل ؟ فقال : العقل عاجز يدل على عاجز
وقد جاء في الأثر : إن الله سبحانه لما خلق العقل وأقامه بين يديه - وهو حجة من قال : عرف بالعقل - فقال له : أقبل فأقبل ثم قال له : أدبر فأدبر فقال : عزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك بك آخذ وبك أعطي وبك أعرف فتعلق الخصم بهذه الكلمة وتمام الحديث : فطفق لا ينطق فكحله بنور العزة فقال : أنت الله الذي لا إله إلا أنت فلم يعرف العقل الله إلا بالله
وإذا كان الله معروفا من طريق التوحيد بالعقل فما بال قريش - مع كونها ذوي عقول - يقول الله عنهم إخبارا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } ؟ فإن كان لا عقل لها فلا حجة عليها وإن كانت ذوي عقول فما أغنت عنهم عقولهم
وقال سبحانه : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم } الآية وأخبر عنهم أنهم يقولون في النار : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } لا خلاف أنهم كانوا ذوي أسماع لا يسمعون بها وكذلك عقول لا تغني عنهم ولا يستعملونها فلم تكن مغنية لهم مع تكذيبهم الرسل فبوجود الرسل صح التكليف وبالعقل تمثيل ذلك بعد التوفيق وليس للعقل مدخل فما تقدم من المعارف وإن كان له ها هنا مدخل فالأصل الرسل والعقل اتبع ذلك
وأما العقل فله مدخل بالغ في معرفة المزيد وكذلك العلم فالعلم بيان الله والعقل حجة الله والرسل هم الحجة الظاهرة المبلغة عن الله مراده والمخبرة بأمره والداعية إلى سبيله ولما كان سبحانه لا سبيل إليه ولا عقول تشرف عليه ولا لنا طاقة إلى استماع كلامه لم يكن بد من بعث الرسل لنعلم بها مراد الربوبية منا
وليس هذا للعقل وإنما للعقل الزوائد والتصرف في المراد المخبر عنه الرسل فعم سبحانه بمعرفة وحدانيته سائر ما ابتدع وخص بمعرفة ربوبيته بني آدم كما كرمهم وخص بمعرفة توحيده المؤمنين وخص بمعرفة المزيد خواص المؤمنين
وفي هذه المعرفة يتفاوت الناس فمن كان معه معرفتان كان كافرا ومن كان معه ثلاث فهو مسلم فإذا كان أربع كان مؤمنا فإذا كانت معه خمس كان مؤمنا عالما ثم يفاوتون في معرفة المزيد على قدر أحوالهم وصدق الهمم واتباع العلم وقوة اليقين وصفاء الإخلاص وصحة المعتقد ولزوم السنة
فالعقل والعلم والنظر والاستدلال والافتكار والاعتبار يكشف عن معرفة المزيد التي يتفاوت فيها العبيد فمن جعل حكم معرفة في أخرى فقد غلط غاية الغلط وأوبقه الجهل ورماه في بحر الحيرة ونقض الآثار إذ قد ورد في بعضها أنه عرف بنفسه وفي بعضها بالعلم وفي بعضها بالعقل وغير ذلك
فدل على أن كل معرفة لها حكم ومصدر ومقام وحال فللكل معرفة الوحدانية والربوبية وليس للكل معرفة التوحيد
وإذا عمت معرفة التوحيد المسلمين فليس لكل المسلمين معرفة المزيد وإذا زعم الخصم أن المعارف المتقدمة وجبت - أي حصلت - بالنظر والاستدلال - فذلك مكابر معاند
فإن احتج بقوله تعالى عن الخليل : { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا } إلى قوله : { إني بريء مما تشركون } فتلك حجة على الخصم لا له لأنه لو عرف بالنظر والاستدلال لما صح له أن يقال : إني بريء مما تشركون ولم يحكم النظر والاستدلال ولا يقول : إني بريء مما تشركون وإني وجهت وجهي إلا عارف بربه


تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
وما كان ذلك من الخليل إلا بالرشد السابق الذي خبرت الربوبية عنه بقوله تعالى : { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } وإنما أراد بذلك القول الإنكار على قومه والتوبيخ لهم إذ كانوا يعبدون الشمس والقمر والنجم من دون الله فقال ما قال على طريق الإنكار ليعلمهم أن ما جاز عليه الأفول والتغيير من حال إلى حال لم يكن بإله يعبد ولا رب يوحد وإنما الإله الذي خلقكم ولمعرفته فطركم :
هو الذي أخبر عنه بقوله : { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } وإن كان مخرج الآية مخرج الخبر فإنما المراد به الاستفهام )
قلت : وذكر ابن عبد أشياء وإن كان في بعض ما ذكره آثار لا تثبت وكلام مستدرك فالمقصود بيان ما ذكره من أن المعرفة فطرية
إلى أن قال : وإنما كان الخليل بقوله منبها لقومه ومذكرا لهم الميثاق الأول ردا لهم إلى ضرورتهم ليصلوا إلى ما انعجم عليها بما هو ضرورتهم وكوشفوا به وإن كان ذلك من الخليل في طفوليته كم حكي فأين محل النظر والاستدلال ؟ وإن كان في حال رجوليته فمتى التبس هذا الحكم على بعض المؤمنين في زماننا وغيره حتى يلتبس على الخليل الذي اصطفاه الله بالخلة من بين العالمين ؟ ! نعوذ بالله من الحيرة في الدين
لا جرم وقال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } ولو أن الله عرف بالعقل لكان معقولا بعقل وهو الذي لا يدركه عقل ولا يحيط به إحاطة وإنما أمرنا بالنظر والتفكير فيما عرف بالتقدير لا إلى من : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فعرفنا أن لكل أثرا مؤثرا ولك بناء بان ولكل كتابه كاتب من ضرورتنا إلى ذلك كما عرفنا اضطرارا أن السماء فوقنا والأرض تحتنا ومعرفة وجودنا وغير ذلك إذ يستحيل أن يحدث الشيء نفسه لعلمنا بأنه في وجوده وكماله يعجز كيف في عدمه وعجزه ؟ ! )
قال : ( والفصل الرابع : وهي معرفة المزيد بالعقل والعلم والاستدلال وخالص الأعمال مدلول عليها وإن كان الأصل فضل الله المحض
قال الله تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } وقد روى : معرفة { وزدناهم هدى } { ولدينا مزيد } { لئن شكرتم لأزيدنكم } فوعد بالزيادات وأخبر عنها فكلما نصحوا فيما عرفوا كوشفوا بما غاب عنهم في المقام الثاني من المقام الأول
وفي الحديث : [ من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ] وكان عمر بن عبد العزيز يقول : ( جهلنا بما علمنا تركنا العمل بما علمنا ولو علمنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أراد عزا بلا عشيرة وغنى بلا مال وعلما بلا تعلم فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله فإنه واجد ذلك كله ]
وقد روي : [ إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله سبحانه بقلبه ملكا يغرس فيه آثار الحكمة كما يغرس أكار أحدكم الفسيل في بستانه ]
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول - ويكتب بذلك إلى عماله - : ( احفظوا عن المطيعين لله ما يقولون فإنه يتجلى لهم أمور صادقة ) فكلما استعمل العبد عقله وعمل بعلمه وأخلص في عمله وصفا ضميره وجال بفهمه في بصيرة العقل وذكاء النفس وفطنة الروح وذهن القلب وقوى يقينه ونفى شكه وضبط حواسه بالآداب النبوية وقام على خواطره بالمراقبة وتحرى ترك الكذب في الأقوال والأفعال وصار الصدق وطنه وذهب عنه الرياء والعجب وأظهر الفقر والفاقه إلى معبوده وتبرأ من حوله وقوته ولزم الخدمة وقام بحرمة الأدب وحفط الحدود والاتباع وهرب من الابتداع زيد في معرفته وقويت بصيرته وكوشف بما غاب عن الأعيان وصار من أهل الزيادة بحقيقة مادة الشكر الموجبة للمزيد وهذه المعرفة لا يجب أن تكون ضرورة ولا أيضا معرفة التوحيد إذ لو كانت ضرورة لعمت وبطل الثواب فلم يجبر سبحانه على معرفة توحيد وعلى معرفة المزيد إذ لو كان كذلك لأغنى عن بعث الرسل وإنزال الكتب وإقامة الحجج وإنما هو الجبار الذي جبر القلوب على فطرتها وأقامها مع مقدرتها لم يكلفها فوق الطاقة ولا شططا فجبر على معرفة ربوبيته ووحدانيته ولم يجبر على ما سوى ذلك من المعارف كما زعمت المجبرة فمن أهل الكلام من يزعم أن المعارف كلها اضطرار وذلك غلط وهو قول جمهور شيوخ الاعتزال والمجبرة وبعض المتشيعة ومنهم من يزعم أن جميعها اكتساب وذلك أيضا غير صواب وبه يقول القدرية وبقايا الاعتزال وغيرهم وأصحاب الحديث وأهل الظاهر فيقولون بالاضطرار والاكتساب
والأمر هو ما ذكرنا والصواب ما شرحنا لأن كل مقالة خالفت ما رتبنا فمنقوضة مضطربة نصرح بإبطالها ونومي إلى تناقض الأحاديث فمعارف الاضطرار لا تفاوت فيها ومعارف الاكتساب يقع فيها التفاوت ويتفاضل الناس فيها على قدر ما ذكرنا
فلما ثبت أنه القديم الأزلي وحده وما سواه محدث وكان القاهر لهم على الاتحاد والفناء كانت المعرفة لهم من هذا الوجه اضطرارا وجبلا وكذلك لما اضطرهم في الذر وخاطبهم كفاحا في غير زمان التكليف لم يجز أن يكون ذلك بكسب فلما أرسل رسله وأنزل كتبه وتعرف على ألسنة السفراء لم يصح أن يكون ذلك جبرا ولا ضرورة فيسقط التكليف ولا يكون ذلك موقع الحكمة ولا ثبوت حجة : { وما ربك بظلام للعبيد } وهو الفعال لما يريد ذو الحكمة البالغة والعدل الشامل والفضل الذي يختص به فعرفناه من حيث وحدانيته وربوبيته من حيث يعرف ومن حيث توحيده ومن حيث وصف ووقف ومن حيث المزيد من حيث استعمل ووفق واختص وتفضل فلكل معرفة مقام ولكل مقام حكم فعم بالأول وأفراد بالثاني واختص بالثالث من مقامات المعارف فمعارف البلغاء بالإصابة ومعرفة النظر والاستدلال لأهل الرأي والمكايلة والكلام ومعرفة الفقه للعلماء والحديث للرواة والفراسة للحكماء والمزيد للأنبياء والأولياء مع مشاركتهم للغير في المعارف لا يشاركهم غيرهم فيما خصوا به وكوشفوا فلما استوى الكل في كونهم أحداثا مربوبين استووا في تلك المعرفة ولما وقعت الميزة بالكسب والاختصاص تباينوا وتفاوتوا في المعارف وما يعقل ذلك إلا عارف ولا ينكره إلا جاهل فوصل الكل إلى معرفة الربوبية ولم ينته أحد إلى معرفة المزيد وهو أن يعرف الله حق معرفته
قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } وقد روي : ما عرفوه حق معرفته
وقال صلى الله عليه و سلم : [ لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ولو خفتم الله حق خوفه لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل وما وصل أحد إلى ذلك قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ! قال : ولا أنا الله أجل أن يبلغ أحد كنه أمره كله ]
هذا وهو أعرف الخلق بربه الذي تصير معارف ذوي المعارف عند معرفته نكرة
وقد كان يقول في مناجاته : [ اللهم عرفني نفسك حتى أزداد لك رغبة ومنك رهبة ] وهذا طلب الزيادة في المعرفة كما أدبه : { وقل رب زدني علما }
وقد كان الشبلي يقول : ( ما عرف الله أحد حقيقة ) يعني لو عرفوه حقيقة ما اشتغلوا بسواه
وكان الواسطي يقول : ( كما به كانوا كذلك به عرفوا ) وقال أبو الحسن المروزي في قصيدته :
( به عرفوه فاهتدوا لرشادهم ... ولولا الهدى منه عموا وتحيروا )
وقال النبي صلى الله عليه و سلم في كلامه : [ والله لول الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ] الحديث )
قال : ( فليس شيء إلا وهو يعرف الله سبحانه ولو كان الحكم واحدا والمعرفة واحدة لاستووا وعدم الاستواء ووجود التفاوت يشهد بصحة ما قلنا مع تصحيح الآثار ومذاقات ألفاظ الرجال فهو أجل أن يجهل وأعز أن تنتهي فيه معارف ذوي المعارف أو تبلغه بصائر ذوي البصائر : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير }
ومعرفة الرب بربوبيته إذ ربوبيته ظاهرة لا يدعها جاحد ولا يقدر أن ينكرها معاند إذ هو أجل أن يخفى وأعز أن يقاس وأعظم أن تشرف عليه العقول أو يتناوله معقول ليس في حيز المجهولات فيستدل عليه ولا مضبوط بالحواس فتصل الأفهام إليه فعرفناه بما تعرف ووصفناه بما وصف إذ به عرفت المعارف ووجدت الدلائل فعرفنا نفسه وعرفنا رسله بما أظهر على أيديها من المعجزات والبراهين والآيات وتعرف إلينا على ألسنتهم كيف نوحده ونشكره ونعبده إذ لا وصول لنا إلى مراده منا إلا بما أرسل وعلم لتكون المملكة معذوقة بمالكها ونوحده بما وحد به نفسه ونثني عليه بثنائه ونشكره كما علمنا على آلائه إذ هو الغني عن كل شيء وكل شيء إليه فقير قال الله : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } فلفقرنا لم نعرفه بنا ولغنائه عنا عرفناه به وجعل لنا الزيادة في الكسب والتوصل بالأسباب ومنه البداية وإليه المنتهى فكل من ألزمنا بسبب عكسنا عليه ذلك السبب وتسلسل الأمر وإلى الله ترجع الأمور : { وإليه يرجع الأمر كله } فلا مجهول فيستدل عليه ولا متوقع فيرتقب فللرسل تأثير في العبادات وللاستدلال تأثير في المكونات وللعقول تأثير في المدبرات وللرياضات تأثير في المكتسبات
وقد أخبر سبحانه في كتابه فقال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقد روي : ليعرفون فلأجل ذلك وقعت المعرفة من الجميع ولم تقع العبادة فأراد ليعرفوه ثم يعبدوه على بساط المعرفة فما جبرهم عليه من معرفة ربوبيته وقع وما ردهم فيه إلى الاكتساب وقع من بعض دون بعض ألا ترى أنه لم يقع من الكفار التعجب والإنكار من أنه سبحانه رب وإله ؟ وإنما تعجبت وأنكرت التوحيد بالإلهية فقالوا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } فما أريد منهم أن يقع بهم علل وما ألزمهم من معرفة ربوبيته لم يكن لهم سبيل إلى إنكاره وجحده كغيره من المعارف )


تتمة كلام البصري وتعليق ابن تيمية
قال : ( فأصحاب المقالات وضعت كل معرفة غير موضعها وأجملت وجهلت الحكم فالتبس عليها الحكم واختلفوا بما يصاب ؟ : بالعقول أو الاستدلال أو بالإمام ؟ فقال بعضهم : أصل المعرفة معرفة الإمام ومنهم من يقول : أهل البيت يعني معرفتهم والأئمة والعلماء والفقهاء أكثرهم يذهب إلى أن المعرفة معرفة العلم والفقه من حلال وحرام وفرائض ومندوبات و أحكام وسنن
وقال بعضهم : هي أن تعرف الله على يقين حتى تستقر معرفته في قلبك
واختلفوا : أي وقت تقع ؟ فمنهم من يزعم : قبل البحث والنظر ومنهم من قال : بعد البحث والنظر وقوم يقولون : بعد البلوغ ومنهم من بجعل حدها معرفة الأجسام والأعراض والجواهر وكلام يكثر ذكره ويتبين لك في نفس الكلام - إذا لزمت ما قررنا وشرحنا - أن أهل الكلام اعتقدوا ما يليق بالطبع فأثبتوا من طريق العبودية فجعلوا معرفته بأسباب وأهل الحق اعتقدوا ما يليق بالربوبية فأثبتوه من حيث الربوبية والربوبية لا تدنسها العلل ولا يقع عليها غوامض الفطر فقرر الله الخلق ودعاهم إلى معرفته كفاحا لئلا يشركوا في العلم بمعرفته ولا تكون لهم حجة
قال سبحانه : { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } وذلك لموضع ما ألزمهم من الضرورة ولو قررهم بمعرفته في حال العبودية - كما زعم الجاهلون - لخرجوا عن كونهم مكلفين لموضع النظر إليه لكن تعرف إليهم من بعد ما ألزمهم من الضرورة بالوسائط والآيات فمن نصح معبوده وقام على مراعاة ما شرعه له وتعرف به إليه واتكل في المعرفة عليه وأسند جميع أموره إليه ذكره ما سلف من الحال وكشف له عن العواقب والمآل فزهد فيما يفنى وزادت رغبته فيما يبقى وصار للإله موحدا خائفا ومصدقا راجيا ومن قصر في رعايته وخلط في سعايته وسلك محجة التفريط ولم ينصح فيما أعطى من ضرورته وعقله جمت عيوبه وكثرت ذنوبه فملكه هواه فأعماه وأراده ولم يبلغ مناه فأنساه ذلك ما كان في وقت التعريف فحصل في جملة من خان وعاند ولم يكن بخارج من كون ماكان يجهله إذ قد ثبت العلم بذلك فلم يكن بخارج من النار ولم يكن بخارج من ضرورته )
قال : ( وقد ثبت أهل الكلام معارف ضرورية كمعرفة الإنسان بوجود نفسه فالربوبية أولى بذلك وكذلك الأعراض والأجسام والجواهر لأهل الكلام والجمع والتفرقة وما يعرف بالفكر ويشترط بالعلم ومعرفة الشرع للفقهاء والمعرفة التي هي الحجة والبرهان والنور والبيان للعلماء البلغاء الحكماء ومعرفة الصفات - وهي العلم به - فهي للأولياء الذين يشاهدونه بالقلوب ويكاشفهم بالغيوب إذ يظهر لهم ما لا يظهر لغيرهم وهم المكاشفون بنور اليقين وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين المخصوصون بالحقائق والمبتدأون بالمكنون من ذخائر كراماته لأهل صفوته وولايته فلكل قوم مقام ولكل مقام علم ولكل علم حكم وكذلك المعارف على أحكام ومقامات فلا يتعدى بمعرفة مقامها )
قال : ( وقد قيل لأبي الحسين النوري : كيف لا تدركه العقول ؟ فقال : كيف يدرك ذو مدى من لا مدى له ؟ أم كيف يدرك ذو غاية من لا غاية له ؟ أم كيف يدرك مكيف من كيف الكيف
وقال الواسطي : كما قامت الأشياء وبه فنيت كذلك به عرفوه وقال الشبلي : الحق لا يعرف بسواه وقال النباجي : طوبى لأهل المعرفة عرفهم نفسه قبل أن عرفوه )
قال : ( صدق أئمة الدين وشيوخ المسلمين فالله سبحانه هو المعروف الأزلي وهو الهادي إلى معرفته والمتعرف بنفسه إلى بريته إذ ضلت العقول والفهوم والعلوم والأوهام في تيه التيه أن تتوهمه والأفكار والأضمار ان تدركه لأنه العظيم الذي فاتت عظمته لكل حيث وتقدير وعجز عن توهمه كل فكر وضمير وردعت العقول فلم تجد مساغا فرجعت كليلة ورجع الوهم خاسئا وهو حسير )
إلى أن قال : ( بل هو المعروف بما تعرف والموصوف كما وصف فتعرف إلينا بربوبيته ووصف لنا توحيده ووحدانيته وأقسم على ذلك بقوله تعالى : { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } وهو الصادق في خبره وشهادته إذ هو الواحد في الحقيقة الذي لا شريك له في الألوهية والابتداع وتعرف إلينا بهذه المعرفة على ألسنة السفراء فأوقفتنا السفراء على توحيده الذي تعرف إلينا به في كلامه وخطاه فالأصل منه ثم السفراء { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وأسعدنا بالعقل الذي هو الحجة والعلم الذي هو الحجة وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة وطالبنا بالاعتبار والافتكار والقبول ليكون أقوى في البرهان وأبلغ في البيان
قال سبحانه : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } فنزه نفسه عما زعموا وابتدعوا وصدق الله في خبره وصدقت الرسل )
وتكلم على هذه الآية وعلى قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } بما يناسب ذلك إلى أن قال : ( قال سبحانه : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء }
وقال سبحانه : { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل }
وقال : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا } مثلا لمن عبد غيره إذ ضرب العبد مثلا لمن عبد من دونه لأنه ذليل عاجز مفتقر مدبر مملوك لا يقدر على شيء : لا نفعا ولا ضرا ولا خلقا ولا أمرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ومن رزقناه : جعله مثلا يستدل به على توحيده وكمال ربوبيته لأنه الواسع الجواد القادر الرازق للعباد سرا وجهرا فضرب الله سبحانه لهم الأمثال ليوبخهم ويريهم عجزهم فيما أضافوا إليه من الشركاء مع إقرارهم بمعرفة ربوبيته تعالى الله عما يشركون فعز من لمن يشارك في قدرته وجل من لم يرام في وحدانيته وتعظم من تفرد بالربوبية فجل أن يكون له شريك في خلقه )
إلى أن قال : ( فخلقهم على الفطرة وبعث إليهم السفراء وعلمهم العلم وركب فيهم العقل بالفكر فبالفطرة عرفوه وبالواسائل عبدوه فلولا الله سبحانه ما عرفناه من طريق ربوبيته ولولا إرسال الرسول مع ما خاطبنا به ووقفنا عليه ووفقنا له ومن علينا به وكتب في قلوبنا واختصنا - ما عرفنا توحيده ولا كيف نطيعه
ولو لا ما ظهرت من الآيات والمعجزات التي أظهرها على أيدي الرسل بحقائق معانيها التي يعجز الخلق عن الإتيان بمثلها لم نعرف رسله
ولولا زوائد الأعمال وتصحيح الأحوال والعلوم والفهوم والمعارف وأسرار مقامات القوم وحلاوة أذواقهم والروائح الواردة إلينا منهم وعنهم - ما عرفنا ذوي المزيد
وكل ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون فلو شكر الكافر ما اضطره إليه من معرفة باريه بربوبيته واعترف له بنعمه وإخراجه من العدم إلى الوجود ورأى الأفضال والنعم التي قد عم بها وكمال صورته وإدرار رزقه عليه - لأوصله شكره بمعرفة توحيده فصدق رسوله وحقق ما سلف من عهده ورجع إلى ضرورته واعترف بوحدانيته فأبطل ما سواه ولم ير إلها إلا إياه ولكن لما جهل النعمة وزاغ عن العهد ونكث في إقراره وكذب السفراء - حرمه أكبر المنن وأفضل النعم : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } فتركه مع هواه فكان هلاكه في مناه وإذا شكر المؤمن معرفة التوحيد التي من بها عليه وشكرها قبول ماجاء به الرسول : قول وعمل وإخلاص نية وإصابة سنة ولزوم قدوة وحبس عن المخالفة أو صلة بمعرفة مزيدة فكلما نصح في مزيد رفع إلى مزيد
قال سبحانه : { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد }
قلت : ويستدل على ما ذكره أبومحمد بن عبد وغيره من أن المعرفة الأولية الفطرية تحصل بلا دليل أن ما يعلم بالدليل إنما يعلم إذا علم أن الدليل مسلتزم له ليكون دليلا عليه وهذه هي الآية والعلامة وكذلك الاسم إنما يدل على المسمى إذا عرف أنه اسم له وذلك مشروط بتصور المدلول عليه اللازم وبأن هذا ملزوم له
ولهذا قيل : إن المقصود بالكلام ليس هو تعريف المعاني المفردة لأن المعنى المفرد لا يفهم من اللفظ حتى يعرف أن اللفظ دال عليه فلا بد أن يعرف أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى حتى تعرف دلالته عليه فتكون المعرفة بالمعنى سابقة للمعرفة بدلالة اللفظ عليه بخلاف المعنى المركب فإنه إنما يحتاج إلى العلم بجنس المركب لا بالتركيب المعين فنعرف أنه إذا قيل : قام فلان أنه فعل القيام القائم به فإذا قيل : زيد عرف أنه فعل القيام القائم به بخلاف مسمى زيد وأنه لا يعرف أن زيدا يدل على مسماه حتى يعرف أولا مسمى زيد فلو استفيد مسمى زيد من زيد لزم الدور
وهذا موجود في كل ما دل على معنى مفرد فما دل على الباري إنما تعرف دلالته عليه إذ عرف أنه مستلزم له وذلك مشروط بمعرفة اللازم المدلول عليه فلا يعرف أن هذا دليل على هذا المعين حتى يعرف المعنى والدليل وأن الدليل مستلزم للمعين المدلول عليه فلو استفيد معرفة المعين من الدليل لزم الدور بل يكون ذلك المعين متصور قبل هذا وتلك الأمور مستلزمة له وآيات عليه فكلما تصورت تصور المدلول عليه فيكون كما قال : { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } تبصرة : إذا قدر أنه مس طيف من الشيطان فشككه فيما عرفه أولا فإذا رآى آياته المستلزمة لوجوده كان ذلك تبصرة من ذلك اللطيف
كما قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } وتكون تذكرة إذا حصل نسيان وغفلة تذكرة بالله فهي تبصرة لما قد يعرض من الجهل وتذكرة لما قد يحصل من غفلة وإن كان أصل المعرفة فطريا حصل في النفس بلا واسطة البتة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن الأدلة نوعان : أقيسة وآيات فأما الأقيسة فلا تدل إلا على معنى كلي لا تدل على معنى معين
فإذا قيل : هذا محدث وكل محدث فله محدث قديم أو : كل ممكن فلا بد له من واجب فإنما يدل على قديم واجب الوجود بنفسه لا يدل على عينه بل نفس تصور هذا لا يمنع من وقوع الشركة فيه فإذا قدر أنه عرف أنه واحد لا يقبل الشركة فإنه لم تعرف عينه فلا بد أن تعرف علينه بغير هذه الطريق والايات تدل على عينه لكن كون الآية دليلا على عينه مشروطة بمعرفة عينه قبل إذ لو لم تعرف عينه لم يعرف أن هذه الآية مستلزمة لها
فعلم أنه في الفطرة معرفة بالخالق نفسه بحيث يميز بينه وبين ما سواه كما ذكره أبو محمد بن عبد وغيره ولهذا كل من تطلب معرفته بالدليل فلا بد أن يكون مشعورا به قبل هذا حتى يطلب الدليل عليه أو على بعض أحواله
وأما ما لا تشعر به النفس بوجه فلا يكون مطلوبا لها وإذا كان مطلوبا لها فلا يمكن أن يستدل عليه بشيء حتى يعلم أنه يلزم من تحقق الدليل تحققه وقد بسط هذا في موضع آخر وبين فيه أن التصور البسيط المفرد لا يجوز أن يكون مطلوبا بالحد وإنما يطلب بالحد ما يكون مشعورا به من بعض الوجوه فيطلب الشعور به من وجه آخر
ولهذا لم يكن مجرد الحد معرفا بالمحدود إن لم يعرف أن الحد مطابق له وهو لا يعرف ذلك إن لم يعرف المحدود وإلا فمجرد الدعوى لا تفيد
وكذلك الدليل القياسي إذا قيل : كل مسكر خمر وكل خمر حرام فإن لم يعرف المقدمتين لم يعرف النتيجة وإذا كان آية على شيء معين مثل كون الكوكب الفلاني كالجدي مثلا علامة على جهة الكعبة فلا بد أن يكون قد عرف الجدي وعرف أنه من جهة الشمال وعرف أن الجهة المعينة جهة الكعبة في الجنوب فإذا رآى الجدي علم أن جهة الكعبة تقابله ولولا تقدم معرفته بالدليل وهو الجدي والمدلول عليه وهو جهة الكعبة لم يمكنه الاستدلال لكنه عرف أولا الدليل والمدلول عليه ثم خفى عليه المدلول وهوجهة الكعبة في بعض الأوقات والمواضع فلما رآى الدليل عرف المدلول الذي كان قد جهله بعد علمه به كمن سمع مناديا ينادي باسم من يطلبه كابنه وأخيه وقد أضل مكانه فإذا سمع الاسم استدل به عل المسمى الذي كان يعرفه قبل هذا ولكنه قد حصل له به نوع من الجهل بعد ذلك
فالآيات الدالة على الرب تعالى : آياته القولية التي تكلم بها كالقرآن وآياته الفعلية التي خلقها في الأنفس والآفاق تدل عليه وتحصل بها التبصرة والذكرى وإن كان الرب تعالى قد عرفته الفطرة قبل هذا ثم حصل له نوع من الجهل أو الشك أو النسيان ونحو ذلك
ومما ينبغي أن يعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء وعلمه بأنه عالم به شيء وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث وكذلك إرادته وحبه شيء وعلمه بأنه مريد محب له شيء وكون الإرادة والمحبة حصلت بالطريق المعين شيء ثالث
فالمتوضىء والمصلي والصائم يحصل في قلبه نية ضرورية للفعل الاختياري ولا يمكنه دفع ذلك عن نفسه وإن لم يتكلم بالنية ثم قد يظن أن النية إنما حصلت بتكلمه بها وهو غالط في ذلك
وكذلك قد يحصل له علم ضروري بمخبر الأخبار المتواترة ثم ينظر في دلالة الخبر فيظن أن العلم الحاصل له لم يحصل إلا بالنظر وهو قد كان قبل النظر عالما وقد يقال : إن النظر وكد ذلك العلم أو أحضره في النفس بعد ذهول النفس عنه وهذا مما يبين لك أن كثيرا من النظار يظنون أنهم لم يعرفوا الله بالطريق المعين من النظر الذي سلكوه وقد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا فإن كان فاسدا فهو لا يوجب العلم وهم يظنون أن العلم إنما حصل به وهم غالطون
بل العلم قد حصل بدونه وإن كان صحيحا فقد يكون مؤكدا للعلم ومحضرا له ومبينا له وإن كان العلم حاصلا بدونه
هذه الأمور من تصورها حق التصور تبين له حقيقة الأمر في أصول العلم وعلم أن من ظن أن الأمر الذي يعرفه عامة الخلق وهو أجل المعارف عندهم من حصره في طريق معين لا يعرفه إلا بعضهم كان جاهلا لو كان ذلك الطريق صحيحا فكيف إذا كان فاسدا ! ؟
ومما يوضح الكلام في هذا الذكر المشروع لله هو كلام تام كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ]
فأما مجرد ذكر الاسم المفرد وهو قول القائل : ( الله الله ) فلم تأت به الشريعة وليس هو كلاما مفيدا إذا الكلام المفيد أن يخبر عنه بإثبات شيء أو نفيه وأما التصور المفرد فلا فائدة فيه وإن كان ثابتا بأصل الفطرة وإن كان المعلوم بالفطرة ما تدخل فيه أمور ثبوتية وسلبية


كلام ابن أبي موسى في شرح الإرشاد
والقائلون بأن المعرفة تحصل بغير العقل يفسرون كلامهم بمعنى صحيح مثل ما ذكره الشريف أبو علي بن أبي موسى في شرح الإرشاد في الفقه تصنيفه لما شرح عقيدته المختصرة التي ذكرها في أول الإرشاد
قال لما ذكر التوحيد : ( الكلام بعد ذلك : المعرفة هل تدرك بالعقول أم بالسمع ؟ ) قال : ( فالذي نذهب إليه قول إمامنا : إن معرفة الخالق أنه الله لا تدرك إلا بالسمع ) قال : ( وقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين فقال الأقلون منهم : إن المعرفة تدرك بالعقول مع اتفاقهم معنا أنها لا تدرك بمجرد العقل قبل ورود السمع بها )
قال : ( والدليل على أنه تدرك بالسمع وأنه لا مدخل للعقول فيها قبل ورود السمع بها : ان العقل مخلوق كالحواس الخمس من البصر والسمع والشم واللمس والمذاق ثم المقسوم منه يتفاضل الخلق فيه يعلم ذلك كل أحد ضرورة فإذا كان كذلك فاللمس لا يدرك له اللامس الأراييح والشم لا يدرك به الشام الأصوات )
قال : ( وجملة هذا أن الله لم يجعل اللمس سبيلا إلى إدراك الأراييح ولا الشم سبيلا إلى إدراك المسموعات بل جعل كل واحد منهما سبيلا لإدراك ما خص به وإن كنا نجوز أن يفعل ذلك ويجعل العلم في اليد والكلام في الرجل والنظر في اللسان لأن الجواهر من جنس واحد وإذا جاز قيام الرؤية ببعضها جاز بجميعها ولكن ذلك لا يكون في الدنيا إلا لنبي ليكون من معجزاته ودليل تصوره كلام الذراع للنبي صلى الله عليه و سلم
وفي الآخرة إذا أنطق الله عز و جل الجوارح بقوله : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } وبقوله : { ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة }
قال : ( فيجوز أن يجعل الله الظن يوم القيامة في الوجوه المعذبة كذلك العقل لم يجعل الله له سبيلا إلى إدراك السواد والبياض ولا إلى إدراك المشام والطعوم بل جعل الله له سبيلا إلى التمييز بين الموجودات وإلى إدراك فهم السمعيات والفرق بين الحسن منها والقبيح والباطل منها والصحيح فإذا نظر إلى المصنوعات التي لا سبيل للخلق إلى مثلها ويعجز كل فاعل عنها وتحقق بصحة التمييز المركب فيه - إذا أراد الله هدايته - أن المحدثات لا تصنع نفسها علم أنها مفتقرة إلى صانع غير أنه لا يعرف من هو قبل ورود السمع فإذا ورد السمع بأن الصانع هو الله قبله العقل ووقع له فهم في السمع وتحقق صحة الخبر وعرف الله من ناحية السمع لا من ناحية العقل لأن العقل بمجرده لا يعلم من الصانع قط وأكثر ما في بابه أن يقع به التمييز فيبقى أن يفعل الجماد نفسه ويقتضي بالشاهد على الغائب فأما أن يعرف من الصانع فمحال إلا من جهة السمع )
قال : ( والدليل على صحة اعتبارنا أن الله خاطب العقلاء بالاعتبار فقال { فاعتبروا يا أولي الأبصار } يعني البصائر وقال : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } أي عقل وقال : { ليتذكر أولو الألباب } فأمرهم باعتبار ما جعل لهم سبيلا إلى اعتباره دون غيره
ثم الدليل القاهر هو القاضي بصحة ما ذكرت : أن الله عز و جل حجب عن الخلق - من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر الخلق أجمعين - معرفة ما هو ولم يجعل لهم طريقا إلى علم مائيته ولا سبيل إلى إدراك كيفيته جل أن يدرك أو يحاط به علما وتعالى علوا كبيرا : { ولا يحيطون به علما } فمنع من أحاطة العلم به فلا سبيل لأحد إليه
وقال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فنفى عن نفسه الأشبهاه والأمثال فمنع من الاستدلال عيه بالمثلية كما منع الدليل على إدراك كيفيته أو علم ماهيته فهذا الذي لا سبيل للعقل إلى معرفته ولا طريق له إلى علمه
ثم كلف جل إسمه سائر بريته وأفترض على جميع المكلفين من خليقته علم من هو ليعرف الخلق معبودهم ويعلموا أمر إلههم وخالقهم فلما كلفهم ذلك نصب لهم الدليل عليه سمعا ليتوصلوا به إلى أداء ما افترض عليهم من عبادته وعلم ما كلفهم من معرفته علما منه جلت عظمته بأن لا طريق للعقل إلى علم ذلك بحال فقال تعالى : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقال : { ذلكم الله ربكم } وقال : { الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم } وقال : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم }
قال : ( ولو سألهم قبل أن يسمعوا باسمه عن تأويل من خلقهم ماكان لهم طريق إلى علم ذلك لأن الأسماء لا تسمع من جهة العقل )
قال : فثبت وتقرر بالدليل الذي لا يحتمل إلا ما ذكرناه : أن الله العظيم لم يعرف إلا من جهة السمع لإحاطة العلم أنه لا طريق للعقل بمجرده إلى معرفة هذه الأسماء ولا إلى معرفة المسمى لو لم يرد السمع بذلك ومدعي ذلك ومجوزه من ناحية العقل بعلم بطلان دعواه ضرورة )
وتكلم على قصة إبراهيم بكلام ليس هذا موضعه إلى أن قال : ( والمعرفة عندنا موهبة من الله وتقع استدلالا لا اضطرارا لأنه لو كانت تعلم بضرورة لاستوى فيها العقلاء )
إلى أن قال : ( فثبت أن المعرفة لا تقع إلا من ناحية السمع على ما نقول : إن الله لا يخلى خلقه في وقت من الأوقات ولا في عصر من الأعصار ممن يعرفه إليهم فتعرف إليهم على ألسنة رسله وأرسل الرسل بالدعاء إليه والدلاة عليه لكيلا تسقط حجج الله
وكان كل نبي يعرف أمته معبودهم كقول نوح لقومه : { يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله } وكقول شعيب : { يا قوم اعبدوا الله }
وكذلك في قصص غيرهم من الرسل كل منهم يديم الدعوة لقومه فإذا قبض كان حكم شريعته قائما في حال الفترة إلى أن ينسخها الله بإرسال نبي آخر فيقوم الثاني لأمته في التعريف والدعوة قيام الماضي لأمته فما أخلى الله الخلق من سمع يعرفونه به ويستدلون به على ربوبيته ومعرفة أسمائه )


تعليق ابن تيمية
قلت : ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع : أحدها : هو الذي يعرف بالعقل والثاني : المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع والثالث : ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمع
فالأول : المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية فإنما تدل على أمر مطلق كلي إذ كان البرهان المنطقي العقلي لابد فيه من قضية كلية والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي
وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أنه له محدثا وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه فلا يكون في ذلك معرفة عينه ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقا كليا
ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة حيث أثبتوا وجودا واجبا قديما ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه وأنه لا يكون إلا مطلقا وقد علم أن ما لا يكون مطلقا كليا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج
ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه فإن من سلك النظر الصحيح علم أنه موجود معين متميز وإن كان دليله لم يدله على عينه بخلاف من نفى تعينه وجعله مطلقا كليا أو قال ما يستلزم ذلك فإن هذا معطل له في الحقيقة
ومثال هذا من علم بالدليل وجود نبي مرسل أرسله الله إلى خلقه ولم يعلم عينه فهذا قد علمه علما مطلقا وأما من قال : إن هذا النبي إنما يوجد مطلقا لا معينا فهذا قد نفى وجوده في الخارج فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام
ولولا السمع لما سمي ولا ذكر ولا حمد ولا مدح ولا نعت ولا وصف فإن كان هذا هو الذي أراده بمعرفة عينه ومن هو فلا ريب أنه لا يحصل إلا بالسمع وإن أراد بذلك معرفة أخرى مثل المعرفة بسائر نعوته التي أخبرت بها الرسل فهذا أيضا يعلم بالسمع ومنها ما لا يعلم بمجرد القياس العقلي ومنها ما قد تنازع الناس هل يعلم بالعقل أم لا ؟
وأما معرفة عين المسمى الموصوف الذي علم وجوده فهذا في المخلوقات يعرف بالإحساس ظاهرا أو باطنا : إما بالإحساس بعينه أو بالإحساس بخصائصه فمن علم اسم شخص ونعوته أو اسم أرض وحدودها فإنه يعرف عينها بالرؤية : إما بمخبر يخبره أن هذا المعنى هو الموصوف المسمى وإما بأن يرى اختصاص ذلك المعين بتلك الأسماء والصفات
قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فمن عرف نعوت النبي صلى الله عليه و سلم التي نعت بها في الكتب المتقدمة ثم رآه ورأى خصائصه علم أن هذا هو ذاك لعدم الاشتراك في تلك الصفات
وهذه المعرفة قد تكون بمشاهدة عينه كالذين شاهدوه وقد لا تكون بمشاهدة عينه بل بطرق أخرى يعلم بها أنه هو كما يعلم أن القرآن تلقي عنه وأنه هاجر من مكة إلى المدينة ومات بها وأنه هو المذكور في الأذان وهو الذي يسميه المسلمون محمدا رسول الله وهو صاحب هذه الشريعة التي عليها المسلمون فهذه الأمور تعرف بها عينه من غير مشاهدة
وكذلك قد تعرف عين خلفائه وأصحابه وغيرهم من الناس وتعرف أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أحوالهم معرفة معينة لااشتراك فيها مع عدم المعاينة
لكن قد شوهد آحاد الأناسي وعلم أن هؤلاء من هذا النوع ولكن لم يشهد ما يشبه النبي صلى الله عليه و سلم وخلفاءه من كل وجه وإما شوهد ما يشبههم من بعض الوجوه
فهذا القدر المسمى يعلم بمشاهدة نظيره وأما القدر الفارق فلا بد أن يشارك غيره في وصف آخر فيعلم ما بينهما من القدر المشترك أيضا
فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك
ففي الجملة معرفة عين من علم بعض صفاته قد يحصل بالسماع وقد يحصل بالعيان وقد يحصل بالاستدلال والعلم بالموصوف قد يعلم بطرق متعددة فمن علم نعت الملك ثم رآه فقد يعلم عينه لما استقر عنده من معرفة صفاته وقد يعلم ذلك بمن يخبره أن ذلك المسمى الموصوف هو هذا المعين
ولهذا إذا كان في كتاب الوقف ونحوه حدود عقار وصفاته فقد تعلم الحدود بالمعاينة والاستدلال بأن لا يدل ما يطابق تلك النعوت إلا هي وقد يعلم بالخبر والشهادة ما يشهد الشهود بأن الحد المسمى الموصوف هو هذا المعين وإذا شهد الشهود على مسمى منسوب وكتب بذلك حاكم إلى حاكم آخر أو شهد شهود فرع على شهود أصل فإنه يعلم عين المسمى المنسوب كمن شهد بنسبة ولا يوجد له شريك فإن وجد له شريك لم تعلم عينه بالشهادة باسمه ونسبه وصار ذلك كالحلية والنعت المشترك وهل يشهد بالتعيين بمجرد الحلية عند الحاجة ؟ فيه نزاع بين الفقهاء
وكما أن معرفة عين الموصوف تحصل بطرق فنفس العلم الأول بصفته المختصة يحصل بطرق والعلم بالمعينة قد يكون بالمشاهدة الظاهرة وقد يكون بالمشاهدة الباطنة وقد لا يكون إلا لمجرد الآثار
ومما يبين الفرق بين المعين والمطبق ما ذكره الفقهاء في باب الأعيان المشاهدة الموصوفة فإن المبيع قد يكون معينا وقد لا يكون والمعين قد يكون مشاهدا فهذا يصح بيعه بالإجماع وقد يكون غائبا وفيه ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء وهي ثلاث روايات عن أحمد : أحدها : أنه لا يصح بيعه كظاهر مذهب الشافعي والثاني : يصح وصف أو لم يوصف كمذهب أبي حنيفة والثالث : وهو مذهب مالك والمشهور من مذهب أحمد : أنه يصح بالصفة ولا يصح بدونها
ولو تلف هذا المبيع قبل التمكن من قبضة بآفة سماوية انفسخ البيع فيه باتفاق العلماء ولم يكن للمشتري المطالبة ببدله لأن حقه تعين في عين معينة وأما المبيع المطلق في الذمة فمثل دين السلم فإنه أسلم في شيء موصوف مطلق ولم يعينه وهو بمنزلة الثمن المطلق الذي لم يعين وبمنزلة الديون التي ثبتت مطلقة كالصداق وبدل القرض والأجرة ونحو ذلك
ومثله في الواجبات الشرعية وجوب عين رقبة مطلقة ونحو ذلك فهنا الواجب أمر مطلق لم يتعين بل لمن هو عليه أن يأتي بأي عين من الأعيان إذا حصل به المقصود ولو أتى بمعين فتلف قبل التمكن من قبضه كان للمستحق المطالبة بعين أخرى
وهكذا قال الفقهاء في الهدي المطلق كهدي التمتع والقرآن والهدي المعين كما لو نذر هديا بعينه فإن المعين لو تلف بغير تفريط منه لم يكن عليه بدله بخلاف ما وجب في الذمة فإنه لو عينه وتلف كان عليه إبداله
وكل موجود في الخارج فهو في نفس معين لكن العلم به قد يكون مع العلم بعينه وقد لا يكون مع العلم بعينه كالمبيع إذا كان مشاهدا فقد عرف المشتري عينه وإذا كان غائبا فهو معين في نفسه والمشتري لا يعرف عينه وإنما يعرف منه أمرا مطلقا سواء كان ذلك المطلق لا يحتمل سواه أو يحتمله ويحتمل غيره فإنه قد يبيعه العبد أو الأرض التي من صفتها كذا وكذا ويصفها بصفات تميزها لا تحتمل دخول غيرها فيها وهذا بخلاف المسلم فيه فإنه لا يكون معينا ومتى كان معينا بطل السلم كما لو أسلم في ثمن بستان بعينه أو زرع أرضا بعينها قبل بدو الصلاح كما جاء في ذلك حديث مسند عن النبي صلى الله عليه و سلم
وإذا تبين هذا فإذا عرف محدث للحوادث واجب قديم وعلم انتفاء الشركة فيه بأنه واحد لا شريك في الخلق أو غير ذلك من خصائصه التي لا يوصف بها اثنان مثل أنه رب العالمين وأنه على كل شيء قدير ونحو ذلك - فقد تعرف عينه بالعقل - عرف أنه واحد معين في نفس الأمر لا شركة فيه فيطلب القلب حينئذ معرفة عينه بخلاف ما يمكن الشركة فيه
وإذا كان كذلك فقد يعترض المعترض على قول من قال : إن عينه لا تعرف إلا بالسمع ويقول : التعيين حينئذ بما جعل الله في القلوب من ضرورة المعرفة والقصد والتوجه والإشارة إلى ما فوق السماوات فإنها مفطورة على أنه ليس فوق العالم غيره
ولهذا كان منكرو علو الله ومباينته لمخلوقاته من الجهمية الحلولية أو النفاة للحلول والمباينة ونحوهم إنما يثبتون وجودا مطلقا لا يعين ولا يشار إليه بل يقولون بلا إشارة ولا تعيين وهؤلاء يثبتون وجودا مطلقا كليا لا يعينونه لا ببواطنهم ولا بظواهرهم
ولهذا يبقون في حيرة واضطراب تارة يجعلونه حالا في المخلوقات لا يختص بشيء وتارة يسلبونه هذا وهذا ويقولون : الحق لا يقيد ولا يخصص ولا يقبل الإشارة والتعيين نحو ذلك من العبارات التي مضمونها في الحقيقة نفي ثبوته في الخارج فإن كل موجود في الخارج فإنه متعين متميز عن غيره مختص بخصائصه التي لا يشركه فيها غيره
وهذا هو المقيد في اصطلاحهم وهم يظنون أن ما ذكره ثابت في الخارج لكنهم ضالون في ذلك وضلالهم كضلال في أمور كثيرة لا توجد إلا في الأذهان ظنونا ثابتة في الأعيان ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم : هل هو شيء أم لا ؟ وفي مسألة الأحوال وفي مسألة وجود الموجودات : هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك ؟ والكلي الطبيعي : هل هو ثابت في الخارج أم لا ؟
وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل - كالمطلقات الكلية ونحوها - أمورا موجودة ثابتة في الخارج وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل وذلك ضلال
فإن الغيب الذي أخبرت به الرسل هو مما يمكن الإحساس به في الجملة ليس مما لا يمكن الإحساس به لكن مشاهدته والإحساس به يكون بعد الموت وفي الدار الآخرة
وهناك الحياة وتوابعها من الإحساس والعمل أقوى وأكمل فإن الدار الآخرة لهي الحيوان
فالرسل لم تفرق بين الغيب والشهادة لأن أحدهما معقول والآخر محسوس كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية ومن شركهم في بعض ذلك وإنما فرقت بأن أحدهما مشهود الآن والآخر غائب عنا لا نشهده الآن ولهذا سماه الله تعالى غيبا
قال تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } لم يسمه مقولا وقد بسط الكلام على هذا في موضعه
والمقصود هنا أن ما عرف وصفه تعرف عينه بوجه من وجوه الإحساس إما بذاته وإما ببعض خصائصه والله تعالى يختص بما فوق العالم فالعباد يشيرون إلى ذلك ويعلمون أن خالق العالم هو الذي فوق العالم لا يشركه في ذلك أحد وهذا العلم قد يحصل بالفطرة وقد يحصل بالاستدلال والقياس وقد يحصل بالسمع من الرسل كما أخبرت بأن الله فوق العالم
ولهذا قال فرعون : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا }
ولهذا كان معراج نبينا صلى الله عليه و سلم إلى السماء وكذلك سائر ما تعرفه القلوب من خصائصه
وقد يقال : هو تعيين يمكن حصوله بدون السمع وذلك أن معرفة عينه بالمشاهدة لا تحصل في الدنيا فلم يبق إلا معرفة عينه بغير هذه الطريق كما يعرف عين الرسول صلى الله عليه و سلم من لم يشاهده بمعرفة ما يعرفه من خصائصه
وأما القائل : إن عينه لا تعرف إلا بالسمع فقد يقول : إن ما حصل للقلوب من معرفة عينه إنما حصل بالسمع
والناس متنازعون في كونه فوق العالم : هل هو من الصفات التي تعلم بالعقل ؟ كما هو قول أكثر السلف والأئمة وهو قول ابن كلاب و ابن كرام وآخر قولي القاضي أبي يعلى أو هو من الصفات السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع كما هو قول كثير من أصحاب الأشعري وهو أول قولي القاضي أبي يعلى وطائفة معه
فابن أبي موسى وأمثاله قد يقولون بهذا ويقولون : لم نعلم ذلك إلا بالسمع
ويقولون : لم تعلم أنه فوق السماء إلا بالسمع لكن كلامه أعم من ذلك
وكلامهم يصح إذا فسر بأنواع من التعيين التي لم تعلم إلا بالسمع كالصفات الخبرية أو فسر بأن السمع هو الذي أرشد العقول إلى ما به يعلم التعيين وأنه لولا إرشاد السمع لم يعلم ذلك أو بأنه أراد بالتعيين معرفة الأسماء والصفات القولية التي يوصف الله بها أو أراد بذلك أن كثيرا من الناس - أو أكثرهم - لا تحصل لهم معرفة شيء من التعيين إلا بالسمع
وكثير ممن يقول بوجوب النظر وأنه أول الواجبات أو أول الواجبات : المعرفة يقولون مع ذلك : إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع كما ذكر ذلك أبو فرج المقدسي وابنه عبد الوهاب و ابن درباس وغيرهم كما قال من قال قبلهم : إنها لا تحصل إلا بالشرع
وهؤلاء يريدون بالعقل : الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء وأن ذلك مجردة لا يوجب المعرفة بل لا بد من أمر زائد على ذلك كما قالوا في استدلالهم : إن المعرفة لو كانت بالعقل لكان كل عاقل عارفا ولما وجد جماعة من العقلاء كفارا دل على أن المعرفة لم تثبت بالعقل
ألا ترى أن ما يدرك بالضرورة لا يختلف أرباب النظر فيه ؟ وهذا إنما ينفي المعرفة الإيمانية وإلا فعامة العقلاء يقرون بالصانع
وأيضا فهذا ينفي أن تكون المعرفة الإيمانية ضرورية وهو أيضا يوجب أن الطرق العقلية لا تفصل مورد النزاع ولا يحصل عليها الإجماع وهوكما قالوا فإن الطرق القياسية العقلية النظرية وإن كان منها ما يفضى إلى العلم فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض تارة لدقتها وغموضها وتارةلأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة
قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فجعل الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الكتاب المنزل من السماء
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول


كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي
ولهذا قال هؤلاء المقررون لكون المعرفة لاتحصل بمجرد العقل ما قاله عبد الوهاب ابن أبي الفرج وغيره : ( إنا نقول إن المعرفة لو كانت بالعقل لوجب أن يكون كل عاقل عارفا بالله تعالى مجمعا على رأي واحد في التوحيد ولما وجدنا جماعة من العقلاء كفارا مع صحة عقولهم ودقة نظرهم - دل على أن المعرفة لم تحصل بالعقل لأن العقل حاسة من جملة الحواس فالحواس لا تختلف في محسوساتها ألا ترى أن ما يدرك بالنظر من أسود وأحمر وأخضر وأصفر وحيوان وحجر لا يختلف أرباب النظر فيه ؟ فدل على أن معرفة الله حصلت بمعنى غير العقل لوجود الأختلاف في المعرفة والاتفاق فيما طريقة العقل والحواس )


تعليق ابن تيمية
وتسمية هؤلاء للعقل حاسة من الحواس هومما نازعهم فيه طوائف من أصحابهم وغيرهم كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره والنزاع في ذلك عند التحقيق يرجع إلى اللفظ ولذلك قالوا : لوكان العقل علة في معرفة الباري لوجب أن تحصل المعرفة بوجوده وتعدم بعدمه كالمنظورات تدرك بوجود البصر وتعدم معرفتها ونظرها بعدم البصر وكذلك المسموعات وسائر المحسوسات
ولما رأينا المسلم يرتد عن الإسلام مع وجود عقله الذي كان به قبل الارتداد مؤمنا علمنا أن المعرفة حصلت له بغير ذلك وكذلك نرى المؤمن بالله يذهب عقله ويحكم بجنونه وهو باق على المعرفة مقر بالتوحيد عارف بالله وعقلاء كثيرون يكفرون بالله ويشركون به فدل على أن المعرفة مستفادة بمعنى غير العقل
وهذا الكلام يقتضي أن مجرد الغريزة ولوازمها لا تستلزم المعرفة الواجبة على العباد وهذا مما لا ينازع فيه أحد فإن من يقول : إن المعرفة تحصل بالعقل يقول : إن أصل الإقرار بالصانع يحصل بعلوم عقلية ولكن ليس ذلك هو جميع المعرفة الواجبة ولا بمجرد ذلك يصير مؤمنا
وهذا العقل هوالعقل الذي هو شرط في الأمر والنهي وقد يراد بالعقل ما تحصل به النجاة كما قال تعالى عن أهل النار : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }
وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
وقال تعالى : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }
وقال : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وأمثال ذلك في القرآن
واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل بقوله تعالى : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله }
وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع والمعرفة المنجية من عذاب الله وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له
احتجوا أيضا بما ذكروه [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : تعلموا العلم فإن تعليمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه به يعرف الله ويعبد وبه يمجد الله ويوحد هو إمام العمل والعمل تابعه يرفع الله بالعلم أقواما فيجعلهم للناس قادة وأئمة يقتدى بهم وينتهى إلى رأيهم ]
قالوا : فوجه الدليل قوله : ( به يعرف الله ويعبد ) وهذا الكلام معروف عن معاذ بين جبل رضي الله عنه رووه عنه بالأسانيد المعروفة وهو كلام حسن ولكن روايته مرفوعا فيه نظر وفيه : أن الله يعرف ويعبد بالعلم لا بمجرد الغريزة العقلية وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول
ومن يقول : إن المعرفة تحصل بالعقل يقول : إنما تحصل بعلوم عقلية أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل لا يقول : إن نفس العقل - الذي هو الغريزة ولوازمها - يوجب حصول المعرفة والعبادة
وقد تنازع كثير من الناس في مسمى العلم والعقل أيهما أشرف ؟ وأكثر ذلك منازعات لفظية فإن العقل قد يراد به : الغريزة وقد يراد به : علم يحصل بالغريزة وقد يراد به : عمل بالعلم
فإذا أريد به علم كان أحدهما من جنس الآخر لكن قد يراد بالعلم : الكلام المأثور عن المعصوم فإنه قد ثبت أنه علم لقوله : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } وأمثاله
ويراد بالعقل : الغريزة فهنا يكون أحدهما غير الآخر ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشرف من مسمى العقل فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى وكلام الله أشرف من الغريزة التي يشترك فيها المسلم والكافر
وأيضا فقد تسمى العلوم المسموعة عقلا كما قيل :
( رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع )
( فلا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع )
( كما لا تنفع العين ... وضوء الشمس ممنوع )
وأما العمل لعلم وهو جلب ما ينفع الإنسان ودفع ما يضره بالنظر في العواقب فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة كالآثار المروية في فضائل العقل
ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان مرسلا : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
وبهذا الاعتبار فالعقل يتضمن العلم والعلم جزء مسماه ومعلوم أن مجموع العلم والعمل به أفضل من العلم الذي لا يعمل به
وهذا كما قال غير واحد من السلف في مسمى الحكمة كما قال مالك بن أنس : ( الحكمة معرفة الدين والعمل به ) وكذلك قال الفضيل بن عياض و ابن قتيبة وغير واحد من السلف قال الشاعر :
( وكيف يصح أن تدعى حكيما ... وأنت لكل ما تهوى ركوب )
وقال آخر :
( ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم )
وهذا المعنى موجود في سائر الألسنة لكن لكل أمة حكمة بحسبها كما أن لكل أمة دينا فاليونان لهم ما يسمونه حكمة وكذلك الهند وأما حكمة أهل الملل فهي أجل من ذلك
ومما احتج به هؤلاء أنهم قالوا : لا يدرك بالعقل إلا ما يكنفه العقل ويحيط به علما والباري سبحانه وتعالى لا تدركه العقول ولا تحيط به لقوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وقوله : { ولا يحيطون به علما }
قال ذو النون المصري : العقل عاجز ولا يدل إلا على عاجز فأما الربوبية فلا سبيل إلى كيفية إدراكها بالعقول ليس هو إلا الرضا والتسليم والإيمان والتصديق ) لكن هذا الكلام وما يشبهه إنما يقتضي أن معرفة كنهه وحقيقته لا تدركه العقول وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء وإنما نازع في ذلك طوائف من متكلمي المعتزلة ومن وافقهم
ولهذا كان السلف والائمة يذكرون أنهم لا يعرفون كيفية صفاته كقولهم : ( الأستواء معلوم والكيف مجهول ) وهذا الكيف المجهول هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وهذا هو النوع الثالث من العلم الذي ذكر ابن أبي موسى أن الله انفرد به
وقد قال ابن عباس : ( التفسير أربعة أوجه : تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله : من ادعى علمه فهو كاذب ) وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن لفظ التأويل لفظ مشترك بحسب الاصطلاحات : بين صرف اللفظ عن الأحتمال الراجح إلى المرجوح وبين تفسير اللفظ وبيان معناه وبين الحقيقة التي هي نفس ما هو عليه في الخارج وأن التأويل بالمعنى الثاني كان السلف يعلمونه ويتكلمون به وبالمعنى الثالث انفرد الله به وأما بالمعنى الأول فهو كتحريفات الجهمية التي أنكرها السلف وذموها
ومما احتج به هؤلاء : القدر وأن العلم والإيمان يحصل للعبد بفضل الله ورحمته


تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه
قال عبد الوهاب : ( وأيضا فإن الله قال في حق المؤمنين : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } فاعلم أن الإيمان من تفضله وكتبه في القلوب فأي عمل للعقل بعد ذلك ؟ وإنما العقل بمنزلة القارىء للمكتوب فإن كان في القلب شيء مكتوب قرأه العقل كالمسطور يدركه النظر وإذا لم يكن في القلوب شيء مكتوب لم يفد العقل فائدة ) قال : ( ثم نقول : هل نال الأنبياء النبوة بعقولهم ؟ أم باصطفاء الله لهم وإرساله إليهم الملائكة ؟ فإن قال : بعقولهم فقد أكذبه الله تعالى بقوله : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وإذا ثبت أن العقل لم يفد الرسالة والنبوة وإنما ذلك اختصاص من الله لهم كذلك معرفة الله والإيمان به ليس للعقل في ذلك شيء وإنما العقل شرط في التكليف والخطاب بالشرع كالحياة والوجود )
قال والده أبو الفرج : قال بعض أصحابنا : عرف بنور الهداية وقال غيره : عرفنا نفسه بتعرفه والجميع واحد
قال : ( وقد روي ذلك عن جماعة من السلف الصالح فسئل بعضهم : أعرفت الله بمحمد أم عرفت الله به ؟ فقال : عرفت الله به وعرفت محمدا بالله ولو عرفت الله بمحمد لكانت المنة لمحمد دون الله )
قلت : هذه الطريقة تصلح أن تكون ردا على القدرية من المعتزلة ونحوهم الذين يقولون : إن ما يحصل باختيار العبد من علم وعمل فإنه هو الذي أحدثه بدون معونة من الله له وله هدى يسره له خصه به دون الكافر بل يجعلون المؤمن والكافر سواء فيما فعل الله بهما من أسباب الهداية حيث أرسل الرسول إليهما جميعا وخلق لكل منهما استطاعة يتمكن بها من الإيمان وأزاح علةكل منهما
بل يقولون : إنه يجب عليه أن يفعل بكل منهما من اللطف الذي يؤمن به اختيارا كل ما يقدر عليه فيفعل به الأصلح في دينه وأنه ليس في المقدور مما يؤمن به اختيار شيء ولكن المؤمنون - كأبي بكر وعلي آمنا بأنفسهما والكفار - كأبي لهب وأبي جهل - كفرا بأنفسهما من غير أن يختص الله المؤمن بأسباب تقتضي إيمانه ولهذا قال لهم الناس : إذا كان الأمر كذلك وهما مستويان في أسباب الإيمان فلما أختص أحدهما بوجود الإيمان منه دون الآخر ؟ وإذا قالوا بمشيئته وقدرته قالوا لهم : إن كان للكافر مثل ذلك بطل الاختصاص وإن لم يكن له مثل ذلك كان المؤمن مخصوصا بأسباب من الهداية لم يحصل مثلها للكافر
وأيضا فإن الله يسأل الهدى إلى الصراط المستقيم في كل صلاة والهدى المشترك بين المؤمن والكافر قد فعله بل يجب عنده عليه فعله فما المطلوب بالدعاء بعد ذلك ؟
وأيضا فإن الله تعالى قال : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الآية فبين أنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان
والقدرية من المعتزلة والشيعة تتأول ذلك بأنه حبب الإيمان إلى كل مكلف وزينة بما أظهره من دلائل حسنه وكره الكفر بما أظهر من دلائل قبحه
فيقال لهم : أول الآية وآخرها خطاب للمؤمنين بقوله : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } وقال في آخرها : { أولئك هم الراشدون } فبين أن الذين حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر هم الراشدون والكفار ليسوا براشدين ولو كان قد فعل بالكفار كما فعل بهم لم يصح أن يمتن عليهم بما يشعر اختصاصهم به
كما قال في أثناء السورة : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } فلو كان المراد بالهداية الهداية التي يشترك فيها المؤمن والكافر لم يقل : إن كنتم صادقين فإن تلك حاصلة سواء كانوا صادقين في قولهم أمناء أولم يكونوا صادقين
وهذا كقوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } وأمثال ذلك مما يبين اختصاص المؤمنين بهدى ليس للكفار
كقوله : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا }
وقوله : { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }
وقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } ومثل هذا في القرآن كثير وليس هذا موضع بسط هذه المسألة ولكن المقصود التنبيه على المأخذ
فالمعتزلة يقولون إن ما يحصل بكسب العبد واختياره من المعرفة ليس مما جعله الله في قلبه ويقولون : إن المعرفة الواجبة لا تكون مما يقذفها الله في قلب العبد لأن الواجب لا يكون إلا مقدورا للعبد ومقدورات العباد عندهم لا يفعلها الله ولا يحدثها ولا له عليها قدرة وقد يقولون : إنه لا يستحق الثواب إلا على مقدوره
ولهذا يقول من يقول منهم : إنه يمتنع أن تكون ضرورية لأنه حينئذ لا يستحق عليها الثواب لكن هنا هم متنازعون فيه لإمكان أن يكون الثواب على ما سوى ذلك كما أن الحياة والقدرة على النظر والعلوم الضرورية هي من خلق الله عندهم ولا ثواب فيه ولا أجر لها
ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس ولأن ذلك لا ينافي ما وعد الله به من الثواب عندهم بل يجوز عندهم أن يجعل الله في قلب العبد من معرفته ومحبته ما يحصل بغير كسبه ويثيبه عليه أعظم الثواب
فالذين احتجوا من أهل السنة على أن المعرفة والإيمان تحصل للعبد بفضل الله ورحمته وهدايته وتعريفه ونحو ذلك من العبارات يتضمن قولهم إبطال قول هؤلاء القدرية
وهذا صحيح لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن المعرفة لا يمكن أن تحصل بنظر العقل كما أنه ليس في ذلك ما يقتضي أنها لا تحصل بتعليم الرسول والعلماء والمؤمنين ودعائهم وبيانهم واستدلالهم بل من المعلوم أن العلم يحصل في قلب العبد تارة بما يسمعه من الناس من البيان والتعليم : إما إرشادا إلى الدليل العقلي وإما اخبارا بالحق الواقع
وتحصل تارة بما يقذفه في قلبه من النظر والاعتبار والاستدلال الذي ينعقد في قلبه كما يحصل تارة بكسبه واستدلاله
ويحصل تارة بما يضطره الله إليه من العلم من غير إكتساب منه وإن كان العلم الذي حصل باكتسابه ونظره هو مضطر إليه في آخر الأمر فلا يمكن العالم العارف بعد حصول المعرفة في قلبه بدليل أو غير دليل أن يدفع ذلك عن قلبه اللهم إلا بأن يسعى فيما يوجب نسيانه وغفلته عن ذلك العلم وقد لا يمكنه تحصيل الغفلة والنسيان
وذلك أن ما كتبه الله في قلوب المؤمنين من الإيمان سواء حصل بسبب من العبد كنظره واستدلاله أو بسبب من غيره أو بدون ذلك هو والأسباب التي بها حصل بقضاء الله وقدره وهي من نعمة الله على عبده فإن الله هو الذي من بالأسباب والمسببات فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله - كما تقوله القدرية - كان ضالا وهذا هو الذي أبطله هؤلاء
وقولهم : إن العقل شرط في التكليف والخطاب كالوجود والحياة كلام صحيح والشرط له مدخل في حصول المشروط به كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها
والعقل قد يراد به الغريزة وقد يراد به نوع من العلم ونوع من العمل وكل هذه الأمور هي من الأمور المعينة على حصول الإيمان ولهذا يتفاضل الناس في الإيمان بحسب تفاضلهم في ذلك
وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقله بالآثار بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر وله موانع تمنع حكمه كما أن الشمس سبب في الشعاع وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به وله مانع كالسحاب والسقف
والله خالق الأسباب كلها ودافع الموانع ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في خطبته : [ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ]
كما قال تعالى : ( { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وقال تعالى : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } وقال تعالى : { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه }
ولهذا كان مذهب أهل السنة أن ما يحصل بالقلب من العلم وإن كان بكسب العبد ونظره واستدلاله واستماعه ونحو ذلك فإن الله تعالى هو الذي أثبت ذلك العلم في قلبه وهو حاصل في قلبه بفضل الله وإحسانه وفعله
والقدرية لا يجعلونه من فعل الله بل يقولون : هو متولد عن نظره كتولد الشبع عن الأكل والري عن الشرب والجرح عن الجرح فيجعلون هذه الأمور المتولدات عن الأسباب المباشرة من فعل العبد فقط كما يقولون في الأمور المباشرة
وقد عارضهم من ناقضهم من متكلمة الإثبات فلم يجعل للعبد فعلا ولا أثرا في هذا المتولدات بل جعلها من مخلوقات الله التي لا تدخل تحت مقدور العباد ولا فعلهم ولم يجعل للعبد فعلا إلا ما كان في محل قدرته وهو ما قام ببدنه دون ما خرج عن ذلك
والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة علىحصول الشبع
وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين اللذين أحدهما فعل العبد وهو خالق للسببين جميعا
ولهذا كان العبد مثابا على المتولدات والله تعالى يكتب له بها عملا وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة في آيتين في القرآن
قال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولدا فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات وكذلك غير الكافر
وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك ثم قال تعالى : { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم } فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه : { إلا كتب لهم } ولم يقل : به عمل صالح
وأما الجوع والعطش والنصب وغيظ الكفار ما ينال منهم فهو من المتولدات فقال فيه : { إلا كتب لهم به عمل صالح } فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك وإلا فلا يكتب للإنسان بدون سبب من عمله بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله
قال تعالى : { نكتب ما قدموا وآثارهم }
وقال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ]
وقال في الحديث الصحيح : [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ]
ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة وينهى عنها أخرى كما قال تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }
وقال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم }
وقال : { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } وقال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين }
فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين فهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن القدرية لما كانت تزعم أن ما يحصل من الإيمان في القلب ليس من فعل الله بل هو من فعل العبد فقط وأنه خارج عن مقدور الله وعن ما من الله به على العبد - كان ما ذكر ردا عليهم
وأما من أقر بأن ذلك من فضل الله وإحسانه وجعل ما يحصل بالنظر والاستدلال من فضل الله وإحسانه فلا حجة عليه إذا قال إنه بنظر العقل واستدلاله قد يهدي الله العبد ويجعل في قلبه علما نافعا
وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح للعلم : هل هو بطريق التضمن الذي يمتنع الفكاكة عنه عقلا ؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها ؟ وبكل حال فالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده وإذا حصل له علم بدليل عقلي فهو مفتقر إلى الله في أن يحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه ثم يحدث العلم الذي حصل بها
وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرا ويعميه عن أظهر الأشياء وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه فلا حول ولا قوة إلا به
فمن اتكل على نظره واستدلاله أو عقله ومعرفته خذل ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم في الأحاديث الصحيحة كثيرا ما يقول : [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] ويقول في يمينه : [ لا ومقلب القلوب ] ويقول : [ والذي نفسي بيده ] ويقول : [ ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن وإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ]
وكان إذا قام من الليل يقول : [ اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذانك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ] وكان يقول هو وأصحابه في ارتجاجهم :
( اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا )
( فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا )
وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده فيكون من المعاندين الجاحدين
قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا }
وقال : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فكما أن الإنسان فيما يكتسبه من الأعمال مفتقر إلى الله محتاج إلى معونته فإنه لا حول ولا قوة إلا به كذلك فيما يكتسبه من العلوم ومع هذا فليس لأحد حجة على الله في أن يدع ما أمر به من الأسباب التي يحصل بها العلم النافع والعمل الصالح ولكن الشأن في تعيين الأسباب فيذم من المعتزلة أنهم أحدثوا طرقا زعموا أن معرفة الله لا تحصل إلا بها وزعموا أن المعرفة تجب بها بفعل العبد لا بفعل الله
ومن الناس من قد يوافقهم على إحدى البدعتين دون الأخرى وكثير من الناس قد اختلف كلامه في هذا الأصل تارة يقول : إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويجعل أول الواجبات النظر أو المعرفة الحاصلة به وقد يعين طريق النظر كما فعل ذلك القاضي أبي يعلى في المعتمد موافقة للقاضي أبي بكر وأمثاله من الموافقين في هذا الأصل للمعتزلة وكما فعل ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم
ومن توابع ذلك أن النظر المفيد للعلم لا يكون إلا نظرا في دليل والنظر الذي يوجبونه يكون نظرا فيما يعلم الناظر أنه دليل لأنه لو علم قبل النظر أنه دليل لعلم ثبوت المدلول وإذا كان عالما به لم يحتج إلى الاستدلال عليه فيوجبون سلوك طريق لا يعلم السالك أنه طريق


كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر
ثم أن القاضي أبا يعلى في كتابه المعروف بعيون المسائل الذي صنفه في الخلاف من المعتزلة والأشعرية ذكر ما يخالف ذلك فقال : ( مسألة : مثبتو النبوات تحصل لهم المعرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول خلافا للأشعرية في قولهم : لا تحصل حتى ننظر نستدل بدلائل العقول دليلنا أن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علمنا أن هناك مرسلا أرسله إذ لا يكون هناك نبي إلى وهناك مرسل وإذا ثبت أن هناك مرسل أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته ولأنه لما لم يقف وجود المعرفة على النظر في دلائل العقول بل وجبت بالشرع كذلك طريقها جاز أن يحصل بالشرع دون دلائل العقول ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ] فحكم بصحة إيمانهم بالدعاء إلى الشهادتين والإجاب إليها من غير أن يوجد منهم نظر واستدلال )
قال : ( واحتج المخالف بأن الله أمر بالنظر والاستدلال في دلائله فقال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } وقال : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }
وقال : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها }
وقال : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } وإذا أمر بذلك دل على أن النظر يثمر المعرفة )
قال : ( والجواب أنا لا نمنع حصول المعرفة به وإنما كلامنا هل تحصل بغيره أم لا ؟ وقد دللنا على حصوله بغيرها من الوجه الذي ذكرنا )


تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول : أما قوله : ( إن المعرفة يجوز حصولها بالشرع ) فهذا مسلم لكن حصولها بالشرع على وجوه :
أحدهما : أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع فتكون عقلية شرعية
الثاني : أن المعرفة المنفصلة بأسماء الله وصفاته التي بها يحصل الإيمان تحصل بالشرع كقوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }
وقوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }
وقوله : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه


كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع
وأما كون مجرد الوجوب بالشرع فلا يدل على إمكان الحصول بمجرد الشرع
ونظير هذا استدلال طائفة كالشيخ أبي الفرج الشيرازي على أ وجوبها وحصولها بالشرع فقالوا : ( لا يخلو إما أن تكون معرفة الباري وجبت أو حصلت بالشرع دون العقل أو بالعقل دون الشرع أو بهما جميعا لا يجوز أن يكون ذلك بالعقل دون الشرع لما بينا
ولا يجوز أن يكون ذلك بالشرع والعقل لأنه لا يخلو إما أن يكون ما يعرف بالعقل يوجد في الشرع أو لا يوجد ولا يجوز أن يقال : لا يوجد في الشرع لأن الله تعالى قال : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وإذا كان ذلك موجودا في الشرع فلا حاجة بنا إلى ذكر العقل )


تعليق ابن تيمية
فيقال : هذه الطريقة تفيد أن ذلك موجود في الشرع ويستدل على ذلك بقوله : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }
وقوله : { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء }
وقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } ونحو ذلك مما فيه الاستدلال بذلك أجود من الاستدلال بقوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } لأن الكتاب هنا في أشهر القولين - هو اللوح المحفوظ كما يدل عليه السياق في قوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء }
وإذا كان الشيء موجودا في الشرع فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطريق العقلية والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها والقرآن ملآن من ذلك فتكون شرعية بمعنى أن الشرع هدى إليها عقلية بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل فقد جمعت وصفي الكمال
وأيضا فإذا كان الشرع قد دل على شيء أو أوجبه وقدر أن في العقل ما يوافق ذلك لم يضر ذلك وإن كان قد يستغنى عنه فلا يطعن في صحته للاستغناء عنه
وأما كون النبي صلى الله عليه و سلم لم يطالب الناس بالنظر والاستدلال فهذا دليل قاطع على أن الواجب متأدى بدون الطرق التي أحدثها الناس وأبدعها
وأما الوجه الأول وهو قوله : ( إن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علم أن هناك مرسلا أرسله لكون ثبوت لارسالة يستلزم ثبوت المرسل ) فهذا لا بد فيه من تقدير وهذا الكلام الذي قاله من أن العلم بالرسول يتضمن العلم بالمرسل كلام صحيح فإن العلم بالإضافة يستلزم العلم بالمضاف والمضاف إليه لكن المعترض يقول له : المعجزة لا تدل على الرسالة إلا بعد العلم بإثبات الصانع ثم يعلم بعد ذلك صدق الرسول إما لكون المعجز يجري مجرى التصديق والعلم بذلك ضروري في العادة وإما لكون المعجز لم يدل على الصدق للزم عجز الرب عن طريق يصدق به الرسول وإما لكون تصديق الكذاب قبيحا هو منزه عن فعل القبيح ونحو ذلك من الطرق التي سلكوها من سلكها من أهل النظر القائلين بأن صدق الرسول لا يعرف إلا بالمعجزة
والطريقان الأولان هما طريقا الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأمثاله والثاني هو طريق المعتزلة ومن وافقهم كأبي الخطاب وأمثاله
وأما القائلون بأن صدق الرسول يعرف بطرق أخرى غير المعجزة فلا يحتاجون إلى هذا وقد بسط الكلام على ذلك في موضعه
والمقصود هنا أن قول القائل : إن مثبتي النبوات تحصل لهم معرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول وإنا لا نمنع صحة النظر ولا نمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا : هل يحصل بغيره ؟ يحتاج إلى بيان حصول المعرفة لمثبتي النبوات
و القاضي في هذا قد سلك مسلك الخطابي كما قد كتبنا كلامه وقد قال : ( إنما يثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه : أحدها : ثبوت النبوات بالمعجزات التي أوردها نبيهم ) إلى قوله : ( فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في أنفسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله وإثبات صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن له صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته ) إلى آخر كلامه
وهذا الكلام يمكن تقريره بطرق :
أحدها : بأن يقال : الإقرار بالصانع ضروري لا يحتاج إلى نظر فإذا شوهدت المعجزات أمكن أن يعلم بها صدق الرسول
الثاني : أن يقال : نفس المعجزات يعلم بها صدق الرسول المتضمن إثبات مرسله لأنه دالة بنفسها على ثبوت الصانع المحدث لها وأنه أحدثها لتصديق الرسول وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم من العبد معرفة الإقرار بالصانع
وقد يقال : إن قصة موسى من هذا الباب قال تعالى : { كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين * وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين }
وفي سورةطه : { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى } إلى آخر القصة
ففرعون كان منكرا للصانع مستفهما عنه استفهام إنكار سواء كان في الباطن مقرا به أو لم يكن ثم طلب من موسى آية فأظهر آيته ودل بها على إثبات إلهية ربه وإثبات نبوته جميعا
كما قال : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين }
ولهذا قال السحرة لما عارضوا معجزته بسحرهم فبطل سحرهم تبين أن تلك آية لا يقدر عليها المخلوقين : { قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون } فكان إيمانهم بالله لما شاهدوا معجزة موسى صلى الله عليه و سلم فكانت المعجزة مبينة للعلم بالصانع وبصدق رسوله
وذلك أن الآيات التي يستدل بها على ثبوت الصانع تدل المعجزة كدلالتها وأعظم وإذا كانت دلالتها على صدق الرسول معلومة بالاضطرار كالمثل الذي ضربوه في أن رجلا لو تصدى بحضرة ملك مطاع وقال : إن كنت رسولك فانقض عادتك وقم ثم اقعد ثم قم ثم اقعد فخرق الملك عادته وفعل ما طلبه المدعي على وفق دعواه - لعلم الحاضرون بالضرورة أنه فعل ذلك تصديقا له
فمن المعلوم أنه إذا تنازع رجلان : هل داخل هذه الدار ناسخ يكتب خطا مليحا ؟ فأخذ المدعى ورقا أبيض ومعه شعر قد صنعوه في تلك الحال في ورقة أخرى وقال : إن كان هناك ناسخ فلينسخ هذا الشعر في هذه الورقة البيضاء فأخرجت إليهم الورقة البيضاء وقد كتب فيها ذلك الشعر - تيقنوا أن هناك من ينسخ
فكذلك من نازع في إثبات صانع يقلب العادات ويغير العالم عن نظامه فأظهر المدعي للرسالة المعجز الدال على ذلك - علم بالضرورة ثبوت الصانع الذي يخرق العادات ويغير العالم عن نظامه المعتاد
وبالجملة فانقلاب العصا حية أمر يدل على ثبوت صانع قدير عليم حكيم أعظم من دلالة ما اعيد من خلق الإنسان من نطفة فإذا كان ذاك يدل بنفسه على إثبات الصانع فهذا أولى وليس هذا الموضع بسط هذا
وإنما المقصود التنبيه على أن المعجزات قد يعلم بها ثبوت الصانع وصدق رسوله معا وما ذكرناه من كون الإقرار بالصانع فطري ضروري هو قول أكثر الناس حتى عامة فرق أهل الكلام قال بذلك طوائف منهم من المعتزلة والشيعة وغيرهم
وكون المعرفة يمكن حصولها بالضرورة لم ينازع فيه إلا شذوذ من أهل الكلام ولكن نازع كثير منهم في الواقع وزعم أن الواقع أنها لا تحصل لأكثر الناس إلا بالنظر وجمهور الناس نازعوه في هذا وقالوا : بل هي حاصلة لأكثر الناس فطرة وضرورة


كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر
و ابن الزاغوني ممن يقول بوجوب النظر وأن المعرفة لا تحصل إلا به حتى قال : ( فصل : إذا قال القائل : أنا أعتقد حدوث العالم والتوحيد وصحة الدين وأقر بالنبوة لا بطريق النظر ولااستدلال ولا عن نظر في حجة أو دليل لكن بطريق التقليد في ذلك أو مما سوى ذلك مما لا يستدل إلى معرفة ثابتة عن نظر في حجة أو دليل بحيث ينتهي الاستدلال إلى العلم الحق فهذا ليس هو بمؤمن ولا نحكم بأنه مؤمن عند الله ولا يثاب على هذا الإيمان بل هو معاقب ملوم على ترك ما أمر به من العلم بالله وصحة الدين والنبوة والنظر فيما يقتضي به النظر فيه إلى معرفته بذلك بطريق اليقين )
قال : ( وقالت طائفة : هو مؤمن عندنا وعند الله إذا صادق اعتقاده التوحيد والنبوة وما يجب عليه اعتقاده من الحق في المعارف الدينية سواء كان ممن يتهيأ له ذلك بطريق انقطع فيه بأدلته أو ممن لا يتهيأ له ذلك )
قال : ( وقالت طائفة : هو مؤمن في الظاهر عندنا ولا نعلم : هل هو مؤمن عند الله أم لا ؟ وقالت طائفة : نحكم بأنهم مؤمنون ما لم يخطر ببالهم ما يخالف ذلك من التشبيه والحيز وإبطال النبوات وأعراض الشبه في ذلك فإذا خطر لهم شيء من ذلك وجب عليهم النظر والاستدلال لدفعه وأن لا يتمكثوا ولا يتثبطوا عن النظر حتى يصلوا إلى عين الحق الرافع للشبهة فإن لم يصلوا إلى ذلك لم يؤدوا ما فرض عليهم من الإيمان علىحقه وإن عجزوا عن ذلك لم يكن عجزهم عذرا عن الوصول إلى حقيقة الحق )
قال : ( وقالت طائفة : لا يجب عليهم ذلك ويحل لهم البقاء على ما هم عليه وأن لا يعتقدوا في ذلك شيئا مع القيام على السنة )
قال : ( والدلالة عليه أنا قد قدمنا الدليل على وجوب معرفة الله وسائر المعارف الدينية : من التوحيد وصحة النبوة والدين وبينا أن حقيقة المعرفة إنما تكون بالعلم وأبطلنا أن يكون التقليد طريقا إلىالعلم وإنما يصل إلى العلم به واليقين فيه إذا خرج عن الشبهة العارضة الموجبة للشك الناقلة عن الحق وإذا ثبت ذلك بالأدلة المتقدمة فمدعي المعرفة مع ترك النظر والاستدلال - المؤدي إلى الدليل القاطع المتوقف على حقيقة التوحيد والمعارف الدينية - مبطل وإذا كان مبطلا في معرفته لم نحكم بإيمانه لأن الإيمان ها هنا هو التصديق وإنما يصدق بما يزول معه الشك ويبرأ من عهدة الاشتباه ) وبسط الكلام في ذلك العادة المعروفة
وقد قال في كتابه الكبير الذي سماه منهاج الهدى : ( فصل في معرفة الله وسائر معارف الدين : كسبية وليست حاصلة بطريق الضطرار )
قال : ( وقال طوائف منهم الجاحظ و صالح قبة و فضل الرقاشي والصوفية وكثير من الشيعة : معارف الدين كلها حاصلة بطريق الضرورة ثم اختلفوا بعد ذلك فقال طائفة منهم صالح قبة : إن الله جعل معارف دينه ضرورة يبتديها ويخترعها في قلوب البالغين من غير سبب متقدم ولا بحث ولا نظر وهو قول طائفة من الشيعة
وقالت طائفة من الشيعة : إن الله يخترعها في قلوب البالغين لكن من المحال أن يفعلها فيهم إلا بعد فكر ونظر يتقدمها ثم يهب الله المعرف لمن أحب كما يهب الولد عند الوطء وقد يجوز أن لا يهبها مع النظر كما لا يهب الولد مع الوطء
وقالت طائفة من الشيعة : الخلق مضطرون إلى المعارف بالأسباب فإذا حصلت عن الأسباب كانوا مختارين للمعرفة مضطرين إليها في حال واحدة فيكون مضطرا للسبب مختارا للإرادة
وقال طائفة من المعتزلة القائلين بأن المعرفة ضرورة : إن الله لا يخترع شيئا من أمور الدين والدنيا وعلومهمااختراعا ولكنها تحدث من بعد الإرادة وطباعا وأن الله خلق العباد وهيأهم لاكتساب الإرادة وما يحدث بعدها من نظر وغيره فهو واقع بالطبع وليس يضاف إلى الإنسان إلى على سبيل المجاز والاتساع )
قال : ( وقالت طائفة من المعتزلة منهم غيلان بن مروان : إن معرفة الإنسان لنفسه ومعرفة صانعه وأنه غيره يضطر الإنسن إليها بالطبع فأما باقي المعارف الدينية فكلها اكتساب )
قال : ( وقالت طائفة منهم أبو الهذيل العلاف : معرفة العلم والدليل الذي يدعو إلى معرفة الصانع إضطرار فأما ما يحدث بعدها من علم فعام بالقياس فذلك علم اختيار واكتساب )
قال : ( وقالت : طائفة منهم بشر بن المعتمر : معرفة الإنسان لنفسه ليست من فعله ولا من كسبه ولا اضطرار إليها بل تخترع له وتخلق مخترعة في قلبه وما يدرك بالحواس من علوم الديانات وغيرها اضطرار وما يعلم بالقياس اكتساب ويجوز فيهما جميعا الاضطرار ويجوز فيهما جميعا أن يكونا اكتسابا )
قال : ( وقالت طائفة منالمعتزلة : الناس مضطرون إلى ذلك على كل حال وليس لهم في ذلك حيلة )
قال : ( وقالت طائفة من المعتزلة منهم الجاحظ : معرفة الله تقع ضرورة في طباع نامية عقب النظر والاستدلال )
قال : ( وقالت الجبرية ومتقدمهم جهم بن صفوان : معرفةالله تقع باختيار الله لا باختيار العبد وبنوه عل مذهبهم في الخبر )
قال ابن الزاغوني : ( وتفيد هذه المسألة فائدة حكيمة وهو أن القائل بمعرفة الله واجبة بطريق الكسب يقول : إن الله يعاقب العبد على جهله بالله وجهله بالدين واعتقاد الباطل وأمامن قال : إنها ضرورية فإنه يقول : فائدة ذلك أنه لا يجوز أن يعذب الله الجاهل على جهله وعل أنه لم يكتسب المعرفة لأن ذلك ليس من مقدوراته وإنما يعذبه على جحده وإنكاره لما عرفه إياه بطريق اضطراره له إليه )


فصل
وما ذكرناه من أن الرسل صلوات الله عليهم بينوا للناس الطرق العقلية ونبهوهم عليها وهدوهم إليها كما أنه معلوم لنا فهو مما ذكره طوائف من أئمة الكلام والفلسفة وأعظم المتكلمين المعظمين للطرق العقلية هم المعتزلة فإنهم يقولون : كما أن المعرفة لا تحصل ابتداء إلا بالعقل فإنهم يقولون بأنها واجبة بالعقل بناء على القول بأن العقل يعرف به الإيجاب والتحريم والتحسين والتقبيح
وهذا الأصل تنازع فيه المتأخرون من عامة الطوائف فلكل طائفة من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد فيه قولان وأما الحنفيه فالمعروف عنهم القول بتحسين العقول وتقبيحه ونقلوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى
ولأصحاب الحديث والصوفية وغيرهم في هذا الأصل نزاع ومن القائلين بتحسين العقل وتقبيحه من أهل الحديث أبو نصر السجزي و أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها وممن قال ذلك من أصحاب أحمد أبو الحسن التميمي و أبو الخطاب وغيرهما بل ذكروا أن هذا قول جمهور الناس وذكروا مع ذلك أن الرسل أرشدت إلى الطرق العقلية كما أمرت بالواجبات العقلية فهم مع قولهم بتحسين العقل وتقبيحه يقولون : إن الرسل بينت ذلك ووكدته وهكذا مع قولهم بأن المعرفة تحصل بالأدلة العقلية يقولون : إن الرسل بينت ذلك ووكدته فما يعلم بالعقل من الدين هو عندهم جزء من الشرع والكتاب - والسنة - يأتي على المعقولات الدينية عندهم


كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية
قال أبو الخطاب في تمهيده : ( اختلف أصحابنا : هل في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا ؟ فقال أبو الحسن التميمي : في قضايا العقل ذلك حتى لا يجوز أن يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجابا كشكر المنعم والعدل والإنصاف وأداء الأمانة ونحو ذلك ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظورا نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والخيانة وما أشبه ذلك )
قال : ( وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة )
قال : ( وقل شيخنا - يعني القاضي أبي يعلى - : ( ليس قضايا العقل ذلك وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع وتعلق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار : ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول وإنما هو الاتباع )
قال أبو الخطاب : ( وهذه الرواية - إن صحت عنه - فالمراد به الأحكام الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وشرعها )
قلت : قول أحمد : ( لا تدركها العقول ) أي أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول لله صلى الله عليه و سلم فإنها لو أدركت ذلك لكان علم الناس كعلم الرسول ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئا أمر به ونهي عنه ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معيارا على السنة ليس فيه رد على من يجعل القول موافقة للسنة )
قال أبوالخطاب : ( ولهذه القول قالت الأشعرية وطائفة من المجبرة وهم الجهمية )
قال : ( وعلى هذا يخرج وجوب معرفة الله : هل هي واجبة بالشرع حتى لو لم يرد ما يلزم أحدا أن يؤمن بالله وأن يعترف بوحدانيته ويوجب شكره أم لا ؟ فمن قال : يجب بالشرع يقول : لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع ومن قال بالأول : قال : يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له
ووجه ذلك أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله سبحانه لا يكذب خبره ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكمة قبل الخبر عندهم وإذا كان كذلك لم يؤمن العاقل كون كل خبر ورد عنه أنه كذب وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بهذا الكذاب المتخرص وفي ذلك ما يمنع الأخذ بخبر السماء والانقياد لمعجزات النبوة الدالة على صدقها ولما وجب اطراح هذا القول والاعتقاد بأن الله جلت عظمته منزه عن الكذب متعال عن تأييد المتخرص بالمعجزة ثبت أن ذلك إنما قبح وحظر في العقل وامتنع في الحكمة )
قلت هذه طريقة معروفة للقائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ويقولون إنهم يعلمون بتلك أن الله منزه عن أن يفعل القبيح كالكذب وتصديق الكاذب المدعي للنبوة بالمعجزة الدالة على صدقه وإن كان ذلك ممكنا مقدورا له لكن لا يفعله لقبحه وخروجه عن الحكمة وهم يقولون : إنه بهذه الطريقة يعلم صدق الأنبياء
والذين ينازعونهم - كالأشعري وأصحابه و ابن حامد و القاضي أبي يعلى و ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم - يسلكون في المعرفة بتصديق الأنبياء غير هذه الطريق
وإما طريقة القدرة - كما سلكها الأشعري في أحد قوليه والقاضيان أبو بكر و أبو يعلى وغيرهما - وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبي غير المعجزة فلو لم تكن دالة على التصديق للزم عجز الباري عن تصديق الرسل
وإما طريقة الضرورة - كما سلكها الأشعري في قوله الآخر و أبو المعالي وطوائف أخر - وإما غير ذلك من الطرق التي بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع
وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذه المسائل بل المقصود أن جميع الطوائف - حتى أئمة الكلام والفلسفة - معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله كما سيأتي ذكره في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين والفلاسفة وغيرهم
قال أبوالخطاب : ( دليل آخر : أنه غير ممتنع أن يخطر للعاقل أنه لم يخلق نفسه ولا خلقه من هو مثله من أبيه وأمه إذ لو كانا قادرين على ذلك لكان هو أيضا قادرا وكانا يقدران على خلق غيره وهو يعلم أنهما لا يقدران فيعلم أن له خالقا من غير جنسه خلقه وخلق أبويه ثم يرى إنعامه عليه بإكماله وتسخير ما سخر له من المأكول والمشروب والأنعام وغير ذلك كإقداره عليهم ويخطر له أنه لم يعترف له بذلك ويشكره أنه يعاقبه وإذا جوز ذلك وجب عليه في عقله دفع الضرر والعقاب بالتزام الشكر
فإن قيل : كما يجوز أن يخطر له ما ذكرتم يجوز أن يخطر له أن له خالقا أنعم عليه وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه ويخاف من تكلف له ذلك أن يسخط عليه ويقول : من أنت حتى تقابلني بالشكر وتعتقد أنه جزاء نعمتي ؟ وما أصنع بشكر مثلك ؟ ونحو ذلك وفي هذا ما يمنعه من التزام شيء من جهة عقله )
قال : ( والجواب : أن العاقل مع اعترافه بحكمة خالقه لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له وتضرع إليه وإن كان غنيا عن ذلك لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى الشكر ولا أن شكره يقومن بإزاء النعمة عليه فيمتنع لعلمه بغناه عن ذلك وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل والتعظيم للمنعم من بدائه العقول والحكيم لايسخط ما هذا سبيله فإذا قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه فيجب في عقله توخي ذلك وصار مثال ذلك أن يقال للعاقل : في الطريق مفسدون يأخذون المال ويقتلون النفس أو سباع تفترس الآدمي ويقال له : أنت ما معك قليل نذر والمفسدون قد استغنوا بما قد أخذوا فلعلهم لا يعرضن لك أنفة من قلة مالك والسباع قد افترست جماعة فقد شبعوا فلعلهم لا يعرضون لك فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك ذلك الطريق لا الإقدام عليه كذلك ها هنا )
قلت : مضمون ذلك أن العقل يوجب سلوك الأمن دون طريق الخوف
قال : ( دليل ثالث : أنه لو لم يكن في قضاء العقول : إلزام وحظر لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلا لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه فلم يسمع الخطاب
كما أخبر الله عن قوم نوح : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا } فلما علمنا أنه يجوز بعقله أن يكون في الخبر الذي خوطب به نجاته وسلامته من الهلاك وفي الإعراض عنه بسد أذنه هلاكه ودماره ثبت أن في عقله وجوب الإصغاء إلى الخبر وحظر الإعراض عنه وذلك وصية العقل لا السمع )
قال : ( دليل رابع : أن العقلاء أجمعوا على قبح الكذب والظلم والخيانة وكفران النعمة وحسن العدل والإنصاف والصدق وشكر المنعم : من أقر منهم بالنبوة ومن جحدها ولهذا يرى الدهرية وأهل الطبائع في ذلك كأهل الأديان بل أكثر فدل على أنهم استفادوا ذلك من العقل لا من الأنبياء وإذا ثبت أن فيها تحسينا وتقبيحا ثبت أن فيها حظرا وإباحة وقد صرح عليه السلام بذلك لما عرض نفسه على القبائل
دليل خامس : أنا نجد الحمد على الجميل والذم على القبيح يلزمان مع وجود العقل ويسقطان مع عدمه فلولا أنه مقتض للحسن والقبح لم يكن لتخصيص العاقل بالذم على القبيح والمدح على الحسن معنى وإذا قد وجدنا ذلك دل على أن في العقل حظرا أو إلزاما
دليل سادس : أن التكليف محال إلا مع العقل ولهذا لا يكلف الشرع شيئا إلا بعد كمال عقولنا فدل على أن السمع يعلم بالعقول وإذا كان معلوما به والعقل متقدم عليه ولا تقف معرفته على الشرع - استحال أن يقال : طريق معرفة الله السمع وكيف يتصور ذلك ونحن لا نعلم وجوب النظر بقول الرسول حتى نعلم أنه رسول ؟ ولا نعلم أنه رسول حتى نعلم أنه مؤيد بالمعجزة ؟ ولا نعلم أنه مؤيد بالمعجزة حتى نعلم أن التأييد من الله سبحانه ؟ ولا نعرف التأييد من الله حتى نعرفه ونعلم أنه لا يؤيد الكذاب بالمعجزة ؟ ولا نعرف ذلك إلا بفهم العقل الذي هو نوع من العلوم الضرورية ؟ فدل على أن معرفته سبحانه بالعقل
دليل سابع : لو لم تجب معرفته بالعقل لوجب أن يجوز على الله أن ينهي عن معرفته وأن يأمر بكفره وعصيانه والجور والكذب كما يجوز أن ينسخ ما شاء من السمعيات ويوجب ما كان قد نهى عنه فلما لم يكن ذلك دل على أن ذلك غير ثابت بالسمع وإنما يثبت بالعقل الذي لا يتغير ولا يجوز نكثه ونسخه
دليل آخر : أن الله وهب العقل وجعله كمالا للآدمي وإذا أغفل النظر وضيع العقل إذا لم يقتبس منه خيرا وإذا كان لا يقبح شيئا ولا يحسنه فوجوده وعدمه سيان وهذا لا يقوله عاقل
وأيضا يدل على ذلك عبارة ملخصة : أن من وجد نفسه مؤثرا بآثار الصنعة مستغرقا في أنواع النعمة لم يستبعد أن يكون له صانع صنعه وتولى تدبيره وأنعم عليه وأنه إن لم ينظر في حقيقة ذلك ليتوصل إلى الاعتراف له وإلتزام شكره عوقب على ما أغفل من النظر وضيع من الاعتراف والشكر فإن العقل سيلزمه النظر لا محاله إذ لا شيء أقرب إلى الإنسان من النظر فدل على وجوبه بالعقل )
قلت : هذه الأدلة فيها للمنازعين كلام يحتاج معه إلى فصل الخطاب كما ذكر في موضعه وهذه الطريقة التي سلكها أبو الخطاب وغيره من أهل النظر : من المعتزلة وغيرهم بنوها على أن معرفة الله تحصل بالاستدلال بنفس الإنسان ولا يحتاج مع ذلك إلى إثبات حدوث الإجسام كما سلك الأشعري أيضا هذه الطريقة
قال أبو الخطاب : ( احتج الخصم بظواهر الآية كقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولم يقل : حتى نجعل عقولا
وقوله تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ولم يقل : بعد العقل
وقوله : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } وغير ذلك من الآيات فجعل الحجة والعذاب يتعلق بالرسل
فثبت أنه لا بالمعقول حجة ولا عذاب )
وقال : ( والجواب أن الله بعث الرسل يأمرون بالشرائع والأحكام وينذرونهم قرب الساعة ووقوع الجزاء على الأعمال ويبشرونهم على الطاعة وشكر النعمة بدوام النعمة ومزيدها في دار الخلود ويخوفونهم على المعصية بالعذاب الشديد ويكونوا شهودا على أعمالهم
وقد قال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا }
وقال : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }
وهذا بعد أن يعرفوا الله بعقولهم ويردون الشبهات المؤدية إلى التعطيل والتشبه بالحكمة التي جعلها الله فيهم والنور العقلي المفرق بين الحق والباطل وإلا فنحن نعلم أن المفكر إذا خطر بباله أن الكتاب لعله مخترع مختلق من جهة مخلوق والرسول لعله متخرص متمترق لم يخرج ذلك من قلبه الرجوع إلى الآيات والسنة وهو يتوهم فيها ما ذكرنا إنما يرجع إليه بعد ما ثبت عنده حقيقة التوحيد وصدق الرسول وأن القرآن كلام الله الذي لا يجوز عليه الكذب وعرف محكم الكتاب من متشابه وعرف طرق الأخبار وما يجب فيها فإنه يستغني حينئذ عن النظر بعقله )
قال : ( فإن قيل : هذا توهين لأمر الرسل وجعلهم لا يغنون في التوحيد شيئا وإنما يفيد بعثهم في الفروع وأنه لا فائدة من الآيات التي ذكر فيها التوحيد والدعوة إليه )
ثم قال : ( والجواب : أنا نقول : بل لهم في الأصول أعظم فائدة لأنهم ينبهون العقول الغافلة ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر ليسهل سبيل الوقوف عليها كما يسهل من يقرأ عليه الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز ويبين له مواضع الحجة والفائدة وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته
وأيضا فإنه بعثهم لتأكيد الحجة فيؤكدون الحجة على العباد كيلا يقولوا : خلقت لنا الشهوات وشغلتنا بالملاذ عن التفكر والتدبر فغفلنا فقطع الله سبحانه حجتهم ألا ترى أنه تعالى قال : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر ثم التدبر للتنبيه )
قلت : فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل وأنها لا تحصل إلا بالعقل ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه من كتب المصنفين لا تقليدا لهم فيما ذكروه لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة والطرق الموصلة التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة أعظم من كلام كل متكلم فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم
و أبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية - أو أكثرهم - مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم - من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ بل تجب قبل البلوغ بخلاف الواجبات الشرعية
قال : ( واحتج بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر لوجب أن يكون لمعرفة الحسن والقبح أصل في أوائل العقول يترتب عليه ما سواه ألا ترى أن للقدم والحدث فيها أصلا ؟ ولو كان ذلك كذلك لكان من أنكر الحسن والقبح مكابرا لعقله مغالطا لنفسه لأن جاحد ما يثبت في البدائه مكابر )
قال : ( والجواب أن للحسن والقبح أصلا في بدائه العقول وهو علمنا بحسن شكر المنعم والإنصاف والعدل وقبح الكذب والجور والظلم ومنكر ذلك مكابر لكافة العقلاء إلا أن من العقلاء من قال : لا أعرف ذلك بضرورة العقل وإنما أعرفه بالنظر والخبر فذلك مقر بالحسن والقبح ومدع غير طريق الجماعة فيه فنتكلم في ذلك ونبين له أن الجاهلية وعبدة الأصنام ومن لم تبلغه الدعوة يعلم ذلك كما يعلمه أهل الأديان فسقط أن يكون طريقه إلا العقل وعلى أن القدم والحدوث لهما أصل في بدائه العقول ثم الخلف في ذلك واقع
ولا يقال : إن مخالفنا مكابر عقله واحتج بأنه أجمع القائلون بأن في العقل إلزاما وحظرا على أنه لا يلزم ولا يحظر إلا بتنبيه يرد عليه فإذا ثبت هذا قلنا : يجب أن يكون ذلك التنبيه بخبر الشرع لا الخواطر لأن الخواطر يجوز أن تكون من الملك ومن الشيطان ومن ثوران المرة وما أشبه ذلك وإذا جاز ذلك فيها لم نلتفت إلى تنبيهها والتفتنا إلى ما تؤثر به وهو خبر الشرع فإذا عدم خبر الشرع ثبت أنه لا إلزام ولا حظر في ذلك )
وقال : ( والجواب أنه لا بد أن ينبه على معرفة حسن الشكر بخطور النعمة بباله من منعم قصد الإحسان إليه فإنه إذا خطر له نعمه عليه - على ما ذكرنا - ألزمه عقله الشكر لا محالة سواء نبه على ذلك وسوسة إو إلهام ولذلك مهما خطر بباله كفران النعمة عرف قبحة ومهما خطر بباله أن القبيح لا يبعد أن يكون سببا لهلاكه وعقابه وأن يكون ضده سببا لنجاته فإنه يلزمه النظر في ذلك سواء كانت الخطرة من الملك أو من الشيطان فثبت أن التنبيه لا يقف على خبر السماء ثم يلزم أن الحدوث والقدم لا يكون إلا بتنبيه ثم ذلك خاطر عقلي ولا يقال : يقف على تنبيه الشرع )
قال : ( واحتج بأن الأمة أجمعت أن التكليف يقف على البلوغ وليس العقل موصوفا بذلك من قبل أن الغلام إذا احتلم فليس يستحدث عقلا وإنما ذلك عقل قبل بلوغه فبان أن العقل لا يوجب شيئا ولا يحظره
وقال : ( الجواب : أن الموقوف من التكليف على البلوغ هو تكليف الشرعيات خاصة فأما الأحكام المتستفادة بالعقل فإنها تلزم الإنسان إذا استفاد من العقل ما يمكنه أن يفعل به بين الحسن والقبيح فلا نسلم ما ذكروه )
قلت : هذا الذي قاله هو قول كثير من الحنفية وأهل الكلام - المعتزلة وغيرهم - من القائلين بتحسين العقل وتقبيحه فإن هؤلاء لهم في الوجوب قبل البلوغ قولان : وكثير ممن يقول بتحسين العقل وتقبيحه هم ونفاة ذلك من الطوائف الأربعة ينفون الوجوب قبل البلوغ
وقد ذكر طائفة من مصنفي الحنفية في كتبهم قالوا : وجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة وقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السماوات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه
قالوا : ويروى عنه أنه قال : لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم قالوا : وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة حتى قال أبو منصور الماتريدي في صبي عاقل : إنه يجب عليه معرفة الله وإن لم يبلغ الحنث قالوا : وهو قول كثير من مشايخ العراق ومنهم من قال : لا يجب على الصبي شيء من قبل البلوغ كما لا تجب عليه العبادات البدنية بالاتفاق )
قلت : هذا الثاني قول أكثر العلماء وإن كان القول بالتحسين والتقبيح يقول به طوائف كثيرون من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد كما يقول به هؤلاء الحنفية وتنازع هولاء الطوائف في مسألة الحظر والإباحة وأن الأعيان قبل ورود الشرع هل هي على الحظر أو الإباحة ؟ لا يصح إلا على قول من يقول : إنه بالعقل يعلم الحظر إو الإباحة وأما من قال : إن العقل لا يعلم به ذلك ثم قال بأن هذه الأعيان قبل ورود الشرع حظرا أوإباحة فقد تناقض في ذلك وقد رام منهم من تفطن لتناقضه أن يجمع بي قوليه فلم يتأت كقول طائفة : إنه بعد الشرع علمنا به أن الأعيان كانت محظورة أومباحة ونحو ذلك من الأقوال الضعيفة وليس هذا موضع بسط ذلك
لكن المقصود هنا أن الأكثرين على انتفاء التكليف قبل البلوغ لقوله صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق ] وهو معروف في السنن وغيرها متلقى عند الفقهاء بالقبول من حديث عائشة وغيرهما
وأيضا فإن قتل الصبي من أهل الحرب لا يجوز - باتفاق العلماء
وأيضا فالناس مع تنازعهم في أولاد الكفار : هل يدخلون الجنة أو النار أو يتوقف فيهم ؟ لم يفرق أحد - علمناه - بين المميز وغيره بل المنصوص عن أحمد ويغره من أئمة السنة - وهو المشهور عنهم - الوقف فيهم
وذهب طائفة إلى أنهم في النار كما اختاره القاضي أبو يعلى وغيره وذكروا أن أحمد نص على ذلك وهو غلط عن أحمد فإن المنصوص عنه أنه أجاب فيهم بجواب النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي الصحيح أيضا من حديث ابن عباس
لكن هذا الحديث روي أيضا في حديث يروى [ أن خديجة سألته عن أولادها من غيره فقال : هم في النار فقالت : بلا عمل ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] فظن هؤلاء أن أحمد أفتى بما في حديث خديجة كم ذكر ذلك القاضي في المعتمد وهذا غلط على أحمد فإن هذا الحديث ضعيف بل موضوع و أحمد أجل من أن يعتمد على مثل هذا الحديث والحديث متناقض ينقض آخره أوله
وذهبت طائفة إلى أنهم في الجنة كأبي الفرج بن الجوزي وغيره والذين قالوا بالوقف فسره بعضهم بأنه يدخل فريق منهم الجنة وفريق النار بحسب تكليفهم يوم القيامة كما جاء في ذلك عدة آثار وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث وقد بسطنا هذا فيما تقدم
والمقصود هنا أنا لم نعلم من السلف من قال إنه فرق فيمن لم يبلغ بين صنف وصنف في القتل أو في عقاب الآخرة بل الفقهاء متفقون على أن العقوبات التي فيها إتلاف كالقتل والقطع لا تكون إلا لبالغ لكن قد يجمع بين هذا وهذا بأن يقال : الإثم الموجب لعقاب الآخرة مرفوع عمن لم يبلغ وكذلك العقوبات الدنيوية التي فيها إتلاف فأما التعزير بالضرب ونحوه فلم يرفع عن المميز من الصبيان
بل قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] فأمر بضربهم على ترك الواجب الشرعي الذي هو الصلاة فضربهم على الكذب والظلم أولى وهذا مما لا يعلم بين العلماء فيه نزاع : أن الصبي يؤذى على ما يفعله من القبائح وما يتركه من الأمور التي يحتاج إليها في مصلحته
وهذا النزاع من لوازم الواجبات العقلية للميزين عند من يقول بالإيجاب العقلي نظير النزاع في الواجبات الشرعية فإن أحد القولين في مذهب أحمد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز : أن الصلاة تجب على ابن عشر وكذلك الصوم يجب عليه إذا أطاقه
وحينئذ فإيجاب أبي الخطاب وموافقيه للتوحيد أولى من هذا بل يقال : لولم يقل بالوجوب العقلي فإنه يجب أن يقال : إن الصبي يجب عليه الإقرار بالشهادتين قبل وجوب الصلاة عليه فإن وجوبهما متقدم على وجوب الصلاة بالاتفاق وأما ما يجب في مال الصبي من النفقات وقضاء الديون وغيره والعشور والزكوات عند الجمهور الذين يوجبون الزكاة في ماله فذلك لا يشترط فيه التمييز باتفاق المسلمين بل يجب ذلك في مال المجنون أيضا وفي مال الطفل
وللفقهاء في إسلام الصبي وردته وإحرامه وغير ذلك من أقواله وأفعاله كلام معروف ليس هذاموضع بسطه وفي ذلك من تناقض أقوال بعضهم ورجحان بعض الأقوال على بعض ما ليس هذا موضعه وإنما المقصود هنا أن أعظم الناس تعظيما للعقل هم القائلون بأنه يوجب ويحظر ويحسن ويقبح كالمعتزلة والكرامية والشيعة القائلين بذلك ومن وافقهم من طوائف الفقهاء والعلماء
وأما الفلاسفة فالنقل عنهم مختلف لتناقض كلامهم فالمشهور عنهم أن العقل يحسن ويقبح كما نقله أبو الخطاب عنهم
ولكن كلامهم في مبادىء المنطق وقولهم : إن هذه القضايا من المشهورات لا من البرهانيات لما رأى الناس أنه يناقض ذلك صاروا يحكون عنهم أنهم لا يقولون بتحسين العقل وتقبيحه كما نقله الرازي وغيره فإذا كان المتكلمون القائلون بتحسين العقل وتقبيحه وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به وأنه يوجبها يعني على المميزين يقولون مع ذلك : إن الشرع بين هذه الطرق العقلية وأرشد إليها ودل الناس عليها ووكدها وقررها حتى تمت الحجة به على الخلق فجعلوا ما جاء به الشرع متضمنا للمقصود بالعقل من غير عكس حتى صارت العقليات النافعة جزءا من الشرع فكيف غيرهم من طوائف أهل النظر ؟ وكذلك الفلاسفة ذكروا ذلك كما ذكره أبو الوليد بن رشد الحفيد لما قسم الناس إلى أربعة أصناف كما سيأتي


فصل كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فقد ذكرنا ما تيسر من طرق الناس في المعرفة بالله ليعرف أن الأمر في ذلك واسع وأن ما يحتاج الناس إلى معرفته مثل الإيمان بالله ورسوله فإن الله يوسع طرقه وييسرها وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلا عظيما وليس الأمر كما يظنه كثير من أهل الكلام من أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعينونها وقد يكون الخطأ الحاصل الرسل وكان عليه سلف الأمة لا يذكره ولا يعرفه
وهذا موجود في عامة الكتب المصنفة في المقالات والملل والنحل مثل كتاب أبي عيسى الورق و النوبختي و أبي الحسن الأشعري و الشهر ستاني : تجدهم يذكرون من أقوال اليهود والنصارى والفلاسفة وغيرهم من الكفار ومن أقوال الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئه والكلابية والكرامية والمجسمة والحشوية أنواعا من المقالات
والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين لا يعرفونه ولا يذكرونه بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول إنه الحق تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك وينصرون أحدهما ويكون كل ما ذكروه أقوالا فاسدة مخالفة للشرع والعقل والقول الذي جاء به الرسول وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح العقول لا يعرفونه ولا يذكرونه فيبقى الناظر في كتبهم حائرا ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على علمه ببطلان تلك المقالات كلها
وهذا موجد في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة : متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي و الآمدي ونحوها وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والالهية القول الذي هو الحق بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها إما أن يكون الكل خطأ وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة مثل إطلاق القول بإثبات الصانع وأنه لا إله إلا هو وأن محمدا رسول الله لكن لا يعطون هذا القول حقه : لا تصورا ولا تصديقا فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها بل قد لا يحتاج إليها
وأما المطالب العالية والمقاصد السامية من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلا يعرفونه كما يجب وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم ولايذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول
و ابن رشد الحفيد واحد من هؤلاء ولهذا لما ذكر أصناف الأمة وجعلهم أربعة أقسام : باطنية وحشوية ومعتزلة وأشعرية : جرى في ذلك على طريق أمثاله من أهل الكلام والفلسفة وهو قد نبه على كثير مما جاء به القرآن كما سنذكره عنه
لكن المقصود أنه في تقسيم الأمة لم يذكر القسم الذي كان عليه السلف والأئمة وعليه خيارها إلى يوم القيامة لكنه صدق في وصفه من ذكره بالتقصير عن مقصود الشرع فإنه كما قال قال : وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري تعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها مثل قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } ومثل قوله { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى
قال : وليس لقائل أن يقول : إنه لو كان واجبا على كل من آمن بالله أن لا يصح إيمانه إلا من قبل وقوفه على هذه الأدلة لكان النبي صلى الله عليه و سلم لا يدعو أحدا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العبر كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى
ولذلك قال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ منه فدامة الطبع وبلادة القريحة إلى أن لا يفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع للجمهور وهذا فهو أقل الوجود فإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع
قال : فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع
قال : وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الباري تعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها وذلك أن طريقهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم محدث وانبنى عندهم حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث بحدوثه وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد - وبالجملة حدوث الأجسام - طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلا عن الجمهور ومع ذلك فهي غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري تعالى وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم - كما يقولون - أن يكون له - ولا بد - فاعل محدث وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزليا ولا محدثا أما كونه محدثا فلأنه يفتقر إلى محدث وذلك المحدث إلى محدث ويمر الأمر إلى غير نهاية وذلك مستحيل
وأما كونه أزليا فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزليا فتكون المفعولات أزلية والحادث يحب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث اللهم إلا لو سلموا أنه يوجد فعل حادث عن فاعل قديم فإن المفعول لا بد أن يتعلق به الفاعل وهم لا يسلمون ذلك فإن من أصولهم أن المقارن للحادث حادث
قلت : من أصولهم التي تلقوها عن المعتزلة أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث وهذا متفق عليه بين العقلاء إلا إذا أريد به الحادث بالشخص فإن ما لا يسبق الحادث المعين يجب أن يكون حادثا وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهو محل النزاع بين الناس وعليه ينبني هذا الدليل وكثير من الناس لايميز في هذا المقام بين ما هو بعينه حادث وما تكون آحاد نوعه حادثة والنوع لم يزل حتى أن كثيرا من أهل الكلام إذا رأوا أن الحركات حادثة أو غيرها من الأعراض اعتقدوا أن ما لا يسبق ذلك فهو حادث ولم يميزوا بين ما لا يسبق الحادث المعين وما لا يسبق النوع الدائم الذي آ حاده حادثة فهو لا يسبق النوع وإن سبق كل واحد واحد من آحاده
ولما تفطن كثير من أهل الكلام للفرق أرادوا أن يثبتوا امتناع حوادث لا تتناهى بطريق التطبيق وما يشبهه كما قد ذكر ذلك في موضعه فهم لايسلمون وجود حوادث لا أول لها عن فاعل قديم ويسلمون وجود فعل حادث العين عن فاعل قديم وهو يقول : الحادث يجب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث ثم ذلك الحادث متعلق بفعل حادث فيكون فعل حادث الأفراد دائم النوع عن فاعل قديم فهو يقول : لا يمكن وجود حادث عن فاعل أزلي إلا بفعل حادث الأفراد دائم النوع وهم لايسلمون ذلك قال : وأيضا إن كان الفاعل حينا يفعل وحينا لا يفعل وجب أن يكون هنالك علة صيرته بإحدى الحالتين أولى منه بالأخرى فلنسأل أيضا في تلك العلة مثل هذا السؤال وفي علة العلة فيمر الأمر إلى غير نهاية
قال : وما يقوله المتكلمون في جواب هذا من أن الفعل الحادث كان بإرادة قديمة ليس بمنج ولا مخلص من هذا الشك لأن الإرادة غير الفعل المتعلق بإيجاده حادثا سواء فرضنا الإرادة قديمة أو حادثة متقدمة على الفعل أو معه فكيفما كان فقد يلزمهم أن يجوزوا على القديم أحد ثلاثة أمور : إما إرادة حادثة وفعل حادث وإما فعل حادث وإرادة قديمة وإما فعل قديم وإرادة قديمة
والحادث ليس يمكن أن يكون عن فعل قديم بلا وسطة إن سلمنا لهم أنه يوجد عن إرادة قديمة ووضع الإرادة نفسها هي الفعل المتعلق بالمفعول شيء لا يعقل وهو كفرض مفعول بلا فاعل فإن الفعل غير الفاعل وغير المفعول وغير الإرادة والإرادة هي شرط الفعل لا الفعل
وأيضا فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهرا لانهاية له إذا كان الحادث معدوما دهرا لانهاية له فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له وما لانهاية له لا ينقضي فيجب أن لا يخرج هذا المراد إلى الفعل أو ينقضي دهر لا نهاية له وذلك ممتنع
وهذا هو بعينه برهان المتكلمين الذي اعتمدوه في حدوث دورات الفلك وأيضا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص دون وقت لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل قدر زائد على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل وإلا لم يكن وجود ذلك الفعل عنه في ذلك الوقت أولى من عدمه وأيضا كيف يتعين وقت للحادث من غير أن يتقدمه زمان ماض محدود الطرف إلى ما في هذا كله من التشغيب والشكوك العويصة التي لا يخلص منها العلماء المهرة بعلم الكلام والحكمة فضلا عن العامة ولو كلف الجمهور العلم من هذه الطرق لكان من باب تكليف ما لا يطاق
وأيضا فإن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت هذين الوصفين معا أغني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها ولا هي مع هذا برهانية فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور ونحن ننبه ها هنا على ذلك بعض التنبيه فنقول إن الطرق التي سلكوا في ذلك طريقان :
أحدهما : وهو الأشهر الذي اعتمد عليها عامتهم ـ ينبني على ثلاث مقدمات هي بمنزلة الاصول لما يرومونه من إثبات حدوث العالم
إحداهما : أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض أي لا تخلو منها والثانية : أن الأعراض حادثة والثالثة : أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث أعني ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
فأما المقدمة الأولى وهي القائلة : إن الجوهر لا يعرى من الأعراض فإن عنوا الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة وإن عنوا بالجوهر الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ففيها شك ليس باليسير وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفا بنفسه وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند وليس في قوة صنا عة الكلام تلخيص الحق منها وإنما ذلك صناعة البرهان وأهل هذه الصناعة قليل جدا والدلائل التي يستعملها الأشعرية في إثباته خطا بية في الأكثر وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو انهم يقولون : إن من المعلومات الأولى أن الفيل مثلا إنما يقولون فيه : إنه أعظم من النملة من قبل زيادة أجزائه على أجزاء النملة وإذا كان ذلك كذلك فهو مؤلف من تلك الأجزاء وليس هو واحدا بسيطا فإذا فسد الجسم فإليها ينحل وإذا تركب فمنها يتركب وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة وذلك إنما يصدق هذا في العدد أعني أن نقول : إن عددا أكثر من عدد من قبل كثرة الأجزاء الموجودة فيه أعني الوحدات
وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه ولذلك نقول في الكم المتصل : أنه أعظم وأكبر ولا نقول : اكثر ونقول في العدد : إنه أكثر ولانقول : إنه أكبر وعلى هذا القول فتكون الأشياء كلها أعداد ولا يكون هناك عظم متصل أصلا فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها
ومن المعروف بنفسه أن كل عظم فإنه ينقسم بنصفين : أعني الأعظام الثلاثة التي هي : الخط والسطح والجسم
وأيضا فإن الكم المتصل هو الذي يمكن أن يفرض عليه في وسطه نهاية يلتقي عندها طرفا القسمين جميعا وليس يمكن ذلك في العدد ولكن يعارض هذا أيضا أن الجسم وسائر أجزاء الكم المتصل يقبل الانقسام وكل منقسم فإما أن ينقسم إلى شيء منقسم أو إلى شيء غير منقسم فإن انقسم إلى غير منقسم فقد وجدنا الجزء الذي لا ينقسم وإن انقسم إلى منقسم عاد السؤال في ذلك المنقسم : هل ينقسم إلى منقسم أو إلى غير منقسم ؟ فإن انقسم إلى منقسم إلى غير النهاية كانت في الشيء المتناهي أجزاء لا نهاية لها ومن المعلومات الأولى أن أجزاء المتناهي متناهية
قلت : هذا الموضع هو الذي أوجب قول النظام ونحوه بالطفرة وقول طائفة من المتفلسفة والمتكلمين بقبول انقسام إلى غيى نهاية بالقوة لا بالفعل
وقد أجاب عن هذا طائفة من نفاة الجزء بأن كل ما يوجد فهو يقبل القسمة بمعنى امتياز شيء منه عن شيء وهي القسمة العقلية المفروضة لكن لا يلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء لأن الموجود إن قيل : إنه لا يقبل القسمة بالفعل لم تكن فيه أجزاء لا تتناهى وإن قيل : إنه يقبلها بالفعل فإذا صغرت أجزاؤه فإنها تستحيل وتفسد وتفني كما تستحيل أجزاء الماء الصغار هواء وإذا استحالت عند تناهي صغرها لم يلزم أن تكون باقية قاتلة لانقسامات لا تتناهى ولا يلزم وجود أجزاء لا تتناهى
قال : ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يسألوا إذا حدث الجزء الذي لا يتجزأ : ما القابل لنفس الحدوث ؟ فإن الحوادث عرض من الأعراض وإذا وجد الحادث فقد ارتفع الحدوث فإن من أصولهم أن الأعراض لا تفارق الجواهر فيضطرهم الأمر إلى أن يضعوا الحدوث في موجود ما وبوجود ما
قلت من يقول : إن الإحداث هو نفس المحدث والمخلوق هو نفس الخلق والمفعول هو نفس الفعل كما هو قول الأشعرية لا يسلم أن لحدوث عرض ولا أن له محلا فضلا عن أن يكون وجوديا لكنه قد قدم إفساد هذا وأنه لا بد للمفعول من فعل وحينئذ فيقال : الإحداث قائم بالفاعل المحدث وحدوث الحادث ليس عرضا موجودا قائما بشيء غير إحداث المحدث
ويقال أيضا : إن هذا ينبني على أن المعدوم شيء وأن الماهيات في الخارج زائد على وجودها وكلاهما باطل وبتقدير صحته فيكون الجواب : أن القابل للحدوث هو تلك الذوات والماهيات
لكن هذا الذي ذكره يتقرر بطريقة أصحابه المشهورة : أن الحادث مسبوق بالإمكان لا بد له من محل فلا بد للمحدث من محل قال : وأيضا فقد يسألون إن كان الموجود يكون عن عدم فبم يتعلق فعل الفاعل ولا يتعلق عندهم بما وجد وفرغ من وجوده فقد ينبغي أن يتعلق بذات متوسطة بين العدم والوجود وهذا الذي اضطر المعتزلة إلى أن قالت : أن في القدم ذاتا ما وهؤلاء أيضا - يعني المعتزلة - يلزمهم أن يوجد ما ليس بموجود بالفعل وكلتا الطائفتين يلزمهم أن يقولوا بوجود الخلاء
قلت هذا هو الشبهة المشهورة من أن فعل الفاعل وإحداث المحدث ونحو ذلك : إن قيل : يتعلق بالشيء وقت عدمه لزم كونه موجودا معدوما وإن قيل يتعلق به وقت وجوده لزم تحصيل الحاصل ووجوده مرتين
وجوابه أنه يتعلق به حين وجوده بمعنى أنه هو الذي يجعله موجودا لا بمعنى أنه كان موجودا بدونه فجعله هو أيضا موجودا
قال : فهذه الشكوك - كما ترى - ليس في قوة صناعة الجدل حلها فإذا يجب أن لا يجعل هذا مبدأ لمعرفة الله تعالى وخاصة الجمهور فإن طريقة معرفة الله تعالى أصح من هذا وأوضح على ما سنبين بعد من قولنا
قال : وأما المقدمة الثانية وهي القائلة إن جميع الأعراض محدثة فهي مقدمة مشكوك فيها وخفاء هذا المعنى فيها كخفائه في الجسم وذلك أنا شاهدنا بعض الأجسام محدثة وكذلك بعض الأعراض فلا فرق في النقلة من الشاهد في كليهما إلى الغائب فإن كان واجبا في الأعراض أن ينقل حكم الشاهد منها إلى الغائب - أعني أن نحكم بالحدوث على ما لم نشاهده منها قياسا على ما شاهدنا - فقد يجب أن يفعل مثل ذلك في الأجسام ونستغني عن الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام وذلك أن الجسم السماوي - وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد - الشك في حدوث أعراضه كالشك في حدوثه نفسه لأنه لم يحس حدوثه لا هو ولا أعراضه ولذلك ينبغي أن نجعل الفحص عنه من أمر حركته وهي الطريق التي تقضي بالسالكين إلى معرفة الله تبارك و تعالى بيقين
قال : وهي طريق الخواص وهي التي خص بها إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } لأن الشك كله إنما هو في الأجرام السماوية وأكثر النظار إنما انتهوا إليها واعتقدوا أنها آلهة
قلت : قول هذا وأمثاله : إن إبراهيم استدل بطريق الحركة هو من جنس قول أهل الكلام الذين يذمهم أصحابه وسلف الأمة : إن إبراهيم استدل بطريق الحركة لكن هو يزعم أن طريقة الخواص : طريقة أرسطو وأصحابه حيث استدلوا بالحركة على أن حركة الفلك اختيارية وأنه يتحرك للتشبه بجوهر غير متحرك وأولئك المتكلمون يقولون : إن استدلال إبراهيم بالحركة لكون المتحرك يكون محدثا لامتناع وجود حركات لا نهائية لها وكل من الطائفتين تفسد طريقة الأخرى وتبين تناقضها بالأدلة العقلية
وحقيقة الأمر أن إبراهيم لم يسلك واحدة من الطريقين ولا احتج بالحركة بل بالأفول الذي هو المغيب والاحتجاب كما قد بسط في موضع آخر
فالآفل لا يستحق أن يعبد ولهذا قال { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني } وقال { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وقومه كانوا مقرين بالرب تعالى لكن كانوا مشركين به فاستدل على ذم الشرك لا على إثبات الصانع
ولو كان المقصود إثبات الصانع لكانت قصة إبراهيم حجة عليهم لا لهم فإنه من حين بزغ الكوكب والشمس والقمر إلى أن أفلت كانت متحركة ولم ينف عنها المحبة ولا تبرأ منها كما تبرأ مما يشركون لما أفلت فدل ذلك على أن حركتها لم تكن منافية لمقصود إبراهيم بل نافاه أفولها


فصل كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
قال ابن رشد : وأيضا فإن الزمان من الأعراض ويعسر تصور حدوثه وذلك أن كل حادث فيجب أن يتقدمه العدم بالزمان فإن تقدم عدم الشيء على الشيء لا يتصور إلا من قبل الزمان وأيضا فالمكان الذي يكون فيه العالم إذا كان كل متكون فالمكان سابق له يعسر تصور حدوثه لأنه إن كان خلاء - على رأي من يرى أن الخلاء هو المكان - احتاج أن يتقدم حدوثه إن فرض حادثا خلاء آخر وإن كان المكان نهاية الجسم المحيط بالمتمكن - على الرأي الثاني - لزم أن يكون ذلك الجسم في مكان فيحتاج ذلك الجسم إلى الجسم ويمر الأمر إلى غير نهاية وهذه كلها شكوك عويصة وأدلتهم التي يرومون بها بيان إبطال قدم الأعراض إنما هي لازمة لمن يقول بقدم ما يحسن منها حادثا أعني من يضع أن جميع الأعراض غير حادثة وذلك أنهم يقولون : إن الأعراض التي يظهر للحس أنها حادثة إن لم تكن حادثة فإما أن تكون منتقلة من محل إلى محل وإما أن تكون كامنة في المحل الذي ظهرت فيه من قبل أن تظهر ثم يبطلون هذين القسمين فيظنون أنهم قد بينوا أن جميع الأعراض حدوثه ولا ما يشك في أمره مثل الأعراض الموجودة في الأجرام السماوية من حركاتها وأشكالها وغير ذلك فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب وهو دليل خطابي إلا حيث النقلة معقولة بنفسها وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب وأما المقدمة الثالثة : وهي القائلة : إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فهي مقدمة مشتركة الاسم
وذلك أنها يمكن أن تفهم على معنيين : أحدهما ما لا يخلو من جنس الحوادث ويخلو من آحادها والثاني : ما لا يخلو من واحد منها مخصوص مشار إليه
كأنك قلت : ما لا يخلو من هذا السواد المشار إليه فهو مادي فأما هذا المفهوم الثاني فهو صادق أعني ما لا يخلو من عرض ما يشار إليه وذلك أن العرض الحادث يجب بالضرورة أن يكون الموضوع له حادثا لأنه إن كان قديما فقد خلا من ذلك العرض وقد كنا فرضناه لا يخلو وهذا خلف لا يمكن وأما المفهوم الأول وهو الذي يريدونه فليس يلزم عنه حدوث المحل أعني الذي لا يخلو من جنس الحوادث لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد - أعني الجسم - تتعاقب عليه أعراض غير متناهية : إما متضاده وإما غير متضاده كأنك قلت : حركات لا نهاية لها وحركات وسلوكيات لانهاية لها كما يرى كثير من القدماء في العالم أعني أنه يتكون واحد بعد واحد
ولهذا لما شعر المتأخرون من المتكلمين بوهاء هذه المقدمة رامو شدها وتقويتها بأن بينوا - في زعمهم - أنه لا يمكن أن تتعاقب على محل واحد أعراض لا نهاية لها وذلك أنهم زعموا أنه يجب على هذا الوضع أن لا يوجد في المحل منها عرض ما مشار إليه إلا وقد وجدت قبله أعراض لا نهاية لها وذلك يؤدي إلى امتناع الموجود منها أعني المشار إليه لأنه يلزم ألا يوجد إلا بعد انقضاء ما لا نهاية له ولما كان ما لا نهاية له لا ينقضي وجب ألا يوجد المشار إليه أعني المفروض موجودا مثال ذلك : أن الحركة الموجودة اليوم للجرم السماوي إن كان قد وجد قبلها حركات لا نهاية لها فقد كان يجب ألا يوجد ذلك ومثلوا ذلك برجل قال لرجل : لا أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير لانهاية لها قالوا : فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبدا
قال : وهذا التمثيل ليس بصحيح لأن في هذا التمثيل وضع مبدأ ونهاية ووضع ما بينهما غير متناه لأن قوله وقع في زمان محدود وإعطاءه إياه يقع في زمان محدود فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين ذلك الزمان الذي تكلم فيه أزمنة لا نهاية لها وهي التي يعطيه فيها دنانير لانهاية لها وذلك مستحيل فهذا التمثيل بين أمره لا يشبه المسألة الممثل بها
وأما قولهم : إن ما يوجد بعد وجود أشياء لا نهاية لها لا يمكن وجوده فليس بصادق من جميع الوجوه وذلك أن الأشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين : إما على جهة الدور وإما على جهة الاستقامة فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية إلا أن يفرض فيها ما ينهيها
مثال ذلك : أنه إن كان شروق فقد كان غروب وإن كان غروب فقد كان شروق فإن كان شروق فقد كان شروق وكذلك إن كان غيم فقد كان بخار صاعد من الأرض وإن كان بخار صاعد من الأرض فقد ابتلت الأرض وإن كان قد ابتلت الأرض فقد كان مطر وإن كان مطر فقد كان غيم
وأما التي تكون على استقامة مثل كون الإنسان من الإنسان وذلك الإنسان من إنسان آخر فإن هذا إن كان بالذات لم يصح أن يمر إلى غير نهاية لأنه إذا لم يوجد الأول من الأسباب لم يوجد الآخر وإن كان ذلك بالعرض مثل أن يكون الإنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير الإنسان الذي هو الإله وهو المصور له ويكون الأب إنما منزلته منزلة الآلة من الصانع فليس يمتنع إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلا لا نهاية له بآلات غير متناهية متبدلة أن يكون فعله لأشخاص الناس على الدوام بأشخاص لا نهاية لها أعني أنه يفعل الأبناء بالآباء وإليه الإشارة في قوله تعالى { أن اشكر لي ولوالديك }
قلت : مضمون هذا الكلام أن التسلسل في العلل ممتنع لأن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول وأما في الشروط والآثار - مثل كون الوالد شرطا في وجود الولد ومثل كون الغيم شرطا في وجود المطر - فلا يمتنع وهذا فيه نزاع معروف وقد ذكر في غير هذا الوضع
وليس في هذا ما ينفع الفلاسفة في قولهم بقدم الأفلاك وإنما غايته إبطال ما يقوله من يقول بوجوب تناهي الحوادث وقد تقدم غير مرة أن حجة الفلاسفة باطلة على تقدير النقيضين فإنه إذا امتنع وجود ما لا يتناهى بطل قولهم وإن جاز وجوده لم يمتنع أن يكون وجود الأفلاك متوقفا على حوادث قبله وكل حادث مشروط بما قبله كما يقولون هم في الحوادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها ويقتضي أنه يلزم من قولهم أن لا يكون للحوادث فاعل إذا كان كل حادث مشروطا بحادث قبله والعلة التامة المستلزمة لمعلولها يمتنع عندهم - وعند غيرهم - أن يحدث عنها شيء بوسط أو غير وسط لأن ذلك يقتضي تأخر شيء من معلولاتها فلا تكون تامة بل فيها إمكان ما بالقوة لم يخرج إلى الفعل وهو نقيض قولهم
قال ابن رشد : وأيضا فإن قولهم : إن الحركة المشار إليها لا تخرج إلا وقد انقضت قبلها حركات لانهاية لها قول لا يسلمه الخصوم فإن الخصوم : إنه لا ينقضي إلا ما له ابتداء وما لا مبدأ له - كما نضعه نحن - فلا انقضاء له وبهذا ينكرون قولهم : إن ما وقع في الماضي فقد دخل في الوجود لأن معنى : دخل في الوجود أنه تناهى وجوده وكمل ولا يتناهى إلا ما له ابتداء فأما ما لم يبتدي فلا يدخل في الوجود
قلت : لفظ الانقضاء والقضاء قد يعنى به الكمال والتمام كما قال تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } { فإذا قضيتم مناسككم } ويقال : قد انقضت هذه السنة والمضي والزوال فمعلوم أن الحوادث التي كانت قبلها قد انقضت ومضت وانتهت بمعنى أنها لم يبق منها شيء
وعلى هذا فقول القائل : كل حركة لا تكون حتى يكون قبلها حركات لا نهاية لها معناه : حتى توجد قبلها حركات لا ابتداء لها ليس المراد : لا آخر لها بل المراد : ليس لها ابتداء وهذا صحيح وهو أول المسألة والمنازع يقول : إذا كانت الحركات لا أول لها فالمعنى أنه قد مضى في الماضي ما لا ابتداء له كما يقال : إنه سيوجد في المستقبل ما لا انتهاء له وهذا هو قوله فما الدليل على بطلان هذا ؟
فهناك اشتراك واشتباه في الألفاظ والمعاني إذا ميزت ظهر المعنى ولفظ الدخول في الوجود قد يتناول ما كمل وجوده وما لم يكمل وجوده ويتناول ما وجد معا وما وجد متعاقبا لكن قول القائل : إن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل عند منازعه فرق لا تأثير له فإن أدلته النافية لإمكان دوام ما لا يتناهى كالمطابقة والشفع والوتر وغير ذلك يتناول الأمرين وهي باطلة في أحدهما فيلزم بطلانها في الآخر ومن اعتقد صحتها مطلقا ك أبي الهذيل و الجهم طردوها في الماضي والمستقبل وهو خلاف دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل
وهذا الذي يذكره هؤلاء المتفلسفة إنما يتوجه فيما مضى ولم يبق كالحركات فأما النفوس الإنسانية المجتمعة إذا قالوا بأنه الآن في الوجود منها ما لا يتناهى وهو مجتمع وأن ذلك لا يزال يزيد لم يكن ما ذكروه في الحركات متناولا لهذا
ولهذا فر ابن رشد من ذلك إلى أن جعل النفوس واحدة بالذات وشبهها بالضوء مع الشمس والضوء عرض وفساد هذا القول معلوم وليس هذا موضع بسطه
ولهذا قال ابن رشد هنا : وهذا كله ليس بينا في هذا الموضع وإنما سقناه ليعرف أن ما توهم القوم من هذه الأشياء أنه برهان فليس برهانا ولا هو من الأقاويل التي تليق بالجمهور أعني التراهين البسيطة التي كلف الله تعالى بها الجميع من عباده الإيمان به
قال : فقد تبين لك من هذا أن هذه الطريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية وأيضا فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لانهاية لها لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة وقبل تلك الدورة دورة وذلك إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد أي متى وجدت دورة وجدت قبلها في المحل دورة وبعدها دورة وأن هذا المرور إلى غير نهاية كالحال في المستقبل فإنما نقول : إن بعد هذه الدورة دورة وبعدها دورة وذلك إلى غير نهاية ولا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم عن هذا أن يكون بعد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها الآن فيكون ما لا نهاية لها أعظم مما لا نهاية له وذلك محال وكذلك الحال في الأدوار الماضية وقولهم : إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي : أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد وأن مضى قد أنصرم وانقضى وما انصرم وانقضى فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه - قول حق إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة وذلك أنه لم يكن هناك حركة واجب أن تكون أولى يستحيل أن تكون قبلها حركة فليس يجب أن يكون ها هنا جملة هي أو لجملة دخلت في الوجود ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهية إن كانت من الأشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد وذلك على جهة التعاقب على محل وحد
فمن أين - يلزم ليت شعري - إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد أن يكون هاهنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا ؟
والأصل في هذا كله أن لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى وجوده ولا ينقضي إلا ما ابتدى وجوده وإنما كان يلزم أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له الماضي في الوجود لو كان دخوله معا أعني ما لا نهاية له وأما الداخل فيه شخص فشخص على محل واحد وكأنك قلت على الجسم الدوري وليس هناك أول فليس يجب أن يكون ما دخل منها في الوجود منحصرا أو متناهيا لأن المتناهي هو الذي يمكن يزاد عليه شيء وأي جملة فرضناها متناهية فإنه يمكن أن يكون فيها جملة قبلها جملة أخرى هذا هو حد ما لا نهاية له الجائز الوجود أعنى أن يكون أبدا يوجد شيء خارج عنه ويسألون : كما أن تقدير وجود الباري سبحانه وتعالى في الماضي غير متناه وكما أن تقدير وجوده في المستقبل غير متناه وهذا معنى قولنا لم يزل ولا يزال : هل تقدر أفعاله في الماضي متناهية أو غير متناهية ؟
فإن قالوا : غير متناهية كما هو في المستقبل فقد اعترفوا بوجود ما لا نهاية له في الماضي على الشرط الذي يوجد ما لا نهاية له أعني أن لا يوجد معا وأن لا ينقطع المكان
وإن قالوا غير ذلك فقد أحالوا على الوجود الأزلي أن تكون أفعاله أزلية يلزمهم ذلك في علمه بالحادثات وإرادته لها فتكون معلوماته بالفعل متناهية وكذا إرادته وبالقوة غير متناهية
أما في الماضي فمن قبل أنه لا يجوز عندهم أن تكون أفعال لا نهاية لها وأما في المستقبل فمن قبل أن ما لا نهاية له إنما يوجد عنده بالقوة وذلك شيء لا يقولونه فإن قالوا : إرادته ومعلوماته غير متناهية بالفعل فقد سلموا دخول ما لا نهاية له بالفعل في الوجود قال : وهذا كله تشويش لعقائد المتشرعين وصد عن الغاية التي قصد بها تعريفهم هذه الأشياء وهو أن يكونوا مصمين في هذه الأشياء أخيارا فإن من ليس بمصمم العقيدة في هذه ليس بخير
قلت : قول القائل : هذا متناه أو غير متناه لفظ مجمل يراد به ما لا يتناهى من أوله ولا من آخره فلا يمكن أن يزال عليه وهذا هو مراد ابن رشد بما لا يتناهى من أوله فقط أو من آخرهس فقط كالحوادث الماضية إذا قيل : لا تتناهى فإنه لا نهاية له من جهة الابتداء بمعنى أنه لا ابتداء لها ولكن إذا قدر أنها انقضت اليوم فقد تناهت من هذا الطرف
قال ابن رشد : فخصماء هؤلاء المتكلمين لا يقولون : قيل هذه الدورة المعنية دورات لا نهاية لها بالمعنى الأول أي ليس لها أول ولا آخر بل يعترفون أنه حينئذ يكون للدورات آخر وهذا عندهم هو الذي لا يتناهى بالمعنى الآخر وهو جائز عندهم
قال : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما
قال : فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة وقبل تلك الدورة دورة إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد كالحال في المستقبل فإنا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم أن يكون بعد هذه الدورة بمدة عشرة آلاف سنه دورات لانهاية لها وبعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيكون ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له وذلك محال
فمعنى ما لا نهاية له الذي جعل مقتضاه محالا هو الذي لا يقبل أن يزاد عليه وهو ما لا أول له ولا آخر وأما إذا قيل : وجد قبل هذه الدورة دورة وقبلها دورة إلى غير نهاية فهنا إنما نفيت النهاية عن الجانب الماضي دون المستقبل فلا يطلق على الجملة أنها لا تتناهى لأنها تناهت من أحد الجانبين وإن كانت غير متناهنة من الجانب الآخر فهو يسلم امتناع انقضاء وجود ما لا يتناهى في الماضي إذا أريد به ما لا يتناهى من الجانبين وما قدر متناهيا من أحدهما فلا يسلم امتناع أنقضائه ولا يطلق عليه أنه لا يتناهى بل هو عنده قد تناهى لأنه انقضى والتناهي والانقضاء واحد ولكن يقال فيه : إنه وجد شيئا قبل شيء إلى غير نهاية فتكون النهاية مسلوبة عن ابتدائه لا عن الجانب الذي انتهى إليه
ويقال : لا يتناهى مقيدا لا مطلقا كما قال : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز وجودة هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أي يمكن أن يزاد عليه دائما فهذا يسميه ما لا نهاية له الجائز وجوده وهو أن يكون خارجا عنه شيء يمكن أن يزاد عليه دائما هو إنما يقبل الزيادة من الجهة التي تناهى منها فهو متناه من احد الطرفين غير متناه من الطرف الآخر فلهذا جاز أن يقال : ليس هو مما لا يتناهى لتناهيه من جانب ويجوز أن يقال : هو لا يتناهى لعدم تناهيه من الجانب الآخر ولهذا نقول : إنه لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى - ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده - لأنه إذا قدر أن الحوادث دائمة لم تزل ولا تزال فلم تنقض وإنما يفرض الإنسان انقضاء الماضي فرضا وإنما المنقضي ما لم يبق فيه شيء
والحوادث إذا كانت مستمرة فما انقضت ولا انتهت فما دخلت في الوجود والذي وجد في الماضي فهو متناه ليس هو مما لا يتناهى وإنما يكون قد دخل ما لا يتناهى إذا كان ممتنعا في الوجود فيكون قد انقضى مع كونه غير متناه وهذا ممتنع فأما ما يوجد شيئا بعد شيء وهو لم يزل ولا يزال فهذا ليس يجب أن يكون ما دخل منه في الوجود منحصرا أو متناهيا لأنه لم ينقض بل هو متواصل الوجود والمنقضي عنده ما انقطع وجوده ولم يبق منه شيء وليست الحوادث المستمرة كذلك
فلفظ انقضى و انتهى و انصرم ونحو ذلك معناها متقارب فإذا قال المتكلم : الحوادث الماضية قد انقضت فلو لم تكن متناهية للزم انقضاء ما لا نهاية له كان هذا تلبيسا فإنها إذا جعلت منقضية فإنما انقضت من جهتنا لا من البداية ومن هذه الجهة هي متناهية وأما من جهة الابتداء فلا انتهاء لها ولا انقضاء وما لا يتناهى هو ما لا ينقضي ولا ينصرم فإذا قيل : انصرم وانقضى ما لا يتناهى كان هذا تناقضيا بينا والحوادث الماضية ليس لها أول فإذا قدر أنها انقضت فقد انتهت وانصرمت فلا يطلق عليها أنها لا تتناهى مع تقدير أنها منقضية بل إذا قدر تناهيها فقد انقضت وإن قدر استمرارها فلم تنقض
وما ذكره ابن رشد كما أنه مبطل لقول من يقول بامتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل - كما يقوله من يقوله من المتكلمين - فهو مبطل أيضا لقول إخوانه من الفلاسفة الذين يقولون بوجود ما لا يتناهى ولا له أول ولا آخر في قديميين مختلفين كما يقولونه : إن حركات كل واحد من الأفلاك لا تتناهى ولا لها بداية ولا نهاية مع أن إحدى الحركات أكثر وأعظم من الأخرى
كما يقولون : إن القمر يتحرك في كل شهر مرة والشمس في كل سنة مرة والفلك المحيط في كل يوم مرة فهو أعظم مقدارا وأسرع حركة من فلك الشمس القمر وغيرهما فإنه محيط بالجميع فهو أعظم وهو يتحرك كل يوم الحركة الشرقية التي تحرك بها جميع الأفلاك وليس في الأفلاك ما يتحرك كل يوم غيره فتكون حركته أكبر وأكثر من حركة سائر الأفلاك : فلك الشمس والقمر وغيرهما فإن الأيام أكثر عددا من الشهور والشهور أكثر عددا من الأعوام
ونفس المتحرك كل يوم حركته أعظم مقدارا مما يتحرك في الشهر والعام مع أن كلا من هذه الحركات ليس لها أول ولا آخر عندهم فيلزم من ذلك أن يكون ما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر كحركة فلك القمر والشمس يقبل أن يزاد عليه أضعافا مضاعفة بل وجد ما هو بقدره أضعافا مضاعفة وهو حركة الفلك المحيط فيكون ما لا يتناهى من الجانبين وليس له أول ولا آخر أعظم مما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر وأكبر منه وهذا هو الذي بين ابن رشد وغيره من النظار أنه ممتنع ولايلزم هذا أئمة أهل الملل قالوا : إن الرب يفعل أفعالا أو يقول كلمات لا نهاية لها ليس لها أول ولا آخر فإن هؤلاء يقولون : لا قديم إلا الله وحده وما سواه محدث مخلوق فلم يقم بغيرة ولا يصدرعن غيره ما لا يتناهى وإنما ذلك له وحده فلم يكن لغيره ما لا يتناهى من الطرفين لا أقل مما له ولا أكثر وذلك أن ابن رشد عنده ما لا يتناهى هو ما لا أول له ولا آخر فما كان له منتهى ينتهي إليه محدود فلا بد أن يكون له مبدأ محدود فلا يتناهى شيء في النهاية إلا وله مبدأ محدود
ولهذا قال : وأيضا فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما إلى قوله : ( إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي : أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد وأن ما مضى قد انقضى وانصرم وما انقضى ونصرم فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه فهو قول حق ومراده بذلك أن الذي ينقضي وينصرم هو ما له مبتدأ وأما ما لا ابتداء له فلا انتهاء له ولا ينقضي ولا ينصرم
ولهذا قال : إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة وذلك أنه لم يكن هناك حركة واجب أن تكون أولى بحيث يستحيل أن تكون قبلها حركة فليس يجب أن يكون ها هنا جملة دخلت في الوجود ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهيه إن كانت من الاشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد
إلى قوله : فمن أين يلزم - ليت شعري - إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد أن يكون ها هنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا
قال : والأصل في هذا كله ألا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده
إلى قوله : لأن المتناهي هو الذي يمكن أن يزاد عليه شيء وأي جمله فرضناها متناهية فإنه يمكن قبلها جملة أخرى وهذا هو حد مالا يتناهى الجائز الوجود
وقد قال قبل ذلك : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما إلى قوله : ولا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم من هذا أن يكون بغد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها فمن تدبر كلامه تبين له ما قلناه
قلت : فأما الكلام على إحاطة علم الله تعالى بالكليات والجزئيات وإرادته فمذكور في غير هذا الموضع وهذا الرجل قد أورد على هؤلاء هذا السؤال المعروف وهو الذي أوقع أبا المعالي في قوله بالارسترسال وأن العلم يحيط بأعيان الجواهر وأنواع الأعراض ويسترسل على أعيان الأعراض هذا ليس هو قول من يقول بأنه يتعلق بالكليات فإن ذلك لا يفرق بين الجواهر وأنواع أعراض وأعيانها ومن علم أن الكليات لا تكون إلا كلية في الذهن وأن كل موجود فإنه معين والأفلاك معينة والعقول والنفوس عندهم معينة ونفسه المقدسة معينة تبين له أن قول من يقول : يعلم الكليات وأنه إنما يعلم الجزئيات على وجه كلي مضمون كلامه أنه لا يعلم نفسه ولا شيئا من الموجودات
وهذا وهم يقولون : إنه مبدع لها وسبب في وجودها وأنا العلم بالسبب يقتضي العلم بالمسبب فقولهم هذا يوجب علمه بنفسه وبكل موجود وذلك يناقض هذا وهذا مبسوط في موضعه
وهذا الرجل - أعني ابن رشد - أراد أن يجمع بين قولهم هذا وبين علمه بالجزئيات فقال قولا فيه من الحيرة والتناقض ما هو مذكور في موضعه
والمقصود هنا ذكر ما ناقض به قول هؤلاء المتكلمين الذين يزعمون أن عقلياتهم تعارض الكتاب والسنة وله أيضا من عقلياته التي يزعم أنها تناقض ذلك في الباطن ما هو مردود عليه بالعقل الصريح أيضا
لكن من عرف كلام بعض هؤلاء مع بعض تبين له فساد كل ما يعارض به كل طائفة للنصوص النبوية وأنه ما من معقول يدعى معارضته لذلك إلا وقد نقضه أهل المعقول بما يتبين فساده { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } الصافات : 180 - 182
قال ابن رشد : والأولى أن يقال لمن وصل من الجمهور إلى هذا القدر من التشكك : إن العالم ليس هو موجودا واحدا وإنما هو أفعال لله متجددة ومتعاقبة فيمكن في العقل أن تكون هذه الأفعال أزلية ويمكن أن تكون محدثة إلا أن الشرائع كلها قد وردت بأنها محدثة فيجب التصديق بأحد الجائزين الذي ورد به الشرع وأن يقال في علمه وإرادته : إنهما غير مكيفين ولا حادثين ولا يلزم في العلم المكيف الحادث


فصل
قال ابن رشد : وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعرفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين : إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائر أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو عليه أو يكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار أن تتحرك إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقية
والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالجائز الآخر
قال : فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادئ الرأي وهي في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسها مثل كون الإنسان موجودا على خلقه غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعضه الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية
إذ كان ذلك ليس معروفا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون ذلك لعلة غير بينة الوجود بنفسها أو تكون من العلل الخفية على الإنسان
ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيها بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنايع وذلك أن هذا الذي شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات - أو جلها - ممكن أن يكون على خلاف ما هي عليه ويوجد على ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة
وأما الصانع الذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة
والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العظيم ! وهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فلا تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة - لأن الحكمة ليست شيئا أكثر من معرفة أسباب الشيء وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده - على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجودا فليس هنا معرفة يختص بها الحكيم
الخالق دون غيرة كما أنه لو لم تكن أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلا ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالآذان كما بالعين والشم بالعين كما يتأتى بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك قلت : مضمون هذا الكلام إثبات ما في الموجودات من الحكمة والغاية المناسبة
لاختصاص كل منها بما خص به وأن ارتباط بعض الأمور ببعض قد يكون شرطا في الوجود وقد يكون شرطا في الكمال وبإثبات هذا أخذ يطعن في حجة أبي المعالي وأمثاله ممن لايثبت إلا مجرد المشيئة المحضة التي تخصص كلا من المخلوقات بصفته وقدره
فإن هذا قول من أهل الكلام كالأشعرية والظاهرية وطائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وأما الجمهور من المسلمين وغيرهم فإنهم - مع أنهم يثبتون مشيئة الله وإرادته - يثبتون أيضا حكمته ورحمته وهؤلاء المتفلسفة أنكروا على الأشعرية نفي الحكمة الغائية وهم يلزمهم من التناقص ما هو أعظم من ذلك فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية كما هو قول جمهور المسلمين فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريدا للمفعول بطريق الأولى والأحرى فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار ويقولون : إنه علة موجبة للمعلول بلا إردة كان هذا في غاية التناقص ما هو أعظم من ذلك فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية كما هو قول جمهور المسلمين فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريدا للمفعول بطريق الأولى والأحرى فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار ويقولون : إنه على موجبة للمعلول بلا إرادة كان هذا في غاية التناقص ومن سلك طريقة أبي المعالي في هذا الدليل لايحتاج إلى أن ينفي الحكمة بل يمكنه إذا أثبت الحكمة المرادة أن يثبت الإرادة بطريق الأولى
وحينئذ فالعالم بما فيه من تخصيصه ببعض الوجوه دون بعض دال على مشيئة فاعله وعلى حكمته أيضا ورحمته المتضمنة لنفعه وإحسانه إلى خلقه
وإذا كان كذلك فقولنا : إن ما سوى هذا الوجه جائز يراد به أنه جائز ممكن من نفسه وأن الرب قادر على غير هذا الوجه كما هو قادر عليه وذلك لا ينافي أن تكون المشيئة والحكمة خصصت بعض الممكنات المقدرات دون بعض
فهذه المقدمة التي ذكرها أبو المعالي مقدمة صحيحة لا ريب فيها وإنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية وقد ذكر الكلام عليها في غير هذا الموضع وهو أن التخصص للممكنات ببعض الوجوه دون بعض : هل يستلزم حدوثها أم لا ؟
قال ابن رشد : وقد نجد ابن سينا يذعن إلى هذه المقدمة بوجه ما وذلك أنه يرى أن كل موجود ما سوى الفاعل فهو إذا اعتبر بذاته ممكن وجائز وأن هذه الجائزات صنفان : صنف هو جائز باعتبار فاعله وصنف هو واجب باعتبار فاعله ممكن باعتبار ذاته وأن الواجب بجميع الجهات هو الفاعل الأول قال : وهذا قول في غاية السقوط وذلك أن الممكن في ذابه وفي جوهره ليس يمكن أن يكون ضروريا من جهة فاعله وإلا انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري فإن قيل : إنما نعني بكونه ممكنا باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله وتفعا ارتفع هو قلنا : هذا الارتفاع مستحيل لازم عن مستحيل وهو ارتفاع السبب الفاعل وليس هذا موضع الكلام في هذا الرجل ولكن للحرص على الكلام معه في الأشياء التي اخترعها هذا الرجل استجزنا القول هنا معه
قلت : مراد ابن رشد أن المفعول لا يكون قديما أزليا فإن الضروري عنده وعند عامة العقلاء حتى أرسطو وأتباعه وحتى ابن سينا وأتباعه - وإن تناقصوا - هو القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه في الماضي والمستقبل وهذا يمتنع أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم بل هذا لا يكون إلا محدثا يمتنع أن ينقلب قديما فلهذا قال : الممكن يمتنع أن يكون ضروريا
أما كون الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه وهو المحدث يصير واجب الوجود بغيره فهذا لا ريب فيه وما أظن ابن رشد ينازع في هذا ولكن من المتكلمين من ينازع في هذا وهذا حق وإن قاله ابن سينا فليس كل ما يقوله ابن سينا هو باطلا
بل هو مذهب أهل السنة أنه م شاء الله كان فوجب وجوده وما لم يشأ لم يكن فامتنع وجوده وهذا يوافق عليه جماهير الخلق فإن هؤلاء يقولون : كل ما سوى الله ليس له من نفسه وجود وهذا يعنون بكونه ممكنا لا يعنون بذلك أنه يمكن أن لا يوجد فهو واجب بغيره غير واجب بنفسه ولهم نزاع فيما إذا عدم هل يقولون : عدم لعدم موجبه أولا يعلل عدمه ؟ بل ليس له من نفسه وجود وإنما وجوده بفاعله فإذا لم يفعله فاعل بقي على العدم المستمر هذا فيه نزاع لفظي اعتباري وتحقيق الأمر أن عدم علته مستلزم لعدمه لا أن عدم علته فعل عدمه وأوجب عدمه ولكن يلزم من عدم علته عدمه فإن أريد بالعلة في عدمه المؤثر في عدمه فعدمه المستمر لا يحتاج إلى مؤثر وإن أريد به المستلزم لعدمه فلا ريب أن عدم علته مستلزم لعدمه وهؤلاء يقولون : إن الجائزات صنفان : صنف هو جائز باعتبار فاعله وصنف هو واجب باعتبار فاعله بل الجائزات الموجوده كلها واجبة باعتبار فاعلها وما لم يوجد من الجائزات فهو جائز باعتبار يفسه وهو ممتنع لغيره
فكما أن ما وجد من الممكنات فهو واجب لغيره لا لنفسه فما لم يوجد منها فهو ممتنع لغيره لا لنفسه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء أن يكون فلا بد أن يكون وليس هو واجبا بنفسه ولا له من نفسه وجوده بل الله مبدعه
وما لم يشأ لم يكن فإنه يمتنع وجود شيء بدون مشيئة الله تعالى وإن كان الله قادرا عليه وهو ممكن في نفسه أي يمكن أن يخلقه الله لوشاء الله خلقه
فهذا الباب كثير من النزاع فيه لفظي وهم لا يعنون بكونه ممكنا باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله مرتفعا ارتفع هو ولكن ابن سينا وأتباعه الذين يقولون : إن الفلك قديم أزلي وهو مع هذا ممكن يعنون ذلك
وأما عامة العقلاء فيعنون بذلك أنه لا يوجد بنفسه وأنه باعتبار نفسه يمكن أن يوجد ويمكن ألا يوجد وما كان كذلك فهو محدث
ولا ريب أنه مع هذا واجب بغيره حين وجوده لا قبل وجوده يمتنع ارتفاعه حين وجوده لا متناع ارتفاع فاعله ولا يمتنع ارتفاعه مطلقا إذا كان معدوما فوجد فارتفاعه مستحيل حين وجوده لازم عن مستحيل
والذي ينكره جمهور العقلاء - ابن رشد وغيره - على ابن سينا ومن وافقه من المتأخرين قولهم بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديما أزليا واجبا بغيره فهذا مما ينكره الجمهور
وقد ذكر ابن رشد أنه مخالف لقول أرسطو ومتقدمي الفلاسفة ولهذا لزم ابن سينا وموافقيه من التناقض ما ذكر بعضه الرازي وهم إذا حقق الكلام عليهم في الممكن فروا إلى إثبات الإمكان الاستقبالي وهو أنه يمكن في هذا الموجود أن يعدم في المستقبل وفي المعدوم العين أن يوجد في المستقبل فيكون الممكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وهذا قول جمهور العقلاء
وكلامهم في الإلهيات وفي هذا الممكن القديم الأزلي مضطرب غاية الاضطراب كما ذكره ابن رشد وغيره وأما كلامهم فيه في المنطق وغيره فوافقوا فيه سلفهم
أرسطو واتباعه وسائر العقلاء وصرحوا بأن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا محدثا مسبوقا بعدم نفسه وقسموا الممكن إلى أقسام كلها محدثة وجعلوا قسيم الممكن العامي هو الضروري الواجب وجوده وهو القديم الأزلي وصرحوا بأن ما كان قديما أزليا يمتنع أن يقال : إنه ممكن يقبل الوجود والعدم 0
وممن صرح بذلك ابن سينا وأتباعه لما تكلموا في الإلهيات وأحدثوا مذهبا ركبوه من مذهب سلفهم - أرسطو وأتباعه - ومن مذهب أهل الكلام المعتزلة ونحوهم وقسموا الوجود إلى واجب ممكن كما قسمه المتكلمون إلى قديم وحادث 0
وهذا التقسيم ابتدعوه لم يذهب إليه قدماء الفلاسفة بل قدماؤهم قسموه إلى جوهر وتسعة أعراض كما هو معروف في كتاب قاطبغورياس وجعلوا العلة الأولى من مقولة الجوهر 0
وهؤلاء جعلوا هذه القسمة للممكن وقالوا : الوجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب 0 فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين 0
وظنوا أن هذه الطريقة التي ابتدعوها في إثبات رب العالمين طريقة عظيمة وأنها غاية عقول العقلاء وهي من أفسد الطرق لا تدل على إثبات مبدع للعالم البتة فإنهم يحتاجون إلى حصر الوجود في القسمين
ثم إلى بيان أن الممكن الذي جعلوه قسيم الواجب يستلزم ثبوت الواجب الذي ادعوه وهذا ممتنع على طريقهم 0
فإنهم إذا قالوا : الموجود إما أن يقبل العدم وإما أن لا يقبله وما قبل العدم فهو الممكن ولا بد له من واجب 0
قيل لهم : إن عنيتم بما يقبل العدم المحدث كان مقتضى الحجة إثبات قديم محدث للمحدثات 0 وهذا حق ولكن القديم عندكم قد يكون واجبا وقد يكون ممكنا فليس في هذا ما يدل على إثبات واجب0
وإن قلتم : إن الممكن لا بد له من واجب 0
قيل لكم : فمعلوم أن المحدث لا بد له من فاعل 0 وأما ما جعلتموه قديما أزليا وسميتموه ممكنا فهذا لا يعلم أنه يفتقر إلى فاعل بل عامة العقلاء يقولون : إنه يمتنع أن يكون لهذا فاعل 0 ولو قدر أن له فاعلا لكان هذا يعلم بنظر دقيق خفي فلا يمكن أن يكون إثبات واجب الوجود موقوفا على مثل هذه المقدمة0
فإن قالوا : نحن قد قررنا أنه ممكن ولا بد للمكن من واجب 0
قيل : أنتم جعلتموه ممكنا قديما أزليا وهذا عند جمهور العقلاء جمع بين النقيضين وهو ممتنع 0 والممتنع قد يلزمه حكم ممتنع 0 وإنما موجب دليلكم ثبوت قديم أزلي وهذا حق0
والقديم الأزلي عندكم يمكن أن يكون واجبا ويمكن أن يكون ممكنا وهذا الممكن لم نعلم أنه يفتقر إلى واجب فلا يلزم ثبوت الواجب الذي ادعيتموه كما لم يلزم ثبوت الممكن الذي ادعيتموه
وإن قلتم : إذا قدر عدم هذا الممكن لزم ثبوت القسم الآخر وهو الواجب لانحصار الموجود في الواجب والممكن كما بيناه
قيل لكم : كما لم يلزم ثبوت هذا الممكن فلم يثبت نفيه بل الشك حاصل وإن قدر انتفاؤه فإذا لم يثبت وجود ممكن بل واجب لم يكن في هذا ما يدل على أن في الوجود ما هو ممكن وأمكن أن يقال الوجود كله واجب كما يقوله من يقول بوحدة الوجود ويقول : عين وجود ما يسمى ممكنا ومحدثا هو عين وجود الواجب فصار حقيقة قولكم إن الوجود كله إما واجب وإما ممكن هو نوعان : قديم ومحدث
وهذا الكلام لا فائدة فيه بل ليس فيه إلا ذكر التقسيم والشك في وجود الواجب أو إثبات واجب يعم المحدث والقديم وهو باطل قطعا فليس فيه إلا الجزم بالباطل أو الشك في الحق أو يقولوا : إن الموجود يمكن أن يكون كله واجبا ويمكن أن يكون ليس فيه واجب بل هو إما محدث وإما قديم ممكن
ومعلوم أن كل القولين معلوم الفساد بالضرورة وأن الوجود فيه حوادث كانت معدومة فوجدت وهذه ممكنات وأنه لا بد لها من قديم أزلي والقديم الأزلي يجب وجوده ويمتنع أن يكون ممكنا وهذا يبين أن كل ما سوى الواجب المبدع فهو محدث كائن بعد أن لم يكن وهذا كله يناقض ما قالوه
ولهذا يوجد في بحوث من سلك طريقهم ك الرازي و الآمدي من البحوث المضطربة في الواجب والممكن والعلة والمعلول ما ليس هذا موضع بسطه وقد تكلم عليه في غير هذا الموضع


فصل
فإن قالوا : نحن إذ قلنا : الوجود : إما واجب ذاته لا تقبل العدم وإما ممكن يقبل العدم وما كان قابلا للعدم فلا بد له من واجب لزم ثبوت الواجب على التقديرين مع قطع النظر عن الممكن : هل يكون قديما أم لا ؟
بل نفس تصور هذه الحقيقة وهو كونه يقبل العدم فيلزم افتقاره إلى فاعل قيل صحيح لكن هذا التقسيم لا يستلزم ثبوت القسمين في الخارج إن لم يبين ثبوت الممكن ولكن يلزم ثبوت موجود لا يقبل العدم على التقديرين وهذا لا يناقض قول القائل بأن الموجود واحد لا يقبل العدم وإنما يبطل قول هؤلاء إذا بين أن في الوجود ما هو ممكن يقبل العدم وليس في مجرد التقسيم ثبوت القسمين وإنما يثبت القسمان إذا ثبت أن في الوجود ممكنا يقبل العدم وهذا الممكن لا بد له من واجب وحينئذ فيكون استدلالا بوجود الممكن المعلوم إمكانه على القديم وهذا استدلال بالمحدثات على القديم لا استدلال بالوجود من حيث هو جود الواجب كما ظن ابن سينا وأتباعه بأن الوجود من حيث هو وجود إذا دل على وجود واجب لم يناقض ذلك أن يكون الوجود كله واجبا
فإذا قال أنا أبين بعد أن فيه محدثا
قيل : إذا بين ذلك ثبت أن فيه قديما ويكون الدليل على ثبوت القديم وهو الحوادث وهذه طريقة صحيحة وهي تدل على إثبات قديم لا على ثبوت واجب له مفعول قديم لكن نفس الوجود يدل على كل تقدير ثم يقال : وليس الوجود كله واجبا قديما فإن نشهد حدوث المحدثات والمحدث ليس بقديم وليس بواجب الوجود وعدمه ولا بممتع الوجود يجب عدمه فإنه كان موجودا تارة ومعدوما أخرى فعلم أنه يمكن وجوده وعدمه وما كان هكذا فلا بد له من فاعل قديم أزلي يمتنع عدمه فثبت وجود الموجود القديم الأزلي من نفس الوجود ومن وجود المحدثات وثبت من وجود المحدثات أنه ليس كل موجود قديما ولا واجبا بل ثبت انقسام الوجود إلى قديم واجب وإلى محدث ممكن بهذه الطريق وهي طريق الحدوث وطريق الإمكان الذي لا يناقض الحدوث بل يلازمه فأما الإمكان الذي ابتدعوه فلا يثبت هو بنفسه ولا يثبت به شيء ثم الكلام في تعيين القديم الواجب وأن السماوات محدثه له طرق متعددة ضرورية ونظرية كما قد بسط في موضع آخر وبين أن معرفة الصانع فطرية ضرورية : معرفته بعينه وأن السماوات والأرض وما بينهما مخلوقه له حادثه بعد أن لم تكن وأن كل مولود يولد على الفطرة وأن الله خلق عباده حنفاء ولكن شياطين الإنس والجن أفسدوا فطرة بعض الناس فعرض لهم ما أزاحهم عن هذه الفطرة ولهذا قالت الرسل : { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } ولما قال فرعون لموسى على سبيل الإنكار لما قال موسى : إني رسول من رب العالمين قال : { وما رب العالمين } قال له موسى : { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } ولما قال لموسى وهارون : { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين }
قال ابن رشد : وأما المقدمة الثانية وهي القائلة : إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيئا جائزا أزليا ومنعه أرسطوطاليس وهو مطلب عويص ولم يتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادتة وشهادة ملائكته
قلت : أما دعواه أن العلماء المذكورين في القرآن هم إخوته الفلاسفة أهل المنطق وأتباع اليونان فدعوى كاذبة فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الذين أثنى الله عليهم بالتوحيد ليس هم من المشركين الذين يعبدون الكواكب والأوثان ويقولون بالسحر ولا ممن يقول بقدم الأفلاك ولا ممن يقول قولا يستلزم أن تكون الحوادث حدثت بأنفسها ليس لها فاعل ونعلم بالاضطرار أن العلم بالتوحيد ليس موقوفا على ما انفرادوا به في المنطق من الكلام في الحد والقياس بما يخالفهم فيه أكثر الناس كتفريقهم بين الذاتيات والعرضية اللازمة للماهية وتفريقهم بين حقيقة الأعيان الموجودة التي هي ما هيتها وبين نفس الوجود الذي هو الأمر الموجود وأمثال ذلك وهذا الذي ذكره من ينازع هذين فإنه ينصر قول أرسطو طاليس ويقول : إن الجائز وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وينكر على ابن سينا قوله بأن الجائز وجوده وعدمه يكون قديما أزليا وحكايته لهذا عن أفلاطون قد يقال : إنه لا يصح فيما يثبته قديما من الجواهر العقلية كالدهر والمادة والخلاء فإنه يقول بأنها جواهر عقلية قديمة أزلية لكن القول مع ذلك بأنها جائزة ممكنة ونقل ذلك عنه فيه نظر
وأما الأفلاك فالمنقول عن أفلاطون وغيرة أنها محدثة فإن أرسطو طاليس يقول بقدم الأفلاك والعقول والنفوس وهي على اصطلاح هؤلاء ممكنة جائزة وعلى أصله يكون أزليا وهم ينقلون : إن أول من قال من هؤلاء بقدم العالم هو أرسطو طاليس وهو صاحب التعاليم وأما القدماء كأفلاطون وغيرة فلم يكونوا يقولون بقدم ذلك وإن كانوا يقولون - أو كثير منهم - بقدم أمور أخرى قد يخلق منها شيء أخر ويخلق من ذلك شيء آخر إلى أن ينتهي الخلق إلى هذا العالم فهذا قول قدمائهم أو كثير منهم وهو خير من قول أرسطو وأتباعه
قال ابن رشد : وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة بمقدمات : إحداها : أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى من الثاني والثانية : أن هذا المخصص لا يكون إلا مريدا والثالثة : أن الموجود على الإرادة حادث ثم بين أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة ليس يكون عنها أحد الجائزين المتماثلين دون مماثلة مثال ذلك أن السقمونيا ليس تدذب الصفراء التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر وأما الإرادة فهي التي تخصص الشيء دون مماثلة ثم أضاف إلى هذه أن العالم يماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه من الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء فأنتج ذلك أن العالم خلق عن إرادة
قال : والمقدمة القائلة : إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن العالم في حد يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ويلزم أيضا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما لأنه إن كان محدثا احتاج إلى خلاء
قلت : أما تسليمه أن الإرادة تخص أحد المتماثلين فيناقض ما قد ذكر أولا من أنه لا بد من المفعول من حكمة اقتضت وجوده دون الآخر والإرادة تتعلق بالمفعول لعلم المريد بما في المفعول من تلك الحكمة المطلوبة ومن كان هذا قوله امتنع عنده تخصيص أحد المتماثلين بالإرادة بل لا بد أن يختص أحدهما بأمر أوجب تعلق الإرادة به وإلا فمع التساوي يمتنع أن يراد أحدهما على هذا القول ومتى تسلم هذا أمكن أن يقال : إن مجرد اختيار الفاعل وهي إرادته خصت الوجود بدهر دون دهر مع التماثل وبقدر دون قدر وبوصف دون وصف
وأما منازعته في أن العالم في حد يحيط به فهم لا يحتاجون أن يثبتوا أمرا واحدا وجوديا يكون العالم فيه بل هم يقولون : إنا نعلم إمكان تيامنه وتياسره بالضرورة وإن كان ما وراءه عدم محض وتسمية ذلك موضعا كقول القائل : العالم في موضع ولفظ الموضع والمكان والحيز يراد به أمر موجود وأمر معدوم
قال ابن رشد : وأما المقدمة القائلة : إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد حادث فذلك شيء غير بين وذلك أن الإرادة التي هي بالفعل فهي مع فعل المراد نفسه لأن الإرادة من المضاف وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل وجد الآخر بالفعل مثل الأب والابن وإذا وجد أحدهما بالقوة وجد الآخر بالقوة فإن كانت الإرادة التي هي بالفعل حادثة فالمراد لا بد حادث وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة فالمراد الذي بالفعل قديم وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل إذا لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد ولذلك هو بين أنها إذا خرج مرادها للفعل أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مرادها إلى الفعل إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل فإذا لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثة لوجب أن يكون المراد محدثا ولابد
قال : والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة موجدة موجودات حادثة وذلك قوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وإنما كان ذلك كذلك لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا قدم لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة إرادة حادثة في موجود قديم لأن الأصل الذي يعولون فيه على نفي قيام الإرادة الحادثة بمحل قديم هي المقدمة التي بينا وهنها وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث وسنبين هذا المعنى بيانا أتم عند القول في الإرادة قلت : الكلام في الإرادة وتعددها أو وحده عينها أو عمومها أو خصوصها وقدمها أو حدثها أوحدوث نوعها أوعينها وتنازع الناس في ذلك ليس هذا موضعه وهي من أعظم محارات النظار والقول فيها يشبه القول في الكلام ونحوه لكن نفس تسليم الإرادة للمفعول يستلزم حدوثه بل تسليم كون الشيء مفعولا يستلزم حدوثه فأما مفعول مراد أزلي لم يزل ولا يزال مقارنا لفاعله المريد له الفاعل له بإرادة قديمة وفعل قديم فهذا مما يعلم جمهور العقلاء بضرورة العقل
وحينئذ فبتقدير أن يكون الباري لم يزل مريدا لأن يفعل شيئا بعد شيء يكون كل ما سواه حادثا كائنا بعد أن لم يكن وتكون الإرادة قديمة بمعنى أن نوعها قديم وإن كان كل من المحدثات مرادا بإرادة حادثة قال : فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله تعالى ليست طرقا نظرية يقينية ولا طرقا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع تعالى وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين : أحدهما : أن تكون يقينية والثاني : أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول
قال ابن رشد : وأما الصوفية فطرقهم في النطر ليست طرقا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة ونحن نقول : إن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها فليست عامة للناس بما هم ناس ولوكانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها في الإنسان عبثا
مثل قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله } البقرة : 282 ومثل قوله تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } العنكبوت : 69 ومثل قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } الانفال : 29 إلى أشياء كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن إماته الشهوات قد تكون شرطا في صحة النظر لا أن إماته الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها وإن كانت شرطا فيها كما أن الصحة شرط في العلم وإن كانت ليست مفيدة له
ومن هذه الجهة دعا الشارع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي بينا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه
قلت : العمل الذي أصله حب الله تعالى أمر الشرع به لأنه مقصود في نفسه وهو معين على حصول العلم النافع كما أنه معين على حصول عمل آخر صالح كما أن الشرع أمربالعلم بالله تعالى لأنه مقصود في نفسه وهو معين على العمل الصالح وعلى علم آخر نافع
قال ابن رشد : وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم شيئا من جنس طرق الأشعرية
قلت : طريق المعتزلة هي الطريق التي ذكرها عن الأشعرية وإنما أخذها من أخذها ولهذا لما كان الأشعري تارة يوافقهم وتارة يوافق السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة ذم هذه الطريقة كما تقدم ذكر كلامه في ذلك فذمها وعابها موافقه للسلف والأئمة في ذلك وابن رشد رأى ما رآه من كتب الأشعرية فرأى اعتمادهم عليها فذلك تكلم عليها
وأفضل متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري وعلى هذه الطريقة في كتبه كلها يعتمد حتى في كتابه الذي سماه غرر الأدلة


كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية
قال في أوله : إنا ذاكرون الغرض بهذا الكتاب والمنفعة به لكي إذا عرف الإنسان شرف تلك المنفعة وشرف الغرض صبرت نفسه على تحمل المشاق في طلبها والاجتهاد في تحصيلها فنقول : إن الغرض به هو التوصل بالأدلة إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال وصدق رسله وصحة ما جاءوا به
قال : وظاهر أن المنفعة بذلك عظيمة شريفة من وجوه منها : أن من عرف هذه الأشياء بالأدلة أمن من أن يستزله غيره عنها ومنها : أنه يمكنه أن يرد غيره عن الضلال إليها ومنها أن يكون على ثقة مما يقدم عليه في معاده غير خائف من أن يكون على ضلال يوديه إلى الهلاك
قال : وليس أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن نصدق الكذابين وليس يؤمن أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناءه إلا بعد أن يعلم أنه غير جسم ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم ولا يعلم أنه يثيب ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي ولا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ولا طريق إليها إلا أفعاله فيجب أن نتكلم في هذه الأشياء لنعلم صحة ما جاءت به الرسل ونمتثله فنكون آمنين في المعاد
ثم قال : باب الدلالة على محدث الأجسام الدلالة على محدث الأجسام والجواهر هي أن الأجسام والجواهر محدثة وكل محدث فله محدث فللأجسام إذا محدث
قال : وهذا الكلام يشتمل على أصلين : أحدهما : قولنا : إن الجسم لم يسبق الحركات والسكنات المحدثة والآخر : قولنا : وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث فالأول يشتمل على ثلاث دعاو : إثبات الحركة والسكون وأن الجسم ما سبقها وأنها محدثان
والأصل الآخر لا يشتمل إلا على دعوى واحدة : وهو أن ما لم يسبق المحدث محدث فصارت الدعاوى أربعا ونحن نبينها ليصح حدوث الجسم
قلت : وهذه الدعاوى الأربع التي ذكرها أبو المعالي في أول الإرشاد لكن جعل بدل الحركات والسكنات الأعراض ولكنه لم يقرر حدوث الأعراض إلا بحدوث الأكوان ولم يقرر ذلك إلا بالاجتماع والافتراق وأما طريقة الحركة والسكون التي اعتمدتها المعتزلة فهي التي يعتمدها الرازي وهي أقوى مما سلكه الآمدي وغيرة حيث سلكوا طريقة الأعراض مطلقا بناء على أن العرض لا يبقى زمانين فإن هذه أضعف الطرق وطريقة الحركة أقواها وطريقة الاجتماع والافتراق بينهما وهي طريقة أبي الحسن الأشعري وطريقة الكرامية وغيرهم ممن يقول : إنه جسم
ثم إن أبا الحسين أحتج لهذه الدعاوى الأربع بنظير ما تقدم
قيل : فإن قيل : فما الدليل على أن الحركة غيرة ؟
قيل : لو كان تحرك الجسم هو الجسم لكان إذا بطل تحرك بطل الجسم ولو كان تحرك الجسم هو الجسم لكانت الدلالة على حدث التحرك دلالة على حدث الجسم فلو كان تحرك الجسم هو الجسم لكان أسهل في الدلالة على حدث الجسم
قلت : هذا ينبني على أن ما ليس هو الشيء فهو غيره وهو قول المعتزلة وأما الصفاتية فينازعونهم في هذا ويقولون : الصفة لا يطلق عليها : إنها هي هو ولا إنها غيره وأئمتهم لا يقولون : لاهي هو ولا هي غيره لأن لفظ الغير مجمل وكثير منهم يقولون : لا هي هو ولا هي غيره لكن الاستدلال يمشي بأن تكون الحركة ليست هي الجسم وهي حادثة ويمشي بأن يقال : الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود والحركة تفارق الجسم بالوجود فإنه قد يكون موجودا ولا حركة له لكن يقال : لانسلم أن كل جسم يجوز أن يفارقه نوع الحركة بل قد تقارنه عين الحركة وهم لايدعون أن الجسم مستلزم لعين الحركة والسكون بل لنوعها قال أبو الحسين : والدلالة على استحالة سبق الجسم لجنس الحركة والسكون وهي أنه لو سبقه لكان لا واقفا ولا مارا ولا حا صلا في مكان مع أنه جرم متحيز والعلم باستحالة ذلك ضروري قال : والدلالة على حدوث الحركة والسكون هي أن كل حركة وسكون يجوز
عليهما العدم والقديم لايجوز عليه العدم وإنما قلنا : يجوز على السكنات والحركات لأنه ما من جسم متحرك إلا ويمكن أن يسكن أو يحول من حركة إلى حركة كخروج الفلك من دورة إلى دورة وما من جسم ساكن إلا ويمكننا أن نحركه : إما بجملته أو بأجزائه كالأجسام العظام وإنما قلنا : إن القديم لا يجوز عليه العدم لأن القديم واجب الوجود في كل حال وما وجب وجوده في كل حال استحال عدمه
وإنما قلنا : إنه واجب الوجود في كل حال لأنه موجود فيما لم يزل فإما أن يكون وجوده على طريق الجواز أو على طريق الوجوب فلو كان موجودا على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل ويستحيل أن يوجد القديم بالفاعل لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم وليس للقديم حال عدم فيخرجه فصح أن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه
ثم قرر الأصل الثاني وهو المهم
قال : فإن قيل : ما أنكرتم أن الحوادث الماضية لا أول لها ولا يلزم حدث الجسم إذا لم يتقدمها ؟
قيل : إذا كان كل واحد من الحوادث له أول استحال ألا يكون لجميعها أول لأنها ليست سوى آ حادها كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود ولا يكونوا كلهم سودا ولأن كل واحد قد سبقه عدمه فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها ولا من عدمها ولا يفصل السابق من المسبوق
قلت : هذه المقدمة هي التي نازعهم فيها المنازعون كما تقدم ذكر بعض طعن الطاعنين فيها في كلام الرازي وغيره وهؤلاء يقولون : لا نسلم أنه إذا كان لكل واحد منها أول أن يكون لجميعها أول كما أن كل واحد منها له آخر وليس لجميعها آخر وكما أن كل واحد من العشرة عشر وليس المجموع عشرا وكل واحد من أعضاء الإنسان عضو وليس المجموع في جميع المواضع بل تارة يتصف المجموع بما يتصف به الأفراد كما أنه إذا كان كل جزء من الجملة موجودا فالجميع موجود وإن كان كل جزء من المجموع ممكنا فالمجموع ممكن وإذا كان كل جزء منها معدوما فالجميع معدوم وتارة لا يكون كذلك كما تقدم
فلا بد من بيان أن مورد النزاع من أحد الصنفين وإلا فدعوى ذلك هو أول المسألة فدعوى ذلك مصادرة وتمثيلهم بالزنج تمثيل بأم جزئي لايحصل به المقصود إلا أن يعلم أن هذا مثل هذا
ولهم عنه أجوبة : المنع والمعارضة والفرق أما المنع : فيقولون : لا نسلم أن هذا مثل الزنج
وأما المعارضة : فيعارضون ذلك بعلمنا بأن كل حركة لها آخر وكل حادث له آخر وليس لكل الحركات والحوادث آخر وأن كل عدد له نهاية وليس للأعداد نهاية وأن كل واحدة من الأخوات يباح التزويج بها وليس الجمع بين الاخوات مباحا وكل واحد من أفراد العشرة واحد وهو ثلث الثلاثة وربع الأربعة وليست العشرة ثلث الثلاثة ولا ربع الأربعة وأن كل واحد من أجزاء المركب هو مفرد بشرط المركب ليس مفردا بسيطا وأن كل واحد من أجزاء الدائرة جزء دائرة والدائرة ليست جزء دائرة وأن كل واحد من أجزاء المطر قطرة وليس المجموع قطرة وليس المجموع قطرة فإنه يفرق بين ما له مجموع يمكن أن يوصف بما وصفت به الأفراد وبين ما ليس له مجموع يمكن وصفه بذلك ولا ريب أنا إذا عرضنا على عقولنا أن كل زنجي فهو أسود فإنا نعلم بالضرورة أن مجموع الزنج سود وذلك لأن المجموع غير كل واحد واحد من الأفراد فتارة يمكن وصفه بصفات الأفراد كما نقول عن الحوادث المحدودة الطرفين : إن مجموعها حادث كما أن كل واحد منها حادث
وتارة لا يمكن وصفه بذلك اللفظ بل بصيغة الجمع فإن مجموع السودان لا يقال فيه بنفس اللفظ : أسود ولا يقال غير أسود بل يقال : سود وسود صيغة جمع فهي بمعنى قولنا : كل زنجي أسود
وإذا لم يكن الحكم على المجموع هو بلفظه الحكم على الأفراد كان نظير مثال الزنج وأما إذا اتحد الحكم فقد يكون حكم المجموع فيه حكم الأفراد وقد لا يكون
فالأول إذا قلنا : كل محدث فهو مخلوق أو فهو ممكن أو : كل ممكن فهو مفتقر إلى غير ممكن
فإن ذلك يوجب أن يكون مجموع المحدث مخلوقا وممكنا ومجموع الممكن مفتقرا إ لى غير ممكن لأن هذا الحكم ثابت للجنس من حيث هو هو فيلزم ثبوته حيث تحقق الجنس والجنس يتحقق في المجموع كتحققه في كل فرد فرد
فطبيعة المحدث تستلزم كونه مخلوقا ممكنا وطبيعة الممكن إذا وجد تستلزم الافتقار إلى غير ممكن والطبيعة لازمة للمجموع فيستحيل وجود الطبيعة منفكة عن لازمها فلا يكون مجموع الممكنات إلا مفتقرا إلى غيره كما لا يكون كل فرد منها إلا مفتقرا إلى غيره ولا يكون مجموع المخلوقات إلا حادثة وممكنة كما لا يكون كل منها إلا حادثا ممكنا كذلك في المعنى
لكن من المجموع ما يكون اللفظ يتناول جنسه كما يتناول الواحد منه كلفظ المخلوق والمحدث والممكن ومنه ما يكون لفظ الكثير فيه صيغة جمع لا يستعمل في الواحد منه
والزنج ليس لهم مجموع يحكم عليه بأنه أسود أو ليس بأسود بل يقال : مجموعهم سود وذلك معنى قولك : كل واحد منهم أسود ولكنه الأسود يتصف به المجموع من حيث هو مجموع كما يتصف به كل واحد واحد بخلاف اتصاف المجموع بكونه محدثا وممكنا ومفتقرا إلى غيره فإن هذا الوصف يمكن ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع كما يثبت لكل فرد من أفراده
والحوادث إذا حكم على مجموعها بأن له أولا ليس له أول فهو حكم على الجنس المجموع فإن علم أن الجنس الحادث لا يكون دائما متصلا بل لا يكون إلا بعد عدم كما علم أن كل فرد فرد من أفراده كذلك كان هذا نظير المحدث والممكن لكن النزاع في هذا فإنا إذا عرضنا على العقل المحدث عن عدم من حيث هو مع قطع النظر عن أفراده ومجموعه : هل يكون مخلوقا ممكنا ؟ جزم العقل بأن ما كان مخلوقا محدثا فإن كونه محدثا يستلزم كونه ممكنا إذا لو لم يكن كذلك لزم كونه واجبا فلا يعدم أو ممتنعا فلا يوجد
والمحدث كان معدوما وصار موجودا فطبيعته تنافي الوجوب و الامتناع لا فرق في ذلك بين الواحد والجنس
وإذا عرضنا على العقل الحادث مع قطع النظر عن أفراده وجنسه : هل يستلزم أن يكون منتهيا منقطعا لن ابتداء أو يستلزم ذلك بل يمكن دوامه ؟ لم تجد في العقل ما يقضي بأن جنس الحادث يجب أن يكون منتهيا له ابتداء وهذا الباب من تدبره تبين له الفرق بين تسلسل المؤثرات الفاعلات أنه ممتنع وبين تسلسل الآثار : أثرا بعد أثر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود الفرق بين الزنجي وبين الحادث ومما يوضح ذلك أنا إذا قلنا : كل زنجي أسود لم يكن في الزنج ما ليس بأسود لأن هذا النقي يناقص ذلك الإثبات وصدق أحد المتناقضين اللذين لا يرتفعان يوجب كذب الآخر فإنا إذا قلنا : بعض الزنج ليس بأسود كان مناقضا لقولنا : كل زنجي أسود فإذا لم يكن في الزنج ما ليس بأسود لزم أن يكون جميعهم سودا وأما إذا قلنا : كل حادث فله يلزم أن لا يكون في الحوادث ما ليس له أول وهكذا عكس نقيضه فيمتنع أن يكون جميع الزنج سودا ؟ هذا محل نزاع فيقال : الفرق معلوم بين قولنا : جميع الحوادث لها أول بمعنى : أن كل واحد منها له أول وبين قولنا : إن جنس الحوادث لها أول بمعنى : أن الحوادث منقطعة غير دائمة ولا مستمرة ولا متسلسلة فإن العقل يتصور أن كل واحد له أول وآخر وهي مع ذلك دائمة مستمرة فيمكنه الحكم بأن كل حادث له أول كما أن كل زنجي أسود وهو بعد ذلك لم يعلم : هل هي دائمة أم هي منقطعة ؟
بل العلم بكون الحادث له أول هو العلم بأنه مسبوق بعدم وليس العلم بأن كل حادث هو مسبوق بعدم هو العلم بأنه كان العدم مستمرا دائما حتى حدث جنس الحوادث بل يمكن العقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث وبعده حادث وما من عدد إلا وبعده عدد 0 وهو يعلم أن كل حادث فله أول وكل نقص فله آخر وكل عدد فله حد ومنتهى وإن لم يكن لجنس العدد حد ومنتهى 0
ومما يبين ذلك الفرق : أن كون الشخص أسود وأبيض صفة قائمة به في حال وجوده فلا يمكن انتفاؤها عن الجنس الموجود مع قولنا : إن كلا منهم أسود 0 وأما أن كون الشيء حادثا أو مسبوقا بعدم أو موجودا بعد أن لم يكن أو له أول فهو بمنزله كونه ماضيا وملحوقا بعدم ومعدوما بعد ما كان 0
وهذا يقتضي أن كلا من هذه الأمور ثابت لكل واحد من الحادث والمنقضي أما كون جنس المنقضي انقطع فلا يكون بعده منقض أو كون جنس الحوادث منقطعا فلم يكن قبل الحوادث المعينة شيء حادث هذا نوع آخر
والحكم على كل فرد فرد غير الحكم على المجموع من حيث هو مجموع في النفي والإثبات ففي النفي نفرق بين قوله : لا تأكل هذا ولا هذا ولا تأكل السمك وتشرب اللبن إذا الأول نهى عن كل منهما والثاني نهى عن جميعها
وكذلك إذا قال : ما ضربت لا هذا ولا هذا أو لم أضربها وعنى نفي ضربهما جميعا ولهذا تنازع الفقهاء فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه كما لو حلف : لا آكل الرغيف فأكل بعضه ولم يتنازعوا في أنه لو عنى أكل جميعه لم يحنث بأكل البعض وهذا كما في قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } النساء : 23 ونهي النبي صلى الله عليه و سلم أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها فالجميع بينهما منهي عنه فهذه وحدها مباحة وهذه وحدها مباحة واجتماعهما ليس مباحا
وكذلك كل واحد من الضدين مقدور ممكن وليس الجمع بينهما مقدورا ممكنا وكذلك الجائع إذا حضرته أطعمة يكفيه كل منها فكل منها مباح له أكله ولا يباح له أكل المجموع حتى يبشم ويموت وكذلك من قال لغيره : خذ عبدا من عبيدي أو فرسا من خيلي كل منها مباح له وليس المجموع مباحا له فإذا قيل : كل من هذه مباح لم يستلزم أن يكون المجموع مباحا والمقصود أن الأمور التي يتصف بها كل واحد من الأفراد ثلاثة أنواع :
أحدها : ما لا يمكن تصوره في المجموع فلا يقال : هو ثابت ولا منتف
والثاني : ما يمكن تصوره في المجموع وهذا قد يكون ثابتا كثبوت الافتقار إلى الفاعل في مجموع الممكنات والحادثات وثبوت الحل في كل من الأجنبيات منفردة وفي جمع أربع وقد لا يكون ثابتا كثبوت النهاية في أفراد الحوادث المنقضية لا في مجموعها وثبوت الحل في كل من الأختين لا في مجموعهما والفرق بين هذا وهذان أن الحكم الذي ثبت للأفراد إن كان للمعنى الذي يوجد في المجموع ثبت له وإن لم يكن لذلك المعنى لم يلزم ثبوته له فيكون المحدث ممكنا أو مفتقرا إلى الفاعل ثبت لحقيقة الحدوث وهذا ثابت للأفراد والمجموع وكذلك افتقار الممكن إلى ما ليس ثبت لحقيقة الإمكان فإن حقيقة الممكن هو الذي لا يوجد إلا بغيره لا بنفسه وهذه الحقيقة لا تفرق بين الأفراد وبين المجموع وأما كون الحادث له أول أو الماضي له انتهاء فهذا يعلم في كل حادث حادث وماض ماض وأما كون هذا الجنس كذلك فالطبيعة تلزم كل واحد واحد وليس في الخارج مجموع ثابت للحوادث والماضيات حتى يقال : هل يحكم لذلك المجموع بحكم أفراده أم لا ؟ فإن أفراده موجودة على التعاقب وإذا قدر حوادث متعاقبة لم يكن في العلم بهذا ما يوجب أن لا تكون دائمة
لكن إذا قدر إجتماع حوادث في آن واحد أو كانت محدودة قيل : إن هذا المجموع له ابتداء وإذا قدر اجتماع أمور منقضية أو محدودة الآخر
قيل : لها انتهاء
وأما ما لا يمكن اجتماعه لا من هذا ولا من هذا فليس وجوده مجتمعا في الخارج وإنما يجتمع أفراده في الذهن لا في الخارج
يبين ذلك أن ما لا يوجد إلا متعاقبا متتاليا إذا قيل : إن كل واحد من أفراده يعقب فردا آخر لم يعلم من ذلك أنه كله يعقب شيئا آخر إذا لم يحكم على جنسه بأنه يعقب غير جنسه وإنما حكمنا على أفراد الجنس بالتعاقب
وكذلك إذا قلنا : كل واحد من أفراده سبقه عدم لم يحكم على الجنس بأنه سبقه عدم كما حكمنا هناك على جنس المحدث بافتقاره إلى الفاعل وعلى جنس الممكن بافتقاره إلى ما ليس بممكن أو إلى الفاعل أو الواجب ونحو ذلك والكلام على هذا مبسوط في موضعه
والمقصود التنبيه على ما ذكره المنازعون لأبي الحسين وغيره من القائلين بأن جنس الحوادث ممتنع دوامها من أهل الإسلام والسنة والفلاسفة وغيرهم وكذلك قوله : كل واحد قد سبقه عدم فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها وعدمها ولا ينفصل السابق من جنس المسبوق فإنهم يقولون : كل واحد مسبوق بعدم نفسه لا بعدم جنسه فإذا كان الجنس لا أول له لم يلزم أن يقارنه عدمه بل يقارن كل فرد من أفراده عدم غيره
وهم يسلمون عدم كل واحد واحد كما يسلمون حدوثه فإن حدوثه مستلزم لعدمه لكنهم ينازعون في عدم الجنس وانتهائه وامتناع دوامه في الأزل كما ينازعون في انتهائه وامتناع دوامه في الأبد


كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وبالجملة : هذا الموضع هو من أعظم الأصول التي ينبني عليها دليل المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على حدوث الأجسام وتنبني عليه مسألة كلام الله تعالى وفعله وخلقه للسماوات والأرض ثم استوائه على العرش وتكلمه بالقرآن وغيره من الكلام وأئمة أهل الحديث والسنة وطوائف من أهل النظر والكلام مع أئمة الفلاسفة تنازعهم في هذا
ثم إنهم والدهرية من الفلاسفة اشتركوا في أصل تفرعت عنه مقالاتهم وهو أن تسلسل الحوادث ودوامها يستلزم قدم العالم بل قدم السماوات والأفلاك فقال الفرقان إذا قدر حادث بعد حادث إلى غير نهاية كان العالم قديما فتكون الأفلاك قديمة
ثم إن الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله قالوا : تسلسل الحوادث ودوامها واجب لإن حدوث الحادث بدون سبب ممتنع فيمتنع أن يكون جنسها حادثا بلا سبب حادث لكل حادث سبب حادث كان الجنس قديما فيكون العالم قديما
وأبو الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام قالوا : تسلسل الحوادث ممتنع لأن كل حادث مسبوق بالعدم فيكون الجنس مسبوقا بالعدم فيلزم حدوث كل ما لا يخلو عن الحوادث والأجسام لاتخلو من الحوادث فتكون حادثة
ونفس الأصل الذي اشترك فيه الفريقان باطل وهو أنه يلزم من إمكان تسلسل الحوادث قدم الأفلاك أوقدم العالم أوقدم شيء من العالم
والفلاسفة الدهرية أعظم إقرارا ببطلانه من المعتزلة فإن تسلسل الحوادث ودوامها لا يقتضي قدم أعيان شيء منها ولا قدم السماوات والأفلاك ولا شيء من العالم والفلاسفة يسلمون أن تسلسل الحوادث لايقتضي قدم شيء من أعيانها وأن تسلسلها ممكن بل واجب
فيقال لهم : هب أن الحوادث لم تزل تحدث شيئا بعد شيء فمن أين لكم أن الأفلاك قديمة ؟ وهلا جاز أن تكون حادثة بعد حوادث قبلها ؟ بل يقال : هذا يبطل قولكم فإنها إذا كانت متسلسلة امتنعت أن تكون صادرة عن علة تامة موجبة فإن العلة التامة لايتأخر عنها شيء من معلولها والحوادث متأخرة فيمتنع صدورها عن علة تامة بوسط أو بغير وسط
وهكذا يقول للمعتزلة منازعوهم يقولون : أنتم موافقون لسائر المسلمين وأهل الملل على أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأنه خالق كل شيء وأنه القديم وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم ومقصودكم بالأدلة بيان ذلك فأي حاجة لكم إلى أن تسلموا للدهرية ما يستظهرون به عليكم ؟
وإذا جاز أن يكون الله خلقها وأحدثها بأفعال أحدثها قبل ذلك وكل حادث مسبوق بحادث مع أن ما سوى الله مخلوق مصنوع مفطور حصل مقصودكم
وإذا كان الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء أو فاعلا لما يشاء لم يناقض هذا كون العالم مخلوقا له فتكون السماوات والأرض مخلوقة في ستة أيام كما أخبرت بذلك الرسل والله خالق كل شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم
ويقول لهم منازعوهم : أنتم أردتم إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع سبحانه بما جعلتموه شرطا في حدوثه بل وشرطا في العلم بالصانع فكان ما ذكرتموه مناقضا لحدوث العالم وللعلم بحدوثه وللعلم بإثبات الصانع
وذلك أنكم ظننتم أنه لا يتم حدوث السماوات إلا بامتناع حوادث لا أول لها وأن إحداث الله تعالى لشيء من مخلوقاته لا يمكن إلا إذا بقي من الأزل إلى حين أحداث المحدثات لم يفعل شيئا من الأفعال ولا الأقوال بل ولا كان يمكنه عندكم الفعل الدائم ولا أن تكون كلماته دائمة لا نهاية لها في الأزل ثم حين أحداثها هو على ما كان عليه قبل ذلك فحدث من غير تجدد شيء أصلا
فلزمكم القول بترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وحدوث الحوادث بلا سبب ولزمكم تعطيل الصانع سبحانه وجحده وسلبه القدرة التامة حيث سلبتم قدرته على جنس الكلام والفعل في الأزل
وقلتم : يجب أن يكون كلامه حادثا بعد أن لم يكن بل أن يكون مخلوقا في غيره لا قائما بذاته أو أنه لايتكلم بمشيئته وقدرته
وقلتم : لا يمكنه أن يحدث شيئا إن لم يمتنع دوام الفعل منه فلا يكون قادرا متكلما إلا بشرط أن لا يكون كان قادرا فاعلا متكلما وقلتم : لا يجوز وجود الحوادث إلا بشرط ألا يحدث لها سبب حادث ولا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بشرط ألا يكون هناك سبب يقتضي الرجحان فجعلتم شرط حدوث العالم وسائر أفعال الله وكلامه ما يكون نقيضه هو الشرط وبدلتم الفضايا العقلية كما حرفتم الكتب الإلهية ومن هنا طمعت الفلاسفة فيكم وزادوا في الكتب الإلهية تحريفا وإلحادا وصار أصل الأصول عندكم - الذي بنيتم عليه إثباتكم للصانع ولصفاته ولرسله وبه كفرتم أو ضللتم من نازعكم من أهل القبلة أتباع السلف والأئمة ومن غير أهل القبلة - هو قولكم : إذا كان كل واحد من الحدوث له أول استحال ألا يكون لمجموعها أول لأنها ليست سوى آحادها والعقلاء يفرقون بصريح عقولهم بين الحكم والخبر والوصف لكل واحد واحد وبين الحكم والخبر والوصف للمجموع في مواضع كثيرة وأنتم تقولون بإثبات الجوهر الفرد فكل واحد من أجزاء الجسم جوهر فرد عندكم وليس الجسم جوهرا فردا بل المجموع من أفراد وقد ثبت للمجموع من الأحكام ما لا يثبت للفرد
وبالعكس فمجموع الإنسان إنسان وليس كل عضو منه إنسان وكذلك كل من الشمس والقمر والشجر والثمر وغير ذلك من الأجسام المجتمعة لها حكم ووصف لا يثبت لأجزائها والإنسان حي سميع بصير متكلم وليس كل واحد من أبعاضه كذلك فلم يجب إذا كان النوع والمجموع دائما باقيا أن يكون كل من أفراده دائما ؟
والأمور المقدارية والعددية كالكرات والدوائر والخطوط والمثلثات والمربعات والألوف والمئات كلها يثبت لأجزائها من الحكم ما لا يثبت لمجموعها وبالعكس فإذا وصف الشيء بأنه دائم أو طويل أو ممتد لم يلزم أن يكون كل واحد من أجزائه أو أفراده كذلك
قال تعالى في الجنة : { أكلها دائم وظلها } الرعد : 35 ومعلوم أن كل جزء من أجزاء الأكل والظل يفني وينقضي والجنس دائم لا يفنى ولا ينقضي ولا توصف الأجزاء بما وصف به الكل
قال تعالى : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } ص : 54 فأخبر عن الجنس أنه لا ينفد وأن كل واحد من أجزائه ينفد
ويقال للزمان والحركات في الأجسام : إنها طويلة ممتدة ولا يقال للصغير من أجزائها : إنه طويل ممتد فيكون الرب لم يزل ممتلكا إذا شاء أولم يزل فاعلا لما يشاء هو بمعنى كونه لم يزل متكلما فعالا وبمعنى دوام كلامه وفعاله لا يستلزم أن كل واحد من الأفعال دائم لم يزل
فإن قلتم : الحادث من حيث هو حادث يقتضي أنه مسبوق بغيره كما أن الممكن من حيث هو ممكن يقتضي الافتقار إلى غيره والمحدث هو من حيث هو محدث يقتضي الاحتياج إلى غيره فكما أن الممكنات - مفردها ومجموعها - يلزم أن تكون مفتقرة إلى الفاعل وكذلك المحدثات فكذلك الحوادث - مفردها ومجموعها - يقتضي أن تكون مسبوقة بالغير
وهذا من جنس قولهم : الحركة من حيث هي تقتضي كونها مسبوقة بالغير لأن أجزاءها متعاقبة لا مجتمعة
قال لكم منازعوكم : هذا لفظ مجمل مشتبه وعامة حججكم وحجج غيركم الباطلة مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة مع إلغاء الفارق ويأخذون اللفظ المجمل المشتبه من غير تمييز لأحد معنييه عن الآخر فبالاشتراك والاشتباه في الألفاظ والمعاني ضل كثير من الناس
وذلك أن قولهم : الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره أو الحركة - من حيث هي - تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير
يقال لكم : الحادث المطلق لاوجود له إلا في الذهن لا في الخارج وإنما في الخارج موجودات متعاقبة ليس مجتمعة في وقت واحد كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة والموجودات والمعدومات فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث فالحكم إما على كل فرد فرد وإما على كل جملة محصورة وإما على الجنس الدائم المتعاقب
فيقال لكم : أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقا بغيره أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقا ؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما وأما الثالث فيقال : أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدمه أم مسبوق بفاعله بمعنى أنه لا بد من محدث ؟ الثاني مسلم والأول محل النزاع
وكذلك في الحركة : إن قلتم : إن الحركة المعينة مسبوقة بأخرى أو بعدم فهذا لا نزاع فيه وإن قلتم : إن نوعها مسبوق بالعدم فهذا محل النزاع
وذلك أن معظم ما اعتمدوا عليه قولهم : الحركة من حيث هي حركة تتضمن المسبوقة بالغير فإن الحركة تحول من حال إلى حال فإحدى الحالتين سابقة للحال الأخرى فلا تعقل حركة إلا مع سبق البعض على البعض وكل ما كان مسبوقا بغيره لم يكن أزليا فالحركة يمتنع أن تكون أزلية فيقال لهم : قولكم : الحركة تستلزم المسبوقة بالغير سبق بعض أجزائها على بعض وهو المعنى الذي دللتم عليه ؟ أم تريدون أنها مسبوقة بالعدم أم مسبوقة بالفاعل ؟
أما الأول وهو الذي دللتم عليه فإنه يقتضي نقيض قولكم وهو يقتضي أن الحركة لم يزل نوعها موجودا لأن كل ما هو حركة مسبوق بما هو حركة وكل حال تحول إليه المتحرك فهو مسبوق بحال أخرى وتلك الحال مسبوقة بأخرى فكان ما ذكرتموه دليلا على حدوث الحركة كما أنه يدل عل حدوث أعيان الحركة وأجزائها فهو يدل على دوام نوعها وهو نقيض قولكم
فكان ما ذكرتموه حجة في محل النزاع إنما يدل على مواقع الإجماع وهو في محل النزاع حجة عليكم لا لكم وحينئذ فيقول المنازع : نحن نقول بموجب دليلكم وهو حجة عليكم وإن أردتم أن مسمى الحركة مسبوق بالعدم فلم تذكروا على هذا دليلا أصلا وهو مورد النزاع
وإن أردتم أنه مسبوق بالفاعل فهذا أيضا يراد به أن كل جزء منها مسبوق بالفاعل ويراد به أن جنسها سبقه الفاعل سبقا انفصاليا وإن لم يقيموا دليلا على هذا فكان ما ذهبتم إليه لم تقيموا دليلا عليه وما أقمتم عليه دليلا لا يدل على قولكم بل على نقيضه
ولذلك يقال لخصومهم الفلاسفة : أنتم لم تقيموا دليلا عل قدم شيء من العالم بل عامة ما أقمتموه من الأدلة يستلزم دوام الفاعلية وهذا يدل على نقيض قولكم فإنه يقتضي أنه لم يزل يفعل والمفعول لا يكون إلا ما حدث عن عدمه
وأما قدم شيء من العالم فلا دليل لكم عليه بل دليلكم يدل على نقيضه فإنه لو كان المفعول مقارنا للفاعل لزم ألا يحدث في العالم شيء والطائفتان جميعا أصل قولها الكلام في الحركة فهؤلاء يقولون : يمتنع أن تكون الحركة دائمة فلا بد أن يكون جنس الحركة حادثا عن غير سبب حادث
وهؤلاء يقولون بل جنس الحركة يمتنع أن يكون حادثا فيمتنع أن تحدث الحركة لا من حركة والزمان مقدار الحركة فيجب قدم نوعه ثم قالوا : ولا حركة فوق حركة الفلك ولا قبلها إلا مقدار هذه الحركة فتكون هذه الحركة وزمانها أزليين
فيقال لهم : من أين لكم أنه لا حركة قبل حركة الفلك ولا فوقها ؟ وهل هذا إلا قول بلا علم ونفي لما لم تعلموا نفيه وتكذيب لما لم تحيطوا بعلمه ولما يأتيكم تأويله ؟
ثم قولكم بأنه لا حركة إلا هذه الحركات مع أنه لا أول لها ولا آخر وهذا كذلك وهذا أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة
قالوا : فالجسم يمتنع أن يتحرك حركة لا تتناهى كما ذكر ذلك أرسطو لأن الجسم ينقسم فتكون حركة الجزء مثل حركة الكل لا تتناهى وهذا ممتنع : يمتنع أن يكون الجزء مثل الكل
قيل لهم : بل هذا الذي ذكره أرسطو وتلقيتموه بالقبول يدل على نقيض مقصوده ومقصودكم فإن الجسم إذا قامت به حركة فحركة مجموع الجسم أكبر من حركة بعضه في المكان وهذا غير ممتنع عند أحد من العقلاء فليس حركة الجزء مثل حركة الكل ولكن كلاهما لا يتناهى بعضه أكثر من بعض في الزمان وما لا يتناهى لا يكون شيء أكبر منه
فهذا يدل على فساد قولكم لأنكم تقولون : إن حركة المحيط أعظم من الحركة المختصة بفلك الشمس والقمر وغيرهما وكلاهما لا يتناهى فهذا الذي ذكرتموه في حركة الجسم الواحد يستلزم بطلان قولكم في حركة الجسمين وأما الجسم الواحد فإن قولكم فيه ينبني على أنه يتبعض وأن حركته متبعضة حتى يقال : إن بعضه يساوي كله في عدم النهاية وهذا ممتنع بل هي حركة واحدة لا أول لها ولا آخر ولا امتناع في ذلك
ويقال للمتكلمين : إن قلتم : إنه مسبوق بالمحرك بمعنى أنه لا بد للحركة من محرك فهذا أيضا مسلم لكن قولكم : إن المحرك لا يجوز أن يحرك شيئا حتى تكون الحركة ممتنعة عليه أولا ثم تصير ممكنة من غير تجدد شيء فتنقلب من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث سبب أصلا ولا يجوز أن يحدث شيئا حتى يحدثه بلا سبب حادث أصلا
هذا هو الذي ينازعكم فيه جمهور المسلمين وغيرهم ويقولون لكم : لم ينزل الله قادرا على الفعل والقدرة عليه مع امتناع المقدور جمع بين النقيضين فإن القدرة على الشيء تستلزم إمكانه فكل ما هو مقدور للرب تعالى فلا بد أن يكون ممكنا لا ممتنعا
ويقولون : إذا قلتم : لم يكن قادرا على الفعل ثم صار قادرا لأن الفعل لم يكن ممكنا ثم صار ممكنا فما الموجب لهذا التجدد والتغير ؟
فإن قلتم : حدث ذلك بلا سبب كان هذا أعجب من قولكم الأول إذا كان القادر بصير قادرا بعد أن لم يكن من غير تجدد شيء أوجب قدرته
وإن قلتم ما ذكره أبو الحسين : المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم فيمتنع وجوده في الأزل
قيل لكم : إن الفاعل لا يكون فاعلا حتى يحصل الشيء عن عدمه فلا يكون الفعل نفسه أو المفعول نفسه قديما لكن لم قلتم : إنه يشترط في الفعل المعين عدم غيره ؟ ولم قلتم : إنه لا يكون فاعلا لهذه السموات والأرض حتى لا يكون قبل ذلك فاعلا أصلا ولا يكون فاعلا حتى يكون جنس الفعل منه معدوما بل ممتنعا ؟ فهذا غير واجب في المعقول بل المعقول يعقل أنه حصل الشيء عن عدم
وإن كان قبل تحصيله حصل غيره عن عدم وهم قد يقولون : كان في الأول قادرا على الفعل فيما لم يزل وهذا كلام متناقض فإنه في حال كونه قادرا لم يكن الفعل ممكنا له عندهم
فحقيقة قولهم : كان قادرا حين لم يكن قادرا فإن القادر إنما يكون قادرا على ما يمكنه دون ما لا يمكنه فإذا كان الفعل في الأزل - وهو الفعل الدائم أي الذي يدوم جنسه - غير ممكن له مقدورا له فلا يكون قادرا عليه
وهذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء المتكلمين وكان هذا من أسباب لعنة بعضهم على المنابر
ويقال لهم : مقصودكم الأول نصر الإسلام والرد على مخالفيه وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عن أحد من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان هذا القول الذي أحدثتموه وجعلتموه أصل دين المسلمين ليس فيه أن الرب لم يزل لا يفعل شيئا
ولا يتكلم بشيء ولا يمكنه ذلك ثم إنه بعد تقدير أزمنة لا نهاية لها فعل وتكلم وإنه
صار ممكنا من الفعل والكلام بعد أن لم يكن متمكنا بل القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين يناقض ما ذكرتموه فكان ما ابتدعتموه من الكلام الذي ادعيتم أنه أصل الدين مخالفا للسمع والعقل ثم إنه صار من تقلدكم ينقل عن المسلمين واليهود والنصارى أن هذا قولهم
ولا يعرف هذا القول عن أحد من الأنبياء ولا أصحابهم بل المعروف عنهم يناقض ذلك ولكن الثابت عند الأنبياء أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن خلاف قول الفلاسفة الذين يقولون : إن الأفلاك أو العقول أو النفوس أو شيئا غير ذلك مما سوى الله قديم أزلي لم يزل ولا يزل
ويقال : قول القائل : الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم أتريد به الفاعل للشيء المشار إليه أنه لا يكون فاعلا له إلا إذا حصله عن عدم ؟ أم تريد به أنه لا يكون الفاعل في نفسه فاعلا لشيء حتى تكون فاعليته ممتنعة ثم صارت ممكنة ؟
أما الأول فمسلم والثاني ممنوع وسبب ذلك الفرق بين الفعل ونوعه فإذا لم يعقل فاعل لمعنى إلا بعد عدمه لم يلزم ألا يعقل كون الفاعل فاعلا إلا بعد أن لم يكن فاعلا بل العقل لا يعقل حدوث فاعلية بلا سبب


تابع كلام أبي الحسين البصري
قال أبو الحسين البصري : فإذا ثبت حدوث العالم فالدلالة على أن له محدثا هي أنه لا يخلو أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذا كان حدوثه واجبا في نفسه وإن حدث مع جواز ألا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه ويستدل على أنه عالم قادر فصح قولنا
قال : واستدل شيوخنا على أن الأجسام تحتاج إلى محدث بأن تصرفنا يحتاج إلى محدث لأجل أنه محدث فحدوث كل محدث يحوجه إلى محدث فإذا كانت الأجسام محدثة احتاجت إلى محدث والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث 0 وإن كرهناه أو كنا ممنوعين منه فلما وقع بحسب قصدنا وانتفى بحسب كراهتنا علمنا أنه محتاج إلينا 0
قال : والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه أنه إما أن يحتاج إلينا لحدوثه أو لبقائه أو لعدمه احتاج إلينا لبقائه لوجب ألا يبقى البناء إذا مات الباني 0 ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه لأن تصرفنا كان معدوما قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين 0 فصح أنه يحتاج إلينا ليحدث ولإن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه 0 فعلمنا أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه


تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا أصل أصول القوم الذي بنوا عليه دينهم الصحيح والفاسد فإن الإقرار بوجود الصانع تعالى وأنه حي عالم قادر ونبوة نبيه صلى الله عليه و سلم حق لا ريب فيه وأما نفيهم صفات الرب تعالى ودعواهم أنه لم يتكلم بكلام قائم به ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ونحو ذلك فهو من دينهم الفاسد
وهذه الطريقة هي التي سلكها ابن عقيل إذا مال إلى شيء من أقوال المعتزلة فإنه كان قد أخذ عن أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري ولهذا يوجد في كلامه نصر كلامهم تارة وإبطاله أخرى فإنه كان ذكيا كثير الكلام والتصنيف فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله كما يوجد لأبي حامد والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم
وابن الجوزي يقتدي به فيما يدخل فيه من الكلام مثل كلامه في منهاج الأصول وفي كف التشبيه ونحو ذلك
ولهذا يوجد في كلام هؤلاء من نفي الصفات الخبرية ومنعهم أن تسمى الآيات والأحاديث آيات الصفات وأحاديث الصفات بل آيات الإضافات ونصوص الإضافات ونحو ذلك من الكلام الموافق لأقوال المعتزلة ما يبين به أن الأشعري وأئمة أصحابه من المثبتين للصفات الخبرية ونحو ذلك أقرب إلى السنة والسلف والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره من كلام هؤلاء الذي مالوا في هذا إلى طريقة المعتزلة
وهذه الطريقة التي سلكها أبو الحسين في إثبات أن المحدث لا بد له من حادث هي طريقة أبي المعالي وابن عقيل في كثير من كلامهم وغيرهم
والقاضي أبو بكر يذكر ما يشبهها في الأصلين من استدلاله على افتقار المحدث إلى محدث بالتخصيص والاستدلال على ذلك بالقياس
والأشعري أحسن استدلالا منه مع أنهم كلهم سلكوا سبيل المعتزلة في هذا الأصل وسلموا كلامهم وهي طريقة أثبتوا فيها الجلي بالخفي وأرادوا بها إيضاح الواضح كمن يقرر القضايا البديهية بقضايا نظرية يسندها إلى قضايا أخرى بديهية وذلك العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين في العقل من العلم بأن ما جاز حدوثه لم يكن بالحدوث أولى من ألا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه وبأن ما وجب حدوثه وجب في كل حال
فإن هذه القضايا وإن كانت حقا وهي ضرورية فالعلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين منها والعقل يضطر إلى التصديق بهذه أعظم مما يضطر إلى التصديق بتلك وتصور طرفي هذه القضية أبده في العقل من تصور تلك ولا تعرض هذه القضية وتلك على سليم الفطرة إلا صدق بهذه قبل تلك
وهذا كقول أبي المعالي ومن وافقه على طريقة إذا أثبت حدوث العالم : فالحادث جائز وجوده وكل وقت صادفه كان من المجوزات تقدمه عليه بأوقات ومن الممكنات استئخار وجوده عن وقته بساعات فإذا وقع الوجود الجائز بدلا عن استمرار العدم المجوز قضت العقول ببداهتها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع وذلك - أرشدك الله - مستبين على ضرورة لا حاجة فيه إلى سبر الغير والتمسك فيه بسبيل النظر
ثم إذا وضح اقتضاء الحادث مخصصا على الجملة فلا يخلو ذلك المخصص من أن يكون موجبا وقوع الحدوث بمنزلة العلة الموجبة معلولها وإما أن تكون طبيعة كما صار إليه الطبائعيون وباطلا أن يكون جاريا مجرى العلل فإن العلة توجب معلولها على الاقتران فلو قدر المخصص علة لم يخل من أن تكون قديمة أو حادثة فإن كانت قديمة فيجب أن يجب وجود العالم أزلا وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم وقد أقمنا الدلالة على حدثه وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص ثم يتسلسل القول في مقتضى المقتضي
ومن زعم أن المخصص طبيعة فقد أحال فيما قال فإن الطبيعة عند مثبتها توجب أثرها إذا ارتفعت الموانع فإن كانت الطبيعة قديمة فلتقتض قدم العالم وإن كانت حادثة فلتكن مفتقرة إلى مخصص
قال : وإذا بطل أن يكون مخصص العالم علة أو طبيعة موجبة بنفسها لا على اختيار فتعين بعد ذلك القطع بأن مخصص الحوادث فاعل لها على الاختيار مخصص إيقاعها ببعض الصفات والأوقات قلت : فهذه الطريقة هي من جنس طريقة أبي الحسين كما ترى وهي من جنس طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم ومعلوم لكل ذي فطرة سليمة أن العلم بأن الحادث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن التخصص لا بد له من مخصص فإنه ليس التخصص إلا نوعا من الحوادث فإنهم لا يريدون بذلك أن كل تخصيص سواء كان محدثا أو قديما لا بد له من مخصص فاعل له على الاختيار فإن القديم يمتنع عندهم أن يكون له فاعل فلم يبق إلا التخصص الحادث فيكون المعنى أن كل تخصيص حادث لا بد له من مخصص فاعل مختار
والتخصص الحادث إما أن يكون مساويا للحادث في العموم والخصوص أو يكون أخص منه فإن كان مساويا له كان هذا بمنزلة أن يقال : المفعول الحادث والمتجدد الحادث وما أشبه ذلك وإن كان أخص منه كان استدلالا على أن كل محدث لا بد له من محدث لأن هذا النوع من الحادث لا بد له من محدث
ثم إن هذا النوع هو المطلوب إثباته بالدليل فيكون استدلالا على هذا النوع بالجنس ثم استدلالا على الجنس بذلك النوع فيكون استدلالا بالشيء على نفسه
لكن يقال من جهتهم : التخصص وإن كان مساويا للحدوث في العموم والخصوص فجهة كونه تخصيصا غير جهة كونه حدوثا وهم استدلوا بما فيه من التخصيص وإن كان مشروطا بالحدوث على أنه لا بد له من مخصص
فيقال : هذا صحيح لكن عليه سؤالان : أحدهما أن جهة كونه حدوثا أدل على المحدث من جهة دلالة كونه مخصصا على المخصص فإنه لو قال لهم قائل : لا نسلم أن التخصص لا بد له من مخصص لم يكن لهم جواب إلا ما هو دون جوابهم لمن قال : لا نسلم أن المحدث لا بد له من محدث
وإذا كان قد قال : إن ما جاز تقدمه وتأخره فإذا وقع وجوده بدلا عن عدمه قضت العقول ببدائهها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع فلأن يقال : ما حدث بعد أن لم يكن فإن العقول تقضي ببدائهها بافتقاره إلى محدث أحدثه أولى وأحرى فإن العلم بافتقاره المحدث إلى محدث أبين من العلم بافتقار المخصص إلى المخصص وافتقار ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إلى مرجح
السؤال الثاني : أن يقال لهؤلاء كلهم ك أبي الحسين ومن وافقه : هذه المقدمة التي بنيتم عليها إثبات الصانع تعالى تناقضهم فيها فإن حاصلها أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
فإن هؤلاء يقولون : إذا حدث مع جواز أن يحدث وأن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يكون والآخرون يقولون إذا تخصص بوقت دون وقت مع تشابه الأوقات أو بقدر دون قدر لم يكن تخصيصه بأحدهما أولى من الآخر إلا بمخصص والأول ينبني على أنه قد استوى بالنسبة إلى ذاته الحدوث وعدمه فيفتقر إلى مرجح للحدوث والثاني ينبني على أن الأزمنة والمقادير والصفات مستوية فلا بد من مخصص يخصص أحدهما بالوقوع فيه وكل هذا مبني على أن الأمرين المتساويين في الإمكان لا يترجح أحدهما إلا بمرجح وهذا حق في نفسه لكنهم نقضوه حيث قالوا : إن هذه المحدثات والتخصيصات تقع بلا سبب يقتضي حدوثها ولا اختصاصها
فإنهم وإن أثبتوا فاعلا لكن يقولون : إن نسبة قدرته وإرادته إلى جميع الممكنات سواء وأنه حدثت الحوادث بلا سبب حادث أصلا بل حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ومعلوم أن هذا تصريح برجحان الممكن بلا مرجح تام
وهؤلاء يقولون : القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وهذا هو أصل قول القدرية وهو أصل قول الجهمية الجبرية القدرية أخرجوا به أفعال الحيوان أن تكون مخلوقة لله وقالوا : إن العبد قادر مختار فترجح الفعل على الترك بال مرجح
وقالوا : إن ما أنعم الله به على أهل الإيمان والطاعة مما يؤمنون به ويطيعون هو مثل ما أنعم به على أهل الكفر والمعصية فإن أرسل الرسل إلى الصنفين وأقدر الصنفين وأزاح علل الصنفين وفعل كل ما يمكن من اللطف الذي يؤمن عنده الصنفان بمنزلة من أعطى أبنيه مالا بالسوية ثم قالوا : إن المؤمن فعل الطاعة من غير نعمة خصه الله بها تعينه على الإيمان والكافر فعل الكفر من غير سبب من الله وهذا القول مخالف للشرع والعقل فإن الله بين ما خص به المؤمنين من نعمة الإيمان في غير موضع كقوله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }
والقدرية يقولون : إن هذا خطاب لجميع الخلق وليس الأمر كذلك بل هو خطاب للمؤمنين كما قال : { أولئك هم الراشدون } وكما قال قبل ذلك : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم }
فهذا خطاب للمؤمنين لا لجميع الناس
وأيضا فإن العبد إذا كان قادرا على الطاعة والمعصية فلو لم يحدث سبب يوجب وقوع أحدهما دون الآخر للزم الترجيح بلا مرجح وذلك السبب إن كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل فلا بد أن يكون السبب الحادث الموجب للترجيح من غير العبد والسبب الذي به وقعت الطاعة نعمة من الله خص بها عبده المؤمن
ثم إن القدرية من المعتزلة وغيرهم بنوا على هذا أن الرب لم يكن يتكلم ولا يفعل ثم خلق الكلام والمفعولات بغير سبب اقتضى الترجيح وأما المثبتون للقدر من الجهمية ونحوهم فخالفوهم في فعل العبد وقالوا إنه لا يترجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بمرجح ووافقوهم في فعل الله
ولهذا يوجد كلام الرازي - ونحوه من هؤلاء - متناقضا في هذا الأصل فإذا ناظروا القدرية استدلوا على أن القادر لا يرجح مقدورا إلا بمرجح وإذا أرادوا إثبات حدوث العالم وردوا على الدهرية بنوا ذلك على أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وقالوا : إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار ولا يصح من العلة الموجبة وادعوا الفرق بين الموجب بالذات وبين الفاعل بالإختيار في هذا الترجيح
وهذا حقيقة قول القدرية لكن جهم نفسه نفى كون العبد قادرا ونفى أن يكون له قدرة على فعل وحينئذ إذا قال : إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح لم ينتقض قوله بناء على أصله الفاسد
و الأشعري وغيره ممن يقول : إن العبد كاسب وله قدرة ويقولون : ليس بفاعل حقيقة ولا لقدرته تأثير في المقدور إن حصل فرق معنوي بين قولهم وقول جهم احتاجوا الى الفرق بين فعل الرب وفعل العبد وإلا كانوا مثل جهم
وأما جمهور المثبتين للقدر الذين يقولون : للعبد قدرة وفعل وهذا قول السلف والأئمة فعندهم أن العبد فاعل قادر مختار وهو لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا لمرجح
و الرازي يميل إلى قول هؤلاء ويثبت للعبد قدرة وداعيا وأن مجموعهما يستلزم وجود الفعل
فهؤلاء الطوائف من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث والفقه وغيرهم وإن خالفوا المعتزلة بقدر فهم يشاركونهم في الأصل الذي بنى أولئك قولهم في القدر عليه وهم يناظرون الفلاسفة القائلين بالموجب بالذات وأهل الطبع القائلين بأن فاعل العالم علة تامة أزلية تستلزم معلولها
وهذا القول أشد فسادا فإن حقيقة القول هؤلاء أنه ليس لحوادث العالم محدث كما أن حقيقة قول القدرية أنه ليس لفعل الحيوان محدث فما قاله القدرية في فعل الحيوان قاله هؤلاء في جميع حوادث العالم لأن العلة التامة المستلزمة لمعلولها لا يصدر عنها حادث لا بوسط ولا بغير وسط
فهؤلاء شبهوا فعله بفعل الجمادات مع تناقضهم وتقصيرهم في ما جعلوه فعل الجمادات والقدرية شبهوا فعله بفعل الحيوانات مع تناقضهم وتقصيرهم فيما جعلوه فعل الحيوانات ثم المثبتين للقدر من الكلابية وغيرهم يخالفون المعتزلة في إثبات القدر وفي بعض مسائل الصفات ويجعلون المخصص هو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع المرادات سواء وقالوا : إن من شأن الإرادة أن تخصص أحد المثلين عن الآخر بلا سبب ولهذا بنوا أصولهم على أن التخصيص بأحد الوقتين لا بد له من مخصص
ثم كلام أبي الحسين وأمثاله أحذق من كلام هؤلاء من وجه وأنقص من وجه فإنه من حيث جعل نفس وجود الحدوث بدلا عن العدم مع جواز أن لا يحدث دليلا على المقتضي لحدوثه كلامه أرجح من كلام من جعل الدليل هو التخصيص بوقت دون وقت فإن نفس الحدوث فيه من التخصيص ما يستغنى به عن نسبة الحادث إلى الأوقات
وأما كونه أنقص فإنه متناقص من وجه آخر وذلك أنه قال : لو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذا كان حدوثه واجبا فإنه بعد أن يتجاوز عن أن نفس الحدوث يستلزم المحدث ولو قدر واجبا يقال له : إذا قدرت الحدوث واجبا فلم لا يجوز أن يكون حدوثه في حال أولى منه في حال أخرى ويكون واجبا في تلك الحال دون غيرها ؟
فإن قال : لأن الأحوال مستوية
قيل له : الأحوال مستوية سواء قدر أن الحدوث واجب أو جائز فلا بد من مخصص سواء قدر الحدوث واجبا أو جائزا
وإن قال : إن الواجب لا يختص بحال دون حال خلاف الجائز
قيل : هذا حق فيما وجب بنفسه لكن ليس العلم به بأبين من العلم يكون الحادث لا يحدث بنفسه بل يحتاج ذلك إلى مزيد بيان وإيضاح أكثر من هذا لأنه قد تقدم تقريره بأن القديم واجب الوجود في كل حال فإنه موجود في الأزل فلا يجوز أن يكون وجوده على طريق الجواز ولا بالفعل فتعيين أن يكون واجبا ولم يقرر أن الواجب لا يختص بوقت دون وقت
فإن قال : هذا بين معروف بنفسه معلوم بالضرورة
قيل له : إذا عرضنا على عقول العقلاء : أن الواجب : هل يكون واجبا في وقت دون وقت ؟ وأن الحادث : هل يحدث بنفسه كان ردهم لهذا الثاني أعظم من ردهم لذاك فلا يقرر الأبين بالأخفى
وأيضا فهذا أرجح من ذاك من وجه آخر وذلك أن الفلاسفة الدهرية الإلهين من المتأخرين ك ابن سينا وغيره يقولون : إن الواجب قد يكون قديما وهو واجب بغيره فالواجب بغيره عندهم قد لا يكون محدثا مع كونه مفتقرا إلى مخصص موجب فإذا عرف افتقاره إلى موجب لم يلزم على قولهم أن يكون له محدثا ولم يقل أحد من هؤلاء : إن المحدث يكون بغير محدث ومن قال هذا فإنه لا ينكر افتقار المخصص إلى مخصص فحينئذ فمن أقر بالمحدث أقر بالمخصص من غير عكس وما دل على المحدث دل على المخصص بالاتفاق وفي العكس نزاع
وأيضا فلو نازعه منازع في أن ما وجب حدوثه يجوز أن يحدث في وقت دون وقت وقال : هذا كما تقول أنت : إن القادر يخصه بوقت دون وقت لاحتاج إلى جواب
فإن قال : القادر له أن يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح كالجائع والهارب
قال له المعترض : فهذا الترجيح واجب أو جائز ؟
فإن قال : واجب
قال : فلم اختص بوقت دون وقت ؟
وإن قال : جائز
قال : فحدوثه مع جواز أن لا يحدث يفتقر إلى ترجيح آخر وإلا لم يكن بالحدوث أولى
وإن قال : العلم بأن الواجب بنفسه لا يختص بزمان دون زمان ضروري
قال المعترض : والعلم بأن الحادث لا بد له من محدث علم ضروري
فإن زعم أن هذا ليس بضروري بل نظري أمكن المعترض أن يقابله ويقول : العلم بأن الواجب لا يختص نظري لا ضروري
والمقصود هنا التنبيه على أصول هؤلاء التي هي عمدتهم وعليها بنوا دينهم الحق وما أدخلوا فيه من البدع وأن ذلك إما أن يكون باطلا وإما أن يكون حقا طولوه بما لا ينفع بل قد يضر واستدلوا على الجلي بالخفي بمنزلة من يحد الشيء بما هو أخفى منه
وإذا كانت الحدود والأدلة إنما يراد بها البيان والتعريف والدلالة والإرشاد فإذا كان المعروف المعلوم في الفطرة ويجعل خفيا يستدل عليه بما هو أخفى منه أو يدفع ويذكر ما هو نقيضه ومخالفه وكانت هذه طرق السلف والأئمة التي دل عليها الكتاب والسنة وهي الطرق الفطرية العقلية اليقينية الموافقة للنصوص الإلهية - تبين أن من عارض تلك الطرق الشرعية - معقولها ومنقولها - بمثل هذه الطرق البدعية بل عدل عنها إليها كان في ضلال مبين كما هو الواقع في الوجود والله يقول الحق وهو يهدي السبيل : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
وأما طريق شيوخ المعتزلة التي ذكرها أبو الحسين وعدل عنها فهي أبعد وأطول والأسولة عليها أكثر كما لا يخفى ذلك مع أن هذه الطرق لم تتضمن كذبا ولا باطلا من جهة أنها إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه أو من جهة أنها قضايا كاذبة بل من جهة الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه بخلاف كلامهم في الترجيح بل مرجح والحدوث بلا سبب وإبطال دوام الحوادث فإن منازعيهم يقولون : كلامهم في ذلك من نوع الكذب الباطل وإن لم يعتمدوا الكذب كسائر المقالات الباطلة
وهاتان الطريقتان اللتان ذكرهما أبو الحسين عنه وعن شيوخه هما اللتان اعتمد عليهما كثير من المثبتين للصفات الذين استدلوا بطريقة الأعراض والحركات على حدوث الأجسام كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في المعتمد ) وغيرهما فإنهم سلكوا هذه الطريق فأثبتوا وجودها وأن الأجسام لا تخلو عنها وأنها لا تبقى زمانين وأنها محدثة وأن ما لا يخلو منها فهو محدث لأن الحوادث لها أول وأبطلوا وجود ما لا يتناهى مطلقا وذكروا النزاع في ذلك مع معمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم وأثبتوا ذلك بنظير ما تقدم من الحجيج وقالوا : إن ما لا ينفك عن الحوادث فهو محدث وقالوا : إذا ثبت أن ذلك محدث فلا بد له من محدث أحداثه وصانع صنعه خلافا للملحدة في نفي الصانع
قالوا : والدلالة عليه أن المحدث لو لم يتعلق بمحدث لم تتعلق الكتابة بكتاب ولا الضرب بضارب لأن ذلك كله يتعذر إذا استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها فلو جاز وجود محدث لا محدث له لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال
وهؤلاء يقولون : المحدث عين الإحداث فحقيقة قولهم وجود محدث لا إحداث له وقد جعلوا هنا نفي هذا مقدمة معلومة يحتج بها
قالوا : وأيضا فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها بعضا ويتأخر بعضها عن بعض ولولا أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا وما تأخر أولى من أن يكون متقدما فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر ثم لا يخلو ذلك الأمر من أن يكون نفس الحادثات أو معنى فيه أو نفسه ولا معنى فيه أو لجاعل جعله فيستحيل أن يكون ذلك لنفسه لأن نفسه هو وجوده والشيء لا يجوز أن يفعل نفسه ولا يجوز أن يكون لذلك المعنى لأن ذلك المعنى لا بد أن يكون موجودا إذ المعدوم ليس له تأثير في ذلك وإذا كان موجودا فلا يخلو من أن يكون قديما أو محدثا فلا يجوز أن يكون قديما لأنه لو كان قديما لوجب قدم الجسم المحدث وذلك باطل وإن كان محدثا فلا بد أن يكون متقدما أو متأخرا فإن كان كذلك مع جواز أن لا يكون متقدما لقدم موجبه فلا يكون كذلك إلا لمعنى آخر وذلك المعنى لمعنى آخر إلى غير نهاية
ولا يجوز أن يكون كذلك : لا لنفسه ولا لمعنى ولا لأمر لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يكون بالوجود في وقت أولى من عدمه وبقائه على عدمه ولما علو أن اختصاصه بالوجود أولى من عدمه بطل أن يكون إلا لأمر وإذا بطلت هذه الأقسام علم أن هذه الحوادث إنما اختصت في الوجود في أوقات معينة لجاعل جعله وأراد تقديم أحدهما على الآخر وتأخر بعضها عن بعض فثبت ما قلناه
فهذا الذي ذكره القاضي أبو يعلى ومن سلك هذه الطريقة كأبي محمد بن اللبان وقبلهما القاضي أبو بكر وغيرهم : هي من جنس ما تقدم
وهؤلاء غالبهم إذا ذكروا طريقتهم في حدوث الأجسام بأن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ذكروا ذلك مسلما كأنه بين وإذا ذكروا مع ذلك أن الحوادث يجب تناهيها وجعلوا ذلك بمنزلة المسلم أو المقدمة الضرورية تسوية بين النوع وأشخاصه فيقولون مثلا إذا أثبتوا حدوث الأعراض وأن الجسم مستلزم لها : الحوادث لها أول أبتدئت منه خلافا لابن الراوندي وغيره من الملحدة
والدلالة على ذلك علمنا بأن معنى المحدث أنه الموجود عن عدم ومعنى الحوادث أنها موجودة عن عدم فلو كان فيها ما لا أول له لوجب أن يكون قديما وذلك فاسد لما بينا من إقامة الدلالة على حدوثها
والجمع بين قولنا : حوادث وأنه لا أول لها مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى وذلك باطل
ثم يقولون : وإذا ثبت ما ذكرنا من ثبوت الأعراض وحدوثها وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها وجب أن تكون محدثة كهي لأن الجواهر لا تخلو من أن تكون موجودة معها أو بعدها أو قبلها فإذا بطل أن تكون الجواهر موجودة قبل الأعراض وبطل أن توجد بعدها وجب أن تكون موجودة معها وثبت حدوثها كحدوث الأعراض فهذا الذي يقوله هؤلاء كالقاضيين ومن وافقهما على ذلك وهذا لفظ القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ونحوهما
والمعترض على ذلك يقول إن موضع المنع لم يقيموا عليه حجة وإنما قالوا : معنى الحوادث أنها موجودة عن عدم فلو كان فيها ما هو لا أول له لوجب أن يكون قديما وهم لا يقولون فيها ما لا أول له بل كل حادث له أول عندهم وإنما يقولون : إن جنسها لا أول له بمعنى أنه لم يزل كل حادث قبله حادث وبعده حادث
وحينئذ فيقولون : إنه لا مناقضة بين قولنا : حوادث وقولنا : لا أول لها لأن معنى قولنا : حوادث أن كل واحد واحد منها حادث منها حادث بعد أن لم يكن ليس معناه أن جنسها حادث
والذي لا أول له هو الجنس عندهم لا كل واحد واحد فالذي أثبتوا له الحدوث هو كل واحد واحد من الأعيان وتلك لم يثبتوا لشيء منها قدما ولا قالوا : لا أول لشيء منها والذي قالوا : لا أول له بل هو قديم هو النوع المتعاقب وذلك لم يقولوا : إنه حادث
ثم إن هؤلاء أيضا بعد ذلك يقررون ما يدقونه من امتناع حوادث لا أول لها في ضمن دعواهم امتناع وجود ما لا يتناهى فيقعدون قاعدة فبقولون : لا يجوز وجود موجودات لا نهاية لعددها سواء كانت قديمة أو محدثة خلافا لمعمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم من الملحدة في قولهم : يجوز وجود ذوات محدثة لا نهاية لها وخلافا للفلاسفة في قولهم : يجوز وجود جواهر قديمة لا غاية لها 0
ثم يقولون : والدليل على ذلك أن كل جملة من الجمل لو ضممنا إليها خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها زادت أو نقصت منه خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها قد نقصت
وإذا كان هذا كذلك وجب أن تكون متناهية لجواز قبول الزيادة والنقصان استحال أن تكون متناهية وإذا كان كذلك استحال وجود موجودات غير متناهية قديمة كانت أو محدثة
وليس لأحد أن يقول يلزمكم على هذا أن تقولوا : إن معلومات الباري عز و جل أكثر من مقدوراته لأن جميع مقدوراته معلومة وله معلومات لا يصح أن تكون مقدورة وهي ذاته تعالى وسائر صفاته وسائر الباقيات والمحالات التي لا يصح وجودها لأن مقدورات الباري ومعلوماته على ضربين : موجودات ومعدومات فالموجودات من المقدورات والمعومات كلها متناهية والمعدومات منها غير متناهية ولا يصح فيها الزيادة والنقصان وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما قالوه فهذا الذي يذكره مثل هؤلاء كالقاضيين وابن اللبان أو غيرهم
وهذه الطريق هي طريق التطبيق ومبناها على أن ما لا يتناهى لا يتفاضل وعليها من الكلام والاعتراض ما قد ذكر في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على طرق الناس في الأصول التي يقول القائل : إنها تستلزم ما يخالف النصوص


كلام الجويني في الإرشاد عن امتناع حوادث لا أول لها
ومنهم من يسلك في دعوى امتناع دوام الحوادث مسلك الضرورة كما سلكه طوائف منهم أبو المعالي في إرشاده الذي جعله إرشادا إلى قواطع الأدلة وجعل أصل الأصول الذي بنى عليه جميع ما يذكره من أصول الدين التي بها كفر أو بدع من خالفه هو دليل الأعراض المذكور وسلك فيه مسلك من تقدمه من أهل الكلام السالكين طريق المعتزلة في تقرير ذلك وهو مبني على أربعة أركان : إثبات الأعراض ثم إثبات حدوثها ثم إثبات لزومها للجسم
قال والأصل الرابع يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها
قال : والاعتناء بهذا الركن حتم فإن إثبات العرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة فأصل مقالتهم أن العالم لم يزل على ما هو عليه فلم تزل دورة الفلك قبل جورة إلى غير أول ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب كذلك إلى غير مفتتح فكل ولد مسبوق بوالد وكل زرع مسبوق ببذر وكل بيضة مسبوقة بدجاجة فنقول : موجب أصلكم يقضي بوجود حوادث لا نهاية لأعدادها ولا غاية لآحادها على التعاقب في الوجود وذلك معلوم بطلانه بأوائل العقول فإنا نفرض القول في الدورة التي نحن فيها ونقول من أصل الملحدة أنه انقضى قبل الدورة التي نحن فيها دورات لا نهاية لها وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإذا تصرمت الدورات التي قبل هذه الدورة أذن انقضاؤها بتناهيها وهذا القدر كاف في غرضنا
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذه الحجة هي التي تقدم ذكر اعتراض كثير من النظار عليها حتى أتباع أبي المعالي كالرازي والآمدي والأرموي وغيرهم وهم ينازعونه في قوله : إن بطلان ذلك معلوم بأوائل العقول ويقولون : قد جوز ذلك طوائف متنوعة من العقلاء الذين لم يتلقه بعضهم عن بعض من أهل الملل : المسلمين واليهود والنصارى ومن الفلاسفة الأولين والآخرين وغيرهم بل قد يقولون : إن هذا قول الأنبياء وأتباعهم وفضلاء الطوائف لا يريدون أن قدم العالم هو قول الأنبياء بل يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء لكن يقولون : ما زال الله تعالى متكلما تكلم بما شاء أو ما زال فاعلا يفعل بنفسه ما شاء أو ما زال يفعل الحوادث شيئا بعد شيء أو نحو ذلك من المقالات التي يقولون : إنها موافقة لقول الأنبياء صلوات الله عليهم وأن أقوال الأنبياء لا تتم إلا بها
وأما قدم الأفلاك ودوامها فهو قول طائفة قليلة كأرسطو وأتباعه وقد نقل أرباب المقالات أنه أول من قال بقدم ذلك من الفلاسفة وأن الفلاسفة المتقدمين كانوا على خلاف قوله في ذلك وقول أرسطو هذا وأتباعه هو من أقوال الملاحدة المخالفين للرسل فإن الأقوال التي تخالف ما علم من نصوص الأنبياء هي من أقوال الملاحدة ومن عارض نصوص الأنبياء بعقله كان من الملاحدة
وما الأقوال التي قالها الرسل أو قالت ما يستلزمها ولم تقل نقيض ذلك فهذه لا تضاف إلى الملاحدة بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء ولم يوافقه عليه الأنبياء كان أقرب إلى أقوال أهل الإلحاد ولكن قد تشتبه على كثير من النظار فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلا عقليا ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس لا القول من أقوال الأنبياء بل قد يكون مناقضا لها ولا الدليل دليلا صحيحا في العقل بل فاسدا فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء وما فطر الله عليه العقلاء فمن خالف هذين كان مخالفا للشرع والعقل كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال
والمقصود هنا أن المعترضين على ما ذكر في تناهي الحوادث يقولون : لم يذكر على وجوب تناهيها دليلا فإن عمدته قوله : ما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإذا تصرمت الحوادث أذن انقضاؤها بتناهيها
وهم يقولون لفظ الانتهاء لفظ مجمل : أتريد به الانتهاء بمعنى أنه لا أول لها ؟ أو الانتهاء بمعنى انقضاء ما مضى ؟
أما الانتهاء بالمعنى الثاني فإنهم لا ينازعون فيه بل يسلمون أن ما انتهى فقد انتهى لكن لا يسلمون أن الحوادث انتهت بل يقولون : لم تزل ولا تزال فإن الانتهاء انقطاعها وانصرامها ونفادها وهي لم تنفد ولم تنقطع
وإن قيل : الماضي قد وجد بخلاف المستقبل
قيل : وجود ما وجد مع دوامها لا يوجب انتهاؤه
فإن قيل : فنحن نقدر أنها انتهت وفرغت
قيل : إذا قدر تناهيها لزم تناهيها على هذا التقدير وقيل : إن أريد بتناهيها أن ما مضى هو محدود بالحد الفاصل بين الماضي والمستقبل وهذا انتهاء
قيل : هب أن هذا يسمى انتهاء لكن على هذا التقدير فهي منتهية من هذا الطرف الذي انتهت إليه لا من الطرف الأول الذي لا ابتداء له
وعلى هذا فهؤلاء لا ينازعون في الانتهاء بهذا المعنى بل يقولون : كل ما مضى من الحوادث فقد انتهى وانقضى وانصرم وفرغ
وهذا هو الذي نفاه الله عن كلماته وعن نعيم أهل الجنة كما قال تعالى : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } [ ص : 54 ]
وقال : { أكلها دائم وظلها } [ الرعد : 35 ] وقال : { لا مقطوعة ولا ممنوعة } [ الواقعة : 33 ]
وقال : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } [ الكهف : 109 ]
وأما عدم الانتهاء بمعنى أنه لا ابتداء لها فلم يذكر دليلا على امتناعه فإن القائل إذا قال : ما انتفت عنه النهاية بمعنى أنه لا ابتداء له يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإن الحوادث إذا انصرمت أذن انقضاؤها بتناهيها
قيل له : انقضاؤها يؤذن بتناهيها من آخرها فالانتهاء والانصرام هنا معناهما واحد فكأن القائل قال : إذا انتهت فقد انتهت وإذا انصرمت فقد انصرمت
وأما كون الانقضاء والانتهاء من الآخر يؤذن بأن لها مبدأ كان بعد أن لم يكن فليس في الانتهاء ما يؤذن بحدوث الابتداء بل هذا هو رأس المسألة وليس الاطراد بالانتهاء هنا انقطاعها بالكلية حتى لا يوجد شيء منها بل المراد انتهاء ما مضى منها فإن ما انقطع بالكلية فعدم جنسه يمكن أن يقال إن له مبتدأ ولو كان قديم الجنس لم يعد فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه سواء كان شخصا أو نوعا
وأما إذا أريد بالانتهاء انتهاء ما مضى مع دوام النوع في المستقبل فليس في هذا الانتهاء ما يستلزم أن يكون أوله محدودا
ومن المعلوم أن العقل إذا قدر حوادث متوالية لم تزل ولا تزال كان يعلم أن كل واحد منها قد انصرم وانصرم ما قبله مع أنه قد قدر دوام هذا النوع كما يعلم أن كل واحد منها له أول مع تقديره أنه لا أول لها فعلم أن هذا التقدير ينافي انصرام ما انصرم ولا حدوث ما حدث وإذا لم يتناف هذا وهذا لم يكن ثبوت أحدهما دليلا على انتفاء الآخر فعلم أن ما ذكروه لا ينافي جواز دوام الحدوث
وقد عارضهم المعترضون بالحوادث المستقبلة وأوردوا سؤالهم
قالوا : فإن قيل : مقام أهل الجنان فيها مؤبد مسرمد فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها
قلنا : المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التوالي وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى : ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض وليس في حقيقة الحادث أن يكون له آخر
وقد أجاب المعترضون عن هذا الكلام بأن ما مضى دخل في الوجود ثم خرج فليس هو الساعة داخلا في الوجود وما يستقبل سيدخل في الوجود ثم يخرج فكلاهما في الحال ليس بداخل في الوجود وكلاهما لا بد من دخوله في الوجود وخروجه منه فقد استوى هذا وهذا في الدخول والخروج وفي العدم الآن لكن دخول هذا وخروجه ماض ودخول هذا وخروجه مستقبل وليس في هذا الفرق ما يمنع اشتراكهما فهما اشتركا فيه لا سيما والمضي والاستقبال أمران إضافيان فما من حادث إلا ولا بد أن يوصف بالمضي والاستقبال فيوصف بالمضي باعتبار ما بعده ويوصف بالاستقبال باعتبار ما قبله فإذا نظر إلى حادث معين فما قبله ماض وما بعده مستقبل وهكذا كل حادث
وإذا كانت الحوادث الدائمة كل منها يوصف بالمضي والاستقبال لم يصح الفرق بينهما بذلك فإن من شرط الفرق اختصاص أحد النوعين به وتأثيره في الحكم الذي فرق بينهما فيه لأجله وكلا الأمرين منتف هنا والدليل الدال على انتفاء دوام الحدوث يتناول هذا كتناول هذا فإما أن يصحا جميعا وإما أن يبطلا جميعا
ولهذا كان من طرد هذا الدليل وهما إماما أهل الكلام نفاة الصفات : الجهم بن صفوان إمام الجهمية وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة كلاهما ينفي دوام الحدوث في المستقبل كما نفاه في الماضي
وإذا قال القائل : المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التعاقب
قيل له : فالمستقبلات تدخل في الوجود وهي لا تتناهى آحادا على التعاقب لكن لم تدخل بعد وذاك دخل ثم خرج
وقوله : يستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد هو محل النزاع إذا قصره على الماضي وإن كان اللفظ عاما فهو خلاف ما سلمه بل هؤلاء يقولون : يجب أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري ما لا يتناهى وإلا لزم أن يكون الرب لم يكن قادرا ثم صار قادرا أو بالعكس من غير حدوث أمر أوجب انتقاله من القدرة إلى العجز وبالعكس وهذا فيه سلب للرب صفة الكمال وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول
ولهذا كان ما أنكره المسلمون على هؤلاء قولهم : إن الرب في الأزل لم يكن قادرا ثم صار قادرا وهو مما استحل به المسلمون لعنة بعض من أضيف إليه ذلك من أهل الكلام لا سيما من يسلم أن الرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال فإنه يجب أن يصفه بأنه لم يزل ولا يزال قادرا والقدرة لا تكون إلا على ممكن فلزم إمكان فعله فيما لم يزل ولا يزال
وقول القائل : من هؤلاء : أنه كان قادرا في الأزل على ما لم يزل كلام متناقض فإنه يقال لهم : حين كان قادرا : هل كان الفعل ممكنا ؟ فلا بد أن يقولوا : لا فإنه قولهم
فيقال لهم : كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور ؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال إنه : قادر على الفعل
وأما قوله : إثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض فيقولون : هو تناقض إذا نفى الأولية عن نفس ما له أول وهو كل واحد واحد من الحوادث أما إذا نفى الأولية عما لم تثبت له أولية وهو نوع الحوادث لم يتناقض كما تقدم
ثم قالوا في الفرق بين الماضي والمستقبل ما قاله أبو المعالي قال : وضرب المحصلون لذلك مثالين في الوجهين قالوا : مثال إثبات حوادث لا أول لها قبل كل حادث قول القائل لمن يخاطبه : لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله دينارا ولا أعطيك دينارا إلا وأعطيك قبله درهما فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه دينارا ولا درهما ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل : لا أعطيك دينارا إلا وأعطيك بعده درهما ولا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط
فيقول المعترضون : هذا التمثيل ليس مطابقا لمسألتنا فإن قوله : لا أعطيك حتى أعطيك نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض فحق القياس الصحيح والاعتبار المستقيم أن يقال : ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله دينارا ولا أعطيتك دينارا إلا أعطيتك قبله درهما فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار وكل دينار كان قبله درهم وهو نظير الحوادث الماضي التي قبل كل حادث منها حادث
كما أن قوله : لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده دينارا أو لا دينارا إلا وبعده درهم هو نظير الحوادث المستقبلة التي بعد كل حادث منها حادث فإن أمكن أن يصدق في قوله في المستقبل أمكن أن يصدق في قوله في الماضي وإن امتنع صدقه في الماضي امتنع صدقه في المستقبل إذ العقل لا يفرق بين هذا وهذا ولكنه يفرق بين قوله : لا أعطيك حتى أعطيك وبين قوله : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك
فإذا كان منتهى النظار هو القياس العقلي والإعتبار وهم في القياس الذي جعلون أصل أصول الدين يقيسون الشيء بما يبين مفارقته إياه في عين الحكم الذي سووا بينهما فيه علم أن ذلك قياس باطل
وهذا من أعظم أصولهم أو أعظم أصولهم الذي بنوا عليها نفيهم لما نفوه من أفعال الرب وصفاته وعارضوا بذلك ما أرسل به رسله من أنبائه وآياته
وقوله : لا أعطيك حتى أعطيك مثل قول : ما أعطيتك حتى أعطيتك فهنا نفي الماضي حتى يوجد الماضي وهناك نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل وكلاهما ممتنع فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء وحقيقته الجمع بين النقيضين حتى يجعل الشيء موجودا معدوما كما لو قيل : لا يوجد هذا حتى يوجد هو نفسه فيقتضي أن يكون وجوده قبل وجوده بل في حال عدمه فيكون قد جعل موجودا حال كونه معدوما وهذا ممتنع بين الامتناع
بخلاف قوله : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله ولا أعطيك إلا أعطيك بعده فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء وقبل كل عطاء عطاء فهذا يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل وقبل كل حادث ماض حادث ماض فأين هذا من هذا ؟
وليتدبر العاقل القياس العقلي في هذا الباب فإنهم قد سلموا أنه يجوز أن يكون بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل كما إذا قال : لا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا
واتفقوا على أنه لا يجوز أن نقول لا أعطيك درهما حتى أعطيك دينارا وتنازعوا هل يجوز أن يكون قبل كل حادث ماض حادث ماض أم لا ؟ فمنهم من منع ذلك وقال : هذا مثل أن نقول : لا أعطيك درهما حتى أعطيك دينارا ومنهم من جوز ذلك وقال : ليس هذا مثل هذا الممتنع ولكن هذا نظير ذلك الجائز وهو قوله : لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده دينارا فإن هذا معناه أن يكون بعد كل حادث حادث وذاك معناه أن يكون قبل كل حادث حادث
وهذا المعنى هو هذا المعنى لكن هذا قدم اللفظ بما بعد وهناك قدم التلفظ بما قبل وأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما
قالوا : وأما الممتنع فنظيره أن نقول : ما أعطيتك إلا حتى أعطيتك فهذا نظير قوله : لا أعطيك حتى أعطيك ليس نظيره : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله فهنا أصل متفق على جوازه وأصل متفق على امتناعه بل أصلان متفق على امتناعهما وأصل متنازع فيه هل هو نظير هذا الجائز أو نظير الممتنعين ؟
ولهذا كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين كالرازي والآمدي وغيرهما قد يتبين لهم ضعف هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث الأجسام ويترجح عندهم حجة من يقول بدوام فاعلية الباري تعالى وهم يعلمون أن دين المسلمين واليهود والنصارى : أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء لكن قد لا يجمعون بين ذلك وبين دوام فاعلية الباري لكنهم لم يبنوا على ثبوت الأفعال القائمة به المقدورة المرادة له فيبقون دائرين بين مذهب الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم الأفلاك معظمين لأرسطوا وأتباعه كابن سينا وبين مذهب أهل الكلام القائلين بتناهي الحدوث وربما رجحوا هذا تارة وهذا تارة حتى قد يصير الأمر عندهم كأن دين المسلمين ودين الملاحدة عدلا جهل أو ربما مالوا أحيانا إلى دين الملاحدة حتى قد يصنفون في الشرك والسحر كعبادة الكواكب والأصنام
وأصل ذلك نفيهم لما يجب إثباته من فعل الرب تعالى كما دل عليه المنقول والمعقول فإن هؤلاء قد يثبتون أن الذين نفوا قيام الأمور الاختيارية بذات الله تعالى وسموا ذلك نفي حلول الحوادث به ليس لهم على ذلك حجة صحيحة : لا عقلية ولا سمعية بل الذين نفوا ذلك من جميع الطوائف يلزمهم القول به
فإن كان هذا الأصل في المعقول ولزومه للطوائف ودلالة الشرع عليه بهذه القوة وبتقدير إبطاله يلزم ترجيح مذهب الملاحدة المبطلين شرعا وعقلا على أقوال المرسلين الثابة شرعا وعقلا أو تكافي المسلمين بين أهل الإيمان وأهل الإلحاد - تبين ما ترتب على إنكار ذلك من الضلال والفساد
ومصداق ذلك أن الرازي - مثلا - إذا قرر في مثل نهاية العقول وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث واستوعبت ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه مثل المباحث المشرقية والمطالب العالية وغير ذلك ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به كما ذكره في المباحث المشرقية فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري : اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته كما أنه واجب الوجود لذاته فهو واجب الوجود من جميع جهاته وإذا كان كذلك وجب أن تدوم أفعاله بدوامه وبينا أيضا أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني وحللنا فيه الشكوك والشبه
قال : وأيضا العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود وما لا يمتنع أن يكون دائم الوجود يجب أن يكون دائم الوجود فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود أما الصغرى فقد مضى تقريرها وأما الكبرى فهي أن الذي لا يمتنع أن يكون موجودا دائما لو كان جائز العدم لكان : إما أن يكون عدمه ممكنا دائما أو لا يكون دائما فإن لم يكن له إمكان العدم دائما كان ذلك الإمكان محدودا وإذا تعدى ذلك الحد وجب فيه وجوده وامتنع عدمه مع أن الأحوال واحدة وهذا محال يبقى أنه إن كان عدمه ممكنا فهو ممكن العدم دائما وكل ما كان ممكنا فإنه إذا فرض موجودا أمكن أن يعرض منه كذب وأما المحال فلا يعرض البتة إذا فرض معدوما لكن فرض هذا العدم يعرض منه محال وبيانه هو : أنا نفرض أن أحد طرفي الممكن وهو الوجود الدائم وجد وهو مع ذلك يقوى على عدم الصورة دائما فلا يمتنع أن يقع ذلك الممكن فإن استحالة وقوعه لم يكن ذلك ممكنا لكنه يستحيل مع فرض وجوده دائما عدمه دائما وإلا لكان الشيء في زمان غير متناه معدوما وموجودا معا وهو محال نعم يمكن فرض عدمه بعد وجوده ولكن ذلك العدم غير دائم بل هو عدم متجدد وإذا كان هذا محالا بالوضع ليس بكذب غير محال بل هو محال فالحكم على ما يمكن وجوده دائما بأنه جائز العدم محال فإذا وجوده واجب وهو المطلوب


تعليق ابن تيمية
قلت : فهذه الحجة مضمونها أن الفعل يمكن أن يكون واجب الوجود فيجب أن يكون دائم الوجود لأنه لو لم يكن كذلك لكان ممكن الوجود والعدم
والمقصود هنا أنه يمكن دوام وجوده بغيره فيجب دوام وجوده بغيره لا بنفسه إذ لو لم يجب بنفسه ولا بغيره بل أمكن عدمه لوجب أن يمكن عدمه دائما إذ إمكان عدمه في حال دون حال مع تساوي الأحوال محال وإمكان عدمه دائما ينافي وجوبه بنفسه أو بغيره في شيء من الأوقات فإنه لو وجب موجودا في حال بنفسه أو بغيره لم يكن ممكن العدم في حال وجوبه وهو إذا كان موجودا كان بغيره فيكون واجبا بالغير فإذا كان موجودا امتنع - في حال وجوده - أن يمكن عدمه فإذا قدر أنه ممكن العدم دائما بحيث لا يجب لا بنفسه ولا بغيره امتنع أن يكون موجودا في شيء من الأحوال
والتقدير أنه ممكن الوجود بل ممكن دوام الوجود وإمكان الوجود ينافي امتناع الوجود فما أمكن وجوده دائما امتنع عدمه
ونكته الحجة أن ما أمكن وجوده دائما يكون مع وجوده واجبا بغيره فإن الممكن إن اقترن به ما يوجب وجوده صار واجبا بغيره وإن لم يقترن به ما يوجب وجوده صار ممتنعا لغيره إذ الممكن لا يحصل إلا عند المرجح التام الذي يوجب وجوده إذ لو لم يجب معه لكان ممكنا وإذا كان ممكنا لم يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
وهذا الموضع قد نازع فيه طوائف المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام طائفة يقولون إن القادر يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا مرجح أصلا كما يقول ذلك طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من أصناف المتكلمين
وهؤلاء يقولون : عند وجود القدرة والداعي لا يجب الفعل بل يكون جائز الوجود والعدم
وطائفة من المعتزلة الكرامية يقولون : بل عند وجود المرجح يكون الوجود راجحا على العدم من غير وجود وهذا قول محمود الخوارزمي وابن الهيصم الكرامي وغيرهما
والقول الثالث : هو قول طوائف من أهل السنة والمعتزلة كأبي الحسين : أنه عند وجود القدرة التامة والداعي التام يجب وجود المقدور
والقول الذي اختاره محمود يقول أصحابه : إنه عند وجود المرجح يكون الممكن أولى بالوجود منه بالعدم وإن لم ينته الترجيح إلى حد الوجوب وجعلوا فعل القادر المختار من هذا الوجه
وبهذا يناظرون الناس في مسألة القدر ويناظرون الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لكن الناس بينوا فساد قولهم وذلك أنه إذا حصل مرجح وكان مع وجوده يمكن وجود الممكن ويمكن عدمه فلا بد من ترجيح لأحدهما على الآخر
فإن قيل : جانب الوجود : أقوى أو أضعف ؟
قيل : قول القائل : أقوى يريد به أنه مع هذه القوة يمكن وجوده وعدمه أو لا بد من وجوده
فإن قال بالثاني : ثبت وجوبه عند المرجح
وإن قال بالأول قيل له : فإن كان مع القوة يمكن وجوده وعدمه فلا بد من ترجيح وإلا كان الممكن نوعين أو له حالان : حال يحصل فيها بغير مرجح وحال لا يحصل فيها إلا بمرجح
والممكن ليس له من نفسه وجود أصلا بل وجوده ممكن ولا يحصل إلا بغيره فكل ما وصف بهذه الحقيقة يمتنع أن يوجد إلا بغيره فما دام ممكنا لا يوجد إلا بغيره وذلك الغير إذا كان يمكن أن يفعل ويمكن أن لا يفعل كان فعله ممكنا والممكن لا يحصل إلا بغيره
وإذا قيل : الغير هو القادر أو القادر المريد أو نحو ذلك
قيل : مجرد القادر المريد إذا كان معه وجود الفعل تارة وعدمه الأخرى كان ممكنا فلا بد له من مرجح وإلا فإذا قدر استوىء الحال من كل وجه فلا يترجح وإذا لم يكن ترجيح لزم حصول الممكن بلا ترجيح مرجح وهو ممتنع
وهذا الموضع هو الذي أنكره من أنكره من أئمة السنة والحديث ومن أئمة الفلاسفة أيضا على من صار إليه من أهل الكلام : المعتزلة والكلابية كالأشعرية وطائفة من أصحاب أحمد وغيره من الأئمة وهو أصل قول ابن كلاب في مسألة القرآن الذي أنكره عليه الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة وهو أصل شبهة الفلاسفة في مناظرتهم لهؤلاء في قدم العالم وقد بسط في موضعه
وإذا كان الممكن نفسه إما واجبا بغيره وإما ممتنعا لغيره فما كان يمكن دوام وجوده كان مع وجوده واجب الدوام بغيره فيمتنع أن يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه مع كونه واجب الدوام بغيره فيمتنع أن يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه مع كونه واجب الدوام بغيره فكل ما أمكن وجوده بغيره وأمكن دوامه امتنع مع وجوده عدمه وامتنع مع عدمه وجوده فإنه إذا لم يدم وجوده لزم أن لا يكون هناك ما يقتضي وجوده أو ما يقتضي وجوده في حال دون حال فإن ممكن الوجود إنما يعدم لعدم مقتضيه فالعدم الدائم عدم فيه مقتضى الوجود على سبيل الدوام والعدم الحادث عدم فيه مقتضى الوجود في تلك الحال
والمراد أنه عدم كمال المقتضى لا أنه عدم كل شرط من شروط الاقتضاء بل عدم بعض الشروط كاف في عدمه وعدم المقتضى في حال دون حال مع تماثل الأحوال منتف وعدمه دائما يوجب أنه يمتنع وجوده دائما والتقدير أنه فرض إمكان وجوده دائما
ومادة هذه الحجة مشاركة لمادة الحجة التي اعتمدوها في قدم العالم وهي أن الحدوث بدون سبب الحدوث ممتنع ووجود المقتضى التام في الأزل يستلزم وجود مقتضاه فإن الأصل في ذلك أنه لا يتجدد شيء بدون سبب يقتضي التجدد
فالمنازع لهم من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ونحوهم إما أن يقول : الفعل في الأزل ممتنع كما قاله طوائف منهم وإما أن يقول : هو ممكن لكن لم يحصل ما به يوجد فكان عدمه لفوات شرط الاتحاد إذ التقسيم العقلي يوجب أن يقال : الفعل في الأزل : إما ممكن وإما ممتنع وإذا كان ممكنا فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد وإما أن لا يحصل
فالتقدير الأول أنه ممتنع لاستلزام تسلسل الحوادث والثاني أنه وإن قدر إمكانه لكن لم تتعلق به مشيئة الرب تعالى أو قدرته أو لم يحصل تعلق العلم بوجوده قبل ذلك الزمن أو نحو ذلك مما لا يوجد الفعل إلا به
فمن قال : إن دوام الفعل ممتنع فقد أبطلوا قوله كما ذكر ومن قال : إنه ممكن لكن لم يوجد تمام شرطه قالوا له : فهو قبل ذلك كان ممتنعا ثم صار ممكنا بل موجودا مع تساوي الحالين فيلزم الترجيح بلا مرجح
وإذا قال : إنه ممكن وما به يحصل موجود قالوا : فيلزم وجوده
ولما ذكر الرازي هذه الحجة قال : عمدة المنكرين لهذا امتناع حوادث لا أول لها وقد مضى القول فيه في باب الزمان فلا نطول بذكره تطويلاتهم الخارجة عن الأصول


كلام الرازي في المباحث المشرقية عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية
والموضع الذي أحال فيه ذكر فيه الحجج التي احتج بها هو وغيره على حدوث الزمان ولوازم ذلك من حدوث الحركة والجسم وأبطل ذلك كله فذكر ما احتج به المعتزلة والأشعرية وما ذكره هو في الأربعين ونهاية العقول في مسألة حدوث العالم وأبطل ذلك كله فركب لهم سبع حجج : أولها : الحوادث الماضية تتطرق إليها الزيادة والنقصان وما كان كذلك فبه بداية فللحوادث الماضية بداية بيان الأولى بأربعة أوجه أحدها أن الحوادث الماضية إلى زمن الطوفان أقل من الحوادث إلى زماننا بمقدار ما بين الطوفان وزماننا الثانية : أن الدورات الماضية إما أن تكون شفعا أو وترا وكيفما كان فهو ناقص عن العدد الذي فوقه الثالث : أن عودات القمر لا شك أنها أقل من عودات زحل والمشتري الرابع : أن الدورات الماضية لو كانت غير متناهية لكانت الأبدان البشرية الماضية غير متناهية فكانت النفوس البشرية غير متناهية لامتناع التناسخ فكانت النفوس البشرية الموجودة في زماننا غير متناهية لوجوب بقاء الأنفس البشرية لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا غير متناهية لوجوب بقاء الأنفس البشرية لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا قابل للزيادة والنقصان فهو متناه فالنفوس التي كانت موجودة في زمان الطوفان لا شك أنها أقل عددا من عدد النفوس إلى زماننا وكل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه فالنفوس الموجودة البشرية متناهية ثم يستدل بتناهيها على تناهي الأبدان وتناهي الأبدان على تناهي الحركات والمتحركات وتناهي كل العالم
قال : وأما بيان أن كل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه فقد زعموا أن العلم بذلك بديهي
قال : والحجة الثانية : لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية لتوقف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده وكان يلزم أن لا يوجد الحادث اليومي فلما وجد علمنا أن الحوادث الماضية متناهية
قلت : وهذه هي التي ذكرها من ذكرها من شيوخ المعتزلة والشيعة وقد ذكرها أبو المعالي وأمثاله من أئمة الكلام
والثالثة : أن كل واحد واحد من الحوادث : إذا كان له أول وجب أن يكون للكل أول كما أن كل واحد واحد من الزنج لما كان أسود وجب أن يكون الكل سودا
قلت : وهذه حدة أبي الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة
والرابعة : أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية لكان ما لا نهاية له متناهيا وذلك محال وأمثاله من المعتزلة
والرابعة : أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية لكان ما لا نهاية له متناهيا وذلك محال وهذا من جنس الثاني
والخامسة : أن الأزل إما أن يكون قد وجد فيه حادث أو لم يوجد والأول محال لأن ذلك الحادث يكون مسبوقا بالعدم والأزل لا يكون مسبوقا بالعدم وإن لم يوجد شيء من الحوادث في الأزل فقد أشرنا إلى حالة ما كان شيء من الحوادث هناك موجودا فإذا كل من الحوادث مسبوق بالعدم
السادسة : أن الأمور الماضية قد دخلت في الوجود وما دخل في الوجود فقد حصره الوجود وما حصره الوجود كان متناهيا فالحوادث الماضية يجب أن تكون متناهية
السابعة : أن كل واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أول له فإذا فرضنا جسما قديما وفرضنا حوادث لا أول لها لزم أن لا يكون ذلك الجسم متقدما لا على وجود تلك الحوادث ولا على عدمها ومحال أن يكون الشيء لا يتقدم أمورا ولا يتقدم ما هو سابق على كل واحد واحد من تلك الأمور فيصير حكم السابق والمسبوق في السبق والتقدم حكما واحدا
ثم قال : قالت الفلاسفة : الجواب عما ذكروه أولا من وجوه ثلاثة
الأول : المحكوم عليه بالزيادة والنقصان : إما كل الحوادث وإما كل واحد واحد منهما والأول محال لأن الكل من حيث هو كل غير موجود لا في الخارج ولا في الذهن على ما بيناه في باب اللانهاية وما لا يكون موجودا امتنع أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية من الزيادة والنقصان وغيرهما لما بينا في باب الوجود : أن ما لا يكون ثابتا في نفسه لا يمكن أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية
قلت : هذا كقولهم : الحركة غير موجودة والصوت غير موجود والكلام غير موجود وهذا لفظ مجمل فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد فهذا غير موجود وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئا بعد شيء فهذا كله موجود وهو من حيث هو موجود شيئا بعد شيء لا موجود على سبيل الاقتران
الثاني : أنا بينا في باب تناهي الأجسام أن الشيء إذا كان متناهيا من جانب وغير متناه من جانب آخر فإذا انضم إلى الجانب المتناهي شيء حتى ازداد هذا الجانب فالزيادة إنما حصلت في الجانب المتناهي لا في الجانب الآخر فلا يلزم أن يصير الجانب الآخر متناهيا إلا أن يقال : إنا نفرض في الذهن انطباق الجانب المتناهي من الزائد على الجانب المتناهي من الناقص فلا بد وأن يظهر التفاوت من الجانب الآخر
ولكن إذا سلمنا لهم صحة هذا التطبيق فإنه لا يصح تطبيق طرف الزائد على طرف الناقص إلا بوقوع فضلة عددية من الزائد ومع ذلك فمن المحتمل أن يمتد الزائد مع الناقص أبدا من غير أن ينقطع الناقص بل يبقى أبدا مع الزائد بتلك الفضلة العددية
الثالث : معارضة ذلك بأمور أربعة : أولها : صحة حدوث الحوادث من الأزل إلى الطوفان أقل من صحتها من الأزل إلى زماننا هذا مع أنه لا يلزم تناهي الصحة
وثانيها : صحة حدوث الحوادث من الطوفان إلى الأبد أكثر من صحة حدوثها من الآن إلى الأبد مع أنه لا يلزم تناهي هذه الصحة في جانب الأبد
وثالثهما : تضعيف الألف مرارا غير متناهية أقل من تضعيف الألفين مرارا غير متناهية
ورابعها : معلومات الله أكثر من مقدوراته مع أن تلك غير متناهية
قال : والجواب عما ذكروه ثانيا - يعني الحجة الثانية - أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في وقت وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الآخر قبله فإن كان الأمر على هذا فقد وجدنا أمرا معدوما ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة فيبتدي في الوجود من وقت ما اعتبر هذا الاشتراط فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود وأما أن يعني بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال فهذا هو نفس المطلوب فإن النزاع ما وقع إلا فيه
والجواب عما ذكروه ثالثا أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد ثبوت الأول للكل لأن من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفا لحكم الآحاد لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة وكل واحد من الأجزاء ليس بكل مع أن كلها كل وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم بل نقول : إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساويا لجزئه من حيث هو جزء وإلا لم يكن أحدهما كلا والآخر جزءا وأما المثال الواحد فلا يكفي لأنا لا ندعي أن حكم الكلية يجب أن يكون مخالفا لحكم الآحاد حتى يضرنا المثال الواحد بل نقول : إن ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون والأمر فيه موقوف على البرهان
قال : والجواب عما ذكروه رابعا أن انتهاء الحوادث إلينا يقتضي ثبوت النهاية لها من الجانب الذي يلينا وثبوت النهاية من أحد الجانبين لا ينافي أن لا نهاية لها من الجانب الآخر والدليل عليه الصحة فإنه لا بداية لها مع أنها قد تناهت إلينا وكذلك حركات أهل الجنة لا نهاية لها مع أنها في جانب البداية لها نهاية
قال : والجواب عما ما ذكروه خامسا وهو قولهم : الأزل هل وجد فيه حادث أم لا ؟ فنقول الأزل ليس حالة معينة بل هو عبارة عن نفي الأولية فالحادث بالزمان الذي هو عبارة عن الشيء المسبوق بالعدم يمتنع وقوعه في الأزل فأما قولهم : لما لم يقع شيء من الحوادث في الأزل فقد أشرنا إلى حالة لم يكن شيء من الحوادث هناك موجودا فنقول : قد بينا أن الأزل ليس وقتا مخصوصا حتى يقال بأن ذلك الوقت قد خلا عن الحوادث بل الأزل عبارة عن نفي الأولية فقولنا : الأزل لم يوجد فيه شيء من الحوادث معناه : أن نفي الأولية لم يوجد فيه شيء من الحوادث أي كل واحد من الحوادث مسبوق بالعدم فلم قلتم : إنه لما كان واحد منها مسبوقا بالعدم وجب أن يكون الكل كذلك فإن النزاع ما وقع إلا فيه
والذي يحسم مادة هذا الوهم معارضته بالصحة فنقول : صحة حدوث الحوادث : هل كانت حاصلة في الأزل أم لا ؟ فإن كانت حاصلة في الأزل أمكن حدوث حادث أزلي وذلك محال وإن لم تكن فللصحة مبدأ أول وهو محال ولما لم يكن هذا الكلام قادحا في أن الصحة لا بداية لها لم يكن قادحا في هذه المسألة
قال : والجواب عما ذكروه سادسا وهو أن ما دخل في الوجود فقد حصره الوجود فهو أن المراد بالحصر أن يكون للشيء طرف ونحن نسلم أن الحوادث محصورة من الجانب الذي يلينا أما لم قلتم : إنه يلزم من ذلك أن تكون محصورة من الطرف الذي لا يلينا ثم نعارض ذلك بصحة حدوث الحوادث ؟
والجواب عما ذكره سابعا من أنه لا يلزم أن لا ينفك الجسم عن حدوث الحوادث وعدمها فنقول : إن عنيتم به أنه يكون موصوفا بوجود كل الحوادث ويكون موصوفا بعدمها معا فذلك باطل لأن الحوادث ليس لكلها وجود حتى يكون الجسم موصوفا بعدمها معا فذلك باطل لأن الحوادث ليس لكلها وجود حتى يكون الجسم موصوفا به وإن عنيتم به أنه في كل واحد من الأزمان يكون موصوفا بواحد من تلك الحوادث فهو في ذلك الوقت لا يكون موصوفا بعدم ذلك الحادث حتى يلزم التناقض بل يكون موصوفا بعدم سائر الحوادث والتناقض إنما يلزم إذا كان الشيء موصوفا بالحادث المعين وبعدم ذلك الحادث معا فأما أن يكون في ذلك الوقت موصوفا بوجوده وبعدم غيره فأي تناقض فيه ؟
قال : هذا جملة ما قيل في هذه المسألة
قلت : فهذا كلام الرازي في هذا مع أنه من عادته في الكتاب المذكور الذي صنفه في الفلسفة وهو أكبر كتبه في ذلك إذا تمكن من القدح فيما يورده الفلاسفة قدح فيه كما قدح في قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا ونحو ذلك مما يتوجه له القدح فيه وكما تقرر ما ذكره بزيادات وتكميلات لم يذكروها هم إذا توجه له تقرير ذلك فإنه بحسب ما يتوجه له من البحث والنظر
ولهذا كان تارة يعارض ما ذكره الفلاسفة بما يناقضه من كلام المتكلمين كما يعارض من الكتب الكلامية ما يذكره المتكلمون بما يذكره في مناقضة الفلاسفة ويرجح ما يترجح له في تلك الحال وهو مع هذا ذكر هذه الحجج التي هي عمد القائلين بأن الحوادث لا تدوم وعليها بنوا حدوث الجسم وأبطلها كلها وذكر أدلة أولئك في دوام فاعلية الرب تعالى ولم يبطلها
وقد ذكر أيضا حجج هؤلاء في دوام الزمان بكلام طويل ليس هذا موضع بسطه والمقصود هنا أن من يريد هذا وأمثاله من كلام هؤلاء تبين له أن ما ذكره أئمتهم الأشعرية وشيوخ أئمتهم المعتزلة في هذا الباب كان مما تبين لهم فساده ثم مع هذا لا يمكنهم القدح في أدلة الفلاسفة إن لم يقروا بما أنكروه من مدلول الكتاب والسنة الموافق لصريح المعقول فحينئذ يمكنهم القول بالمعقولات الصريحة ويتبين لهم أنها موافقة للمنقولات الصحيحة وليس مما أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم إذ هم - ولله الحمد - أكمل الناس عقلا وأتمهم إدراكا وأصحهم دينا وأشرفهم كتابا وأفضلهم نبيا وأحسنهم شريعة
ومن المعلوم في دين الإسلام أن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة الخارجين عن الملل وأصح عقلا ودينا ولهذا كان خيار الصابئة من انتسب إلى ملة من الملل وقد اتفق أئمة الدين على إقرار اليهود والنصارى بالجزية وعلى حل ذبائحهم ونسائهم وإن خالف في ذلك أهل البدع
وأما الفلاسفة فإما أن يكونوا من المشركين وإما أن يكونوا من المجوس وإما يكونوا من الصابئين وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث فمن كان من المشركين كما يذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم أو من المجوس كفلاسفة الفرس ونحوهم فاليهود والنصارى خير منه ولذلك هم خير من فلاسفة الصابئين والصابئون للعلماء فيهم طريقتان : إحداهما : أنهم هل يقرون بالجزية أم لا ؟ على قولين والثانية : إنه يفصل الأمر فيهم فمن تدين بدين أهل الكتاب ألحق بهم وإلا فلا وهاتان الطريقتان في مذهب الشافعي و أحمد وغيرهما
والنزاع في إقرارهم الجزية هو على قول من لا يقبل الجزية إلا من المجوس وأهل الكتاب كقول الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين وأما من يقر مشركي العجم بالجزية ك أبي حنيفة و مالك و أحمد في الرواية الأخرى فهؤلاء يتنازعون في حل ذبائحهم ونسائهم ولذلك ينتازع في ذلك من يفرق بين الكتابي الذي دخل سلفه قبل النسخ والتبديل وبين الذين دخلوا بعد النسخ والتبديل كما هو قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد بناء على أن أهل الكتاب الاعتبار فيهم بنسبتهم وهم من كان سلفهم مستمسكين به قبل النسخ والتبديل لكن جمهور العلماء ك مالك و أبي حنيفة و أحمد في المنصوص عنه على أن الاعتبار بنفس الرجل لا ينسبه كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة
والمقصود هنا أنه من رجح بعض أقوال الفلاسفة التي يخالفون فيها أقوال أهل الملل كان شرا ممن رجح بعض أقوال اليهود والنصارى على أقوال المسلمين
وإذا كانت الطريق التي سلكها أهل طريقة الأعراض والتركيب والاختصاص من أهل الكلام يوجب أن يصلوا إلى حد يرجحون فيه طريقة الفلاسفة على طريقة سلفهم من أهل الكلام علم بذلك أنهم جعلوا دين سلفهم المتكلمين أنقص من دين اليهود والنصارى بدرجتين إن كانوا مسلمين وإن لم يكونوا مسلمين جعلوا قول الفلاسفة الملحدين خيرا من قول الأنبياء والمرسلين فإنهم رجحوا كلام الفلاسفة على كلام سلفهم المتكلمين مع اعتقادهم أن أقوال الفلاسفة المناقضة لقول الرسول صلى الله عليه و سلم باطلة وأن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة لزم الأول
وإن اعتقدوا أن قول الفلاسفة خير من قول سلفهم وقول سلفهم هو قول الأنبياء لزمهم أن يجعلوا قول الفلاسفة خيرا من قول الأنبياء فإن طرودا قولهم لزمهم ترجيح اليهود والنصارى على سلفهم أو ترجيح الفلاسفة على الأنبياء
وممن كان أقل علما وإيمانا منهم مال إلى القول الثاني ومن كان أعظم علما وإيمانا كان ميله إلى الأول أهون عليه فإن كفر لا حيلة فيه اللهم إلا أن يسلكوا مسلك القرامطة الباطنية فيدعون أن ما أظهرته الأنبياء من الأقوال والأفعال إنما هو للجهال والعامة دون الخاصة وأن لهذه الأقوال والأعمال بواطن تخالف ما أظهروه
وحينئذ فهؤلاء شر الطوائف هم شر من اليهود والنصارى ومن الفلاسفة المشركين القدماء الذين لم تقم عليهم حجة بكتاب منزل ونبي مرسل فإن أولئك وإن كانوا ضالين فهؤلاء شركوهم في الضلال ولكن هؤلاء حصل من حجة الله عليهم بكتابه ورسوله ومن كفرهم الذين يستحقون العقوبة عليه ما لم نعلمه من حال أولئك
وإن كان أولئك قد بلغهم نبوة بعض الأنبياء وأرسل إليهم رسول فليس هو مثل محمد صلى الله عليه و سلم بل نعلم قطعا أنهم لم يأتهم كتاب مثل القرآن ولا رسول مثل محمد صلى الله عليه و سلم ولا شريعة كشريعته
وكل من علم حاله يعلم بالاضرار من دينه أنه أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه خالق كل شيء وأن هذه الأفلاك ليست قديمة أزلية فالقائل بذلك مناقض لأخباره وأخبار موسى وغيرهما من المرسلين مناقضة لا يتمارى فيها من له معرفة بذلك وأي هذين الوجهين اختاره السالك فما فيه مختار
وأصل هذا الضلال جهلهم بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ونصرهم لما يظنونه جاء به بما يظنونه من المعقول ومعارضتهم لما يعلم أنه جاء به بما يظنونه من المعقول وتوهمهم تعارض صحيح المنقول وصريح المعقول وهذا هو الكلام الذي عابه السلف والأئمة
وأما أهل المعرفة العالمون بالمعقول والمنقول فلا يقولون في سلفهم ما هو من لوازم قولهم كما أنهم لا يقولون في الأنبياء ذلك بل يعلمون قطعا أن كلام الأنبياء هو الحق وكل ما ناقضه من قول متفلسف أو متكلم أو غيرهما فباطل وأنه لا يجوز أن يكون في العقل ما يناقض قول الأنبياء ولا يجوز تعارض الأدلة العلمية السمعية والعقلية أبدا ويعلمون أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس كلام الفلاسفة وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحيانا كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين وإن كان قد يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام
كما قال تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما } [ آل عمران : 75 ]
وهم يعلمون مع هذا أن كل من كان مؤمنا بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم باطنا وظاهرا على الوجه الذي يرضاه الله فهو خير من كل كتابي لكن من المظهرين للإسلام من المنافقين من يكون في الآخرة أشد عذابا من بعض اليهود والنصارى فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار والإسلام الظاهر يتناول المؤمن والمنافق والسعداء في الآخرة هم المؤمنون دون المنافقين والمنافقون وإن أجريت عليهم في الدنيا أحكام الإسلام فما لهم في الآخرة من خلاق


فصل أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة
ونحن نبين هنا ما ننصر به أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الإسلام والسنة من هؤلاء الفلاسفة وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة
وذلك من وجوه


الوجه الأول
أن يقولوا لهؤلاء المتفلسفة : أنتم ادعيتم قدم العالم بناء على ما ذكرتموه من قدم الزمان ووجود دوام فاعلية الله تعالى ونحو ذلك مما غايتكم فيه إثبات دوام الحوادث إذ ليس في حججكم هذه وأمثالها ما يدل على قدم شيء من العالم : لا السموات التي أخبر الله أنه خلقها والأرض وما بينهما في ستة أيام ولا غير ذلك
فيقولون لهم : الحوادث إما أن تكون لها بداية كما قلنا وإما أنه لا يجب ذلك كما قلتم فإن كان الأول بطل قولكم ولزم أن يكون للحوادث ابتداء فبطل قولكم بأن حركات الأفلاك أزلية وهو المطلوب
وإن كان الثاني أمكن أ يكون حدوث الفلك حركاته موقوفا على حوادث قبل ذلك كالحوادث اليومية وتلك الحوادث على حوادث أخرى وهذا مطابق لما أخبرت به الرسل من أن الله سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء ومطابق للأخبار المتضمنة أنها خلقها من الدخان والبخار الذي حصل من الماء وذلك كله أسباب حادثة ومطابق لما أخبر به الله من أنه خالق كل شيء وليس في حججكم ما يناقض هذا


الوجه الثاني
أن يقال : دوام فاعلية الرب تعالى ودوام الحوادث يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته وتحدث شيئا بعد شيء وأن تحدث حوادث منفصلة شيئا بعد شيء وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديما فلم قلتم : إن الأمر ليس كذلك وإن كان ما ذكرتموه صحيحا ؟ وإن كان باطلا فهو أبعد وأبعد
فإن اعتذروا بأن واجب الوجود لا تقوم به الصفات والأفعال كان الجواب من وجوه : أحدها : أن قولكم في هذا أفسد من قولكم بدوام الحوادث وحجتكم على ذلك في غاية الفساد
فإن قلتم : هؤلاء المنازعون لنا من المعتزلة والأشعرية وغيرهم يسلمون لنا هذا
قيل لهم : هؤلاء إنما سلموا لكم امتناع قيام الأفعال المرادة المقدورة بذاته بناء على امتناع قيام الحوادث به وإنما منعوا ذلك لأن ذلك يفضي إلى تعاقبها عليه وإنما منعوا تعاقب الحوادث على القديم لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها فإن كان هذا القول فاسدا لم يكن لهم دليل على نفي ذلك
فيقولون لكم : هذا الدليل إن كان صحيحا بطل قولكم ولزم أن الحوادث لها ابتداء وإن كان باطلا بطل قولنا الذي بنينا عليه نفي الأفعال وليس لكم على هذا التقدير أن تلزمونا بأن القديم لا تقوم به الحوادث بأنا إنما بنيناه على أصل يعتقدون فساده
غاية ما في هذا الباب أنكم تلزمونا التناقض وتقولون : يلزمكم : إما القول بدوام الحوادث وإما القول بجواز قيامها بالقديم
فنقول : إن كان القول بدوامها هو الحق قبلناه وتركنا ذلك وكان في ذلك لنا مصلحتان : إحداهما : موافقة الأدلة العقلية التي ذكرتموها على ذلك والثانية : موافقة النصوص الإلهية التي بدعنا بمخالفتها إخواننا المؤمنين
والقول الذي يجمع لنا موافقة العقل والنقل خير من أن نوافقكم على قدم الأفلاك ونفي صفات الله تعالى فإن في هذا من الكفر المخالف للشرع والفساد المخالف للعقل ما يتبين لمن نظر فيه لا سيما والفلاسفة لا يمنعون قيام الحوادث والصفات بالقديم الأزلي ولا كون الجسم قديما أزليا بل يوجبون ذلك كله ولا دليل لهم على قدم جسم معين كالأفلاك ونحوها


الوجه الثالث
أن يقال للفلاسفة : ما ذكرتموه من الأدلة العقلية الموجبة لدوام فاعلية الرب ودوام الحدوث يدل على نقيض قولكم لا على وفقه فإن هذا يقتضى أن واجب الوجود لم يزل يفعل ويحدث الحوادث وأنتم على قولكم يلزم ألا يكون أحدث شيئا من الحوادث وذلك لأن الموجب لهذه الحوادث المتعاقبة إما أن يكون ثابتا في الأزل أو لا فإن كان الأول لزم وجود كل من الحوادث في الأزل وهو محال لأن الموجب التام لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه وهم يقولون : إن واجب الوجود علة تامة لا يتخلف عنه شيء من معلوله فإذا كانت هذه الحوادث المتعاقبة معلولة بوسط أو بغير وسط لزم مقارنتها له لأن العلة التامة يقارنها معلولها لا يتخلف عنها وإذا امتنع أن يتخلف عنها معلولها فما تأخر عنها فليس معلولا لها فيلزم أنه لم يحدث شيئا من الحوادث : لا بوسط ولا بغير وسط
وقولهم بتسلسل الحوادث لا ينفعهم والحال هذه إذا جعلوه علة تامة مستلزمة لمعلولها لأن التقدير على قولهم : إنه ليس له فعل قائم بذاته متجدد أصلا : لا خلق ولا استواء ولا غير ذلك
ومعلوم أن الحوادث الحادثة هي مختلفة الأجناس متعاقبة في الوجود فالأجناس الحادثة المختلفة إذا قدر أن حال الفاعل لها لم يزل على حال واحدة لا يقوم به فعل ولا وصف بل هو واحد بسيط امتنع أن يختلف حاله في الإحداث وأن يحدث شيئا بعد أن لم يكن أحدثه كما يقولون هم ذلك ويجعلونه عمدتهم في قدم العالم وامتناع أن تحدث عنه الأنواع المختلفة الحادثة شيئا بعد شيء وهو في نفسه لم يتجدد له حال ولا فعل ولا حكم ولا وصف ولا شيء من الأشياء ؟
وهم أنكروا على المتكلمين نفاة الفعل الاختياري القائم به أن يحدث عنه شيء بلا سبب حادث وقالوا : إن هذا مخالف لصريح العقل
فيقال لهم : الباطل بعض قولكم وإذا كان حدوث بعض الحوادث عن هذا ممتنعا فحدوث الحوادث المختلفة دائما عن علة تامة لم يحدث فيها ولا منها شيء أعظم امتناعا من قول هؤلاء
وأيضا فالحادث لا يحدث حتى يحصل الفعل التام المحدث له والممكن لا يحصل حتى يحصل الموجب التام المرجح له والموجب التام يستلزم موجبه ومقتضاه فكل من الحوادث الممكنات ما حدث ووجد حتى حصل له الموجب التام وذلك الموجب التام لا بد له من موجب تام وهلم جرا فيلزم أ يحصل لكل من الحوادث موجبات تامة لا نهاية لها في آن واحد وذلك تسلسل في العلل والمؤثرات وهو باطل باتفاق العقلاء
وإنما لزم ذلك لأن الحوادث يمتنع حدوثها عن العلة التامة القديمة فإن العلة التامة القديمة لا يتخلف عنها معلولها والمحدث يجب أن تكون علته تامة عند حدوثه
وهم يقولون بكلا القولين فلزم من هذين القولين أن واجب الوجود لم يحدث شيئا من الحوادث وأن الحوادث لا محدث لها ويلزم أيضا وجود علل ومعلولات لا نهاية لها وفاعلين لا نهاية لهم وكل ذلك مما يعلمون هم وسائر العقلاء فساده ولا مخلص لهم عن هذا إلا بأن يقولوا بأن واجب الوجود تقوم به الأفعال الاختيارية المقدورة له وتقوم به الصفات وإذا قالوا ذلك بطل قولهم بنفي الصفات ووجوب قدم الأفلاك
فعلم أن ما ذكروه من الحجج الصحيحة الدالة على دوام فاعلية الرب ودوام الحدوث يدل على نقيض قولهم في أفعال الرب تعالى وصفاته وعلى ضد قولهم في قدم العالم وتوحيد واجب الوجود وهذا هو المطلوب وقد بسط ما يتعلق بهذا الكلام في موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على أن كل ما تقيمه كل طائفة من الناس من الحجج العقلية التي لا مطعن فيها فإنها إنما تدل على موافقة الكتب والسنة وإبطال ما خالف ذلك من أقوال أهل البدع متكلمهم ومتفلسفهم والله سبحانه أعلم
ومما يوضح هذا أن عمدة الحجة المتقدمة في دوام فاعليته من جنس الحجة المتقدمة لمن منع حدوث الأفعال القائمة به حيث قالوا : إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن ذاته كافية في حصولها أو لا حصولها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه فيلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة وهكذا قال القائلون بقدم الفعل قالوا : ذاته إما أن تكون كافية فيه وإما أن تكون متوقفة على غيره فإن كانت كافية فيه لزم قدم الفعل لوجود موجبه التام في الأزل وإن لم تكن كافية فيه لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه وهذا هو الذي يعتمدون عليه
والجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : هذا يبطل قولكم ويرد عليكم في جميع الحوادث فإن ذاته إن كانت كافية في حدوث الحوادث لزم قدمها وهو ممتنع وإن لم تكن كافية لزم توقف الحوادث على غير ذاته ثم ذلك الشرط في حدوث الحوادث : إن كانت ذاته كافية فيه لزم قدمه وإلا فالقول فيه كالقول في الحادث المشروط
ومهما قدر من الممكنات أمكن أن يقال : حدوثه موقوف على حادث قبله كما علم حدوثه من المحدثات
وإذا قالوا : مبدأ الحدوث هو حركة الفلك والحركة لذاتها تتجدد شيئا بعد شيء وسبب ذلك تجدد التصورات والإرادات
قيل : هذا بعينه يبطل حجتكم فإن هذا الذي هو كذاته يتجدد شيئا بعد شيء لو كان ذات واجب الوجود وحده كافية في وجوده لزم مقارنته له في الأزل وهو ممتنع فعلم أن ذاته لا تكفي في وجود شيء منه بل كل منه مشروط بما قبله وذاته لا توجب شيئا من الشروط
وإذا قيل : الذات أوجبت وجوده متعاقبا دائما لزم أن يكون الواحد البسيط القديم الذي لا صفة له ولا فعل يوجب لذاته أمورا منفصلة عنه متعاقبة مختلفة سواء كان بواسطة لازمة له أو بغير واسطة وهذا مع أنه باطل في ضرورة العقل فإنه ينقض أصولهم في تناسب الموجب والموجب ولزوم المعلول للعلة التامة وأن الواجب علة تامة
ومن المعلوم بصريح العقل أن المعلول الموجب إذا كان حادثا شيئا فشيئا فلا بد من حدوث أمر في علته الموجبة اقتضت ذلك وإلا فالعلة موجبة إذا كانت عند الحادث الثاني كما كانت عند الحادث الأول كان تخصيصها للأول بالتقدم تخصيصا بلا مخصص وكان ترجيح الأول ترجيحا الأول ترجيحا بلا مرجح
وأيضا فيمتنع أن تكون الحركات الحادثة شيئا بعد شيء معلول علة تامة قديمة أزلية يقارنها معلولها فإن العلة الأزلية التامة يقارنها معلولها والحركات الحادثة شيئا فشيئا ليس شيء منها مقارنا للعلة فامتنع أن يكون معلولا لها
وهذا بخلاف ما إذا كان الفاعل يحدث أفعاله القائمة به شيئا بعد شيء فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها فلا يمتنع أن تكون مستلزمة لدوام الفعل وأما المفعولات فكلها ممكنة ليس فيها واجب بنفسه فامتنع أن يكون فيها ما يوجب الفعل الدائم بل ذلك مستند إلى الواجب بنفسه
الثاني : أن يقال : هذا إنما يصح فيما كان لازما لنفسه في النفي والإثبات أما ما كان موقوفا على مشيئته وقدرته كأفعاله فإنه يكون إذا شاءه الله ولا يكون إذا لم يشأه وهم لا يمكنهم إقامة الدليل على أنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته إلا ببيان أنه لازم لذاته ولا يمكنهم بيان أنه لازم لذاته إلا بنفي مشيئته وقدرته فلا تصح حجتهم
فإن قالوا : فتلك الأمور التي يقف عليها الفعل إن كانت قديمة لزم قدمه وإلا فلا بد لحدوثها من سبب
قيل : هذا غايته أنه يجب التسلسل في الشروط والآثار وذلك جائز عندكم
ثم نقول إن كان التسلسل في الشروط جائزا بطل هذا السؤال لجواز تسلسل الشروط وإن كان ممتنعا بطل أيضا لوجوب كون جنس الحوادث مسبوقا بالعدم
والثالث : أن يقال : أتعني بقولك : ذاته كافية : أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده ؟ فإنه عنيت الأول انتفض عليك بالمفعولات الحادثة فإنه يلزمك إما قدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل إذا كان ما لا تكفي فيه الذات مفتقرا إلى سبب منفصل
وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذا كان ما تكفي فيه الذات يمكن تأخره
الرابع : أن يقال : قولك : يفتقر إلى سبب منفصل : أتعني به سببا يكون من فعل الله أو سببا لا يكون من فعله ؟
أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب وفاعلها يحدث بها فهو فاعل الجميع وليس مفتقرا في فعل إلى غيره إلا أن يعنى به أنه لا يحصل أحد فعليه إلا بشرط فعله الآخر وهذا ليس فيه افتقار إلى غيره ومن سمى هذا افتقارا إلى غيره فهو بمنزلة من قال : إنه يفتقر إلى صفته
وقد ذكر غير مرة أن هذا بمنزلة قول القائل : إنه مفتقر إلى نفسه وهذا إذا أطلق لا ينافي ما وجب له من الغنى بل هذا الغنى الذي لا يتصور غيره
وإن عنيت بالسبب ما لا يكون من فعله لزمك أن كل ما لا تكفي الذات فيه ولا هو لازم لها في الأزل لا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مفعولاته وهذا مع أنه باطل بالإجماع الذي توافقون عليه أهل الملل فبطلانه معلوم بصريح العقل كما تقدم بيان بطلانه
الخامس : أن يقال ما تعني بقولك : ذاته كافية في ذلك ؟ أتعني به بالذات المجردة عن فعل يقوم بها ؟ أم تعني به الذات الموصوفة بقيام الفعل بها ؟ وأيهما عنيت بطل قولك
فإن عنيت الأول لزم أن تكون الذات المجردة عن الفعل القائم بها تفعل أمورا مختلفة متعاقبة مع أن حالها مع فعل الشيء هو حالها مع فعل خلافه ومع أن حالها بالنسبة إلى وجود المفعول وعدمه سواء وهذا باطل
ثم يقال : إن جاز أن يكون هذا صحيحا جاز أن يكون حالها قبل الفعل وحين الفعل سواء فيمكن قول القائل بأن الحوادث لها أول وإن لم يجز أن يكون صحيحا بطل قولهم بأن الحوادث تصدر بواسطة أو بغير واسطة عن ذات لم يقم بها فعل
وإن عنيت الثاني فالذات الموصوفة بقيام الفعل بها إذا قيل : هي كافية في المفعولات لم يلزم قدم المفعولات لأنها مشروطة بالفعل ولا يلزم من ذلك افتقارها إلى غيرها لأن فعلها الذي هو شرط في المفعولات من لوازم ذاتها كما أن صفاتها من لوازم ذاتها لكن قد يكون اللازم نوعا كالفعل المتعاقب وقد يكون عينا كالحياة التي لم تزل ولا تزال
وهذه الحجة هي التي يعتمد عليها أولوهم وآخروهم لكن يصرفون ألفاظها ومعانيها


كلام السهرودي المقتول في التلويحات
وذلك كقول السهروري المقتول في تلويحاته فإنه قال : واجب الوجود لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن فإنه إن كان المرجح هو نفسه أو على ما أخذ من صفاته وهو دائم فيجب دوام الترجيح ودوام وجود المعلول وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي في فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف فواجب الوجود لا تسنح له إرادة وحال كل ما يتجدد حال ما لأجله التجدد في استدعاء مرجح حادث وليس قبل جميع الوجود وقت يتوقف عليه الفعل ولا يمتاز في العدم البحث حال يكون الأولى به أن يصدر عنه شيء أو بالشيء أن يحصل عنه فلو حصل فيه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته ولتسلسل الحوادث فيها إلى غير النهاية وهو محال ففعله دائم


الرد عليه من وجوه الوجه الأول
وجواب هذا من وجوه
الوجه الأول
أن يقال له : ما تعني بقولك : لا يصدر عنه بعد أن لم يكن ؟
إن عنيت له أنه لا يصدر عنه شيء من أعيان الحوادث بعد أن لم يكن ذلك المحدث فهذا باطل لوجهين :
أحدهما : أن هذا خلاف قولكم وقول أهل الملل فإن الحوادث متجددة شيئا بعد شيء سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة وإذا قلتم : الحركة هي السبب فيها فكل جزء من أجزاء الحركة صادر عنه بعد أن لم يكن
الثاني : أن ما ذكرته من الحجة لا ينفي ذلك فإن كون ذاته تقتضي دوام الترجيح لا يوجب أن تقتضي دوام ترجيح كل ممكن ولا كل مفعول بل يكفي أن توجب دوام ترجيح أمر ما كما تقولون أنتم : إن الذي رجحه هو الأفلاك والعناصر دون أعيان الحوادث
وإن عنيت أنه لا يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن شيء من الأشياء صادرا عنه وهذا هو مراده
فيقال : غاية ما في هذا دوام فعله وحينئذ فهذا لا يستلزم دوام المفعول المعين لا الفلك ولا غيره بل يجوز تعاقب الأفعال القائمة به وتعاقب المفعولات المحدثة شيئا بعد شيء على قولك وتعاقبها جميعا
وعلى التقديرات الثلاثة فحدوث الأفلاك ممكن فيبطل استدلالك على قدمها


الوجه الثاني
أن يقال : حدوث الحوادث المنفصلة عنه شيئا بعد شيء من غير فعل يقوم به : إما أن يكون ممكنا وإما ألا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قولكم بأن سبب الحوادث هو حركات الفلك وإن كان ممكنا أمكن حدوث حوادث متعاقبة الفلك واحد منها كما أخبرت بذلك الأنبياء وهو قول قدماء الفلاسفة وأساطينهم


الوجه الثالث
أن يقال : دوام حدوث الحوادث إما أن يكون ممتنعا أو ممكنا كما ذكرت فإن كان ممتنعا لزم حدوث الأجسام وحركاتها ودخل في ذلك الفلك وغيره وإن كان ممكنا لم يجب أن يكون الفلك دائما بل يجوز أن يكون حادثا بعد حوادث قبله كما تقدم


الوجه الرابع
أن يقال : قولكم : إما أن يكون المرجح نفسه أو على ما أخذ من صفاته وهو دائم فيجب دوام الترجيح ودوام وجود المعلول وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي
لأهل الملل هنا جوابان :
أحدهما : قول من يقول : إنه لم يزل يقوم به الفعل والكلام بقدرته ومشيئته وعلى هذا فيمكن دوام الترجيح ولا يجب قدم شيء من المفعولات فضلا عن قدم الأفلاك
والجواب الثاني : قول من يقول : يمتنع وجود المفعول في الأزل
وعلى هذا فإذا قلت لهؤلاء : إذا قلتم : لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف
قالوا : فعل واجب الوجود لما فعله من المفعولات المختلفة الحادثة : إما أن يجوز صدوره عنه من غير فعل قائم به وإما ألا يجوز فإن لم يجز ذلك بطل قولك وإن جاز ذلك فحاله حين حدوث الطوفان كحاله حين إرسال محمد صلى الله عليه و سلم وقد وجد منه في أحد الزمانين من المفعولات ما لا يوجد في الزمان الآخر مع تماثل حاله بالنسبة إلى الزمانين
وإذا قيل : إن ذلك لأجل الحوادث المختلفة كالحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية
قيل : الكلام في الحوادث التي أوجبت حدوث الطوفان كالقول في الحوادث حين المبعث وغيره من الحوادث المختلفة
فإذا كان الفاعل حاله مماثل في جميع الأزمنة واللوازم عنه كذلك كان اختصاص أحد الزمانين بما يخالف الزمان الآخر ترجيحا بلا مرجح فإن كان ذلك جائزا جاز أن تحدث عنه الحوادث بعد أن لم تكن
وإذا نسبت الحوادث إلى الحركة الفلكية قيل : إن كانت الحركة الدائمة متماثلة لزم تماثل الحوادث وإن كان مختلفة كان قد اختص أحد الزمانين بما لم يوجد في الزمان الآخر بل قد يقال : الفاعل إن قيل : إنه يلزمه مفعولات مختلفة دائمة متعاقبة من غير فعل يقوم به ولا صفة له كان كذلك أبعد في العقل من أن يقال : إنه فعل مفعولات مختلفة في وقت دون وقت فإن هذا بعض ذاك فكان المحذور الذي هو في هذا هو في ذاك وزيادة


الوجه الخامس
أن يقال : قولك : وإن لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث ما ينبغي فعله أو عدم ما لا ينبغي ويعود الكلام إليه ولا يقف غايته أنه يستلزم امتناع كونه صار فاعلا بعد أن لم يكن وهذا لازم لك
لكن نقول : لم قلت : إنه لم يزل يفعل شيئا بعد شيء ؟
فإن قلت : هذا يستلزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث شيئا بعد شيء جائز عندكم فبتقدير أنه لا يزال يفعل شيئا بعد شيء كان كل ما سواه حادثا مع التسلسل الجائز وذلك جائز عندك وهو موجب دليلك
فإن كان باطلا بطل مذهبك وإن كان حقا فيقال : ما المانع أن يفعل ما لم يكن فاعلا لحدوث حادث وذلك موقوف على حادث آخر لا إلى نهاية وتكون تلك الحوادث صادرة عنه ؟
ثم يقال : إما أن يكون كل ما حدث يجوز حدوثه بلا فعل يقوم به أو لا بد من فعل يقوم به وعلى التقديرين لا يلزم صحة قولك
فإن قلت : مقصودي أنه لم يزل فاعلا وقد حصل قيل : لا يلزم أن يكون فاعلا لمعقول معين بل ولا يلزم أن يكون هو الفاعل على قولك
فإنك تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أمر يحدث فيه ومنه وعندك يحدث الحادث المخالف لما قبله كالطوفان وغيره من غير أن يحدث منه ما لم يكن حدث قبل ذلك فأنت تجوز حدوث جميع الحوادث من غير أن يحدث منه شيء يخص حادثا من الحوادث


الوجه السادس
أن يقال : قولك : لو حصل منه شيء بعد أن لم يكن لتغيرت ذاته وتسلسل الحوادث فيها إلى غير نهاية وهو محال ففعله دائم
جوابه أن يقال : حصول الحوادث المنفصلة عنه إما أن يقف على حدوث شيء في ذاته وإما أن لا يقف فإن لم يقف بطل قولك : لو حصل شيء بعد أن لم يحصل لتغيرت ذاته وتسلسلت فيها الحوادث فإنك تجوز أن تحدث عنه جميع الحوادث من غير حدوث شيء في ذاته فلا يكون حدوث الحوادث مستلزما لحدوث شيء في ذاته
وإن كان حدوث الحوادث المنفصلة متوقفا على حدوث شيء في ذاته لم يكن في ذلك بمحذور فإن حدوث الحوادث مشهودة وأنت لم تذكر حجة على امتناع هذا المعنى ولكن أحدث امتناعه مسلما
وتسميتك لذلك تغيرا ليس بحجة عقلية فإن لفظ التغير مشترك وهنا لا يراد به الاستحالة بل يراد به نفس الفعل أو التحول أو ما يشبه ذلك وأنت لا دليل لك على انتفاء ذلك بل أنت تجوز على القديم أن يكون متغيرا بهذا الاعتبار وتجوز على القديم أن يكون محلا للحوادث
وتحقيق الكلام في هذا الموضع أن التسلسل هنا يراد به شيئان :
أحدهما : التسلسل في الفعل مطلقا
والثاني : التسلسل في فعل شيء معين
فالأول أن يراد به أنه لا يحدث شيئا من الأشياء أصلا حتى يحدث شيئا فتكون حقيقة الكلام أنه لا يخلق حتى يخلق ولا يفعل حتى يفعل ولا يحدث حتى يحدث وهذا ممتنع بالضرورة وهذا في حقيقة دور وليس بتسلسل فإن معناه أنه لا يكون الشيء حتى يكون الشيء فيلزم الجمع بين النقيضين فإنه إذا لم يوجد حتى يوجد لزم أن يكون معدوما موجودا
وأما إذا قيل : لا يفعل شيئا إلا بشرط يقارنه ولا يفعل ذلك الشرط إلا بشرط يقارنه فهذا التسلسل في تمام التأثير وليس بتسلسل أمور متعاقبة وهذا هو التسلسل في تمام التأثير والأول تسلسل في أصل التأثير وكلاهما ممتنع
والأول هو الذي ينبغي أن يراد بقول القائل : إذا لم يفعل ثم فعل فلا بد من حدوث شيء : إما قدرة وإما إرادة وإما علم وإما أمر من الأمور ثم القول في حدوث ذلك كالقول في حدوث الأول فإن هذا الثاني أيضا لا يحدث إلا بحدوث شيء يكون حادثا معه فإن ما كان من تمام التأثير فلا بد أن يكون موجودا حين التأثير لا يكفي وجوده قبله
وحينئذ فيمكن تصوير هذه الحجة على وجهين :
أحدهما : أن يقال لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا ولا يفعل شيئا حتى يفعل شيئا فإن حدوث الحادث بلا سبب حادث ممتنع
والثاني : أن يقال : لا يحدث مفعولا إلا بحدوث قدرة أو إرادة أو علم أو نحو ذلك ولا يحدث ذلك إلا بحدوث ما يوجب حدوثه فيلزم أن لا يحدث شيئا فإن هذا تسلسل في تمام التأثير والتسلسل في تمام التأثير كالتسلسل في المؤثرين فكما أنه يمتنع أن لا يكون مؤثرا إلا عن مؤثر ولا يؤثر إلا عن مؤثر وأنه يمتنع وجود علل ومعلولات لا نهاية لها فلذلك يمتنع أن لا يتم كون الشيء علة أو فاعلا إلا بوجود أمر ولا يتم وجود ذلك التمام إلا بوجود تمام آخر إلى غير غاية فهذا أيضا ممتنع باتفاق العقلاء
وأما إذا قيل لا يوجد الشيء حتى يوجد قبله شيء آخر ولا يوجد ذلك الثاني حتى يوجد قبله شيء آخر فهذا فيه النزاع المشهور وهو تسلسل الآثار المعينة لا تسلسل في أصل التأثير فيجب تصور الفرق بين الأمرين
وقد صور السهروردي هذه الحجة في كتابه المسمى بـ حكمة الإشراق وهو الذي ذكر فيه خلاصة ما عنده ولم يقلد فيه المشائين بل بين فيه خطأهم في مواضع وذكر فيه طريقة فلاسفة الفرس المجوس والهند
كما أن ابن سينا في كتابه المسمى بـ الحكمة المشرقية ذكر فيه بيان ما تبرهن عنده وكذلك الرازي في المباحث المشرقية


كلام السهرودي المقتول في حكمة الإشراق
فقال السهروردي : نور الأنوار والأنوار القاهرة يعني واجب الوجود والعقول : لا يحصل منهم شيء بعد أن لم يحصل إلا على ما سنذكره فإن كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد وإلا هو مما لا يتصور وجوده أو توقف على غيره فما كان هو الذي يتوقف عليه وقد فرض أن التوقف عليه وهو محال وكل ما سوى نور الأنوار لما كان منه فلا يتوقف على غيره كما يتوقف شيء من أفعالنا على وقت أو زوال مانع أو وجود شرط فإن لهذه مدخلا في أفعالنا ولا وقت مع نور الأنوار متقدم على جميع ما عدا نور الأنوار فإن نفس الوقت أيضا من الأشياء التي هي غير نور الأنوار فلما كان نور الأنوار وجميع ما يفرضه الصفاتية صفة دائمة فيدوم بدوامه ما فيه لعدم توقفه على أمر منتظر ولا يمكن في العدم البحث قرض تجدد مع أن كل ما تجدد يعود الكلام إليه
فنور الأنوار والأنوار القاهرة : ظلالها وأضواؤها المجردة دائمة وقد علمت أن الشعاع المحسوس هو من النير لا النير من الشعاع وكلما يدوم النير الأعظم يدوم الشعاع مع أنه منه
ثم قال : كل هيئة أي عرض لا يتصور ثباتها هي الحركة وكل ما لم يكن زمانا ثم حصل فهو حادث وكل حادث إذا حدث شيء مما يتوقف عليه هو حادث إذ لا يقتضي الحادث وجود نفسه إذ لا بد من مرجح في جميع الممكنات ثم مرجحه إن دام مع جميع ما له مدخل في الترجيح لدام الشيء فلم يكن حادثا ولما كان حادثا فشيء مما يتوقف عليه هذا الحادث حادث
ويعود الكلام إلى ذلك الشيء فلا بد من التسلسل والسلسلة الغير المتناهية مجتمعة وجودها محال فلا بد من سلسلة غير متناهية لا تجمع آحادها ولا تنقطع وإلا يعود الكلام إلى أول حادث بعد الانقطاع فينبغي أن يكون الوجود حادث متجدد لا ينقطع وما يجب فيه لماهيته التجدد إنما هو الحركة
وذكر تمام الكلام في وجوب استمرار حركة دائمة وأنها حركة الأفلاك


الرد عليه من وجوه الوجه الأول
فيقال له عن هذا أجوبة :
أن يقال : كل ما لا يتوقف على غير شيء إذا وجد ذلك الشيء وجب أن يوجد إلى قوله : وما كان من نور الأنوار فلا يتوقف على غيره إلى آخره
ما تعني بقولك : ما كان من نور الأنوار ؟ تعني : الله فلا يتوقف على غيره ؟ أتعني به : أنه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله ؟ أم تعني به : لا يتوقف على فعل قائم بذات الرب يفعله بمشيئته وقدرته ؟
أما الأول : فلا ينفعك لأنه لا يلزم من كونه لا يتوقف على شيء منفصل عن الله أن لا يتوقف على فعله الواقع بمشيئته وقدرته وحينئذ فلا يلزم قدمه بل إذا كان الفعل المراد المقدور حادثا فالمعلق به أولى أن يكون حادثا فإنه لا يكون قبله وما لا يسبق الحوادث يجب أن يكون حادثا
وإن قلت : إنه لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه فهذا محل النزاع وأنت لم تذكر دليلا على أن وجود الممكنات لا يتوقف على فعل الرب القائم بنفسه بل الدليل يوجب توقف المعقولات على فعل الفاعل وتوقف المعلول على اقتضاء العلة والعلة شيء واقتضاؤها المعلول شيء وإذا كانت العلة مشروطة بما يقوم بها بالمشيئة والقدرة لم يحصل المشروط قبل الشرط وأنت لم تقم دليلا إلى ثبوت علة مجردة خالية عن شرط بل الدليل ينفي ذلك لأنه يلزم من قدم هذه العلة قدم معلولها ومعلول معلولها فإن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها وحينئذ فلا يكون للحوادث فاعل أصلا وهذا من أبين الأمور المعلوم فسادها بالضرورة


الوجه الثاني
أن يقال : ما سوى الله هل يتوقف شيء منه على غيره أم لا ؟
فإن قلت بالثاني لزم قدم جميع الممكنات الموجودة حتى الحوادث وهو مكابرة وإن توقف منه شيء على غيره بطل قولك : ما سوى نور الأنوار لا يتوقف على غيره وإيضاح ذلك :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق