وحدث عبد
الله البلتاجي، قال: دخل ابن أبي ليلى على أبي جعفر المنصور، وكان ابن أبي ليلى
قاضياً فقال أبو جعفر: إن القاضي يرد عليه. من ظرائف الناس ونوادرهم أمور، فإن كان
ورد عليك شيء فحدثنيه، فقد طال علي يومي.
قال: والله يا أمير المؤمنين، قد ورد علي منذ ثلاثة أيام
أمر ما ورد علي مثله. أتتني عجوز تكاد تنال الأرض بوجهها أو تسقط من انحنائها
فقالت: أنا بالله وبالقاضي أن يأخذ لي بحقي وأن يعينني على خصمي.
قلت: ومن خصمك؟ قالت: إبنة أخ لي.
فدعوت بها فجاءت امرأة ضخمة ممتلئة شحماً فجلست منبهرة.
فذهبت العجوز تتظلم، فقالت الشابة: أصلح الله القاضي، مرها فلتسكت حتى أتكلم بحجتي
وحجتها فإن لحنت بشيء فلترد علي، فإن أذنت لي أسفرت.
فقالت العجوز: إن أسفرت قضيت لها.
فقلت لها: أسفري، فأسفرت عن وجه والله ما ظننت أنه يكون
مثله إلا في الجنة. فقالت: أصلح الله القاضي، هذه عمتي مات والدي وتركني يتيمة في حجرها
فربتني فأحسنت التربية، حتى إذا بلغت مبلغ النساء قالت لي: يا بنت أخي، هل لك في
التزويج؟ قلت: ما أكره ذلك يا عمة.
قالت العجوز: نعم.
قالت: فخطبني وجوه أهل الكوفة فلم ترض إلا رجلاً
صيرفياً، فتزوجني، فكنا كأننا ريحانتان ما أظن أن الله خلق غيره يغدو إلى سوقه
ويروح علي بما رزقه الله تعالى. فلما رأت العمة موقعه مني وموقعي منه حسدتنا على
ذلك، وكانت لها ابنةً فشوفتها وهيأتها لدخول زوجي، فوقعت علينه عليها، فقال: يا
عمة هل لك أن تزوجيني ابنتك؟ قالت: نعم بشرط.
فقال لها: وما الشرط.؟ قالت: تصير أمر ابنة أخي إلي.
قال: قد صيرت أمرها إليك.
قالت: فإن قد طلقتها ثلاثاً بتةً.
وزوجت ابنتها زوجي، فكان يغدو عليها ويروح، فقلت لها :
يا عمتي أتأذنين لي أن أنتقل عنك؟ قالت: نعم.
فانتقلت عنها وكان لعمتي زوج غائب فقدم فلما توسط منزلها
قال: ما لي لا أرى ربيبتنا؟ قالت: طلقها زوجها فانتقلت عنا.
فقال: إن لها من الحق علينا أن نعزيها بمصيبتها.
فلما بلغني مجيئه إلي تهيأت له وتشوفت. فلما دخل علي
عزاني بمصيبتي، ثم قال: إن فيك بقيةً من الشباب؛ فهل لك أن أتزوج بك؟ قلت: ما أكره
ذلك ولكن على شرط.
قال لي: وما الشرط؟ قلت: تصير أمر عمتي بيدي.
قال: فإني قد فعلت وصيرت أمرها بيدك.
قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة.
قالت: فقدم علي بثقله من الغد ومعه ستة آلاف درهم فأقام
عندي ما أقام، ثم إنه اعتل وتوفي فلما انقضت عدتي جاء زوجي الأول الصيرفي يعزيني
بمصيبتي فلما بلغني مجيئه تهيأت وتشوفت له، فلما دخل علي قال لي: يا فلانة إنك تعلمين
أنك كنت أعز الناس علي وأحبهم إلي، وقد حلت المراجعة، فهل لك في ذلك؟ قلت: ما أكره
ذلك، ولكن اجعل أمر ابنة عمتي بيدي.
قال: فإني قد فعلت.
قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتةً، أصلح الله القاضي،
فرجعت إلى زوجي فما اعتدائي عليها.
فقالت العجوز: أنا فعلت مرة، وفعلت مرة بعد أخرى.
فقلت: إن الله لم يوقت في هذا وقتاً، وقد قال تعالى:
" ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله " . فواحدة بواحدة
والبادي أظلم.
فقال القاضي: إن زوج العمة لم يكن له أن يتزوج ابنة
أخيها وهي في عدته؛ فأرادت العجوز أن تتولى التفريق بينه وبينها استيفاء لها
ومجازاة لها على فعلها، فقلت لها: قد فرقت بينكما، قومي إلى منزلك، انتهى.
الأمير الأموي وملك النوبة
وذكر
المنصور يوماً في مجلسه زوال ملك بني أمية وما جرى عليهم، وأنهم عاشوا سعداء
وماتوا فقراء، فقال له إسماعيل بن علي الهاشمي: إن عبد الله بن مروان بن محمد في
حبسك، وله قصة مع ملك النوبة. فأحضره واسأله عنها. فأحضره، فقال: السلام عليك يا أمير
المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال المنصور: رد السلام أمن ولم تسمح نفسي بذلك، ولكن
اقعد! فقعد، فقال: ما قصتك مع ملك النوبة؟
فقال: يا
أمير المؤمنين، كنت ولي عهد أبي فلما طلبتنا دعوت عشرة من غلماني ودفعت لكل واحد
ألف دينار وأوسقت خمس بغال وشددت في وسطي جوهراً له قيمة عظيمة وخرجت هارباً إلى
بلاد النوبة، فلما قربنا بعثت غلاماً لي، فقلت له: امض إلى هذا الملك وأقرئه
السلام وخذ لنا منه الأمان وابتغ لنا ميرة. فمضى وأبطأ حتى أسأت به الظن، ثم أقبل
ومعه رجل فدخل وسلم وقال: الملك يقرئك السلام ويقول لك: من أنت
وما جاء بك إلى بلادي؟ أمحارب، أم راغب في ديني، أم مستجير بي؟ فقلت له: رد على
الملك، ما أنا بمحارب ولا راغب في دينك ولا ممن يبتغي بدينه بدلاً بل مستجير به.
فذهب الرسول ورجع إلي وقال: الملك يقول لك إني أجيء إليك
غداً فلا تحدث نفسك حدثاً ولا شيئاً من الميرة.
فقلت لأصحابي: افرشوا الفراش، ففرش لي وجلست من الغد
أرقبه، وإذا هو قد أقبل وعليه بردان قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، حافي
الرجلين، ومعه عشرة معهم الحراب: ثلاثة يقدمونه وسبعة خلفه، فاستصغرت أمره وسولت
لي نفسي قتله، فلما قرب إذا سواد عظيم، قلت: ما هذا؟ قالوا: الخيل. فوافى بها عشرة
آلاف عنان، ووافت الخيل عند دخوله فأحدقوا بنا، فلما دخل جلس على الأرض، قال: فقلت
لترجمانه: لِمَ لمْ يقعد على الموضع الذي وطئ له؟ فسأله، فقال: قل له إنه ملك
وكل ملك حقه أن يكون متواضعاً لله وعظمته إذ رفعه الله على عباده.
ثم نكت بإصبعه الأرض طويلاً ورفع رأسه وقال: قل له كيف
سلبتم هذا الملك، فأخذ منكم وأنتم أقرب الناس إلى نبيكم؟ فقلت: جاء من هو أقرب منا
قرابة إليه، فسلبنا وغلبنا وطردنا فخرجت إليك مستجيراً بالله، ثم بك.
قال: فلم كنتم تشربون الخمر وهو محرم عليكم؟ قلت: فعل
ذلك عبيد وأعاجم دخلوا في ديننا وفي ملكنا من غير رأينا.
قال: فلم تركبون على الديباج وعلى خيولكم سروج الذهب
والفضة وهي محرمة عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد وأعاجم دخلوا في ديننا وفي ملكنا بغير
رأينا.
قال: فلم كنتم إذا خرجتم إلى الصيد مررتم على القرى
وكلفتم أهلها ما لا طاقة لهم به بالضرب والإهانة ولا يقنعكم ذلك حتى تحطموا زرعهم
في طلب دراج قيمته نصف درهم، والتكليف والعناء محرم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيد
وغلمان وأتباع.
قال: لا! ولكنكم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما
نهاكم الله عنه فسلبكم العز وألبسكم الذل ونصر أعداءكم عليكم، ولله فيكم نقمة لم
تبلغ غايتها بعد، وإني أخاف أن تنزل بك النقمة إذ كنت من الظلمة فتشملني معك، فإن
النقمة إذا نزلت شملت، فاخرج بعد ثلاث، فإن وجدتك بعدها أخذت ما معك وقتلتك ومن
معك.
ثم وثب قائماً وخرج وقمت ثلاثاً ورجعت إلى مصر فأخذني
عاملك وبعث بي إليك، وها أنا ذا والموت أحب إلي من الحياة.
فرق له المنصور وهم بإطلاقه، فقال له إسماعيل بن علي: في
عنقي بيعة هذا.
قال: فما ترى؟ قال: ينزل في دار من دورنا ويجري عليه ما
يجري على مثله.
ففعل به ذلك، انتهى.
بليتان. المنصور والطاعون
وخطب
المنصور يوماً بالشام، فقال: أيها الناس ينبغي لكم أن تحمدوا الله تعالى على ما
وهبكم في فإني منذ وليتكم صرف الله عنكم الطاعون الذي كان يجيئكم.
فقال أعرابي: إن الله أكرم من أن يجمعك أنت والطاعون
علينا.
أبي هرمة والخمر
ودخل ابن
هرمة على المنصور وامتدحه، فقال له المنصور: سل حاجتك؟ قال: تكتب إلى عاملك
بالمدينة إذا وجدني سكران لا يحدني.
فقال له المنصور: هذا حد لا سبيل إلى تركه.
فقال: ما لي حاجة غيرها.
فقال لكاتبه: اكتب إلى عاملنا بالمدينة من أتاك بابن
هرمة وهو سكران فاجلده ثمانين، واجلد الذي جاء به مائة.
فمكان الشرطة يمرون عليه وهو سكران ويقولون: من يشتري
ثمانين بمائة، فيمرون عليه ويتركونه، انتهى.
الرجل الثبت الجنان
وحدث أحمد
بن موسى قال: ما رأيت رجلاً أثبت جناناً ولا أحسن معرفة ولا أظهر حجة من رجل رفع
فيه عند المنصور بأن عنده أموالاً لبني أمية، فأمر المنصور حاجبه الربيع أن يحضره،
فلما حضر بين يديه. قال المنصور: رفع إلينا أن عندك ودائع وأموالاً وسلاحاً لبني
أمية فأخرجها لنا لنجمع ذلك إلى بيت المال.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أنت وارث لبني أمية؟ قال:
لا.
قال: فلم
تسأل إذن عما في يدي من أموال بني أمية ولست بوارث لهم ولا وصي.
فأطرق المنصور ساعة، ثم قال: إن بني أمية ظلموا الناس
وغصبوا أموال المسلمين.
فقال الرجل: يحتاج أمير المؤمنين إلى بينة يقبلها الحاكم
تشهد أن المال الذي لبني أمية هو الذي في يدي وأنه هو الذي غصبوه من الناس. وأن
أمير المؤمنين يعلم أن بني أمية كانت لهم أموال لأنفسهم غير أموال المسلمين التي
اغتصبوها على ما يتهم أمير المؤمنين؟ قال: فسكت المنصور ساعة، ثم قال: يا ربيع،
صدق الرجل ما يجب لنا على الرجل شيء، ثم قال للرجل: ألك حاجة؟ قال: نعم.
قال: ما هي؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى في إليك
فوالله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح. وإنما أحضرت بين يديك
وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم، فأيقنت أن
الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه.
فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به فجمع
بينهما. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور
شرعي.
فسأل المنصور الرجل فأقر بالمال. قال: فما حملك على
السعي كاذباً؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال.
فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين، لأجل وقوفي
بين يديك وحضوري مجلسك ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي.
فاستحسن المنصور فعله وأكرمه ورده إلى بلده مكرماً.
وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط،
ولا أثبت من جنانه ولا من حجني مثله ولا رأيت مثل حمله ومروءته، انتهى.
خلاقة المهدي
الرؤيا الصالحة
اسمه محمد
بن المنصور، حدثنا داود بن رشيد، قال: قلت للهيثم بن علي بأي شيء استحق سعيد بن
عبد الرحمن أن ولاه المهدي القضاء وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ فقال: إن خبره
باتصاله بالمهدي ظريف، فإن أحببت شرحته لك. قلت والله قد أحببت.
قال: اعلم أنه وافى الربيع الحاجب حين أفضت الخلافة إلى
المهدي وقال له: استأذن لي على أمير المؤمنين، فقال له: من أنت وما حاجتك؟ قال:
أنا رجل قد رأيت لأمير المؤمنين أعزه الله رؤيا صالحة، وقد أحببت أن تذكرني له،
فقال الربيع: يا هذا ، إن القوم لا يصدقون فيما يرونه لأنفسهم فكيف بما يراه لهم
غيرهم، فاحتل بحيلة غير هذه، فقال: إن لم تخبره بمكاني سألت من يوصلني إليه وأخبره
ني سألتك الإذن لي عليه فلم تفعل؟ فدخل الربيع على المهدي، فقال له: يا أمير
المؤمنين، إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم فقد احتالوا عليكم بكل ضرب.
فقال له المهدي: هكذا تصنع الملوك فماذا؟ قال: رجل
بالباب يزعم أنه رأى لأمير المؤمنين أيده الله رؤيا حسنة، وقد أحب أن يقصها عليك.
فقال المهدي: يا ربيع، إني والله أرى الرؤيا لنفسي فلا
تصح لي فكيف يمكن ادعاؤها ممن لعله قد افتعلها؟ قال: والله قلت له مثل هذا فلم
يقبل.
قال: هات الرجل.
قال: فأدخل عليه سعيد وكان له رؤية وجمال ومروة ظاهرة
ولحية عظيمة ولسان طلق، فقال له: ما رأيت بار الله فيك؟ قال: رأيت يا أمير
المؤمنين آتياً أتاني في منامي فقال: أخبر أمير المؤمنين أنه يعيش ثلاثين سنة في
الخلافة، وآية ذلك أنه يرى في ليلته الآتية في منامه كأنه يقلب يواقيت ثم يعدها فيجد
ثلاثين ياقوتة كأنها قد وهبت له.
فقال المهدي: ما أحسن ما رأيت، ونحن نمتحن رؤياك في
ليلتنا المقبلة على ما أخبرتنا: فإن كان الأمر على ما ذكرت أعطيناك فوق ما تريد،
وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك لعلمنا أن الرؤيا الصالحة ربما صدقت وربما
اختلفت.
قال: يا أمير المؤمنين، فما أصنع أنا الساعة إذا صرت إلى
منزلي وعيالي وأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين أكرمه الله، ثم رجعت صفر اليد؟
فقال له المهدي: فكيف نعمل؟ فقال: يعجل لي أمير المؤمنين أعزه الله تعالى ما أحب
وما أحلف له بالطلاق إني قد صدقت.
فأمر له بعِشرة آلاف درهم وأمر بأن يؤخذ له كفيل ليحضر
من غد ذلك اليوم فقبض المال وقال له: من يكفلك؟ فمد عينه إلى خادم حسن الوجه والزي
وقال: هذا يكفلني.
فقال له المهدي: أكفله يا غلام؟
فاحمر
وخجل، وقال: نعم يا أمير المؤمنين، فكفله وانصرف سعيد بن عبد الرحمن بالعشرة آلاف
درهم. فلما كانت تلك الليلة رأى المهدي ما ذكره له سعيد حرفاً بحرف وأصبح سعيد
فوافى الباب واستأذن، فأذن له. فلما وقعت عين المهدي عليه قال له: أين مصداق ما
قلت لنا عليه؟ فقلت له: وما رأى أمير المؤمنين. فضحك في جوابه، فقال له: امرأتي
طالق إن لم تكن رأيت شيئاً؟ فقال: لأني أحلف على صدق.
قال له المهدي: فقد والله رأيت ذلك مبيناً.
فقال سعيد: الله أ:بر، فأنجز لي يا أمير المؤمنين ما
وعدتني.
قال: حباً وكرامة.
ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار وعشر تخوت ثياب من كل صنف
وثلاثة مراكب من أنفس دوابه محلاةً، فأخذ ذلك وانصرف فلحق به الخادم الذي كان
كفله. وقال: سألتك بالله هل لهذه الرؤيا من أصل؟ فقال سعيد: لا والله.
فقال الخادم: كيف وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته؟ قال:
هذا من المخاريق التي لا أب لها، وذلك أني لما ألقيت هذا الكلام خطر بباله وحدث به
نفسه وأسرى به قلبه واشتغل به فكره ففي ساعة نام خيل له ما حل في قلبه واشتغل به
فكره فنام فرآه.
فقال له الخادم: قد حلفت بالطلاق.
قال: طلقة واحدة وبقيت معي على اثنتين وأزيد مهرها عشرة
دراهم. وأتحصل على عشرة آلاف درهم وثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت من أصناف الثياب،
وثلاثة مراكب فارهة.
فبهت الخادم وتعجب من ذلك. فقال له سعيد: قد صدقتك وجعلت
ذلك مكافأتك على كفالتك فاستر علي.
ثم طلبه المهدي لمنادمته فنادمه وحظي عنده وقلده القضاء
على العسكر. فلم يزل كذلك حتى مات. انتهى.
المهدي والأعرابي
يحكى أن
المهدي خرج يتصيد، فسار به فرسه حتى دخل إلى خباء أعرابي، فقال: يا أعرابي. هل من قرى؟
قال: نعم، فأخرج له قرض شعير فأكله، ثم أخرج له فضلة من لبن فسقاه، ثم أتاه بنبيذ
في ركوة فسقاه قعباً. فلما شرب قال: يا أخا العرب أتدري من أنا؟ قال: لا والله.
قال: أنا من خدم أمير المؤمنين الخاصة.
قال: بارك الله في موضعك.
ثم سقاه قعباً آخر فشربه فقال: يا أعرابي، أتدري من أنا؟
قال: زعمت أنك من خدم أمير المؤمنين الخاصة.
قال: لا، بل أنا من قواد أمير المؤمنين.
قال: رحبت بلادك وطاب مرادك.
ثم سقاه ثالثاً فلما فرغ منه قال: يا أعرابي، أتدري من
أنا؟ قال: زعمت أنك من قواد أمير المؤمنين.
قال: لا، ولكني أمير المؤمنين.
فأخذ الأعرابي الركوة وأوكأها وقال: والله لو شربت
الرابع لادعيت أنك رسول الله.
فضحك المهدي حتى غشي عليه وأحاطت به الخيل ونزلت إليه
الملوك والأشراف فطار قلب الأعرابي فقال له: لا بأس عليك ولا خوف ثم أمر له بكسوة
ومال.
أبو نواس وجارية بنت المهدي
وقيل: كان
لأسماء بنت المهدي جارية يقال لها: كاعب. وكانت بكراً ناهداً ذات حسن وجمال وقد
واعتدال، وكانت بنت ست عشرة سنة. قال: فتلاعب عليها أبو نواس لينالها، فتمنعت منه
مراراً. فظفر بها ليلة من الليالي في ناحية من نواحي القصر فمسكها فبكت وقالت:
الموت دون ذلك، فقال أبو نواس في نفسه: هذا جزع الأبكار، فتركها مدة، فائفق
أنه خرج من القصر ليلة وقد رقرق الدجى، فوجدها نائمة سكرى فتقرب منها وحل السراويل
من وسطها، ودهمها، فإذا هي خالية من البكارة، فارتاع وظن أنه يكون أتاها دم، فلم
يجد وقام عنها وندم على ما كن منه وأخذ يقول:
وناهدة الثديين من خدم القصر ... مرقرقة الخدين ليلية
الشعر
كلفت بها دهراً حسن وجهها ... طويلاً وما حب الكواعب من
أمري
فما زلت بالأشعار حتى خدعتها ... وروضتها، والشعر من خدع
السحر
أطالبها شيئاً، فقالت بعبرة: ... أموت به داءً ودمعتها
تجري
فلما تعانقنا توسطت لجةً ... غرقت بها يا قوم في لجج
البحر
فصحت أغثني يا غلام، فجاءني ... وقد زلقت رجلي ورحت إلى
الصد
ولولا صياحي بالغلام وأنه ... تداركني بالحبل رحت إلى
القعر
فأقسمت عمري لا ركبت سفينة ... ولا سرت طول الدهر إلى
على الظهر
الشاعر المجنون
قال
المبرد: صعدت من البصرة إلى بغداد، فمررت بدير العاقول فرأيت مجنوناً فيه. فلم أر
قط أظرف منه ولا أحسن ثياباً، ويده الواحدة على صدره. فلما دنوت منه أنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمدٌ ... لا أستطيع أبث ما أجد
روحان لي: روح تملكها ... بلد، وأخرى حازها بلد
وأرى الصبابة ليس ينفعها ... صبر وليس لمثلها جلد
وأظن ظاعنتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
فقلت: أحسنت والله، لله درك يا مجنون. فأهوى لشيء يرميني
به فبعدت عنه. فقال لي: أنشدتك ما تحبه واستحسنته. وتقول لي: يا مجنون، وتكون
مع الزمان علي.
فقلت له: أخطأت.
فقال: إذن اعترفت بخطئك. ثم قال: أنشدك شعراً أيضاً؟
قلت: نعم.
فأنشأ يقول:
ما أقتل البين للمحب. وما ... أوجع قلب المحب بالكمد
عرضت نفسي على البلاء لقد ... أسرع في مهجتي وفي كبدي
يا حسرةً! إذ أبيت معتقلاً ... بين اختلاج الهموم والسهد
فقلت: أحسنت والله زدنا، فقال:
إن فتشوني فمحرق الكبد ... أو كشفوني فناحل الجسد
أضعف ما بي وزادني ألماً ... أن لست أشكو النوى إلى أحد
فقلت: أحسنت والله زدنا.
فقال: يا فتى، أراك كلما أنشدتك بيتاً قلت زدنا، وما ذاك
إلا لمفارقة حبيبٍ أو خل أريب، ثم قال: أحسبك أبا العباس المبرد. بالله ما هو أنت.
قلت: أنا ذلك فمن أين عرفتني؟ فقال: وهل يخفى القمر؟ ثم
قال: يا أبا العباس، أنشدني من شعرك شيئاً تنتعش به روحي، فأنشدته قولي:
بكيت حتى بكى من رحمتي الطلل ... ومن بكائي بكت أعداي إذ
رحلوا
يا منزل الحي! أين الحي قد نزلوا؟ ... نفسي تساق إذا ما
سيقت الإبل
أنعم صباحاً، سقاك الله من طلل ... غيثاً وجاد عليك
الوابل الهطل
سقياً لعهدهم والدار جامعة ... والشمل ملتئم والحبل متصل
فطالما قد نعمنا والحبيب بها ... والدهر يسعد والواشون
قد غفلوا
قد غير الدهر ما قد كنت أعرفه ... والدهر ذو دول بالناس
ينتقل
بانوا فبان الذي قد كنت آمله ... والبين أعظم ما يبلى به
الرجل
فالشمل مفترق، والقلب محترق ... والدمع منسكب، والركب
مرتحل
كأن قلبي لما سار عيسهم ... صب به دنف أو شارب ثمل
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم ... وثوروها وسارت بالهوى
الإبل
وقلت من خلال السجف ناظرها ... ترنوا لي، ودمع العين
منهمل
يا حادي العيس! عرج بي أو دعهم ... يا حادي العيس في
ترحالك الأجل
إني وحقك لا أنس مودتهم ... يا ليت شعري لطول العهد ما
فعلوا؟
قال أبو العباس المبرد: فلما أتممت شعري. قال لي: ما
فعلوا؟ قلت: ماتوا، فصاح صيحة عظيمة وخر مغشياً عليه، فحركته فوجدته قد مات. رحمة
الله عليه. انتهى.
خلافة موسى الهادي بن محمد
لم أر فيه
شيئاً ومن رأى فيه شيئاً فليضعه.
قال بعض الفضلاء: من حيث أن المؤلف أمر بأن من رأى فيه
شيئاً فليضعه، فرأيت هذا النذر اليسير مذكوراً في تاريخ الإسحاقي فأحببت ذكره
امتثالاً لأمره، فقلت:
الهادي والخارجي
ذكر صاحب الكردان: أن الهادي كان يوماً في بستان يتنزه على حمار، ولا سلاح معه وبحضرته جماعة، من خواصه وأهل بيته، فدخل عليه حاجبه وأخبره أن بالباب بعض الخوارج له بأس ومكايد، وقد ظفر به بعض القواد فأمر الهادي بإدخاله فدخل عليه بين رجلين قد قبضا على يديه. فلما أبصر الخارجي الهادي جذب يديه من الرجلين واختطف سيف أحدهما وقصد الهادي ففر كل من كان حوله وبقي وحده، وهو ثابت على حماره، حتى إذا دنا منه الخارجي وهم أن يعلوه بالسيف أومأ إلى وراء الخارجي وأوهمه أن غلاماً وراءه وقال: يا غلام اضرب عنقه، فظن الخارجي أن غلاماً وراءه والتفت الخارجي، فنزل الهادي مسرعاً عن حماره فقبض على عنق الخارجي وذبحه بالسيف الذي كان معه، ثم عاد إلى ظهر حماره من فوره، وأتباع الهادي ينظرون إليه ويتسللون عليه وقد ملئوا منه حياءً ورعباً، فما عاتبهم ولا خاطبهم في ذلك بكلمة، ولم يفارق السلاح بعد ذلك اليوم، ولم يركب إلا جواداً من الخيل. فانظر إلى هذا المقدار في ثبات جأش الملوك، فإنه قل من يفعل ذلك، وهذه مرتبة لم يصل إليها أحد إلا نادراً.
الهادي وحبه لغادرة
حكي عبد
الحق أنه قال مما ابتلي به الهادي من المحبة أنه كان مغرماً بجارية تسمى غادراً،
وكانت من أحسن النساء وجهاً وأطيبهم غناءً، اشتراها بعشرة آلاف دينار، فبينما هو
يشرب مع ندمائه إذ فكر ساعة وتغير لونه وقطع الشراب، فقيل له: ما بال أمير
المؤمنين؟ قال: وقع في قلبي أني أموت وأن أخي هارون بلي الخلافة ويتزوج غادراً
فامضوا وأتوني برأسه.
ثم رجع عن ذلك وأمر بإحضاره، وحكى له ما خطر بباله فجعل
هارون يترفق به، فقال: لا أرضى حتى تحلف علي بكل ما أحلفك به أني إذا مت لا تتزوج
بها. فرضي
بذلك وحلف إيماناً عظيمة، ودخل إلى الجارية وحلفها أيضاً على مثل ذلك، فلم يلبث
بعد ذلك سوى شهر ومات وولي الخلافة هارون الرشيد فطلب الجارية فقالت: يا أمير
المؤمنين كيف تصنع بالإيمان؟ فقال: قد كفرت عنك وعني.
ثم تزوج بها ووقعت في قلبه موقعاً عظيماً وافتتن به أعظم
من أخيه الهادي حتى كانت تسكر وتنام في حجره فلا يتحرك ولا ينقلب. فبينما هون في
بعض الليالي وهي في حجره نائمة إذا بها انتبهت فزعة مرعوبة. فقال لها: ما بالك فديتك؟
قالت: رأيت أخاك الهادي الساعة في النوم فأنشدني هذه الأبيات:
أخلفت عهدي بعدما ... جاوزت سكان المقابر
ونسيتني، وحنثت في ... إيمانك الزور الفواجر
ونكحت غادرة أخي ... صدق الذي سماك غادر
لا يهنك الإلف الجدي؟ ... د ولا تدر عنك الدوائر
ولحقتني قبل الصبا - ح وصرت حيث غدوت صائر قالت: ثم ولى
عني وكأن الأبيات مكتوبة في قلبي ما نسيت منها كلمة.
فقال لها: هذه أحلام الشيطان.
فقالت: كلا، والله يا أمير المؤمنين. ثم اضطربت بين يديه
وماتت في تلك الساعة، ولا تسأل عن هارون الرشيد وما لقي بعدها.
؟؟
خلافة هارون الرشيد بن محمد المهدي
هو أخو
موسى الهادي، وهو الخامس من بني العباس.
قال إبراهيم الموصلي في تهنئة الخلافة عندما ولي الرشيد
بعد أخيه موسى الهادي:
ألم تر أن الشمس كانت مريضة ... فلما أتى هارون أشرق
نورها
تلبست الدنيا جمالاً بملكه ... فهارون واليها ويحيى
وزيرها
هارون والأعرابي
قدم
أعرابي حين ولي هارون الخلافة فقيل له: فيم جئت؟ قال: أتيت برسالة.
قال: ائت بها.
قال: أتاني آت في منامي فقال: ائتِ أمير المؤمنين فابلغه
هذه الأبيات:
توارثت الخلافة في قريشٍ ... تزف إليكما أبداً عروسا
إلى هارون تهدي بعد موسى ... تميس، وما لها أن لا تميسا
فأعطاه الرشيد عطاء جزيلاً وصرفه.
ليلة عظيمة
بويع له
بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه وولد في تلك الليلة المأمون، وكانت ليلة
عظيمة لم ير مثلها في بني العباس مات فيها خليفة، وولي فيها خليفة، وولد فيها
خليفة.
ولما بويع الرشيد قلد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك
وزارته. وسيأتي إيقاع الرشيد بالبرامكة وسبب ذلك.
الرشيد والمستقية
ويحكى أن
هارون الرشيد مر في بعض الأيام وبصحبته جعفر البرمكي وإذا هو بعدة بنات يستقون
الماء فعرج عليهن يريد الشرب وإذا إحداهن تقول:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي وقت المنام
كي أستريح وتنطفي ... نار تأجج في العظام
دنفٌ تقلبه الأكف ... على بساط من سقام
فأعجب أمير المؤمنين ملاحتها وفصاحتها. فقال لها: يا بنت
الكرام هذا من قولك أم من منقولك؟ قالت: من قولي.
قال: إن كان كلامك صحيحاً فأمسكي المعنى وغيري القافية
فأنشدت تقول:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي وقت الوسن
كي أستريح وتنطفي ... نارٌ تأجج في البدن
دنف تقلبه الأكف ... على بساط من شجن
أما أنا فكما علم؟ ... ت فهل لوصلك من ثمن؟
فقال لها: والآخر مسروق.
قالت: بل كلامي.
فقال: إن كان كلامك أيضاً فأمسكي المعنى وغيري القافية.
فقالت:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي وقت الرقاد
كي أستريح وتنطفي ... نار تأجج في الفؤاد
دنف تقلبه الأكف ... على بساط من حداد
أما أنا فكما علم؟ ... ت فهل لوصلك من سداد؟
فقال لها: والآخر مسروق.
فقال: بل كلامي.
فقال لها: إن كان كلامك فأمسكي المعنى وغيري القافية.
فقالت:
قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي وقت الهجوع
كي أستريح وتنطفي ... نار تأجج في الضلوع
دنف تقلبه الأكف ... على بساط من دموع
أما أنا فكما علم؟ ... ت فهل لوصلك من رجوع؟
فقال لها أمير المؤمنين: أنت من أي هذا الحي؟ قالت: من
أوسطه بيتاً، وأعلاه عموداً.
فعلم أمير المؤمنين أنها بنت كبير الحي. ثم قالت: وأنت
من أي راعي الخيل؟ فقال: من أعلاها شجرة وأينعها ثمرة.
فقبلت الأرض وقالت: أيد الله أمير المؤمنين ودعت له ثم
انصرفت مع بنات العرب.
فقال الخليفة لجعفر: لا بد من أخذها فتوجه جعفر إلى
أبيها، وقال له: أمير المؤمنين يريد بنتك.
فقال: حباً وكرامة، تهدى جارية إلى أمير المؤمنين مولانا.
ثم جهزها وحملها إليه فتزوجها ودخل بها فكانت عنده من
أعز نسائه وأعطى والدها ما يستره بين العرب من الأنعام. ثم بعد مدة انتقل والدها
بالوفاة إلى رحمة الله تعالى، فورد على الخليفة خبر وفاته فدخل عليها وهو كئيب، فلما
شاهدته وعليه الكآبة، نهضت ودخلت إلى حجرتها وقلعت ما عليها من الثياب الفاخرة
ولبست ثياب الحزن وقامت النعي له.
فقيل لها: ما سبب هذا؟ فقالت: مات والدي، فمضوا إلى
الخليفة فأخبروه فقام وأتى إليها وسألها من أعلمها بهذا الخبر؟ قالت: وجهك يا أمير
المؤمنين.
قال: كيف ذلك؟ قالت: منذ أنا عندك ما رأيتك هكذا ولم يكن
لي من أخاف عليه إلا والدي لكبره، ويعيش رأسك أنت يا أمير المؤمنين. فترغرغت عيناه
بالدموع وعزاها فيه، وقامت مدة، وهي حزينة على والدها ثم لحقت به رحمة الله عليهم أجمعين.
؟
الضيف الطارق
ويحكى أن
أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق ذات ليلة فقام يتمشى في قصره بين المقاصير، فرأى
جارية من جواريه نائمة فأعجبته، فداس على رجليها فانتبهت فرأت أمير المؤمنين، فاستحيت
منه وقالت: يا أمين الله ما هذا الخبر.
فأجابها بقوله:
قلت: ضيف طارق في أرضكم ... هل تضيفوه إلى وقت السحر
فأجابته تقول:
بسرور وهناء سيدي ... أخدم الضيف بسمعي والبصر
فبات عندها إلى الصباح، فسأل أمير المؤمنين من بالباب من
الشعراء؟ قيل له: أبو نواس. فمر به فدخل عليه. فقال: هات علي يا أمين الله ما
هذا الخبر، فأنشأ يقول:
طال ليلي حين وافاني السهر ... فتفكرت فأحسنت الفكر
قمت أمشي في المجالي ساعة ... ثم أجري في مقاصير الحجر
فإذا وجه جميل مشرقٌ ... زانه الرحمن من بين البشر
فلمست الرجل منها موطئاً ... فدنت مني ومدت للبصر
وأشارت لي بقول مفصحٍ ... يا أمين الله ما هذا الخبر؟
قلت: ضيف
طارق في أرضكم ... هل تضيفوه إلى وقت السحر
فأجابت بسرور سيدي ... أخدم الضيف بسمعي والبصر
قال: فتعجب أمير المؤمنين من ذلك وأمر له بصلة.
هارون والجارية السكرى
يحكى أن
هارون الرشيد هجر جارية له ثم لقيها في بعض الليالي في القصر سكرى تدور في جوانب
القصر وعليها مطرف خز، وهي تسحب أذيالها من التيه والعجب، وسقط رداؤها عن منكبيها،
والريح أبان نهديها كأنهما رمانتان، ولها ردفان ثقيلان، فراودها عن نفسها، فقالت:
يا أمير المؤمنين! هجرتني هذه المدة وليس لي علم بملاقاتك فأنظرني إلى غد حتى
أتهيأ وآتيك.
فلما أصبح قال للحاجب: لا تدع أحداً يدخل علي إلا فلانة،
وانتظرها فلم تجئ فقام ودخل عليها وسألها إنجاز الموعد فقالت: يا أمير المؤمنين،
كلام الليل يمحوه النهار. فقام واستدعى من بالباب من الشعراء فدخل عليه أبو نواس والرقاشي
وأبو مصعب فقال لهم: هاتوا علي، كلام الليل يمحوه النهار. فقال الرقاشي: أنا قائل
في ذلك ثلاثة أبيات، وأنشأ يقول:
أتسلوها، وقلبك مستطار ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك صباً مستهاماً ... فتاة لا تزور ولا تزار
فولت وانثنت تيهاً، وقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو مصعب: وأنا قائل في ذلك ثلاثة أبيات، وأنشأ
يقول:
أما والله لو تجدين وجدي ... لما وسعتك في بغداد دار
أما يكفيك أن العين عبرى ... ومن ذكراك في الأحشاء نار
تبسمت الفتاة بغير ضحك ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس: أنا قائل في ذلك أربعة أبيت، وأنشأ يقول:
وخود أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز الريح أردافاً ثقالاً ... وغصناً فيه رمانٌ صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التخميش وانحل الإزار
فقلت: الوعد سيدتي، فقالت: كلام الليل يمحوه النهار
فقال الرشيد: قاتلك الله كأنك كنت معنا أو مطلعاً علينا.
ومر لكل بخلعة سنية وخمسة آلاف درهم، ولأبي نواس بعشرة
آلاف درهم، انتهى.
الرشيد وجارية الخيزران
وذكر
الخطيب في بعض مصنفاته أن الرشيد دخل يوماً قبل وقت الظهر، في مقصورة جارية تسمى
الخيزران على غفلة منها، فوجدها تغتسل، فلما رأته تجللت بشعرها حتى لم ير من جسدها
شيئاً، فأعجبه ذلك الفعل واستحسنه، ثم عاد إلى مجلسه وقال: من بالباب من الشعراء؟
قالوا له: أبو نواس وبشار.
فقال: ليحضرا جميعاً.
فأحضرا، فقال الرشيد ليقل كل منكما أبياتاً توافق ما في
نفسي، فأنشأ بشار يقول:
تحببتكم والقلب صار إليكمو ... بنفسي ذاك المنزل المتحبب
إذا ذكروا الهجران لا عن ملالةٍ ... وذكراهم، ينمي إلي
محبب
وقالوا تجنبنا، ولا قرب بيننا ... فكيف وأنتم حاجتي
تتجنبوا
على أنهم أحلى من الشهد عندنا ... وأعذب من ماء الحياة
وأطيب
فقال: أحسنت، ولكن ما أصبت ما في نفسي، فقل أنت يا أبا
نواس، فجعل يقول:
نضت عنها القميص لصب ماء ... فورد خدها فرط الحياء
وقابلت الهواء، وقد تعرت ... بمعتدلٍ أرق من الهواء
ومدت راحة، كالماء منها ... إلى ماء معد في إناء
فلما أن قضت وطراً وهمت ... على عجل إلى أخذ الرداء
رأت شخص الرقيب على التداني ... فأسبلت الظلام على
الضياء
فغاب الصبح منها تحت ليلٍ ... وظل الماء يقطر فوق ماء
فسبحان الإله وقد براها ... كأحسن ما يكون من النساء
فقال الرشيد: سيفاً ونطعاً.
فقال له: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: أمعنا كنت؟ قال: لا
والله ولكن شيء خطر ببالي.
فأمر له بأربعة آلاف درهم وصرفه.
؟أجود أخبار
النساء
ويحكى أن
أمير المؤمنين الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً، فقام من فراشه وتمشى من مقصورة
إلى مقصورة، وقلقه زائد ونفسه محصورة، فلما أصبح قال: علي بالأصمعي، فخرج الطواشي
إلى البوابين، فقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين أرسلوا أحداً خلف الأصمعي. فلما
حضر أعلم الخليفة فأجلسه ورحب به وقال: يا أسمعي أريد منك أن تحدثني بأجود ما سمعت
من أخبار النساء وأشعارهن؟ فقال: سمعاً وطاعة: لقد سمعت كثيراً ولم يعجبني سوى
ثلاثة أبيات أنشدهن ثلاث بنات.
فقال له: حدثني حديثهن.
فقال: اعلم إذا أمير المؤمنين، أني توجهت سنة إلى البصرة
فاشتد لعي الحر فطلبت مقيلاً أقيل فيه فلم أجد، فبنما أنا أتلفت يميناً وشمالاً،
إذا أنا بساباط مكنوس مرشوش، وفيه دكة من خشب، وعليها شباك مفتوح تفوح منه رائحة المسك،
فدخلت الساباط وجلست على الدكة وأردت الاضطجاع، فسمعت كلاماً عذباً من فم جارية
حسناء، وهي تقول: يا أختي! إنا جلسنا يومنا هذا على وجه الصبوح، تعالين نطرح
ثلاثمائة دينار وكل منا تقول بيتاً من الشعر، فكل من قاتل البيت الأعذب الأملح
كانت الثلاثمائة دينار لها، فقلن: حباً وكرامة، فقالت الكبرى:
عجبت له أن زار في النوم مضجعي ... ولو زارني مستيقظً
كان أعجبا
فقالت الوسطى:
وما زارني في النوم إلا خياله ... فقلت له: أهلاً وسهلاً
ومرحبا
فقالت الصغرى:
بنفسي وأهلي من أرى كل ليلةٍ ... ضجيعي ورياه من المسك
أطيبا
فقلت: إن كان لهذا المقال جمالٌ، فقد تم الأمر على كل
حال. فنزلت عن الدكة وأردت الانصراف، وإذا بالباب قد فتح وخرجت منه جارية، وهي
تقول: اجلس يا شيخ، فطلعت على الدكة ثانياً وجلست، فدفعت إلي ورقة فنظرت خطاً في
نهاية الحسن مستقيم الألفات مجوف ألهاآت مدور الواوات مضمونه: نعلم الشيخ، أطال الله
بقاءه، أننا ثلاث بنات أخواتٍ جلسنا على وجه الصبوح وطرحنا ثلاثمائة دينار، وشرطنا
أن كل من قالت البيت الأعذب الأملح كان لها الثلاثمائة دينار، وقد جعلناك الحكم في
ذلك، فاحكم بما تراه والسلام.
فقلت للجارية: علي بدواة وقرطاس.
فغابت قليلاً وخرجت إلي بدواة مفضضة وأقلام مذهبة، فأنشأ
أقول:
أحدث عن خود تحدثن مرةً ... حديث امرئ ساس الأمور وجربا
ثلاث كبكرات الصحاري جحافل ... حللن بقلبٍ للمشوق معذبا
خلون وقد نامت عيونٌ كثيرةُ ... من الراقدين المشتهين
التغيبا
فبحن بما يخفين من داخل الحشا ... نعم، واتخذن الشعر
لهواً وملعبا
فقالت عروبٌ ذات عز غريرة ... وتبسم عن عذب المقالة
أنسبا
عجبت له أن زار في النوم مضجعي ... ولو زارني مستيقظاً
كان أعجبا
فلما انقضى ما زخرفت وتضاحكت ... تنفست الوسطى، وقالت
تطربا
وما زارني في النوم إلا خياله ... فقلت له: أهلاً وسهلاً
ومرحبا
وأحسنت الصغرى، وقالت مجيبة ... بلفظ لها قد كان أشهى
وأعذبا
بنفسي وأهلي من رأى كل ليلة ... ضجيعي، ورياه من المسك
أطيبا
فلما تدبرت الذي قلن وانبرى ... لي الحكم لم أترك لذي
اللب معتبا
حكمت لصغراهن في الشعر أنني ... رأيت الذي قالت جميلاً
وأصوبا
قال الأصمعي: ثم دفعت الرقعة إلى الجارية، فلما صعدت إلى
القصر، فإذا برقص وتصفيق ودنيا دانية وقيامة قائمة، فقلت: ما بقي لي إقامة، فنزلت
عن الدكة وأردت الانصراف، وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي.
فقلت: ومن أعلمك أنني الأصمعي؟ فقالت: يا شيخ إن خفي
علينا اسمك فما خفي علينا نظمك.
فجلست، وإذا بالباب قد فتح وخرجت منه الجارية الأولى
وعلى يدها طبق من فاكهة وطبق من حلوى، فتفكهت وتحليت وشكرت صنعها، وأردت الانصراف،
وإذا بالجارية تنادي وتقول: اجلس يا أصمعي، فرفعت بصري إليها فنظرت كفاً أحمر في
كم أصفر فخلته البدر يشرف من تحت الغمام، ورمت لي صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقالت:
هذا صار لي وهو مني لك هبة في نظير حكومتك.
فقال لي أمير المؤمنين: لأي شيء حكمت للصغرى ولم تحكم
للكبرى ولا للوسطى؟
فقلت: يا
أمير المؤمنين إن بيت الكبرى قالت:
عجبت له أن زار في النوم مضجعي
وهو محمول معلق على شرط قد يقع ولا يقع، وأما الوسطى، فمر
بها طيف خيال في النوم فسلمت عليه، وبيت الصغرى ذكرت أنها ضاجعته مضاجعة حقيقية
وشمت منه أنفاساً أطيب من المسك وفدته بنفسها وأهلها ولا يفدى بالنفس إلا من هو
أعز من النفس.
فقال الخليفة: أحسنت يا أصمعي.
ثم دفع إلي ثلاثمائة دينار فأخذتها وانصرفت فكنت أقول
لله درك من شعر أخذت في حكومتي منه ثلاثمائة دينار، وفي حكايته مثلها، والله أعلم.
الأصمعي والجارية
ومما حكي
عن الأصمعي في نوادره، قال: سهرت ليلة عند الرشيد في الرقة، فقال لي: من معك يا
عبد الله يؤنسك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما لي أنيس غير الوحدة.
فأمسك وأقبل في حديثه ما شاء الله، ثم نهض ونهض من
بحضرته فلما صرت إلى منزلي، وإذا بخادم الأمير يقرع الباب فخرجت، فإذا ضوء شمع
وضجة وغوغاء ومعهم جارية فلما رآني الخادم دنا مني وقبل يدي وقال لي: يقول لك أمير
المؤمنين قد أمرنا لك بمن يؤنسك، وهي جارية من خواصه وشيء من المال. فشكرت أمير
المؤمنين ودعوت له وتقدم الخادم بإدخال الجارية ومعها من الآلات والخدم والجواري
والفرش ما لم أر مثله إلا عند أمير المؤمنين، ثم ودعني الخادم وانصرف. فلما نظرت
إلى الجارية رأيتها أحسن الناس وجهاً وأكملهم قداً وشكلاً وظرفاً وأكثرهم مجوناً
فداخلني لها هيبة وانقباض.
فقالت: ما هذا الحياء البارد السمج الذي لا وجه له؟ أين
ملحك ونوادرك؟ ثم قالت لجارية من الجواري: هات ما عندك، فجاءت بأحسن ما يكون من
ألوان الطعام فأكلنا وهي مع ذلك تباسطني وتؤانسني بالحديث والملاعبة، ثم دعت بالشراب
فشربت وسقتني، ثم قالت: ما بقي بعد الأكل والشرب إلا النوم والخلوة. فقامت ولبست
من الثياب ما أرادت وألبستني ثياباً فاخرة مبيضة وتفرق من كان عندنا، ثم اضطجعت
إلى جانبي، فلما جمعنا الفراش أصابني من الحصر وانقطاع الانعاظ ورخاوة الأير ما لم
أكن أعهده قبل ذلك فجعلت تقلبه بيدها وتغمزه فلا يزداد إلا إنكماشاً وموتاً فلما
أعيتها الحيلة فيه ويئست من قيامه ومضى من الليل أكثره قالت: عظم الله أجرك في
أيرك، ثم نهضت ولبست ثياب الحداد ودعت بسفط فأخرجت منه مناديل صغاراً وحنوطاً
وقالت: نم عل ظهرك يا بطال، فاستولى علي الخجل حتى إني لم أقدر أخالفها في شيء مما
تأمرني به في جميع ما تفعله في فغسلته وحنطته وكفنته بتلك المناديل فلما فرغت همت
بجواريها وقامت معهن في بكاء ونحيب ونوحٍ وندب وصراخ بأشد ما يكون وما زلن على ذلك
إلى وقت السحر، ثم قالت: ما بقي إلا ما يتولاه الرجال من الصلاة والدفن وولت عني.
فقمت وأنا أخزى خلق الله حالاً فلبست ثيابي وصليت الفجر وسرت من وقتي وساعتي إلى
الرشيد فأنكر الحاجب حضوري في ذلك الوقت وأعلم الرشيد بي، فأذن لي فدخلت، وهو قاعد
في مصلاه، فقال لي: ويحك ما دهاك في هذا الوقت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، خبري عجيب
وأمري غريب، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، ألا ما رحمتني وأرحتني من هذا الجارية
التي أنفذتها إلي فلا حاجة لي بها.
فقال لي أمير المؤمنين: وما السبب لذلك وما الخبر الذي
دهاك وليس لها عندك حين من الزمان.
فشرحت له القصة من أولها إلى آخرها حتى بلغت إلى إقامة
الصلاة فاشتد ضحكه حتى أنه كاد يستلقي على قفاه وسمعت الضحك من كل ناحية في الدار
من الجواري وغيرهن، ثم قال: نحن إلى هذه أحوج منك إليها وقد كنا غافلين عنها، ثم
إنه أمر بحملها إلى داره وعوضني عنها خمسين ألف درهم وترك جميع ما حمل معها في منزلي
وخرجت مجردة فحظيت بعد ذلك عند الرشيد حتى إنه لم يتقدم عليها أحد من نظائرها،
وسميت من قوتها هذا بالأصمعية إلى أن توفيت رحمة الله عليهم أجمعين.
إبراهيم الموصلي وإبليس
وعن أبي إسماعيل إبراهيم الموصلي قال: استأذنت الرشيد أن يهب لي يوماً من الأيام للانفراد بجواري وإخواني، فأذن لي في يوم السبت، فأتيت منزلي وأخذت في إصلاح طعامي وشرابي وما احتجت إليه وأمرت البوابين بإغلاق الأبواب وأن لا يأذنوا لأحد بالدخول علي.
فبينما
أنا في مجلسي والحريم قد حففن بي، وإذا بشيخ ذي هيبة وجمال وعليه جبتان قصيرتان
وقميص ناعم وعلى رأسه قلنسوة وبيده عكازة مقمعة بفضة وروائح الطيب تفوح منه حتى
ملأت الدار والرواق، فداخلني غيظ عظيم لدخوله علي وهممت بطرد البوابين فسلم علي
أحسن سلام، فرددت عليه وأمرته بالجلوس، فجلس وأخذ يحدثني بأحاديث العرب وأشعارها
حتى ذهب ما بي من الغضب وظننت أن غلماني تحروا مسرتي لإدخال مثله علي لأدبه وظرفه،
فقلت: هل لك في الطعام؟ قال: لا حاجة لي فيه.
قلت: فالشراب؟ قال: ذلك إليك.
فشربت رطلاً وسقيته مثله، ثم قال: يا أبا إسحاق، هل لك
أن تغنينا شيئاً فنسمع من صنعتك ما قد فقت به العام والخاص.
فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي، فأخذت العود وضربت
وغنيت، فقال: أحسنت يا إبراهيم، فازددت غيظاً فقلت: ما رضي بما فعله في دخوله بغير إذني
واقتراحه علي حتى سماني باسمي ولم يجمل مخاطبتي.
ثم قال: هل تزيد نكافئك؟د فترنمت وأخذت العود وغنيت
وتحفظت فيما غنيته، قمت به قياماً تاماً لقوله: ونكافئك. فطرب وقال: أحسنت يا
سيدي، ثم قال لي: أتأذن لي في الغناء؟ فقلت: شأنك، واستضعفت عقله في أن يغني
بحضرتي بعد الذي سمعه مني. فأخذ العود وجسه فوالله خلت أن العود ينطق بلسان عربي واندفع
يغني هذه الأبيات:
ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات
قروح
أباها على الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب طريح
قال إبراهيم: فوالله لقد ظننت أن الأبواب والحيطان وكل
ما في البيت تجيبه وتغني معه، وبقيت مبهوتاً لا أستطيع الكلام والحركة لما خالط
قلبي، ثم اندفع يغني، فقال:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودةً ... فإني إلى أصواتكن
حزين
فعدن ولما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهن أبين
دعون بترداد الهدير كأنما ... شربن الحميا أو بهن جنون
فلم تر عيني مثلهن حمائماً ... بكين ولم تدمع لهن عيون
قال: ثم سكت قليلاً وغنى هذه الأبيات:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك
وجداً على وجدي
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن من غصن بان
ومن رند
بكيت كما يبكي الوليد صبابةً ... وأبديت من شكواي ما لم
تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... تمل وأن البعد يشفي من
الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خيرٌ
من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس
بذي ود
ثم قال: يا إبراهيم هذا الغناء الماخوري خذه وانح نحوه
في غنائك وعلمه جواريك.
فقلت: أعده علي؟ فقال: لست تحتاج إلى إعادة فقد أخذته
وفرغت منه.
ثم غاب من بين يدي فارتعبت منه وقمت إلى السيف وجردته ثم
غدوت نحو أبواب الحريم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن؟ فقلن: سمعنا
غناء أطيب شيء وأحسنه.
فخرجت متحيراً إلى باب الدار فوجدته مغلقاً فسألت
البوابين عن الشيخ فقالوا: أي شيخ، فوالله ما دخل إليك اليوم أحد.
فرجعت أتأمل أمره، فإذا هو قد هتف بي من جوانب البيت،
وقال: لا بأس عليك يا أبا إسحاق، فإنما هو أبو مرة قد كنت نديمك اليوم، فلا تفزع.
فركبت إلى الرشيد فأخبرته الخبر، فقال: أعد الأصوات التي
أخذتها، فأخذت العود وضربت، فإذا هي راسخة في صدري، فطرب الرشيد عليها وجعل يشرب،
ولم يكن له همة على الشراب، وقال: كأن الشيخ علم أنك قد أخذت الأصوات وفرغت منها
فليته متعنا بنفسه يوماً واحداً كما متعك، ثم أمر لي بصلة فأخذتها وانصرفت، انتهى.
الرشيد وإسماعيل بن صالح
وقال
الرشيد يوماً للفضل بن يحيى، وهو بالرقة: قد قدم إسماعيل ابن صالح بن علي، وهو
صديقك، وأريد أن أراه؟ فقال: إن أخاه عبد الملك في حبسك وقد نهاه أن يجيئك.
قال الرشيد: فإني أتعلل حتى يجيئني عائداً؟ فتعلل، فقال
الفضل لإسماعيل: ألا تعود أمير المؤمنين؟ قال: بلى.
فجاءه عائداً
فأجلسه، ثم دعا بالغداء، فأكل وأكل إسماعيل بين يديه، فقال له الرشيد: كأني قد
نشطت برؤيتك إلى شرب قدح، فشرب وسقاه، ثم أمر فأخرج جوار يغنين وضربت ستارة وأمر
بسقيه، فلما شرب أخذ الرشيد العود من يد جارية ووضعه في حجر إسماعيل وجعل في عنقه
سبحة، وفيها عشرة حبات من در شراؤها بثلاثين ألف دينار، وقال: عن يا إسماعيل، وكفر
عن يمينك بثمن هذه السبحة، فاندفع يغني شعر الوليد بن يزيد في غالية أخت عمر بن
عبد العزيز، وكانت تحته، وهي التي ينسب إليها سوق الغالية، فقال:
فأقسم ما أدنيت كفي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها
ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ ... من الدهر إلا قد أصابت
فتى مثلي
فسمع الرشيد أحسن غناء من أحسن صوت. فقال: الرمح يا غلام.
فجيء بالرمح، فعقد له لواء على إمارة مصر.
قال إسماعيل: فوليتها سنتين فأوسعتها عدلاً. وانصرفت
بخمسمائة ألف دينار، وبلغ أخاه عبد الملك ولايته، فقال: غني والله الخبيث لهم، ليس
هو بصالح، انتهى.
أعرابي يزاحم الرشيد
يروى أنه
لما دخل هارون الرشيد إلى مكة، شرفها الله تعالى، وابتدأ بالطواف ومنع الخاص
والعام من ذلك لينفرد بالطواف. فسبقه أعرابي، فشق ذلك على الرشيد فإلتفت إلى حاجبه
منكراً عليه، فقال الحاجب للأعرابي: تخل عن الطواف حتى يطوف أمير المؤمنين.
فقال الأعرابي: إن الله قد ساوى بين الإمام والرعية في
هذا المقام، فقال عز وجل: " سواء العاكف فيه والباد ونم يرد فيه بالحاد بظلم
نذقه من عذاب أليم " .
فلما سمع الرشيد من الأعرابي ذلك راعه أمره فأمر حاجبة
بالكف عنه، ثم جاء الرشيد إلى الحجر الأسود ليستلمه فسبقه الأعرابي فاستلمه، ثم
أتى الرشيد إلى المقام للمصلي فسقه الأعرابي فصلى فيه، فلما فرغ الرشيد من صلاته
قال: لحاجبه:
ائتني بهذا الأعرابي، فأتاه الحاجب فقال: أجب أمير المؤمنين.
فقال: ما لي إليه من حاجة إن كان له حاجة فهو أحق
بالقيام إلي والسعي.
فقام الرشيد حتى وقف بإزاء الأعرابي وسلم عليه، فرد عليه
السلام، فقال له الرشيد: يا أخا العرب إجلس هنا بأمرك.
فقال الأعرابي: ليس البيت بيتي ولا الحرم حرمي وكلنا فيه
سواء.
فإن شئت تجلس، وإن شئت تنصرف.
قال الراوي: فعظم ذلك على الرشيد وسمع ما لم يكن في
ذهنه، وما ظن أنه يواجهه أ؛د بمثل هذا الكلام. فجلس الرشيد وقال: يا أعرابي، أريد
أن أسألك عن فرضك، فإن أنت قمت به فأنت بغيره أقوم، وإن أنت عجزت عنه فأنت عن غيره
أعجز.
فقال الأعرابي: سؤالك هذا سؤال تعلم أم سؤال تعنت؟ فتعجب
الرشيد من سرعة جوابه وقال: بل سؤال تعلم.
فقال له الأعرابي: قم فاجلس مقام السائل من المسؤول.
قال: فقام الرشيد وجثا على ركبتيه بين يدي الأعرابي،
فقال: قد جلست فاسأل عما بدا لك.
فقال له: أخبرني عما افترض الله عليك؟ فقال له: تسألني
عن أي فرض عن فرض واحد، أم عن خمسة، أن عن سبعة عشر، أم عن أربعة وثلاثين، أم عن
خمسة وثمانين، أم عن واحدة في طول العمر، أم عن واحدة في أربعين، أم عن خمسة من مائتين.
قال: فضحك الرشيد حتى استلقى على قفاه استهزاء به، ثم
قال: له: سألتك عن فرضك فأتيتني بحساب الدهر؟ قال: يا هارون لولا أن الدين بالحساب
لما أخذ الله الخلائق بالحساب يوم القيامة، فقال تعالى: " ونضع الموازين
القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى
بنا حاسبين " .
قال: فظهر الغضب في وجه الرشيد واحمرت عيناه حين قال: يا
هارون، ولم يقل له: يا أمير المؤمنين، وبلغ مبلغاً شديداً غير أن الله تعالى عصمه
منه وحال بينه وبينه لما علم أنه هو الذي أنطق الأعرابي بذلك، فقال له الرشيد: يا أعرابي، إن
فسرت ما قلت نجوت وإلا أمرت بضرب عنقك بين الصفا والمروة.
فقال له الحاجب: يا أمير المؤمنين اعف عنه وهبه لله
تعالى ولهذا المقام الشريف؟ قال: فضحك الأعرابي من قولهما حتى استلقى على قفاه،
فقال: مم تضحك؟ قال: عجباً منكما إذ لا أدري أيكما أجهل الذي يستوهب أجلاً قد حضر أم
من يستعجل أجلاً لم يحضر؟
قال: هاك
الرشيد ما سمعه منه وهانت نفسه عليه، ثم قال: الأعرابي: أما سؤالك عما افترض الله علي، فقد
افترض علي فرائض كثيرة، فقولي لك عن فرض واحد: فهو دين الإسلام، وأما قولي لك عن
خمسة: فهي الصلوات؛ وأما قولي لك عن سبعة عشرة: فهي سبعة عشرة ركعة؛ وأما قولي لك
عن أربعة وثلاثين: فهي السجدات؛ وما قولي لك عن خمسة وثمانين: فهي التكبيرات؛ وأما
قولي لك عن واحدة في طول العمر: فهي حجة الإسلام واحدة في طول العمر كله، وأما
قولي لك واحدة في أربعين: فهي زكاة الشياه، شاة من أربعين، وأما قولي لك خمس من مائتين:
فهي زكاة الورق.
قال: فامتلأ الرشيد فرحاً وسروراً من تفسير هذه المسائل،
ومن حسن كلام الأعرابي وعظم الأعرابي في عينه وتبدل بغضه محبة، ثم قال: الأعرابي: سألتني فأجبتك
وأنا أريد أن أسألك فأجبني.
قال: قل.
فقال الأعرابي: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة في وقت
صلاة الفجر فكانت عليه محرمة، فلما كان وقت الظهر حلت له، فلما كان في وقت العصر
حرمت عليه، فلما كان وقت المغرب حلت له، فلما كان وقت العشاء حرمت عليه، فلما كان
وقت الصبح حلت له، فلما كان وقت الظهر حرمت عليه، فلا كان وقت العصر حلت له، فلما
كان وقت المغرب حرمت عليه، فلما كان وقت العشاء حلت له.
فقال: والله يا أخا العرب لقد أوقعتني في بحر لا يخلصني
منه غيرك.
فقال له: أنت خليفة ليس فوقك شيء ولا ينبغي أن تعجز عن
مسألة فكيف عجزت عن مسألتي وأنا رجل بدوي لا قدرة لي؟ فقال الرشيد: قد عظم قدرك
العلم ورفع ذكرك فأشتهي إكراماً لي، ولهذا المقام تفسير ذلك.
فقال: حباً وكرامة ولكن على شرط أن تجبر الكسير وترحم
الفقير ولا تزدري الحقير.
فقال: حباً وكرامة، ثم قال: إن قولي لك عن رجل نظر إلى
امرأة وقت صلاة الفجر فكانت عليه حراماً فهو رجل نظر إلى أمة غيره وقت الفجر فهي
حرام عليه، فلما كان وقت الظهر اشتراها فحلت له، فلما كان وقت العصر أعتقها، فحرمت
عليه، فلما كان وقت المغرب تزوجها فحلت له، فلما كان وقت العشاء طلقها فحرمت عليه،
فلما كان وقت الفجر رجعها فحلت له، فلما كان وقت الظهر ظاهر منها فحرمت عليه، فلما
كان وقت العصر أعتق عنها، فحلت له، فلما كان وقت المغرب ارتد عن الإسلام فحرمت عليه.
فلما كان وقت العشاء تاب ورجع إلى الإسلام فحلت له.
قال: فاغتبط الرشيد وفرح به واشتد إعجابه، ثم أمر له
بعشرة آلاف درهم، فلما حضرت قال: لا حاجة لي بها ردها إلى أصحابها.
فقال له: أريد أن أجري لك جراية تكفيك مدة حياتك؟ قال:
الذي أجرى عليك يجري علي.
قال: فإن كان عليك دين قضيناه عنك؟ قال: لا، ولم يقبل
منه شيئاً، ثم أنشد يقول:
هب الدنيا توافينا سنينا ... فتكدر ساعة وتلذ حينا
فما أبغي لشيء ليس يبقى ... وأتركه غداً للوارثينا
كأني بالتراب علي يحثى ... وبالإخوان حولي نادبينا
ويوم تزفر النيران فيه ... وتقسم جهرةً للسامعينا
وعزة خالقي وجلال ربي ... لأنتقمن منهم أجمعينا
وقد شاب الصغير بغير ذنبٍ ... فكيف يكون حال المجرمينا
فلما فرغ من إنشاده تأوه الرشيد وسأله عن أهله وبلاده،
فأخبره أنه موسى الرضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن الحسين بن علي بن أبي
طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكان يتزيا بزي أعرابي زهداً في الدنيا وتباعداً عنها،
فقام إليه الرشيد وقبل ما بين عينيه، ثم قرأ " الله أعلم حيث يجعل رسالته " ، وانصرف رحمة الله عليهم أجمعين.
الحسين الخليع والجارية العاشقة
قال السجستاني: أرق الرشيد ليلة، فوجه إلى الأصمعي وإلى حسين الخليع فأحضرهما وقال: عللاني وابدأ أنت يا حسين.
فقال
حسين: نعم يا أمير المؤمنين؟ خرجت في بعض السنين منحدراً إلى البصرة ممتدحاً محمد
بن سليمان الزينبي بقصيدتي، فقبلها وأمرني بالمقام، فخرجت ذات يوم إلى المبربد
وجعلت المهالبة طريقي فأصابني حر شديد فدنوت من باب دار كبيرة لأستسقي، فإذا أنا
بجارية كأنها قضيب ينثني،واسعة العينين، زجاء الحاجبين، مفتوحة الجبين، عليها قميص
جلناري ورداء عدني قد غلب شدة بياض بدنها على حمرة قميصها، تتلألأ من تحت القميص
بثديين كرمانتين وبطن كطي القباطي، وعكن كالقراطيس، لها جمة جعدة بالمسك محشوة، وهي
يا أمير المؤمنين متقلدة خرزاً من الذهب والجوهر، يزهو بين نهديها وعلى صحن جبنها
طرة كالسبج وحاجبان مقرونان وعينان نجلاوان وخدان أسيلان وأنف أقنى تحته ثغر
كاللؤلؤ، وأسنان كالدر، وقد غلب عليها الطيب، وهي والهة حيرى ذاهبة في الدهليز
ورائحة تخطر على أكباد محييها في مشيتها، وقد خالط أصوات نعلها خلاخلها، فهي كما
قال الشاعر فيها:
كل جزء منم محاسنه ... كائن من حسنها مثلا
فهبتها يا أمير المؤمنين، ثم دنوت منها لأسلم عليها،
فإذا الدهليز والدار والشارع قد عبق بالمسك، فسلمت عليها فردت بلسان منكسر وقلب
حزين حريق مسعر. فقلت لها: يا سيدتي، إني شيخ غريب أصابني عطش، أفتأمرين بشربة من ماء
تؤجرين عليها؟ قالت: إليك عني يا شيخ، فإني مشغولة عن الماء وادخار الزاد.
قلت: لأي علة يا سيدتي؟ قالت: لأني عاشقة لمن لا ينصفني،
وأريد من لا يريدني، ومع ذلك فإني ممتحنة برقباء فوق رقباء.
قلت: وهل يا سيدتي على بسيطة الأرض من تريدينه ولا
يريدك؟ قالت: نعم، وذلك لفضل ما ركب فيه من الجمال والكمال والدلال.
قلت: وما وقوفك في هذا الدهليز؟ قالت: ههنا طريقه وهذا
أوان اجتيازه.
فقلت لها: يا سيدتي، فهل اجتمعتما في وقت من الأوقات
ووجد حديث في هذا القرب؟ فتنفست الصعداء وأرخت دموعها على خدها كطل سقط على ورد،
ثم أنشدت تقول:
وكنا كغصني بانة فوق روضة ... نشم جني اللذات في عيشة
رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قطع ... فيا من رأى فرداً يحن
إلى فرد
قلت: يا هذه، فما بلغ من عشقك لهذا الفتى؟ قالت: أرى
الشمس على حائطهم أحسب أنها هو، وربما أراه بغتة فأبهت ويهرب الدم والروح من جسدي
وأبقى الأسبوع والأسبوعين بغير عقل.
فقلت لها: فاعذريني، فأنت على ما بك من الصبا وشغل البال
بالهوى ونحول الجسم وضعف القوى أرى بك من اللون ورقة البشرة فكيف لو لم يمسك الهوى
لكنت مفتنةً في أرض بصرة.
قالت: والله قبل محبتي هذا الغلام كنت تحفة الدلال
والجمال والكمال، ولقد فتنت جميع ملوك البصرة حتى فتنني هذا الغلام.
قلت: يا هذه، فما الذي فرق بينكما؟ قالت: نوائب الدهر
ولحديثي وحديثه شأن من الشؤون، وذلك أني كنت قعدت في ويم نيروز، ودعوت عدة من
مستظرفات البصرة من النساء الجميلات وكانت فيهن الحوراء جارية شيرا، وكان شراؤها
عليه من عمان بثمانية آلاف درهم، وكانت بي والعة، فلما دخلت رمت بنفسها علي تقطعني
قرصاً وعضاً، ثم خلونا نتمرن القهوة إلى أن يدرك طعامنا ويجتمع من دعونا وكانت
تلاعبني وألاعبها، فتارة أنا فوقها، وتارة هي فوقي، فحملها السكر إلى أن ضربت يدها
إلى تكتي فحلتها من غير زيبةٍ كانت بيننا، وأنزلت سراويل ملاعبة، فبينما نحن كذلك
إذ دخل علينا حبيبي فرأى ذلك فاشمأز لذلك وصدف عني صدوف المهرة العربية إذا سمعت
صلاصل لجامها، فولى خارجاً، فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين أسأل الاجتماع به فلا ينظر
إلي بطرف ولا يكتب لي بحرف ولا يكلم لي رسولاً ولا يسمع مني قيلاً.
فقلت لها: يا هذه، من العرب هو أم من العجم؟ فقالت: ويحك
هو من جملة ملوك البصرة.
فقلت لها: شيخ هو أم شاب؟ فنظرت إلي شزراً وقالت: إنك
أحمق، هو مثل القمر ليلة البدر، أجرد أمرد له طرة كحلك الغراب لا يعيبه شيء غير
انحرافه عني.
قلت لها: ما اسمه؟ قالت: ماذا تصنع به؟ أجتهد في لقائه
فأتعرف الفضل بينكما.
قالت: على شرط أن تحمل إليه رقعة.
قلت: لا أكره ذلك.
فقالت: اسمه ضمرة بن المغيرة ويكنى بأبي السخاء، وقصره
بالمربد.
ثم صاحت
في الدار: يا جواري، الدواة والقرطاس، وشمرت عن ساعدين كأنهما طوقان من فضة، وكتبت
بعد البسملة: سدي ترك الدعاء في صدر رقعتي ينبئ عن تقصيري، ودعائي، إن دعوته، هجنة
ورعونة، ولولا أن بلوغ المجهود يخرج من حد التقصير لكان لما تكلفته خادمتك من
كتابة هذه الرقعة معنى مع يأسها منك لعلمها تركك الجواب.
سيدي، جد بنظرة وقت اجتيازك في الشارع إلى الدهليز تحيي
بها نفساً ميتة، واخطط بخط يدك، بسطها الله بكل فضيلة، رقعة واجعلها عوضاً عن تلك
الخلوات التي كانت بيننا في الليالي الخاليات التي أنت ذاكر لها.
سيدي، ألست لك محبة مدنفةٌ؟ فإن رجعت إلى الآيسة كنت لك
شاكرة وبعد خادمة. والسلام.
فتناولت الكتاب وخرجت فأصبحت غدوة إلى باب محمد بن
سليمان فوجدت مجلساً محتفلاً بالملوك ورأيت غلاماً زان المجلس وفاق على من فيه
جمالاً وبهجة، قد رفعه الأمير فوقه، فسألت عنه فإذا هو ضمرة بن المغيرة، فقلت في
نفسي: يا لحقيقة حل بالمسكينة ما حل بها. ثم قمت وقصدت المربد ووقفت على باب داره،
فإذا هو قد ورد في موكب فوثبت الهي وبالغت في الدعاء له وناولته الرقعة، فلما
قرأها وفهم معناها قال لي: يا شيخ! قد استبدلنا بها، فهل لك أن تنظر إلى البديل؟
قلت: نعم.
فصاح في الدار أخرجوا الربداء، فإذا أنا بجارية خابوطية
الكمين، ناهدة الثديين تمشي مشية مستوحل من غير وحل، فناولها الرقعة، وقال: أجيبي
عنها، فلما قرأتها اصفرت وعرفت وقالت: يا شيخ أستغفر الله مما جئت به.
فخرجت يا أمير المؤمنين وأنا أجر رجلي حتى أتيتها
واستأذنت عليها فقالت: ما وراءك؟ فقلت: البؤس واليأس.
فقالت: ما عليك منه، فأين الله والقدر؟ ثم أمرت لي
بخمسمائة دينار ثم جزت بعد أيام ببابها فوجدت غلماناً وفرساناً فدخلت فإذا أصحاب
ضمرة يسألونها الرجوع إليه؟ فقالت: لا والله لا نظرت له وجهاً، فسجدت لله يا أمير المؤمنين،
شماتةً بضمرة ونفرته من الجارية، فأوردت علي منه رقعة فإذا فيها، بعد التسمية،
سيدتي، لولا إبقائي عليك، أدام الله حياتك، لوصفت شطراً من غدرك شطر غبني عليك،
وسلكت ظلامتي فيك، إذ كنت الجانية، على نفسك ونفسي والمظهرة لسوء العهد وقلة
الوفاء والمؤثرة علينا غيرنا، فخالفت هواي، والله المستعان، على ما كان من سوء
اختيارك والسلام.
وأوقفتني على ما حمله إليها من الهدايا والتحف العظيمة
فإذا هو بمقدار ثلاثين ألف دينار ثم رأيتها بعد ذلك، وقد تزوج بها ضمرة.
جميل والفتى العذري وحبيبته
وحكى
مسرور الخادم قال: أرق الرشيد أرقاً شديداً ليلة من الليالي، فقال: يا مسرور من على الباب من
الشعراء؟ فخرجت إلى الدهليز فوجدت جميل بن معمر العذري فقلت: أجب أمير المؤمنين
فقال: سمعناً وطاعة. فدخلت ودخل معي إلى أن صار بين يدي هارون الرشيد فسلم بسلام
الخلافة، فرد عليه وأمره بالجلوس، فقال له الرشيد: يا جميل، أعندك شيء من الأحاديث
العجيبة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أيما أحب إليك، ما عاينته ورأيته أو ما سمعته
ووعيته؟ فقال: بل حدثني عما عاينته ورأيته.
فقال: نعم يا أمير المؤمنين، أقبل علي بكلك واصغ إلي
بأذنك قال: فقعد الرشيد إلى مخدة من الديباج الأحمر المزركش بالذهب، محشوة بريش
النعام، فجعلها تحت فخذه ثم مكن منها مرفقيه، وقال: هلم بحديثك.
فقال: اعلم يا أمير المؤمنين، أني كنت مفتوناً بفتاة
محباً لها، وكنت آلفها إذ هي سؤلي وبغيتي من الدنيا، وإن أهلها رحلوا بها لقلة
المرعى، فأقمت مدة لا أراها، ثم إن الشوق أقلقني وجذبني إليها، فراودتني نفسي بالمسير
إليها فلما كانت ذات ليلة من الليالي، هزني الوجد إليها، فقمت وشددت رحلي على
ناقتي واعتممت بعمتي ولبست أطماري وتقلدت بسيفي وتنكبت حجفتي، وركبت ناقتي وخرجت طالباً
لها، وكنت أجد في السير، فسرت وكانت ليلة مظلمة مدلهمة، وأنا مع ذلك أكابد هبوط
الأودية وصعود لجبال، أسمع زئير الأسد وعواء الذئاب، وأصوات الوحوش من كل جانب،
وقد ذهل عقلي وطاش لبي، ولساني لا يفتر عن ذكر الله تعالى.
فبينما
أنا أسير كذلك إذ غلبني النوم فأخذت بي الناقة على غير الطريق التي كنت فيها، وزاد
علي النوم، وإذا أنا بشيء لطمني في رأسي فانتبهت فزعاً مرعوباً، وإذا بأشجار
وأنهار وماء وأطيار على تلك الأغصان تترنم بلغاتها وألحانها، وشجار ذاك المرج
مشتبكة بعضها ببعض، فنزلت عن ناقتي وأخذت زمامها بيدي، ولم أزل أتلطف بها إلى أن
خرجت بها من تلك الأشجار إلى أرض فلاة، فأصلحت كورها، واستويت راكباً على ظهرها،
ولا أدري إلى أين أذهب ولا إلى ما تسوقني الأقدار؟ فمددت نظري في تلك البرية،
فلاحت لي نار في صدرها فوكزت ناقتي وسرت طالباً إلى أن وصلت إلى تلك النار، فقربت
نفسي منها وتأملت وإذا بخباء مضروب ورمح مركوز، وراية قائمة وخيل واقفة، وإبل
سائمة، فقلت في نفسي: يوشك أن يكون لهذا الخباء شأن عظيم، فإني لا أرى في هذه
البرية سواه، ثم تقدمت خلف الخباء وقلت: السلام عليكم يا أهل الخباء ورحمة الله
وبركاته.
فخرج إلي من الخباء غلام من أبناء تسعة عشر، كأنه البدر
إذا أشرق، والشجاعة لائحة بين عينيه، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا
أخا العرب، إني أظنك ضالاً عن الطريق؟ فقلت: الأمر كذلك، أرشدني يرحمك الله تعالى.
فقال: يا أخا العرب إن أرضنا هذه مسبعةٌ، وهذه الليلة
مظلمة وحشة شديدة الظلمة والبرد ولا آمن عليك من الوحش أن يفترسك، فانزل عندي على
الرحب والسعة، فإذا كان الغد أرشدتك إلى الطريق.
قال: فنزلت عن ناقتي وعقلتها بفاضل زمامها ونزعت ما كان
علي من أطمار، وجلست ساعة، وإذا بالشاب قد عمد إلى شاة فذبحها وإلى نار فأضرمها
وأججها ثم دخل الخباء وأخرج أزاراً ناعمة ولحماً مطيباً وأقبل يقطع من اللحم ويشوي
على النار ويطعمني ويتنهد تارة، ويبكي تارة أخرى، ثم شهق شهقة عظيمة وبكى بكاء
شديداً وأنشد يقول:
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
لم يبق في أعضائه مفصل ... إلا وفيه سقم ثابت
فدمعه جار وأحشاؤه ... توقد، إلا أنه ساكت
تبكي له أعداؤه رحمةً ... يا ويح من يرثي له الشامت
قال جميل: فعند ذلك يا أمير المؤمنين علمت أن الغلام
عاشق ولهان، ولا يعرف الهوى إلا من ذاق طعم الهوى، فقلت في نفس: أنا في منزل الرجل
وأتهجم عليه في السؤال؟ فردعت نفسي وأكلت من ذلك اللحم بحسب الكفاية، فلما فرغت من
الأكل قام الشاب ودخل الخباء وأخرج طشتاً نظيفاً وإبريقاً حسناً ومنديلاً من
الحرير أطرافه مزركشة بالذهب الأحمر وقمقماً مملوءاً من الماورد الممسك. فتعجبت من
ظرفه ورقة حاشيته، وقلت في نفسي: ما أغرب الظرف في البادية. ثم غسلنا أيدينا
وتحدثنا ساعة ثم إنه قام ودخل الخباء وقطع بيني وبينه بمقطع من الديباج الأحمر، ثم
خرج وقال: ادخل يا وجه العرب وخذ مضجعك فقد لحقك في هذه الليلة تعب وفي سفرك هذا
نصب مفرط.
قال جميل: فدخلت فإذا أنا بفراش من الديباج الأخضر، فعند
ذلك نزعت ما كان علي من الثياب ونمت بليلة لم أنم عمري مثلها، فلم أزل كذلك، وأنا
متفكر في أمر هذا الشاب إلى أن جن الليل ونامت العيون، فلم شعر إلا بحس خفي لم
أسمع ألطف منه ولا أرق حاشية، فرفعت سجاف المضرب، ونظرت فإذا أنا بصبية لم أر أحسن
منها وجهاً وهي إلى جانبه، وهما يبكيان ويتشاكيان ألم الهوى والصبابة والجوى وشدة
اشتياقهما إلى التلاقي، فقلت: يا الله؛ العجب من هذا الشخص الثاني، وهذا بيت فرد
فإني لم أر فيه غير هذا الفتى، وليس حوله أحد، ثم قلت في نفسي: لا شك أن هذه
الجارية من بنات الجن تهوى هذا الغلام، وقد تفرد بها في هذا المكان وتفردت به،
فحققتها فإذا هي أنسية عربية إذا رمقت تخجل الشمس المضيئة، وقد أضاء الخباء من نور
وجهها، فلما تحققت أنها محبوبته غلبتني الغيرة على الحب، فأرخيت الستر وغطيت وجهي
ونمت، فلما أصبحت لبست ثيابي، وتوضأت لصلاتي، وصليت ما كان علي من الفرض، ثم قلت
له: يا
أخا العرب، هل لك أن ترشدني إلى الطريق، فقد تفضلت علي.
فنظر إلي وقال: على رسلك يا وجه العرب، الضيافة ثلاثة
أيام وما كنت بالذي يدعك إلى لثلاثة أيام.
قال جميل:
فأقمت عنده ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع جلسنا للحديث فحادثته وسألته عن
اسمه ونسبه فقال: أما نسبي فأنا من بني عذرة، وأنا فلان بن فلان وعمي فلان، فإذا
هو ابن عمي، يا أمير المؤمنين، وهو من أشرف بيت في بني عذرة، قال: فقلت: يا ابن
العم، ما حملك على ما أراه منك من الانفراد في هذه البرية، وكيف تركت عبيدك وإماءك
وانفردت بنفسك في هذا المكان؟ فلما سمع يا أمير المؤمنين كلامي، ترغرغت عيناه
بالدمع ثم قال: يا بن العم إنني كنت محباً لابنة عمي، مفتوناً بها هائماً بحبها
مجنوناً عليها لا أطيق الفراق عنها، فزاد عشقي لها، فخطبتها من عمي، فأبى أن يزوجنيها
وزوجها من رجل من بني عذرة ودخل بها وأخذها إلى المحلة التي هو فيها من العام
الأول، فلما بعدت عني وحجبت عن النظر إليها حملتني لوعات الهوى وشدة الشوق والجوى
على تركي أهلي ومفارقتي عشيرتي وخلاني وجميع أمتعتي، وانفردت بهذا البيت في هذه
البرية وألفت وحدتي.
فقلت: وين أبياتهم؟ قال: هم قريب في ذروة هذا الجبل، وفي
كل ليلة عند نوم العيون وهدو من الليل تنسل من الحي سراً بحيث لا يشعر بها أحد
فأقضي منها بالحديث وطراً وتقضي هي كذلك، وها أنا مقيم كذلك على هذا الحال أتسلى
بها ساعة من الليل ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، أو يأتيني الأمر على رغم الحاسدين،
أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين.
قال جميل: فلما حدثني الغلام يا أمير المؤمنين، غمني
أمره وصرت من ذلك في حيرة لما أصابني عليه من الغيرة، فقلت له: يا ابن العم، هل لك
أن أدلك على حيلة أشير بها عليك، وفيها إن شاء الله عين الصلاح وسبيل الرشد
والنجاح، وبها يفرج الله عليك الذي تخشاه.
فقال لي: قل يا ابن العم.
فقلت له: إذا كان الليل وجاءت الجارية فاطرحها على
ناقتي، فنها سريعة الرواح، واركب أنت جوادك، وأنا أركب بعض هذه النوق وأسير بكم
الليلة جميعها. فما يصبح الصباح إلا وقد قطعت بكم براري وقفاراً وتكن قد بلغت مرادك
وظفرت بمحبوبة قلبك، وأرض الله واسعة فضاؤها، وأنا والله مساعدك ما حييت بروحي
ومالي وسيفي.
فلما سمع ذلك قال لي: يا ابن العم، حتى أشاورها في ذلك،
فإنها عاقلة لبيبة بصيرة بالأمور.
قال جميل: فلما جن الليل وحان وقت مجيئها وهو منتظر
الوقت لمعلوم فأبطأت عن عادتها فرأيت الفتى، وقد خرج من باب الخباء وفتح فاه وجعل
يتنسم هبوب الريح التي تهب من نحوها وأنشد يقول:
ريح الصبا تهدي إلي نسيماً ... من بلدةٍ فيها الحبيب
مقيم
يا ريح فيك من الحبيب علاقةٌ ... أفتعلمين متى يكون قدوم
ثم دخل الخباء وقعد ساعة زمانية، وهو يبكي، ثم قال لي:
يا ابن العم، إن لبنت عمي في هذه الليلة نبأ وقد حدث لها حادث وعاقها عني عائق، ثم
قال ل: كن مكانك حتى آتيك بالخبر. ثم أخذ سيفه وحجفته ثم غاب عني ساعة من الليل ثم
أقبل وعلى يديه شيء يحمله ثم صاح إلي فأسرعت إليه. فقال: أتدري يا ابن المم ما
الخبر؟ فقلت: لا والله.
فقال: فجعت في ابنة عمي في هذه الليلة لأنها كانت توجهت
إلينا كعادتها إذ عرض لها في طريقها أسد فافترسها ولم يبق منها إلا ما ترى.
ثم إنه طرح ما كان على يده. فإذا هو مشاش الجارية وما
فضل من عظامها. ثم بكى بكاء شديداً ورمى الترس من يده وأخذ كساء على يده ثم قال
لي: لا تبرح إلى أن آتيك إن شاء الله تعالى.: ثم سار فغاب عني ساعة ثم عاد وبيده
رأس الأسد فطرحه عن يده ثم طلب ماء فأتيته به فغسل فم الأسد وجعل يقبله ويبكي ويئن
وزاد حزنه عليها وأنشد يقول:
ألا أيها الليث المدل بنفسه ... هلكت لقد هيجت لي بعدها شجنا
وصيرتني فرداً وقد كنت إلفها ... وصيرت بطن الأرض لي
ولها وطنا
أقول لدهر خانني بفراقها ... وغار عليها أن أكن لها حزنا
ثم قال: يا ابن العم، سلتك بالله وبحق القرابة والرحم
التي بيني وبينك إلا حفظت وصيتي؟ إنك ستراني الساعة ميتاً بين يديك، فإذا كان
كذلك، فغسلني وكفني أنا وهذا الفاضل من مشاش الجارية في هذا الثوب وادفنا في قبر
واحد واكتب على قبرنا هذه الأبيات، وأنشد يقول:
كنا على ظهرها، والعيش في رغد ... والشمل مجتمع والدار
والوطن
ففرق
الدهر والتصريف ألفتنا ... وصار يجمعنا في بطنها الكفن
قال: ثم بكى بكاء شديداً. ثم دخل المضرب وغاب عني ساعة
وخرج وجعل يتنهد ويصيح ثم شهق شهقة فارق الدنيا، فلما رأيت ذلك منه عظم علي وكبر
عندي حتى كدت ألحق به من شدت حزني عليه، ثم تقدمت إليه وفعلت به ما أمرني من الغسل
وكفنتهما جميعاً ودفنتهما في قبر واحد، وأقمت عند قبرهما ثلاث أيام ثم ارتحلت
وأقمت سنين أتردد إلى زيارتهما.
وهذا ما كان من حديثهما، يا أمير المؤمنين قال: فلما سمع
الرشيد كلامه استحسنه وخلع عليه وأجازه جائزة حسنة، والله أعلم.
إسحاق الموصلي وإبليس
قال إسحاق
بن إبراهيم الموصلي: بينما أنا ذات يوم في منزلي، وكان زمن الشتاء، وقد انتشرت
السحب وتراكمت الأمطار بقطر كأفواه القرب، وامتنع الغادي والمقبل من المسير في
الطرقات لما فيها من الأمطار والوحل، وأنا ضيق الصدر إذ لم يأتني أحد من إخواني،
ولم أقدر على المسير إليهم من شدة الوحل والطين، فقلت لغلامي: أحضر لي ما أتشاغل
به، فأحضر لي طعاماً وشراباً فتنغصت إذ لم يكن معي من يؤانسني، ولم أزل أتطلع من
الطاقات وأراقب الطرقات، وأقبل الليل فتذكرت جارية لبعض أولاد المهدي كنت أهواها. وكانت عارفة بالغناء
وتحريك الملاهي. فقلت في نفسي: لو كانت الليلة عندنا لتم سروري وطابت ليلتي مما
أنا فيه من الفكر والقلق وإذا بداق يدق الباب وهو يقول: أيدخل محبوب على الباب
واقف. فقلت في نفسي: لعل غرس التمني أثمر. فقمت إلى الباب، فإذا بصاحبتي وعليها
مرط أخضر قد اتشحت به وعلى رأسها وقاية من الديباج تقيها من المطر. وقد غرقت في
الطين إلى ركبتيها وابتل ما عليها من المزاريب، وهي في حال عجيب فقلت لها: يا
سيدتي، ما الذي أتى بك في مثل هذه الأوحال.
فقالت: قاصدك جاءني ووصف ما عندك من الصبابة والشوق، فلم
يسعني إلا الإجابة والإسراع نحوك.
فعجبت من ذلك وكرهت أن أقول لها إني لم أرسل إليك أحداً.
فقلت: أحمد الله على جمع الشمل بعدما قاسيت من ألم
الصبر، ولو كنت أبطأت علي ساعة كنت أحق بالسعي إليك، فإني كثير الصبابة نحوك. ثم
قلت لغلامي: هات الماء.
فقبل بسخانة فيها ماء حار حتى أصلح لها حالها ثم أمرته
أن يصب الماء على رجليها وتوليت غسلهما. ثم دعوت ببذلة من أفخر الملبوس فألبستها
إياها بعد أن نزعت ما كان عليها، وجلسنا ثم استدعيت بالطعام فأبت، فقلت: هل لك في الشراب؟
فقالت: نعم.
فتناولت أقداحاً ثم قالت: من يغني لي؟ فقلت لها: أنا يا
سيدتي.
فقالت: لا أحب.
فقلت: بعض جواري.
قالت: لا أريد.
فقلت: غني لنفسك.
قالت: ولا أنا.
قلت: فمن يغنيك؟ قالت: إلتمس من يغني لي. فخرجت طاعة
لها، إلا أني آيس من أن أجد أحداً في مثل هذا الوقت. فلم أزل حتى بلغت الشارع،
فإذا أنا بأعمى يختبط الأرض بعصاً، وهو يقول: لا جزى الله من كنت عندهم خيراً، إن
غنيت لم يسمعوا، وإن سكت استخفوا. فقلت: أمغن أنت؟ قال: نعم.
قلت: فهل لك أن تتم ليلتك عندنا وتؤانسنا؟ قال: إن شئت
خذ بيدي فأخذت بيده وسرت إلى الدار، وقلت لها: يا سيدتي أتيت بمغن أعمى نلتذ به
ولا يرانا.
فقالت: علي به.
فأدخلته وعزمت عليه في الطعام فأكل أكلاً لطيفاً وغسل
يده، وقدمت إليه الشراب فشرب ثلاثة أقداح ثم قال لي: من تكون؟ قلت: إسحاق بن
إبراهيم الموصلي.
قال: لقد كنت أسمع بك والآن فرحت بمنادمتك.
فقلت: يا سيدي فرحت بمن يسرك.
فقال: عن يا إسحاق.
فأخذت العود على سبيل المجون وقلت: السمع والطاعة، فلما
غنيت وانقضى الصوت قال: يا إسحاق، قاربت أن تكون مغنياً، فصغرت علي نفسي وألقيت
العود من يدي فقال: ما عندك ممن يحسن الغناء.؟ قلت: عندي جارية.
قال: مرها فلتغن.
قلت: تغني وأنت واثق بغنائها؟ قال: نعم.
فغنت، قال: ما صنعت شيئاً فرمت العود من يدها مغضبة
وقالت: الذي عندنا جدنا به فإن كان عندك شيء فتصدق به.
فقال: علي بعود لم تمسه يد.
فأمرت الخادم فجاء بعود جديد، فضرب في طريق لا أعرفها
واندفع يغني هذه الأبيات:
سرى يقطع الظلماء والليل عاكف ... حبيب بأوقات الزيارة
عارف
وما راعنا إلا السلام وقولها ... أيدخل محبوب على الباب
واقف
قال:
فنظرت إلي الجارية شزراً، وقالت: سر بيني وبينك ما وسعه صدرك ساعة وأودعته لهذا
الرجل.
فحلفت لها ثم اعتذرت إليها وأخذت أقبل يديها وأدغدغ
ثدييها وأعض خديها حتى ضحكت، ثم التفتت إلى الأعمى وقالت: عن يا سيدي فأخذ العود،
وغنى هذه الأبيات:
ألا ربما زرت الملاح، وربما ... لمست بكفي البنان
المخضبا
ودغدغت رمان الصدور ولم أزل ... أعضض تفاح الخدود
المكببا
فقلت لها: يا سيدتي، فمن أعلمه بما نحن فيه؟ قالت: صدقت.
ثم تجنبناه فقال: إني لحاقن.
فقلت: يا غلام، خذ الشمعة وامض بين يديه.
فخرج وأبطأ فخرجنا في طلبه فلم نجده، وإذا الأبواب مغلقة
والمفاتيح في الخزانة فلا ندري أفي السماء صعد أو في الأرض هبط ثم علمت أنه إبليس،
وأنه قاد لي. ثم انصرف. فتذكرت قول أبي نواس حيث قال:
عجبت من إبليس في كبره ... وخبث ما أضمر في نيته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قواداً لذريته
إبليس يزور أبا نواس
نظير ذلك
مما يستظرف لأبي نواس، ما حكي عنه أنه قال: ضجرت من ملازمة أمير المؤمنين هارون
الرشيد حتى إني لم أجد فراغاً إلى نفسي، فتوجه أمير المؤمنين إلى الصرح ليبيت فيه
ثم يعود. فوجدت لروحي فرصة فدخلت داري وأغلقت بابي وأحضرت شراباً وطلبت نفسي
الحلوة، فعند المساء، وإذا بالباب يطرق، فخرجت وإذا أنا بظبي من أولاد الأتراك ما
رأت عيني أحسن منه منظراً، فسلم عيل وقال لي: أتقبل ضيفاً؟ قلت: يا سيدي ومن لي
بذلك؟ فدخل بيتي فحار عقلي عند دخوله ثم أخرج من تحت ثيابه سلاحية شراب، ونقلاً
وشيئاً من الدجاج ثم شرب وغنى شيئاً لم أسمعه من غيره، وقضيت مرادي منه مراراً إلى
أن مضى وقت من الليل، وقد هام عقلي من الشراب ومن حسنه ومن تسليم نفسه إلي بغير
تقديم عوض، ثم قال: يا سيدي أريد الانصراف.
فقلت له: يا سيدي متى خرجت أنت خرجت روحي من جسدي وكل
شيء أملكه بين يديك وأنا أصير عبدك بعد هذا اليوم ولا أفارقك.
قال: أصحيح ما تقول؟ قلت: نعم.
قال: ما أنا محتاج إلى مالك، وإن كنت صادقاً فيما ادعيت
من محبتك لي قم واحلق لحيتك وشاربك واقعد مثلي أمرد.
قال: فحكم علي السكر والعشق فما قدرت أن أخالفه فأجبته
إلى ذلك علي أن يبيت عندي، فعمد إلى موسى وبل لحيتي وفي الحال أنزلها وبقيت مثله
أمرد، ثم صار يضحك علي وقال: يا أبا نواس كيف الشعر الذي ذكرت فيه آدم وإبليس؟ فأنشدته
قائلاً:
عجبت من إبليس في كبره ... وخبث ما أضمر في نيته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قواداً لذريته
ثم ضحك ضحكاً عالياً وصك على ساحل قفاي صكاً مزعجاً،
فاغتظت منه ثم قلت له: ويلك أتفعل بي هكذا. ثم أردت التطلع إليه، فما وجدت أحداً
يجيبني فقلت: إنه الملعون إبليس، انتهى.
إبليس والشعراء
قال بعضهم:
قد جاءني ليلاً بو مرة ... إبليس يدعوني بلا ترجمان
وقال لي: هل لك في أمرد ... يهز من أعطافه غصن بان
قلت: نعم قال: وفي خمرة ... حبابها يحكى عقود الجمان
قلت: نعم قال: فنم آمناً ... أنت رئيس الفسق هذا الزمان
وقال أبو نواس:
وليلة طال سهادي بها ... فزارني إبليس عند الرقاد
وقال لي: هل لك في قحبة ... لبيبة تطرد عنك الرقاد
قلت: نعم! قال: وفي قهوةٍ ... عتقها الغاصر من عهد عاد
قلت: نعم! قال: وفي مطرب ... إذا شد يطرب منه الجماد
قلت: نعم! قال: وفي شادن ... قد كحلت أجفانه بالسواد
قلت نعم! قال: وفي طفلةٍ ... في وجنتيها للمحب انقياد
قلت نعم! قال: فنم آمناً ... يا كعبة الفسق وركن الفساد
وقال زين الدين عمر بن الوردي معارضاً لذلك:
نمت وإبليس أتى بحيلةٍ منتدبه فقال: ما قولك في حشيشة
منتخبه؟ فقلت: لا! قال: ولا خمرة كرم مذهبه؟ فقلت: لا! قال: ولا مليحة مطيبة؟
فقلت لا! قال: ولا أغيد بالبدر اشتبه؟ فقلت: لا! قال: ولا آلة لهو مطربه؟
فقلت: لا! قال: فنم ما أنت إلا حطبه.
الرشيد وأبو نواس وأبو طوق
وحضر أبو
نواس عند الرشيد ليلة أنس، وكان أبو طوق حاضراً، وكان أبو نواس مشغوفاً بحسنه
وجماله، فلما انقضى المجلس أخذ كل واحد مضجعاً للنوم، فخاف الخليفة من أبي نواس
على أبي طوق، فقال الخليفة لأبي طوق: نم أنت على السرير، وقال لأبي نواس: أنام أنا
وأنت أسفل السرير.
فقال: سمعاً وطاعةً، وهو بذلك غير راض في نفسه.
وتغافل الخليفة عن أبي نواس وأظهر النوم ثم انتبه فوجد
أبا نواس فوق السرير بجنب أبي طوق يضمه ويعانقه، فقال: ما هذا يا أبا نواس؟ فقال:
هزني الشوقمن أجل أبي طوقفتدحرجت منأسفل إلى فوق
فقال له: قاتلك الله، انتهى من حيلة الكميت.
الرشيد والرجل الأموي
من غريب
ما يحكى، ما حكاه القاضي أبو الحسن التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة: أن منارة
وكان صاحب شرطة الرشيد قال رفع إلى هارون الرشيد أن رجلاً بدمشق من بقايا بني أمية
عظيم المال كثير الجاه، مطاعاً في البلد، له جماعة وأولاد ومماليك يركبون الخيل
ويحملون السلاح ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن
منه، فعظم ذلك على الرشيد.
قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذا، وهو بالكوفة في
بعض حججه، في سنة ست وثمانين ومائة، وقد عاد من الموسم، وقد بايع للأمين والمأمون
والمعتصم أولاده، فدعاني، وهو خال، وقال: إني دعوتك لأمر يهمني، وقد منعني النوم، فانظر
كيف يكون؟ ثم قص علي خبر الأموي. وقال: اخرج الساعة فقد أعددت لك الخيول وأزحت
علتك في الزاد والنفقة والآلة، وتضم إليك مائة غلام واسلك البرية، وهذا كتابي إلى
نائب دمشق، وهذه قيود فابدأ بالرجل، فإن سمع وأجاع فقديه وجئني به، وإن عصى فتوكل
عليه أنت ومن معك لئلا يهرب، وانفذ الكتاب إلى أمير دمشق ليكون مساعداً لك، واقبضا
عليه وجئني به، وأجلت لذهابك ستاً ولإيابك ستاً ويوماً لمقامك، وهذا محمل تجعله في
شقة منه، إذا قيدته، وتقعد أنت في الشقة الأخرى، ولا تكل حفظه إلى غيرك، حتى
تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك. فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها من
أهله وولده وحاشيته وغلمانه، وقدر نعمته والحال والمحل واحفظ ما يقوله الرجل حرفاً
بحرف من ألفاطه منذ يقع طرفك عليه حتى تأتيني به، وإياك أن يشكل عليك شيء من أمره.
انطلق.
قال منارة: فودعته وانطلقت وخرجت فركبت الإبل وسرت أطوي
المنازل أسير الليل والنهار ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين والبول وتنفيس النفس قليلاً
إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة فكرهت طروقها
ليلاً فبت بظاهر البلد إلى أن فتح بابها من غد، فدخلت حتى أتيت باب الرجل، وعليها
صف عظيم وحاشية كثير، فلم أستأذن ودخلت بغير إذن، فلما رأى القوم ذلك سألوا بعض من
معي عني. قال: هذا منارة رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم.
قال: فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلساً رأيت فيه
قوماً جلوساً فظننت أن الرجل فيهم فقاموا ورحبوا بين فقلت: أفيكم فلان؟ قالوا: نحن
أولاده وهو في الحمام.
فقلت: استعجلوه.
فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والأحوال والحاشية
فوجدتها ماجت بأهلها موجاً كبيراً فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن طال مكثه
واستربت منه واشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى إلى أن رأيت شخصاً بزي الحمام يمشي في صحن
الدار وحواليه جماعة كهول وأحداث وصبيان، وهم أولاده وغلمانه، فقلت: إنه الرجل، فجاء
وجلس وسلم علي سلاماً خفيفاً وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته، فأخبرته
بما وجب وما قضى كلامه حتى جاءوا بأطباق فاكهة فقال: تقدم يا منارة وكل معنا.
فقلت: ما لي إلى ذلك من سبيل.
فلم
يعاودني فأكل هو ومن معه ثم غسل يديه ودعا بالطعام، فجاءوا إليه بمائدة حسنة لم أر
مثلها إلا للخليفة، فقال: يا منارة ساعدنا على الأكل. لا يزيد على أن يدعوني باسمي
كما يدعوني الخليفة، فامتنعت عليه، فما عادوني فأكل هو ومن معه، وكانوا تسعة من
أولاده، فتأملت أكله في نفسه فوجدته يأكل أكل الملوك ووجدت ذلك الاضطراب الذي كان
في داره قد سكن ووجدتهم لا يرفعون شيئاً من بين يديه قد وضع على المائدة لا تهيأ
غيره حالاً أعظم وأحسن منه. وقد كان غلمانه أخذوا لما نزلت إلى الدار مالي وغلماني
وعدلوا بهم إلى دار أخرى فما أطاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي وليس بين يدي إلا خمس أو
ست غلمان وقوف على رأسي فقلت في نفسي: هذا جبار عنيد. فإن امتنع من الشخوص لم أطق إشخاصه
بنفسي ولا بمنم معي ولا حفظ إلى أن يلحقني أمير البلد، وجزعت جزعاً شديداً ورابني
منه استخفافه وتهاونه بأمري، يدعوني باسمي ولا يفكر في امتناعي من الأكل ولا يسأل
عما جئت به ويأكل مطمئناً، وأنا مفكر في ذلك، فلما فرغ من أكله وغسل يديه دعا
بالبخور فتبخر وقام إلى الصلاة وصلى الظهر، وأكثر من الدعاء والبتهال، ورأيت صلاته
حسنة، فلما انتقل من المحراب أقبل علي وقال: ما أقدمك يا منارة؟ فأخرجت كتاب أمير
المؤمنين ودفعته إليه، ففضه وقرأه، فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته فاجتمع
منهم خلق كثير فلم أشك أنه يريد أن يوقع بي فلما تكاملوا ابتدأ فحلف إيماناً غليظة
فيها الطلاق والعتاق والحج والصدقة والوقف أن لا يجتمع اثنان في موضع واحد. وأمرهم
أن ينصرفوا ويدخلوا منازلهم، ولا يظهروا إلى أن ينكشف لهم أمر يعتمدون عليه. وقال:
هذا كتاب أمير المؤمنين بالمضي إليه، ولست أقيم بعد نظري فيه ساعة واحدة، فاستوصوا
بمن ورائي من الحريم خيراً وما لي حاجة أن يصحبني أحد منكم هات قيودك يا منارة.
فدعوت بها وكانت في سفط ومد يده فقيدته وأمرت غلماني
بحمله حتى صار في المحمل وركبت في الشق الآخر، وسرت من وقتي ولم ألاق أمير البلد
ولا غيره، وسرت بالرجل وليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق فابتدأ يحدثني بانبساط
حتى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة، فقال لي: أترى هذا؟ قلت: نعم.
قال: إنه لي، وقال: إن فيه من غرائب الأشجار كيت وكيت.
ثم انتهى إلى آخر، فقال مثل ذلك. ثم انتهى إلى مزارع حسان وقرى، فقال مثل ذلك! هذا
لي، فاشتد غيظي منه، وقلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين أهمه أمرك حتى أرسل إليك من
انتزعك من بين أهلك ومالك وولدك وأخرجك فريداً مقيداً مغلولاً ما تدري إلى ما تصير
إليه أمرك ولا كيف يكون،وأنت فارغ القلب من هذا حتى تصف ضياعك وبساتينك بعد أن
جئتك؛ وأنت لا تفكر فيما جئت به، وأنت ساكن القلب قليل التفكر. لقد كنت عندي شيخاً
فاضلاً.
فقال لي مجيباً: إنا لله وإنا إليه راجعون. أخطأت فراستي
فيك. لقد ظننت أنك رجل كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا لما
عرفوك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام، والله المستعان. أما قولك في أمير المؤمنين
وإزعاجه وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه، فإني على ثقة من الله عز وجل الذي
بيده ناصية أمير المؤمنين، ولا يملك أمير المؤمنين لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن
الله عز وجل، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد فإذا عرف أمير المؤمنين
أمري وعرف سلامتي وصلاح ناصيتي سرحني مكرماً، فإن الحسدة والأعداء رموني عنده بما
ليس في وتقولوا علي الأقاويل، فإما أن يستحل دمي أو يخرج من إيذائي وإزعاجي ويردني
مكرماً، أو يقيمني ببلاده معظماً مبجلاً؟ وإن كان قد سبق في علم الله عز وجل أن
هذا يبدو لي منه سوء وقد اقترب أجلي وكان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء
وأهل الأرض والسماء على صرف ذلك عني ما استطاعوا، فلم أتعجل الفكرة فيما فرغ الله
منه، وإني أحسن الظن بالله الذي خلق ورزق وأحيا وأمات، وإن الصبر والرضا والتسليم
إلى من يملك الدنيا والآخرة أولى، وقد كنت أحسب أنك تعرف هذا فإذن قد عرفت مبلغ
فهمك، فإني لا أكلمك بكلمة واحدة حتى يفرق بيننا أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى.
ثم أعرض
عنين فما سمعت منه لفظة غير القرآن والتسبيح أو طلب ماء أو حاجة حتى شارفنا الكوفة
في اليوم الثلاث عشرة بعد الظهر، والنجب قد استقبلتني قبل ستة فراسخ من الكوفة
يتجسسون خبري، فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين، فانتهيت
إلى الباب في آخر النهار فحططت رحلي، ودخلت على الرشيد وقبلت الأرض بين يديه
ووقفت، فقال: هات ما عندك يا منارة وإياك أن تغفل منه عن لفظة واحدة.
فسقت الحديث من أوله إلى آخره حتى انتهيت إلى ذكر
الفاكهة والطعام والغسل والبخور وما حدثني به نفسي من امتناعه، والغضب يظهر في وجه
أمير المؤمنين ويتزايد حتى انتهيت إلى فراغ الأمور من الصلاة والتفاته إلي وسؤاله
عن سبب قدومي ودفعي الكتاب إليه ومبادرته إلى إحضار ولده وأهله وأصحابه، وحلفه عليهم
أن لا يتبعه أحد وصرفه إياهم ومد رجليه، فقيدته فما زال وجه الرشيد يسفر، فلما
انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي له لما ركبنا في المحمل، فقال: صدق واله ما
هذا إلا رجل محسود على النعمة، مكذوب عليه، ولعمري، لقد أزعجناه وأذيناه ورعنا
أهله فبادر بنزع قيوده وائتني به.
قال: فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد فما هو إلا
أن رآه حتى رأيت ماء الحياء يجول في وجه الرشيد فدنا الأموي وسلم بالخلافة ووقف
فرد عليه الرشيد رداً جميلاً وأمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه الرشيد فسأله عن
حاله، ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئة وأمور أحببنا معها أن نراك ونسمع كلامك ونحسن
إليك، فاذكر حاجتك؟ فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا، ثم قال: ليس لي عند أمير
المؤمنين إلا حاجة واحدة.
فقال: مقضية، فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى
بلدي وأهلي وولدي.
قال: نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من مصالح جاهك
ومعاشك فإن مثلك لا يخرج إلا ويحتاج إلى شيء من هذا.
فقال: يا أمير المؤمنين، عمالك منصوفون وقد استغنيت
بعدلهم عن مسألتي فأموري مستقيمة وكذلك أهل بلدي بالعدل الشامل في ظل أمير
المؤمنين.
فقال الرشيد: انصرف محفوظاً إلى بلدك واكتب إلينا بأمر
إن عرض لك.
فودعه الأموي، فلما ولى خارجاً قال الرشيد: يا منارة،
احمله من وقتك وسر به راجعاً كما سيرته حتى إذا وصلت إلى مجلسه الذي أخذته منه
فودعه وانصرف.
قال منارة: فما زلت معه حتى انتهى إلى محله، ففرح به
أهله وأعطاني عطاء جزيلاً وانصرفت، والله أعلم، وهذه الحكاية على سبيل الاختصار.
الرشيد والخليفة الثاني الكاذب
حكي أن
الخليفة هارون الرشيد قلق في بعض الليالي قلقاً شديداً فاستدعى بوزيره جعفر
البرمكي وقال له: يا وزيري إن صدري ضيق ومرادي الليلة التفرج في شوارع بغداد
والنظر في مصالح العباد بشرط أن لا يعرفنا أحد من الناس ونتزيا بزي تجار الأكياس.
فقال له الوزير: السمع والطاعة.
فقاموا في الوقت والساعة وقلعوا ما عليم من ثياب الملك
والافتخار ولبسوا ثياب التجار: الخليفة والوزير جعفر ومسرور السياف الأكبر، وتمشوا
من مكان إلى مكان حتى وصلوا إلى الدجلة فرأوا بالأمر المقدور شيخاً قاعداً في شختور،
فتقدموا إليه وسلموا عليه، وقالوا: يا شيخ، نشتهي من فضلك وإحسانك أن تفرجنا
الليلة في مركبك، وخذ هذين الدينارين أجرتك انتفع بهما.
فقال لهم الشيخ: ومن يقدر على الفرجة، والخليفة هارون
الرشيد ينزل كل ليلة في حراقة صغيرة إلى الدجلة ومعه مناد ينادي: يا معشر الناس
كافة من جيد ورديء شيخ وصبي خاص وعام عبد وغلام، كل من نزل في مركب بالليل وشق
الدجلة ضربت عنقه أو يشنق على صاري مركبه، وكأنكم الساعة بالحراقة وهي مقبلة.
فقال له الخليفة هارون الرشيد وجعفر البرمكي: يا شيخ خذ
هذين الدينارين وادخل بنا قبواً من هذه الأقبية إلى أن تروح الحراقة.
فقال لهم الشيخ: هاتوا الذهب والله المستعان.
فأخذ الذهب وعوم بهم قليلاً، وإذا بالحراقة قد أقبلت من
كبد الدجلة وفيها الشموع والمشاعل فقل لهم الشيخ: أما قلت لكم! يا ستار لا تكشف
الأستار؟
فدخل إلى
قبو ووضع عليهم مئزراً أسود، وصاروا يتفرجون من تحت المئزر، وإذا بالحراقة قد
أقبلت والشمع يوقد فيها، وإذا في مقدم الحراقة مشاعلي بيده مشعل من الذهب الأحمر
يوقد فيه بالعود القاقلي وعلى المشاعلي قباء أطلس أحمر بطراز مزركش أصفر وعلى رأسه
شاش موصلي وعلى كتفيه مخلاة من الحرير الأخضر ملأى من العود القاقلي. وهو يوقد به
عوض الحطب، ومشاعلي آخر في مؤخر الحراقة مثله، ومائتا مملوك واقفون ميمنة ومسيرة،
وكرسي منصوب من الذهب الأحمر وعليه شاب حسن جالس كالقمر وعليه خلعة سوداء بطرازين
من الذهب الأصفر، وبين يديه إنسان كأنه الوزير جعفر. وعلى رأسه خادم واقف كأنه
مسرور بسيف مشهر، وعشرون نديماً. فقال الخليفة: يا جعفر.
قال: لبيك، أمير المؤمنين.
قال: لعل أن يكون هذا أحد أولادي إما المأمون أو محمد
الأمين.
فلما وصلت الحراقة إليهم وإذا بالمشاعلي ينادي: معاشر
الناس كافة الخاص والعام، الجيد والرديء والعبد والغلام، جهاوات وغير جهاوات قد
رسم خليفتنا هذا أن كل من تفرج في الدجلة أو فتح طاقته حل ماله وضربت رقبته ومن لا
يصدق يجرب.
قال: فتأمل الخليفة هارون الرشيد في الشاب وهو جالس على
كرسي من الذهب قد كمل بالحسن والجمال والبهاء والكمال فلما تأمله هارون الرشيد
التفت إلى الوزير وقال: يا وزير.
قال له: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: والله ما أبقى شيئاً من شكل الخلافة، وهذا الذي بين
يديه كأنه أنت يا جعفر لا محالة، والخادم الذي على رأسه كأنه مسرور، هذا، وهؤلاء
الندماء كأنهم ندمائي، وقد حار عقلي في هذا الأمر.
فقال له الوزير: وأنا والله يا أمير المؤمنين كذلك.
ثم تقدمت الحراقة إلى أن غابت عن العين فعند ذلك خرج
الشيخ بالشختور الذي فيه الجماعة من تحت القبوة. وقال: الحمد لله على السلامة،
فإنه لم يصادفنا.
فقال له الخليفة: يا شيخ! وهذا الخليفة ينزل كل ليلة
الدجلة؟ قال: نعم يا سيدي، له على هذه الحالة سنة كاملة.
فقال له الخليفة: يا شيخ! نشتهي من فضلك وإحسانك أن تقف
لنا ليلة غد في هذه المكان، ونحن نعطيك خمسة دنانير، فإنا قوم غرباء وقصدنا
التنزه، ونحن نازلون في الفندق.
فقال الشيخ: السمع والطاعة.
ثم إن الخليفة وجعفراً ومسروراً توجهوا من عند الشيخ
المراكبي إلى القصر وقلعوا ما عليهم من لبس التجار ولبسوا ثياب الملك والافتخار،
وجلس كل واحد في مرتبته، ودخلت الأمراء والحجاب والنواب. وانعقد المجلس بالناس،
ولما انقضى النهار وتفرقت الأجناد قال الخليفة هارون الرشيد لوزيره: يا جعفر! انهض بنا للفرجة
على الخليفة الثاني.
فضحك جعفر ومسرور، ولبسوا لبس التجار وخرجوا منشرحي
الصدور، وكان خروجهم من باب السر، فلما وصلوا إلى الدجلة وجدوا الشيخ صاحب الشختور
لهم في الانتظار فنزلوا عنده في المركب. فلما استقروا مع الشيخ المراكبي، وإذا بالخليفة
الثاني في الحراقة، وقد أقبلت عليهم فتأمولها وإذا فيها مائتا مملوك غير المماليك
الأول والمشاعلية تنادي على عادتهم، فقال الخليفة: يا وزير، هذا شيء لو سمعت به ما
صدقت، ولكن رأيت هذا عياناً.
ثم إن الخليفة قال لصاحب الشختور: يا شيخ! هذه عشرة
دنانير وسر بنا في مساواتهم، فإنهم في النور ونحن في الظلام ننظرهم ونتفرج عليهم.
وهم لا ينظروننا.
فأخذ الشيخ العشرة دنانير وأطلق الشختور في مساواتهم
وصار في ظلام الحراقة، ولم يزالوا سائرين في أثرهم إلى آخر البساتين ، وإذا بزريبة
بطول الحراقة التصقت عليها، وإذا بغلامين واقفين، ومعهما بغلة مسرجة ملجمة، فطلع
الخليفة الثاني وركب البغلة وسار بين الندماء، وزعقت المشاعلية والجاويشية،
واشتالت الغاشية، وطلع هارون الرشيد وجعفر ومسرور إلى البر وشقوا بين المماليك
وساروا قدامهم، فلاحت من المشاعلية لتفاتة فرأوا ثلاثة أنفار لبسهم لبس التجار،
وهم غرباً فأنكروهم غمزوا عليهم فمسكوهم وأحضروهم بين يدي الخليفة الثاني، فلما
نظرهم قال: كيف وصلتم إلى هذا المكان وما الذي جاء بكم في مثل هذا الوقت؟ قالوا:
يا مولانا! اليوم كان قدومنا، ونحن قوم غرباء تجار، وخرجنا نتمشى الليلة، وإذا بكم
قد أقبلتم وجاء هؤلاء وقبضوا علينا وأوقفونا بين أيديكم، وهذا خبرنا.
فقال لهم
الخليفة الثاني: طيبوا قلوبكم، فلا بأس عليكم لأنكم قوم غرباء، ولو كنتم من بغداد
لضربت أعناقكم للمخالفة.
ثم التفت إلى وزيره وقال: خذ هؤلاء صحبتك ليكونوا ضيوفنا
الليلة.
فقال: سمعاً وطاعة.
ثم ساروا إلى أن وصلوا إلى قصر عظيم الشأن محكم البنيان
ما حواه سلطان، قصر قام من التراب وتعلق بأكتاف السحاب، بابه من خشب الساج، مرصع
بالذهب الوهاج، يدخل منه إلى إيوان بفسقية وشاذروان، وحصر عبدانية ومخدات اسكندرانية،
وستر مسبول وفرش يذهل العقول، وعلى عتبة الباب مكتوب هذان البيتان:
قصر عليه تحية وسلام ... نشرت عليه جمالها الأيام
فيه العجائب والغرائب نوعت ... فتحيرت في نعتها الأقلام
قال: فدخل الخليفة الثاني إلى القصر، والجماعة في خدمته،
إلى أن جلس على كرسي من الذهب مرصع بالدر والجوهر، وعلى الكرسي بشخانة من الحرير
الأخضر لا يرى مثلها إلا عند كسرى وقيصر، مزركشة بالذهب الأحمر، معلقة في بكرة من الصندل،
رباطاتها من الحرير الأصفر، هذا وقد جلس الندماء في مراتبهم، وصاحب سيف النقمة
واقف بين يديه، فمدوا السماط وأكلوا ورفعوا الخوان، ولأيديهم غسلوا، وأحضرت آلة
المدام، ووضعت الطاسات والأواني وصففت الأباريق والكاسات والقناني، ودار الدور إلى
أن وصل إلى الخليفة هارون الرشيد، فامتنع من الشراب فقال الخليفة الثاني لجعفر: ما
بال صاحبك لا يشرب.
فقال: يا مولاي له مدة ما شرب.
فقال الشاب: عندي مشروب غير هذا يصلح لصاحبك. علي بشراب
التفاح! ففي الحال أ؛ضر فقدم بين يدي هارون الرشيد وقال: كلما وصل إليك الدور
فاشرب من هذا، ولا يزالون يشربون في انشراح وتعاطي أقداح إلى أن تمكن الشراب من
رؤوسهم واستولى على عقولهم ونفوسهم فقال الرشيد لوزيره: والله يا وزير ما عندنا آنية
مثل هذه الآنية، فيا ليت شعري من يكون هذا الشاب.
فبينما هما يتحدثنا بلطافة إذ لاحت من الشاب التفاتة
فوجد الوزير يسار الخليفة، فقال: المسارة عربدة.
فقال الوزير: ما ثم عربدة، إلا أن رفيقي هذا يقول: سافرت
غالب البلاد، ونادمت الملوك وعاشرت الأجناد ما رأيت أحسن من هذا النظام ولا مثل
آنية هذا المدام، إلا أن أهل بغداد يقولون الشراب بلا سماع من جملة المجون.
فلما سمع الخليفة الثاني هذا الكلام تبسم وانشرح، وكان
بيده قضيب، فضرب به على مدورة، وإذا بباب قد فتح وخرج منه خادم يحمل كرسياً من
العاج مصفحاً بالذهب الوهاج، وخلفه جارية قد كملت بالحسن والجمال والبهاء والكمال،
فنصب الخادم الكرسي وجلست عليه الجارية وهي كالشمس الضاحية، وبيدها عود من صنعة الهنود،
وشدته وحنت إليه بعد أن ضربت أربعة وعشرين طريقة عليه، فأذهلت العقول وعادت إلى
الطريقة الأولى وجعلت تقول:
لسان الهوى من مقلتي لك ناطق ... يخبر عني أنني لك عاشق
ولي شاهد من طرف قلبي معذب ... وقلبي جريح من فراقك خافق
وكم أكتم الحب الذي قد أذابني ... وقلبي جريح والدمع
سوابق
وما كنت أدري قبل حبك ما الهوى ... ولكن قضا الرحمن في
الخلق سابق
قال: فلما سمع الخليفة الثاني هذا الشعر من الجارية صرخ
صرخة عظيمة، وشق البذلة التي كانت عليه إلى الذيل، فاسبلت عليه البشخانة، وأتي
ببذلة غيرها أحسن منها، فلبسها وجلس على عادته، فلما وصل القدح إليه ضرب القضيب
على المدورة وإذا بباب قد فتح وخرج منه خادم حامل كرسياً من الذهب، وخلفه جارية
أحسن من الأولى، وجلست على الكرسي وبيدها عود يكمد الحسود، وأنشدت تقول:
كيف اصطباري! ونار العشق في كبيد ... والدمع من مقلتي
صوفانه مدد
والله ما طاب لي عيش أسر به ... وكيف يفرح قلب حشوه كمد
قال: فصرخ الشاب صرخة عظيمة، وشق ما عليه إلى الذيل
وأسبلت عليه البشخانة على العادة وأتي ببذلة غيرها أحسن منها فلبسها، واستوى
جالساً، ودار المدام وانبسط الكلام، فلما وصل القدح إليه ضرب القضيب على المدور
ففتح الباب وخرج منه خادم على العادة ومعه كرسي وخلفه جارية، فجلست على الكرسي، ومعها
عود يذهل الأسود فغنت، وأنشدت تقول:
اقصروا هجركم وقولا جفاكم ... ففؤادي وحقكم ما سلاكم
وارحموا
مدنفاً كئيباً حزيناً ... ذا غرام متيماً في هواكم
قد براه السقام من عظم وجد ... يتمنى من الإله رضاكم
يا بدور محكم في فؤادي ... كيف أختار في الأنام سواكم
قال: فصرخ الشاب وشق ما عليه من الثياب فأخوا عليه
البشخانة وأتوا ببذلة غيرها، وعاد إلى حالته مع ندمائه ودارت الأقداح وطاب
الانشراح، فلما وصل القدح إليه ضرب القضيب على المدورة، ففتح باب وخرج منه خادم
حامل كرسياً وخلفه جارية فجلست على الكرسي، وأخذت العود وغنت تقول:
هل ينقضي حال التهاجر والقلى ... ويعود لي ما قد تقضى
أولا
أيام كنا والديار تلمنا ... في طيب عيش والحواسد غفلا
غدر الزمان بنا وفرق شملنا ... من بعد هاتيك المنازل
والحلا
أتروم مني يا عذولي سلوةً ... وأرى فؤادي لا يطيع العذلا
فدع الملام وخلني بصبابتي ... فالقلب من أنس المحبة ما
خلا
يا سادة نقضوا العهود وبدلوا ... لا تحسبوا قلبي لبعدكم
سلا
قال: فلما فرغت الجارية صرخ الشاب صرخةً عظيمة، وشق ما
عليه من الثياب، ووقع إلى الأرض مغشياً عليه، وسقط منه القوى والحبل، فأرادوا أن
يرخوا عليه البشخانة على العادة، فتعوقت حبالها بالإرادة، فلاحت من هارون الرشيد التفاتة
فنظر على أجناب الشاب أثر مقارع، فقال الرشيد بعد النظر والتأكد لجعفر: إنه شاب
مليح إلا أنه لص قبيح، وما عند أحد منه خبر. هل رأيت ما على جنبيه من الأثر.
وقد أسبلت البشخانة عليه على العادة وأتي ببذلة غيرها
فلبسها وقد أفاق من غشيته فاستوى جالساً على العادة مع الندماء، فحانت منه التفاتة
فوجد جعفراً والخليفة يتحدثان، فقال لهما: ما الخبر يا فتيان؟ فقال جعفر: يا مولاي
خير، لا شك ولا خفاء، إن رفيقي هذا من التجار الكبار، وسافر إلى جميع الأمصار،
وصحب الملوك والأخبار، قال: إن الذي حصل من مولانا الخليفة في هذه الليلة إسراف
عظيم لم أر أحداً فعل هذا الفعل في هذه الأقاليم لأنه شق كل بذلة بخمسمائة دينار،
وهذا شيء زائد في العيار.
فقال الشاب: يا هذا! المال مالي والقماش قماشي، وهذا من
بعض إنعامي على الخدم والحواشي، فإن كل بذلة شققتها هي لواحد من الندماء الحضار،
وقد رسمت لهم أن العوض على كل بذلة خمسمائة دينا.
فأنشد عند ذلك الوزير جعفر وقال:
بنت المكارم وسط كفك منزلاً ... فجميع مالك للأنام مباح
وإذا المكارم أغلقت أبوابها ... يوماً، فأنت لقفلها
مفتاح
قال: فلما سمع الشاب من الوزير جعفر ذلك، رسم له بألف
دينار وبذلة، ثم دارت بينهم الأقداح وطاب لهم شراب الراح، فقال الرشيد: يا جعفر،
اسأله عن الضرب الذي رأيناه على جنبيه حتى ننظر ما يقول في جوابه.
فقال الوزير: يا مولاي لا تعجل وترفق بنفسك فالصبر أجمل.
فقال: وحياة رأسي وتربة العباس إن لم تسأله أخمدت منك
الأنفاس.
فعند ذلك التفت الشاب إلى الوزير وقال: مالك مع رفيقك
وما الخبر؟ فقال: خير يا مولانا.
فقال: سألتك بالله إلا ما أخبرتني بخبره، ولا تكتم عني
شيئاً من أمره.
فقال: يا مولاي! إنه أبصر على جنبيك أثر سياط، فتعجب من
ذلك غاية العجب وقال: يا لله العجب! الخليفة يضرب؟ وقصده يعلم ما السبب؟ فلما سمع
الشاب هذا الكلام تبسم وقال: اللهم فنعم، واعلموا أن حديثي عجيبٌ وأمري غريبٌ لو كتب
بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، ثم تأوه وأن واشتكى وبكى وأنشد:
حديثي عجيب فاق كل العجائب ... وحق إلهٍ غامر بالمواهب
فإن شئتمو أن تسمعوا إلي فأنصتوا ... فيطرب هذا الجمع من
كل جانب
وأصغوا إلى قولي، ففيه إشارة ... وإن كلامي صادق غير
كاذب
لأني قتيل من غرام ولوعة ... وقاتلتي فاقت جميع الكواعب
لها مقلة كحلا وخد مورد ... ويقتلني منها قسيُّ الحواجب
وقد حس قلبي أن فيكم إمامنا ... خليفة هذا الوقت ابن
الأطايب
وثانيكمو يدعى الوزير بجعفر ... وفي الحق يدعى صاحباً
وابن صاحب
وثالثكم
مسرور سيفاف نقمةٍ ... فإن كان هذا القول حقاً بصائب
فقد نلت ما أرجو على كل حالةٍ ... وجاء سرور القلب من كل
جانب
قال: فعند ذلك حلف له جعفر أنهم لم يكونوا المذكورين،
فضحك الشاب وقال: الذي أعرفكم به أني ما أنا أمير المؤمنين، وإنما سميت نفسي
بهذا الاسم لأبلغ ما أريد من أبناء المدينة، واسمي علي بن محمد الجوهري، وإن أبي
كان من الأعيان، ومات وخلف لي أموالاً لا تأكلها النيران من ذهب وفضة ولؤلؤ ومرجان
وياقوت وجوهر وزمرد وبهرمان وحمامات وغيطان وبساتين وفنادق وطواحين وعبيد وجوار
وغلمان، فلما كان في بعض الأيام وأنا جالس في حانوتي وحولي الحشم والخمد، وإذا أنا
بجارية قد أقبلت على بغلة وفي خدمتها ثلاث جوار كأنهن الأقمار، ونزلت على دكاني
وجلست وقالت: أنت علي بن محمد الجوهري.
فقلت لها: مملوكك وعبد رقك.
فقالت: هل عندك عقد جوهر يصلح لمثلي؟ فقلت: يا ستي الذي
عندي يحضر بين يديك، فإن أعجبك شيء كان بسعد المملوك، وإن لم يعجبك شيء منه فبسوء
حظي.
وكان عندي مائة عقد جوهر فعرضت عليها الجميع فلم يعجبها
شيء منها، وقالت: أريد أحسن مما رأيت؛ وكان عندي عقد صغير شراؤه على والدي بمائة
ألف دينار لم يوجد مثله عند أحد السلاطين الكبار، فقلت: يا سيدتي بقي عندي عقد الفصوص
والجواهر الذي لم يملكه أحد من الأصاغر والأكابر.
فقالت: أرني إياه.
فلما رأته قالت: هذا الذي طول عمري أتمناه. ثم قالت: بكم
ثمنه في الأسعار؟ فقلت: شراؤه على والدي بمائة ألف دينار.
فقالت: ولك خمسة آلاف زائدة.
فقلت لها: يا سيدتي العقد وصاحبه في الرق بين يديك، ولا
خلاف.
فقالت: لا بد من الفائدة ولك الجميلة الزائدة.
وقامت من وقتها عجلة وركبت البغلة بسرعة، وقالت: يا سيدي
نور الدين، باسم الله فلتكن في صحبتنا لتأخذ الثمن، فإن نهارك اليوم بنا مثل اللبن.
فقمت وأقفلت الدكان وسرت معهن في أمان إلى أن وصلنا إلى
الدار، فوجدتها داراً عليها السعادة لائحة والافتخار وعلى بابها مكتوب بالذهب
واللازورد العجيب هذه الأبيات:
ألا يا دار لا يدخلك حزنٌ ... ولا يغدر بصاحبك الزمان
فنعم الدار أنت لك ضيفٍ ... إذا ما ضاق بالضيف المكان
فنزلت الجارية، ودخلت الدار وأمرت بجلوسي إلى أن يأتي
الصيرفي، فجلست على باب الدار ساعة لطيفة، وإذا بجارية خرجت إلي وقالت: يا سيدي
ادخل إلى الدهليز فإن جلوسك على الباب قبيح.
فقمت إلى الدهليز وجلست على الدكة ساعة، وإذا بجارية
خرجت إلي، وقالت: يا سيدي! تقول لك سيدتي ادخل واجلس على جانب الإيوان حتى تقبض
مالك.
فقمت فدخلت وجلست حيث أمرتني، وإذا بكرسي من الذهب وعليه
ستارة من الحرير الأحمر، وإذا بتلك الستارة قد رفعت فبان من تحتها تلك الجارية
التي اشترت مني العقد، وقد أسفرت عن وجه كأنه دائرة القمر، والعقد في عنقها فدهش
عقلي وحار ذهني ولبي من رؤية تلك الجارية وحسنها، فلما رأتني قامت من على الكرسي،
وسعت نحوي، وقالت: يا نور الدين! هل رأيت جميلة مثلي؟ فقلت: يا سيدتي الحسن كله
فيك، وهو من بعض معانيك.
فقالت: يا علي، اعلم أني أحبك وما صدقت أنك صرت عندي.
ثم إنها طوقتني وعانقتني، فقبلتها وقبلتني ثم جذبتني
وعلى صدرها رمتني. فلما علمت مني أني أريد أن أهم بها قالت: يا علي، أتريد أنن
تجتمع بي في الحرام، والله لا كان من يفعل الآثام ويرضى بقبيح الكلام، فإني بكر
عذراء ما دنا مني أحد، ولست مجهولةً في البلد، أتعلم من أنا؟ فقلت: لا والله، وحلفت
لها يميناً.
فقالت: أنا الست دنيا بنت يحيى بن خالد البرمكي، وأخي
جعفر.
فلما سمعت منها ذلك جمعت خاطري عنها، وقلت: يا سيدتي ما
لي ذنب في التهجم عليك، أنت التي أطمعتني في إحسانك والوصول إلى جنابك.
فقالت: لا بأس عليك ولا بد من الإحسان إليك فإن أمري
بيدي، والقاضي ولي عقدي، والقصد أن أكون لك وتكون لي.
ثم إنها دعت بالقاضي والشهود وبذلت المجهود، فلما حضروا
قالت لهم: هذا نور الدين علي بن الجوهري قد طلب زواجي ودفع لي هذا العقد مهري،
وأنا قد قبلت ورضيت.
ثم إن
القاضي حمد الله تعالى وأثنى عليه وكتب الكتاب فدخلت عليها بعد أن أعطت للقاضي
شيئاً ما له حساب، وأحضرت المدام وأحضرت الأقداح بأحسن نظام، فلما لعبت الخمرة في
رؤوسنا أمرت جارية عوديةً أن تغني فأنشأت تقول:
قلبي وآمالي بباب رجاكمو ... لا أبتغي في الكون غير
رضاكمو
يا جيرة جاروا علي ببعدهم ... حنوا علينا وارحموا
مضناكمو
حاشاكمو، يا سادتي، أن تهجروا ... صباً معنى مغرماً
بهواكمو
بالله جودوا وارحموا لمتيم ... لم يستمع فيكم حديث
سواكمو
مرسى فؤادي فوق بحر رضاكمو ... فإذا شجاه حسنكم ناجاكمو
قال: فأطربتنا الجارية بحسن غنائها ولم تزل الجواري
يغنين جارية بعد جارية وينشدن الأشعار إلى أن غنت عشر جوارٍ، فعند ذلك أخذت العود
الست دنيا وأنشدت تقول:
قسماً بلين قوامك المياس ... إني لنار الهجر منك أقاسي
فارحم لصب في هواك متيمٍ ... يا بدر تم أنت سيد الناس
أنعم بوصلك كي أبيت بليلةٍ ... أجلو جمالك في ضياء الكاس
ما بين ورد جمعت ألوانه ... مع نرجس أيضاً وحسن الآس
قال الشاب: ثم إني أخذت منها العود وضربت عليه وغنيت هذه
الأبيات:
سبحان ربي جميع الحسن أعطاكِ ... حتى بقيت أنا من بعض
أسراك
يا من لها ناظر تسبي الأنام به ... خذي الأمان لنا من
سحر عيناك
فالماء والنار في خديك قد جمعا ... والورد جوري نبت وسط
خداك
أنت الغرام لقلبي والنعيم له ... فما أمرك في قلبي
وأحلاك
قال: فلما سمعت مني ما قلت فرحت فرحاً شديداً، ثم إنها
صرفت الجواري وقمنا إلى أحسن مكان قد فرش لنا فيه من سائر الألوان، ونزعت ما عليها
من الثياب وخلوت بها خلوة الأحباب، فوجدتها بنتاً بكراً بختم ربها، ففرحت بي وفرحت
بها فرحاً لم أجد في عمري ليلة أطيب منها، وفيها أنشدت أقول:
يا ليل! دم لي لا أريد صباحاً ... يكفي بوجه معانقي
مصباحا
طوقته طوق الحمام بساعدي ... وجعلت كفي للمنام مباحا
هذا هو الفوز العظيم فخلنا ... متعانقين، فلا نريد براحا
فأقمت عندها شهراً كاملاً، وقد نسيتُ الدكان والأهل
والأوطان إلى ذات يوم من الأيام قالت: يا نور الدين قد عزمت اليوم على المسير إلى
الحمام، وأنت اقعد على هذا السرير إلى أن أرجع إليك.
فقلت: سمعاً وطاعةً.
وحلفتني أن لا أنتقل من موضعي، فأخذت جواريها وذهبت إلى
الحمام، فوالله يا إخواني ما لحقت أن تخرج من رأس الزقاق، إلا والباب قد فتح ودخلت
منه عجوز وأي عجوز، وقالت: يا نور الدين الست زبيدة تدعوك، فقد سمعت بشبابك وطيب غنائك.
فقلت: والله علي يمين أنني ما أقوم من مقامي حتى تأتي
الست دنيا.
فقالت العجوز: يا نور الدين لا تخل الست زبيدة تصير
عدوتك، فقم كلمها وارجع.
فقمت من وقتي إليها والعجوز أمامي إلى أن أوصلتني إلى
الست زبيدة، فلما وصلت إليها، قالت: يا نور الدين أنت معشوق الست دنيا؟ فقلت:
مملوكك وعبد رقك.
فقالت: صدق الذي وصفك بالحسن والجمال، فإنك فوق الوصف
والمقال، ولكن عن لي شيئاً حتى أسمعك؟ فقلت: السمع والطاعة، فأتتني بعود فغنيت
عليه وأنشدت أقول:
قلب المحب مع الأحباب متعوب ... وجسمه بيد الأسقام منهوب
ما في الركائب من زمت حمولهم ... إلا وكان له في الظعن
محبوب
أستودع الله لي في حبكم قمراً ... يهواه قلبي وعن عيني
محجوب
يرضى ويغضب، ما أحلى تدلله ... وكل ما يفعل المحبوب
محبوب
فقالت لي: حفظ الله بدنك وطيب أنفاسك، فلقد كملت في
الحسن والظرف والمعنى، فقم إلى مكانك قبل أن تجيء إليه الست دنيا فلا تجدك فتغضب
عليك.
فقبلت
الأرض وخرجت العجوز أمامي إلى أن أوصلتني إلى الباب الذي خرجت منه، فدخلت وجئت إلى
السرير لأجلس فوجدتها جاءت من الحمام ونامت على السرير، فقعدت عند رجليها وصرت
أكبسها، ففتحت عينيها فرأتني فجمعت رجليها ورفستني فرمتني من على السرير وقالت: يا
نور الدين! خنت اليمن وكذبت. وذهبت إلى الست زبيدة؟ ووالله لولا
خوفي من الهتيكة والفضيحة لخربت قصرها على رأسها. ثم قالت لعبدها: يا صواب، قم
اضرب رقبة هذا النذل الكذاب، فلا حاجة لنا به.
فتقدم ذلك الخادم إلي وشرط ذيلي وعصب عيني، وأراد أن
يضرب رقبتي فقامت إليها الجواري الكبار والصغار، وقلن لها: يا ستاه، ما هو بأول من
أخطأ ما عرف خلقك، وأنت ما تبغضينه، وما فعل ذنباً يوجب أن تقتليه.
فقالت: والله لا بد أن أؤثر فيه أثراً. ثم أمرت بضربي
فضربت على أضلاعي الضرب الذي رأيتموه، وأمرت بإخراجي. فأخرجوني وأبعدوني عن القصر،
ورموني ورجعوا وتركوني، فلمت نفسي: فمشيت قليلاً قليلاً إلى أن وصلت إلى منزلي، وأحضرت
جراحاً وأريته الضرب فلاطفني وسعى في مصالحي. فلما صح جسمي دخلت الحمام وزالت عني
الأوجاع والأسقام. وجئت إلى الدكان وأخذت جميع ما فيه وبعته وجمعت ثمنه واشتريت
أربعمائة مملوك ما جمعهم أحد من الملوك يركب معي في كل يوم مائتان، وعملت هذا
المركب الحراقة بألف ومائتين من الذهب العين، وسميت نفسي بالخليفة، ورتبت من معي
من الخدام كل واحد في وظيفة وناديت: كل من تفرج في الدجلة ضربت عنقه بلا مهلة. ولي
على هذه الحالة سنة كاملة ولم أسمع لها بخبر ولا وقفت لها على أثر، ثم إنه بكى وأن
واشتكى وأنشد يقول:
والله ما كنت طول الدهر ناسيها ... ولا دنوت إلى من ليس
يدنيها
كأنها البدر في تكوين خلقتها ... سبحان خالقها سبحان
باريها
صدت ولا ذنب لي إلا محبتها ... فكيف حال الذي قد بات
نابيها
وصيرتني حزيناً ساهياً دنفاً ... والقلب قد حار مني في
معانيها
قال: فلما سمع هارون الرشيد كلام الشاب وما أبداه من
الخطاب تعجب غاية العجب. وقال: سبحان من جعل لكل شيء سبباً.
ثم إنهم طلبوا من الشاب الانصراف وأضمر الرشيد للشاب
الإنصاف وأن يتحفه غاية الإتحاف، فانصرفوا من عنده سائرين وإلى قصر الخلافة
طالبين، ولما استقر بهم في منزلهم الجلوس غيروا ما كان عليهم من الملبوس ولبسوا
أثواب الموكب والملك والزينة، وكذلك مسرور سياف النقمة والعطب، فقال الخليفة لجعفر
المهيب: يا وزير! علي بالشاب.
فخرج إليه في الحشم والخدم وسار إلى منزل الشاب فخرج
إليه وسلم عليه فقال له الوزير جعفر: أجب أمير المؤمنين.
فقال: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين وحامي حوزة الدين.
فسار معه إلى القصر وهو من الترسيم عليه في حصر، فلما
دخل إلى الخليفة ورفع الوزير الستر عن السدة الشريفة ورأى الشاب الخليفة عرفه،
فقبل الأرض بين يديه ودعا له بدوام العز وأثنى عليه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين
وحامي حوزة الدين وقامع المفسدين وإمام المتقين هناك الله بما أعطاك وجعل الجنة
مأواك والنار مثوى لأعداك وأنشد يقول:
لا زال بابك كعبة مقصودةً ... وترابها فوق الجباه رسوم
حتى ينادي في البلاد بأسرها ... هذا المقام وأنت إبراهيم
فعند ذلك تبسم الخليفة في وجهه، ورد عليه السلام وأظهر
له الإحسان والإكرام وقربه إليه، وأجلسه بين يديه وقال له: يا نور الدين أريد أن تحدثني
بحديثك الليلة يا مسكين، فإنه من أعجب الأمور.
فقال الشاب: العفو يا أمير المؤمنين، أعطني منديل الأمان
ليهدأ روعي ويطمئن قلبي.
فقال الخليفة: لك الأمان.
فشرع الشاب يتحدث بالذي جرى له من أوله إلى آخره، فعلم
الخليفة من غير إطالة أن الصبي عاشق لا محالة، فقال الخليفة: أتحب أن أردها إليك
يا مسكين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ثم أنشد يقول:
إن رمت إحساناً فهذا وقته ... أو رمت معروفاً فهذا حينه
فعند ذلك التفت الرشيد إلى الوزير وقال له: أحضر أختك
الست دنيا بنت الوزير يحيى.
فقال له: السمع والطاعة.
فأحضرها في الوقت فلما مثلت بين يديه قال لها: أتعرفين
هذا من؟ فقالت: أين للنساء معرفة بالرجال؟
فتبسم
وقال: يا دنيا قد عرفنا الحال وسمعنا الحكاية من أولها إلى آخرها وفهمنا باطنها
وظاهرها، والأمر لا يخفى وإن كان مستوراً.
فقالت: كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وأن أستغفر الله مما
جرى مني، وأسأل من فيض الفضل العفو عني.
فضحك الخليفة وأحضر القاضي والشهود وعقد له ثانياً
عليها. وحصل له سعد السعود، وأكمد العدو والحسود وجعله نديمه وزاد تكريمه، وعاش
بقية عمره في أهنإ عيش ونعمةٍ، يجالس الخليفة في الليل والنهار، تؤانسه الست دنيا
ذات الفخار.
الرشيد وجارية جعفر
ويحكى أن
جعفراً البرمكي نادم الرشيد ليلة، فقال: يا جعفر بلغني أنك اشتريت الجارية
الفلانية، ولي مدة أطلبها، فإنها بديعة الجمال، ولي شوق زائد إليها فبعنيها.
قال: ليس علي فيها بيع.
قال: هبنيها.
قال: ولا أهبها.
فقال الرشيد: زبيدة طالق مني ثلاثاً إن لم تبعنيها أو
تهبنيها.
وقال جعفر: زوجتي طالق مني ثلاثاً إن بعتها أو وهبتها.
ثم أفاقا من نشوتهما وعلما أنهما وقعا في أمر عظيم وعجزا
عن تدبير الحيلة فقال الرشيد: هذه واقعة ليس لها غير أبي يوسف، فاطلبوه، فكان قد
انتصف الليل. فلما طلب قام فزعاً وقال: ما طلبت في هذا الوقت إلا لأمر حدث في الإسلام.
ثم خرج مسرعاً وركب بغلته وقال لغلامه: اصحب معك
المخلاة، واجعل فيها بعض شعير، فإذا دخلنا دار الخلافة ودخلت فضع بين يدي الدابة
شيئاً منه تشتغل به إلى حين خروجي، فإنها لم تستوف علفها في هذه الليلة.
فقال: سمعاً وطاعةً.
فلما دخل على الرشيد قام له وأجلسه على سريره بجانبه
وكان لا يجلس معه غيره، وقال له: ما طلبناك إلا لأمر مهم، وهو كذا وكذا، وقد عجزنا
عن تدبير الحيلة.
فقال: يا أمير المؤمنين، هذا من أسهل ما يكون. يا جعفر!
بع أمير المؤمنين نصفها وهبه نصفها تبرأ من يمينكما.
فسر بذلك أمير المؤمنين وفعلا، فقال الرشيد: أحضر
الجارية في هذا الوقت فإني شديد الشوق إليها.
فأحضرت، فقال القاضي أبي يوسف: أريد وطأها في هذا الوقت،
ولا أطيق الصبر إلى مضي مدة الاستبراء، انظر لي الحيلة في ذلك؟ فقال أبو يوسف:
ائتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين الذين لم يجر عليهم العتق.
فأحضر مملوك، فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين، إئذن لي
أن أزوجها منه، ثم يطلقها قبل الدخول فيحل وطؤها في الحال من غير استبراء.
فأعجب الرشيد ذلك أكثر من الأول، فقال: أذنت لك.
فأوجب القاضي النكاح، ثم قبله المملوك، فقال له القاضي
طلقها.
فقال له: هذه صارت لي زوجة وأنا لا أطلقها.
فردد عليه القول فأبى وضاق صدر الخليفة لذلك، وقال: قد
اشتد الأمر أعظم مما كان.
فقال القاضي أبو يوسف: يا أمير المؤمنين رغبه بالمال.
فقال: طلقها ولك مائة دينار.
قال: لا أفعل.
قال: مائتا دينار.
قال: لا أفعل.
إلى أن عرضوا عليه ألف دينار وهو يمتنع، وقال القاضي:
الطلاق بيدي أم بيد أمير المؤمنين أم بيدك؟ قال: بل بيدك أنت.
قال: والله لا أفعل أبداً.
فاشتد غضب أمير المؤمنين، فقال القاضي: يا أمير المؤمنين
لا تجزع فإن الأمر هين اعتق الجارية، ثم ملك هذا العبد للجارية؟ قال: أعتقتها
وملكته لها.
فقال لها القاضي: قولي قبلت؟ فقالت: قبلت.
فقال القاضي: حكمت بالتفريق بينكما لأنه دخل في ملكها
فانفسخ النكاح.
فقام أمير المؤمنين على قدميه، وقال: مثلك من يكون
قاضياً في زماني. وستدعى بأطباق الذهب فأفرغت بين يديه، وقال للقاضي: هل معك شيء
توعيه؟ فتذكر مخلاة البغلة. فاستدعى بها، فملئت له ذهباً، فأخذها وانصرف. فلما أصبح
قال لخلانه: انظروا إلى من علم العلم فليتعلمه كذلك، فإني أعطيت هذا المال العظيم
في مسألتين أو ثلاث.
فانظر أيها المتأدب إلى لطف هذه الواقعة فإنها اشتملت
على محاسن منها إدلال الوزير على قلب أمير المؤمنين وحلم الخليفة، وزيادة علم
القاضي فرحم الله أرواحهم أجمعين.
ولكن مسألة الاستبراء لم تتخرج إلا على مذهب أبي حنيفة
فخرجها أبو يوسف على قواعد مذهبه لأنه حنفي المذهب. والله أعلم.
هجرتك وزرتك
من كلام
إبراهيم الموصلي رحمه الله تعالى:
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له
صبر
فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما ليس
يبلغه الهجر
ويا حبها
زدني جوى كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتقض العصفور بلله
القطر
المجنون العاقل
من الحكايات
اللطيفة، أن بعض الملوك قصد التفرج على المجانين، فلما دخل عليهم رأى فيهم شاباً
حسن الهيئة نظيف الصورة يرى عليه آثار اللطف وتفوح منه شمائل الفطنة، فدنا منه
وسأله مسائل، فأجابه عن جميعها بأحسن جواب. فتعجب منه عجباً شديداً.
ثم إن المجنون قال للملك: قد سألتني عن أشياء فأجبتك.
وإن سائلك سؤالاً واحداً.
قال: وما هو؟ قال: متى يجد النائم لذة النوم؟ ففكر الملك
ساعة، ثم قال: يجد لذة حال نومه.
فقال المجنون: حالة النوم ليس له إحساس.
فقال الملك: قبل الدخول في النوم.
فقال المجنون: كيف توجد لذته قبل وجوده.
فقال الملك: بعد النوم.
فقال المجنون: أتوجد لذته وقد انقضى؟ فتحير الملك وزاد
إعجابه وقال: لعمري إن هذا لا يحصل من عقلاء كثيرة، فأولى أن يكون نديمي في مثل
هذا اليوم، وأمر أن ينصب له تخت بإزاء شباك المجنون، ثم استدعى بالشراب، فحضر
فتناول الكأس وشرب، ثم ناول المجنون، فقال: أيها الملك أنت شربت هذا لتصير مثلث فأنا
أشربه لأصيل مثل من؟ فاتعظ الملك بكلامه ورمى القدح من يده وتاب من ساعته، والله
أعلم.
الست بدور والأمير عمرو
يحكى أن
الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً، فاستدعى جعفراً وقال: أريد منك أن تزيل ما
بقلبي من الضجر.
فقال الوزير: يا أمير المؤمنين، كيف يكون على قلبك ضجر،
وقد خلق الله أشياء كثيرة، تزيل الهم عن المهموم، والغم عن المغموم، وأنت قادر
عليها؟ فقال الرشيد: وما هي يا جعفر؟ فقال له: قم بنا الآن، حتى نطلع فوق سطح هذا القصر
ونتفرج على النجوم واشتباكها وارتفاعها والقمر وحسن طلعته كأنه وجه من تحب كما قيل:
فكأنما حسن السماء ولونها ... قد رقمت فيها أفانين الصور
وكأن هذا البدر حين بدا لنا ... في بعض ليل من غلاف قد
ظهر
فقال الرشيد: يا جعفر، ما تلفتت نفسي إلى شيء من ذلك،
فقال: يا أمير المؤمنين، افتح شباك القصر الذي يطلع على البستان وتفرج على حسن تلك
الأشجار واسمع صوت تغريد الأطيار وانظر إلى هدير الأنهار وشم روائح تلك الأزهار
واسمع الناعورة التي كأنها أنين محب فارق محبوبه، وهي كما قال فيها بعض واصفيها:
وناعورة حنت وغنت وقد غدت ... تعبر عن حال المشوق وتعرب
وترقص عطف البان تيهاً لأنها ... تغني له طول الزمان
ويشرب
وإما أن تنام يا أمير المؤمنين، إلى أن يدركنا الصباح.
فقال: يا جعفر، ما تلتفت نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين، افتح الشباك الذي يطلع على
الدجلة حتى تتفرج على تلك المراكب والملاحين، فهذا يصفق، وهذا ينشد موالياً، وهذا
يقول دوبيت، وهذا يقول كيت وكيت.
فقال الرشيد: ما تلتفت نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال جعفر: قم يا أمير المؤمنين، حتى ننزل إلى الاصطبل
الخاص وننظر إلى الخيل العربيات وتتفرج على حسن ألوانها، ما بين أدهم كالليل إذا
أظلم، وأشقر، وأشهب، وكميت أحمر، وأبيض، وأخضر، وأبلق، وأصفر، وألوان تحير العقول.
فقال الرشيد: ما تلتفت نفسي إلى شي من ذلك.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، عندك في قصرك ثلاثمائة
جارية، ما بين جنكية، إلى عودية، إلى دفية، إلى قانونية، إلى زامرة، إلى مغنية،
إلى راقصة، إلى سنطيرية، أحضر الجميع، وأحضر العقار المروق، فعل أن يزول ما بقلبك
من الضجر.
فقال: ما تهم نفسي إلى شيء من ذلك.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين ما بقي إلا ضرب عنق مملوكك
جعفر، فإني قد عجزت عن إزالة هم مولانا.
فقال: يا جعفر، أما سمعت قول ابن عمي رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ فقال: من فم مولانا أسمع.
فقال الرشيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
فرح أمتي في ثلاث: أن يرى بعينه شيئاً ما رآه، أو يسمع شيئاً ما سمعه، أو يطأ
مكاناً ما وطئه " ، فيتفق يا جعفر أن
يكون في بغداد مكان ما وطئناه، أو شيء ما سمعناه، أو موضع ما رأيناه.
فقال
جعفر: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أطلع إلى مجلس النوبة وأنظر أحداً من
المسافرين أحضره بين يدي أمير المؤمنين، لعله أن يحدثك بحديث ما سمعته؟ فقال
الرشيد: قم وافعل.
فقام جعفر وطلع وعاد بسرعة بالشيخ أبي الحسن الخليع
الدمشقي المسامر. قال: فلما رأى أمير المؤمنين سلم فأحسن وترجم فأبلغ، ثم قال: يا
أمير المؤمنين وحامي حوزة الدين وابن عم سيد المرسلين وخاتم النبي صلى الله عليه
وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أطال الله بقاك وجعل الجنة مأواك والنار مثوى لأعداك
لا خمدت لك نار ولا أغيظ لك جار، ثم أنشد يقول:
دام لك العز والبقاء ... ما اختلف الصبح والمساء
ودمت ما دامت الليالي ... بمدة ما لها انقضاء
الناس ناس بكل أرض ... وأنت من فوقهم سماء
قال: فرد الشيخ السلام وقال له: اجلس يا أبا الحسن،
وحدثنا بحديث عجيب مليح لم نسمعه قط؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أحدثك بشيء
سمعته بأذني أو بشيء رأيته بعيني؟ قال الرشيد: يا شيخ أبا الحسن الذي تراه العين
أحسن من الذي تسمعه الأذن.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أفرغ لي عن ثلاثة أشياء
منك؟ فقال: ما الثلاثة؟ فقال: ذهنك وسمعك وقلبيك.
فقال الرشيد: هات يا أبا الحسن.
فقال: يا أمير المؤمنين لي عادة أني أسافر في كل سنة إلى
البصرة للأمير محمد بن سليمان الزينبي، وأقعد عنده أحدثه الأسمار، وأورد له
الأخبار، وأنشد له الأشعار، ولي عليه رسم ألف دينار آخذها وأعود إلى بغداد. فاتفق لي
من سنة من السنين أني سافرت إلى البصرة على عادتي ودخلت على الأمير محمد بن سليمان
وجلست عنده اليوم الأول والثاني والثالث، فركب إلى الصيد وتركني في منزله وأوصى
أرباب دولته بخدمتي وإكرامي إلى أن يعود، وأوصى الطباخ الذي له أن لا يطعمني إلا
شيئاً تشتهيه نفسي، فاشتهيت السمك فقلت للطباخ: فعمل لي من السمك عدة ألوان فأكلت
وطاب لي الأكل حتى ثقل على فؤادي، فقلت: ما يصرف عني هذا إلا المشي، ولي عدة أسفار
إلى البصرة ما أعرف فيها مكاناً، وأريد اليوم أن أجعلها حجة وفرجة. ثم إني نزلت
أتمشى في شوارع البصرة فعطشت عطشاً شديداً وناهيك بعطش السمك، فقلت في نفسي: إن تناولت
شربة من السقاء لا تطيب نفسي لأنه يشرب منه أصحاب الأمراض، وكبر على نفسي أن
أحملها إلى شاطئ الدجلة، وقلت: ما لي إلا أن أقصد بعض دور المحتشمين وأطلب منها
شربة من ماء، فأتيت إلى درب وفي ذلك الدرب خمسة دور داران مقابلتان لدارين ودار
صدرانية قد قامت من التراب وتعلقت بأذيال السحاب، ولها باب مقنطر مزخرف بمصاطب
طولانية، مفروش عليها حصر عبدانية، والباب ساج مصفح بصفائح الذب الوهاج ومسامير
الفضة وستر من الحرير الأصفر المدثر مكتوب عليه هذه الأبيات:
ألا يا دارُ لا يدخلك حزنٌ ... ولا يغدر بصاحبك الزمان
فنعم الدار أنت لكل ضيفٍ ... إذا ما ضاق بالضيف المكانُ
قال: فقلت في نفسي، من هذه الدار أشرب الماء، فأتيت إلى
الباب فسمعت صوتاً ضعيفاً من فؤاد نحيف، وقائلاً يقول:
بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضاً بي وقولاً في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران
تتلفه
فإن تبسم قولا في ملاطفةٍ ... ما ضر لو بوصالٍ منك تسعفه
وإن بدا لكما في وجهه غضبٌ ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه
قال: فقلت، يا حبذا إن كان قائل هذا الصوت شخصاً صورته
على قدر صوته واحتشمت، ثم إني قويت قلبي ورفعت الستر ودخلت الدهليز إلى أن انتهيت
إلى آخره ومديت طرفي، وإذا أنا بدار قد أقبلت عليها السعادة، وزالت عنها الشقاوة،
ورأيت في صدر ذلك المكان إيواناً وبركة وشاذرواناً، وفي ذلك الإيوان تخت من
السياج، وقوائمه من العاج، ومصفح بالذهب الوهاج، وفوق التخت فراش من الحرير
الأطلس، ومسند مزركش، وعليه جارية نائمة خماسية القد، قائمة النهد لا بالطويلة
الشاهقة ولا بالقصيرة اللاصقة، أشهر من علم، تربية العجم على أكتاف الخدم، بخد
أسيل، وطرف كحيل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، إن أقبلت فتنت، وإن ولت قتلت، كما قال
فيها بعض واصفيها:
كما اشتهت
خلقت حتى إذا اعتدلت ... في قالب الحسن لا طول ولا قصر
جرى بها الشحم حتى دار أعكنها ... طي القباطي فلا سمن
ولا غور
كأنها أفرغت من ماء لؤلؤةٍ ... في كل جارحة من حسنها قمر
إلا أن الجارية، يا أمير المؤمنين، قد حكمت عليها يد
الأيام ونزلت بها جميع الأسقام وعند رأسها طبيب، وهو يجس يدها ويقول: يا ست بدور،
الضارب ضارب والساكن ساكن ولا برد ولا حمى ولا شيء تشتكينه أكثر من سهر الليل وجريان
الدمع لعل الست في قلبها هوى من أحد، فلما سمعت كلام الطبيب أنشدت تقول:
إذا هممت بكتمان الهوى نطقت ... مدامعي بالذي أخفي من
الألم
فإن أبح افتضح من غير منفعة ... وإن كتمت فدمعي غير
منكتم
لكن إلى الله أشكو ما أكابده ... من طول وجد ودمع غير
منصرم
قال: فنهض الطبيب قائماً على قدميه فناولته صرة فيها
عشرون ديناراً، ثم التفتت إلي وقالت: من أين يا شيخ؟ فقلت لها: من بغداد، حملني
العطش إلى أن أتيت إلى هنا.
فقالت: لعل أن يكون على يدك فرجي، فأنا أكتب لك ورقة
فتسال عن بيت الأمير عمرو وتعطيه إياها، فإن رددت علي الجواب فأنا أعطيك خمسمائة
دينار.
ثم استدعت بدواة وورق وكتبت، وهي تقول: أما بعد، يعجز
لساني ويكل جناني عن بث الأشواق، ولكن أسأل الكريم الخلاق أن يمن علينا بالتلاق
بالسعد الرائق والأمر الموافق، وأنا القائلة حيث أقول:
سروري من الدنيا لقاكم وقربكم ... وحبكم فرض وما منكم بد
ولي شاهد دمعي إذا ما ذكرتكم ... جرى فوق خدي لا يطاق له
رد
إذا الريح من نحون الحبيب تنسمت ... وجدت لمسراها على
كبدي برد
فوالله ما أحببت ما عشت غيركم ... ولا كنت إلا ما حييت
لكم عبد
سلام عليك ما أمر فراقكم ... فلا كان منكم ما جرى آخراً
عهد
أما بعد، فهذا كتاب ممن ليلها في نحيب، ونهارها في
تعذيب، لا أتركن إلى عاذلٍ ولا تصغي إلى قائل، قد غلبتها أيدي الفراق، ولو شرحت
بعض ما عندها للفسيح ضاق وما وسعته الأوراق، ولكن أسأل الكريم الخلاق، رافع السبع الطباق،
أن يمن علينا بالتلاق، وأنشدت تقول:
أحبة قلبي وإن جرتم ... علي فكل المنى أنتم
رحلتم وفي القلب خلفتم ... لهيباً فهلا ترفقتم
وأودعتم يوم ودعتم ... بأحشاي ناراً وأضرمتم
وما كنتم تعرفون الجفا ... على شؤم بختي تعلمتم
فألف ألف لا أوحش الله منكم والسلام مني عليكم عدد شوقي
إليكم ما حن الغريب إلى الأوطان، وغرد حمام الأيك على البان، فرحم الله من قرأ
كتابي وتعطف برد جوابي، وأنشدت تقول:
أحبابنا ما رقا دمعي لفرقتكم ... يوم الفراق ولا كفت
غواديه
بنتم فلم يبق لي من بعدكم جلد ... ولا فؤاد ولا صبر
أرجيه
فكم أمني فؤادي بالهوى كذباً ... ولست أول من بانت
غواشيه
قال: ثم إنها طوت الكتاب وختمته بعد أ، نثرت فيه فتات
المسك والعنبر، وناولتني إياه فأخذته، وأتيت إلى دار الأمير عمرو فوجدته في الصيد
والقنص، فجلست على بابه ساعة أنتظره وإذا به قد أقبل، وهو راكب على حصان أشقر، من الخيل
الضمر يساوي ملك كسرى وقيصر، من أولاد الأبجر، الذي كان لعنتر، إن طلب لحق، وإن
طلب لم يلحق، والأمير في ظهره كأنه البدر في منزلته ، والمماليك قد أحدقوا به كما
تحدق النجوم بالقمر، وهو بخد أسيل وطرف كحيل وخصر نحيل وردف ثقيل وله عذار أخضر
فوق خد أحمر وثغر جوهر وعنق مرمر كما قال فيه ابن معشر:
قمر تكامل في نهاية حسنه ... مثل القضيب على رشاقة قده
فالبدر يطلع من ضياء جبينه ... والشمس تغرب في شقائق خده
ملك الجمال بأسره فكأنما ... حسن البرية كلها من عنده
قال أبو الحسن: فما أمهلته دون أن قبلت ركابه، فلما نظر
إلي ترجل واعتنقني وخذ بيدي وأدخلني الدار وأنشد يقول:
ما أظن الزمان يأتي بهذا ... غير أني رأيته في منامي
قال: فلما
جلس على حافة البركة أقبل علي يحدثني ساعة، وإذا بالمائدة قد وضعت بين أيدينا،
وإذا عليها من ألوان الطعام ما درج وتطاير في الأسحار، وتناكح في الأوكار من قطاً
وسماني وأفراخ حمام وبط مسمن ودجاج محمر وأفراخ رضع وبعلبكات السكر فقال لي: بسم
الله يا شيخ يا أبا الحسن، فقلت: لا والله يا مولاي، ما أكلت لك طعاماً ولا شربت
لك مداماً، إلا أن قضيت لي حاجتي.
فقال: يا أبا الحسن كان هذا من الأول. أين الكتاب الذي
للست بدور؟ فقلت: يا سيدي وما هي الست بدور.
فقال: التي جئت من عندها تطلب شربة من الماء منها، ووجدت
عندها الطبيب وجرى لك معها ما هو كيت وكيت.
فقلت: يا مولاي أكنت حاضراً؟ فقال: لو كنت حاضراً فلأي
شيء كتبت الكتاب؟ فقلت: هل جاء أحدُ من عندها وأعلمك؟ فقال: إنه لا يجسر أحدٌ من
غلمانها أن يقابلني.
فقلت: ولا راح أحد من عندك إليها.
فقال: هي أخس وأحقر منم أن يمضي إليها أحد من عندي.
فقلت: يا سيدي! الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى والوحي ما
نزل إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا عاقل أما سمعت قول القائل:
قلوب العاشقين لها عيونٌ ... ترى ما لا يراه الناظرونا
وأجنحة تطير بغير ريشٍ ... إلى ملكوت رب العالمينا
فقلت: صدقت يا مولاي، ثم ناولته الكتاب ففضه وقرأه ثم
بصق فيه وداسه برجله ورماه في البركة فصعب علي، فلما علم مني ذلك قال: مم غيظك؟
أقعد الليلة عندي كل واشرب وخذ مني الخمسمائة دينار التي وعدتك بها الست بدور،
وأنا أحب إليك منها وأنشد يقول:
رأيت شاة وذئباً وهي ماسكة ... بأذنه وهو منقاد لها ساري
فقلت: أعجوبة ثم التفت رأى ... ما بين نابيه ملقى نصف
دينار
فقلت للشاة: ماذا الإلف بينكما ... والذئب يسطو بأنياب
وأظفار
تبسمت ثم قالت وهي ضاحكة ... بالتبر يكسر ذاك الضيغم
الضاري
قال: فلما سمعت كلامه، يا أمير المؤمنين تقدمت وأكلت
بحسب الكفاية والنهاية. ثم انتقلنا إلى مجلس الشراب وقدمت بين أيدينا البوطي والسلاحيات،
فتناول الأمير عمرو وشرب وسقاني، وأنا أحدثه وأنادمه إلى أن قرب الغروب فقال: يا
أبا الحسن، ما لذة الأمير إذا شرب إلى المساء من غير غناء؟ فقلت: يقال: الشراب بلا
طرب ولا سماع، الدن أولى به.
فقال لي: قم بسم الله.
فقمت معه إلى مجلس وحضيرة تنقط بالذهب واللازورد العجيب،
وهي مزخرفة قد عبقت أزهارها وضحكت سلاحيتها وصفت بواطيها ورفعت أقداحها فجلس
الأمير عمرو وأجلسني بجانبه وقدمت بين أيدينا الشموع وأسرجت القناديل فنظرت إلى
مجلس عجيب وحضيرة مليحة ثم قلت: يا مولاي، قد تقدم القول إن الشراب بلا سماع، الدن
أولى به، فصفق بكف وإذا بثلاث جوار قد أقبلن كأنهن الأقمار. الواحدة تحمل عوداً،
والثانية تحمل دفاً، والثالثة تحمل مزماراً ثم نقرت الدفية على دفها، وأًلحت
العودية عودها وزمرت الزامرة بمزمارها فخيل إلي أن المجلس الذي نحن فيه يرقص بنا
ثم إن الدفية غنت تقول:
أحبابنا إنني من يوم فرقتكم ... على فراش الضنا ما زلت
مضطجعا
داويت قلبي بحسن الصبر بعدكم ... عسى يفيق من الأسقام ما
نفعا
فوالله يا أمير المؤمنين لقد طربت غاية الطرب من حسن
صوتها. فلما فرغت الدفية ضربت العودية على عودها طرقاً عديدة، ثم رجعت إلى الطريقة
الأولى وأنشدت تقول:
أمؤنس طرفي لا خلا منك ناظري ... وجامع شملي لا خلا منك
مجلسي
ويا ساكناً قلبي وما فيه غيره ... يحل فما استوحشت فيه
لمؤنسي
وبالله يا أغنى الورى من ملاحةٍ ... تصدق على صب من
الصبر مفلس
أنلني الرضا حتى أغيظ به العدا ... ويا موحشي من بعد ما
كان مؤنسي
رضاك الذي إن نلته نلت رفعةً ... وألبسني في الناس أشرف
ملبس
قال: والله يا أمير المؤمنين لم نتمالك عقولنا من الطرب،
ثم التفتت العودية نحو الدفية وقالت لها: يا فلانة أتحسني أن تقولي مثل هذا؟ فقالت
الدفية: أنا أحفظ أبياتاً ما أظن أنك تحفظين لهن وزناً ولا قافية ولا عَروضاً.
فقالت العودية: هات ما عندك.
فنقرت
الدفية على دفها بأناملها ورفعت صوتها وهي تقول:
كرر وردد ذكرهم في مسمعي ... فهم الشفا لتألمي وتوجعي
أقصر بعذلك يا عذول فإن لي ... قلباً لعذلك لا يفيق ولا
يعي
فقالت لها العودية: أنا أحفظ الوزن والقافية والعروض.
فقالت الدفية: هات.
فضربت العودية طريقة من اثنين واثنين وأربعة وأربعة
وثمانية وثمانية وستة عشرة وستة عشر ثم عادت إلى الطريقة الأولى وجعلت تقول:
إن لم أٍل وادي إلا سيل بأدمعي ... أعلم بأني في الصبابة
مدعي
يا سعد إن جئت الغوير وعاينت ... عيناك بأن المنحني
فلترجع
وخذ الحذار من الغزال المختفي ... واحذر يصيدك لحظ ذات
البرقع
قال: والله يا أمير المؤمنين فلقد طربنا حتى قام كل منا
ورقص. فلما فرغت الجارية قال لها سيدها: عن لي على الذي بقلبي وحدي، فعندها ساوت
عودها وقالت:
ما كنت أول رامق صبا صبا ... نحو التصابي، وهو في عمر
الصبا
فعلام يعذلني العذول على البكا ... لولا الغرام لما غدوت
معذبا
حم الغرامُ بحكمه في مهجتي ... ولقد غدا قلبي به متقلبا
يا للرجال خبا الهوى بحشاشتي ... ناراً، فما تخبو على
ذاك الخبا
ولقد سبى قلبي غزال لو رأت ... بلقيس طلعته لما سكنت سبا
ولقد هربت من الغرام فقال لي: ... مهلاً! فلن تجدن مني
مهربا
فلما سمع الأمير عمرو ذلك صرخ ووقع على الأرض مغشياً
عليه. فقالت الجارية: يا مولاي، إنه قد نام سيدي، فإن اخترت أن تنام فقم نم في
مرقدك، وإن اخترت الشراب فدونك، ونحن بين يديك إلى الصباح.
فقمت ونمت فلما أصبحت قمت وسألت عن الأمير عمرو فقال بعض
الجواري: إنه قد سرح إلى الصيد والقنص فأخذت شاشاً لألبسه فرأيت تحته كيساً فيه
ألف دينار، فأخذته وأتيت إلى الست بدور، وإذا بها واقفة خلف الباب تنظر وهي تقول:
يا رسولي إلى الحبيب اعتذر لي ... فلعل الحبيب بقبل عذري
ثم قل للحبيب عني بلطف: ... أي ذنب جرى فأوجب هجري
فلما رأتني قالت: يا شيخ أقمح أم شعير؟ فقلت: لا والله
ما هو إلا زوان، والله ما رضي يقرأ مكتوبك ولا يرد جوابك.
فرمت إلي الصرة وفيها مائة دينار، وقالت: اذهب يا أبا
الحسن، ما مضى الليل وأتى النهار على شيء إلا وأزاله وغيره ويغير الله ما في
القلوب.
ثم إنها أغلقت الباب في وجهي ومضت وعدت إلى دار الأمير
محمد بن سليمان الزينبي فلقيته قد جاء من الصيد فقعدت عنده أياماً وأخذت رسمي وعدت
إلى بغداد. ثم إني في السنة الثانية سافرت إلى البصرة على ما جرت العادة به ومضيت
إلى الأمير عمرو بن جبير الشيباني لأتمنع بذلك الوجه المليح والقد الرجيح، فوجدت
الدار متغيرة الآثار والعبيد لابسين السواد فلما رأيت ذلك بكيت وأنشدت أقول:
يا دار أين ترحل السكان ... وسرت بهم من بعدها الأظعان
بالأمس كان بك الضياء مع الهنا ... واليوم عرصاتك
الغربان
فسمعني بعض الغلمان، فظهر لي وقال: من ذا الذي يبكي على
ديارنا ويندب منازلنا؟ كفى بنا ما عندنا.
فقلت له: يا عبد الخير، إن صاحب هذه الدار كان من أصدق
الناس إلي فما فعل به الزمان؟ فقال لي الغلام: يا مولاي هو في قيد الحياة. وهو
يطلب الموت فلا يجده.
فقلت له: بالله عليك خذ لي الطريق.
فقال لي الغلام: يا مولاي من أقول.
فقلت: قل الشيخ أبو الحسن الخليع الدمشقي المسامر.
قال: فعبر الغلام وغاب ساعة وعاد وقال لي: بسم الله
أدخل. ويقول له: يا مولاي الضارب ضارب والساكن ساكن لا برد ولا حمى ولا تشتكي غير
سهر الليل وجريان الدمع، لا يكون المولى إلا مسحوراً.
فلما سمع الأمير عمرو كلام الطبيب بكى وأنشد يقول:
قال الطبيب لقومي، حين جس يدي: ... هذا فتاكم ورب البيت
مسحور
فقلت: ويحك قد قاربت في صفتي ... عين الصواب فهلا قلت
مهجور
ثم إنه ناوله كاغداً فيه بعض دنانير، فأخذها الطبيب
وانصرف ثم التفت الأمير عمرو إلي وقال: يا شيخ أبي الحسن أما تنظر إلى هذا الحال
الذي وقعت فيه؟
فقلت له:
حاشاك من الأسوأ ما سبب ذلك؟ قال: ما أعرف له سبباً إلا أن هجر الست بدور قد قتلني
وحبها أضنى فؤادي.
فقلت: يا مولاي، بالعام الماضي تركتك أميراً، واليوم
أتيت لقيتك أسيراً فما السبب؟ فقال الأمير عمرو: يا شيخ إني في ليلة من الليالي
ركبت في الشط، وقد شحنت مركبي من سائر الأزهار والفواكه والرياحين والطعام والمدام،
وأوقدت الشموع حتى صارت مثل ضوء النهار، وقد غرقنا في البسط، وبقينا في لعب وضحك
إلى ثلث الليل الأول، وإذ قد أقبل من صدر الشط مركب وهو يعزف بالطارات والدفوف
ويضيء كضوء الشمس وفيه وهج عظيم، فقلت للملاح: قدم بنا حتى نتفرج وننظر أينا أحسن
تعبية مركبنا أو هذا المركب؟ فمددت عيني فرأيت صاحبتي الست بدور، وهي بين جواريها
وغلمانها تلعب وتضحك، وهي مثل اسمها، اسم على مسمى، فلما وقعت عيني عليها، كأنما
رمت في قلبي جمرة نار فقلت في نفسي: ما فارقت هذا الوجه المليح بذنب. ثم إني تذكرت
العهد القديم الذي كان بيننا فلم أقدر أن اصبر، فمدت يدي وأخذت تفاحة ورميتها إلى
الست بدور فالتفتت فرأتني. فقالت للملاح: ارجع بنا إلى البر، نحن خرجنا هذه الليلة
ننشرح، فأرسل الله لنا هذا الفتى ينغص علينا عيشنا. فلما سمعتها تشتمني أضرمت
النار في قلبي ثم قلت لنفسي: أنت كنت المطلوب فصرت الطالب، فلم يهن لي عيش في هذه
الليلة فقلت للملاح: ارجع إلى الشط. ثم إني نزلت ومضيت إلى منزلي وما ذقت طعم
المنام. فلما أصبحت لم يقر لي قرار وصرت أترقب أن يأتي أحد من عندها، ثلاثة أيام،
فلم يأت أحد فبعثت من يعرض بذكري لها، فدعت عليهم وشتمتهم. فكتبت لها بعد ذلك ألف
كتاب، فلم ترد لي جواباً، وقد رميت روحي على كل كبير في البصرة، فيدخلون عليها فلم
تقبل ولم تزدد إلا جفاء، ولي مدة أنتظرك يا شيخ أبا الحسن حتى أبعث معك كتاباً
وأنا أحلف لك إن هي ردت لك جوابه أعطيتك ألف دينار، وإن لم ترد جوابه أعطيتك مائة دينار.
فقلت له: اكتب!.
فدعا بدواة وقرطاس وكتب في أول الكتاب: بسم الله الرحمن
الرحيم، هذا كتاب من متيم يشكو إليك الصبابة ويسألك بالله أن تردي جوابه. أما بعد،
فإنه يعجز لساني ويكل جناني مما أنا فيه من طول السهر ودوام الفكر، وبكى لبكائي أصم
الحجر فألف ألفٍ لا أوحش الله منك والسلام عليك.
ثم ختم الكتاب وناولني إياه فأخذته وأتيت به إلى دار
الست بدور، فلقيت الباب على غير تلك الحالة الأولى عليه ستر مرخي وبواب وخادم.
فقلت: لا إله إلا الله، كان هذا الباب بالأمس خالياً من الأصحاب، واليوم عليه خادم
وبواب، ثم إني تقدمت إلى الخادم، وقلت له: قم يا ولدي ادخل واستأذن على مولاتك
الست بدور وقل لها: الشيخ أبو الحسن الخليع الدمشقي قد أتى ويطلب المثول بين يديك.
فغاب الخادم ثم عاد مسرعاً وقال: بسم الله ادخل.
فدخلت الدهليز فسمعت الست بدور وهي تقول:
ولأصبرن على الزمان وجوره ... حتى يعود كما أريد وأشتهي
قال: فلما دخلت رأيتها قاعدة على حافة البركة، وبين
يديها جارية تروح لها، فتقدمت وقبلت يدها وجلست فنظرت، وإذا عليها غلالة لازوردية،
وجميع جسدها بائن من تحت الغلالة كأنه عمود مرمر، وعلى الغلالة مكتوب هذا البيات:
أقبلت في غلالة زرقاء ... لازوردية كلون سماء
فتأملت في الغلالة ألقى ... قمر الصيف في ليالي الشتاء
ليتني كنت للمليحة عقداً ... أو لثاماً للوجه مثل الرداء
أو قميصاً من الحرير خفيفاً ... لاصقاً بالفؤادِ
والأحشاء
ضربتني بخنجر العشق حتى ... صرت ملقى مخضباً بدمائي
تركتني على الطريق ونادت ... من يصلي على قتيل هوائي
ثم إني لما فرغت من قراءة الأشعار قالت لجاريتها: هات لي
بذلة قماش، ثم غيرت ما كان عليها، وجلست ثم أمرت بإحضار المائدة وقالت: بسم الله،
كل يا أبا الحسن.
فقلت: لا والله لا أكلت لك طعاماً ولا شربت عندك مداماً
حتى تقضي حاجتي.
فقال: كان هذا من الأول لكن والله قد وقعت من عيننا
برواحك إلى الأمير عمرو قبل مجيئك إلينا.
فقلت لها: أنا ما رحتُ.
أقسام الكتاب